الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايات عادية جدا، الحكاية السادسة- همسات من الماضي

إدريس الخلوفي
أستاذ باحث

(Lakhloufi Driss)

2022 / 7 / 15
الادب والفن


حكايات عادية جدا، الحكاية السادسة -همسات من الماضي
كان الجو ممطرا، عاصفا، مكفهرا ذات شتاء من الثلث الأخير من القرن الماضي، أحست والدة العربي بمخاض الولادة، خرج الجيلالي، قاصدا بيت القابلة التقليدية الوحيدة في الدوار، فكل مواليد الدوار الذين ولدوا في هذه الحقبة، ولدوا بين يديها، حضرت كيسها الذي هو بمثابة حقيبة طبيب، تحمل به عدتها، وانطلقت تهرول نحو بيت الجيلالي، الذي وصل معها إلى باب البيت حتى دخلت، وراح ليقضي ليلته لدى بعض ابناء عمومته، نام قرير العين، بينما قضت أم العربي ليلة بين الحياة والموت، فأول ولادة لها كانت عسيرة جدا، بعد جهد كبير، صرخ العربي أول صرخة له في الوجود، لم تكن صرخة عادية، بل صرخة اختزنت بداخلها واعتصرت آلام العربي التي عاشها وسيعيشها، بحثت القابلة عن سكينها الذي تقطع به الحبل السري، فلم تجده، تلفتت من حواليها، فعن لها منجل صدئ، تناولته وقطعت به الحبل، كان المنجل غير معقم، وملقى على التراب، وكان على العربي أن يموت من مخلفات الجراثيم، لكن لا المنجل تعقم، ولا العربي مات. وقليلات هن النسوة اللواتي يصبحن عجائز بالدوار، فجلهن تمتن أثناء الولادة، أكثر من نصف سكان الدوار يتامى الأم، وإذا حدث أن نجت إحداهن، فإنها تعمر طويلا وكأنها تعيش حق المتوفيات، والمرأة لذينا تعيش مرحلتين: مرحلة اضطهاد، ومرحلة سلطنة، تبدأ مرحلة السلطنة عندما تصبح جدة، أما كل ما قبل ذلك فهو مرحلة عبودية، تشاهد رجلا يمتطي بغلا يسع ظهره حمل اثنين، لكن الرجل يركب وحده، وتلفي زوجته تسارع الخطى للحاق به، وعادة ما تكون مثقلة بصبي على ظهرها أو جنين في بطنها، كم مرة رأيت امرأة تمسك بذيل البغل عله يجرها قليلا، لم يكن الأزواج يحسون بأدنى شفقة على زوجاتهم، ولم تكن الزوجات أبدا تشتكين، إنها حكاية سرمدية تتكرر دون انقطاع، وعندما لا تكون هناك مطية تمتطى، كان الزوج يسبق زوجته ببضعة أمتار، ولا يسيران أبدا جنبا إلى جنب، وما كانت لتسير إلى جانبه حتى لو أبطأ السير، إنها مقامات حفرتها التقاليد في أذهان هؤلاء البدو.
كان العربي مسمى حتى قبل ولادته، فأمه كانت تعرف أن مولودها سيكون ذكرا، وكانت تعرف أن اسمه سيكون العربي، فقبل حتى أن تعرف أنها حامل، كان أحد المجاذيب يطوف بالدوار، وأخبرها أنها حامل، وستنجب ذكرا، وعليها أن تسميه العربي تيمنا بأحد الأولياء يدعى العربي الحجازي، له حظوة كبيرة الآن، لكن في الماضي كان مجرد فار من العدالة ببلاد المشرق، ففر بجلده إلى أن وصل أقصى مناطق إفريقيا، قدم نفسه بأنه ذو نسب شريف، فرحب به الأهالي وأكرموا وفادته، وعندما توفي بني له ضريح وتقام به الولائم كل سنة، غريبة هذه الدنيا، كيف لشخص كان من الممكن أن يموت ميتة كلب، بضربة حظ يتحول إلى قبر يتحكم في مصائر الناس؟
ترعرع العربي إلى جوار جده الذي لم يكن يفارقه، كان العربي كثير الأسئلة، وكان جده واسع البال رحب الصدر، فلم يكن يتبرم من أسئلة حفيده، حتى وإن كانت أحيانا محرجة، مثل يوم كانت والدة العربي حاملا بأحد إخوانه، فسأل العربي جده؟ لماذا بطن أمي منتفخ؟ أجاب الجد: لأن به أخوك أو أختك. استغرب العربي وأضاف متسائلا؟ هل أكلته أمي؟ لم يجب الجد، بل غير الموضوع بأن طلب من حفيده أن يحضر عكازه ليتمشيا قليلا.
كبر العربي وكبرت أسئلته، فذات يوم بينما كان يتجاذب أطراف الحديث مع جده، خطر بباله سؤال كان يشغله، فقال: أخبرني يا جدي، لماذا يطلقون على الجبل الذي نقطنه اسم القلعة السوداء؟
مسح الجد على لحيته البيضاء، وعدل جلسته، وبدأ يتمعن في تفاصيل الجبل، في أخاديده وشعابه ووديانه، يتأمل أشجاره الشامخات وكأنه يعرفها شجرة شجرة.
أتعلم يا بني؟ جبلنا كان يسمى في قديم الزمان: التاج الأبيض، لأنه دائما مكلل بالثلوج، وقد كان أيام الاستعمار ملاذا للمقاومين الذين فضلوا حمل السلاح لمقاومة الاستعمار، كانوا لا يخشون الموت، بل يعتبرونه شرفا، حاول المستعمر بكل الوسائل تركيع التاج الأبيض، لكن دون جدوى، فقد نسجت الطبيعة تناغما قل نظيره بين أسلافك والجبل، كنت ترى الواحد منا يصعد الجبل وكأنه يمتطي صهوة سحابة تسمو به، لا الطلقات تصيبه ولا المدافع، كان المقاومون يختبؤون نهارا في المغارات والكهوف البعيدة التي لا يعلم أحد بمسالكها سواهم، وفي جنح الظلام، يحلقون كالنسور نحو السهول، يقتلون، ويذبحون، يحرقون، ويسرقون العتاد والمؤونة....تكبد المستعمر خسائر كبيرة، فلجأ إلى خطة جهنمية، قام بقصف التاج الأبيض بالقنابل الكيماوية، فمات أغلبنا اختناقا، لم ينج إلا نحو المائتين بين نساء وأطفال وقلة من الرجال، كانوا قد احتموا بمغارة تمتد عشرات الكيلومترات تحت الجبل.
بعد انجلاء الغاز، صعدت جيوش المستعمر لتتأكد أن لم ينج أحد، حملوا الجثث في الشاحنات، ونقلوها لمحرقة جماعية، كانت رائحة اللحوم المشوية تملأ السماء، وتكون خيوط دخان تجمع فوق قمة التاج الأبيض، وأخذ يدور حولها كزوبعة قمعية، بدأت ألسنة اللهب تتصاعد من وسط الدوامة، فجأة بدأت الثلوج في الذوبان مشكلة طوفانا عظيما، أغرق جل الجيوش المحتلة.
هدأت النار وخمدت، توقف الدخان عن الدوران اللولبي، لكن السواد كان قد حل محل البياض للأبد، وكأنه حداد أبدي من أم ثكلت كل أبنائها.
عند حلول الظلام، بدأت كثلة السواد تتفكك إلى وحدات كأنها الرماح، وتنقض على السهول لتطبق على جسم كل مستعمر ولا تتركه إلا بعد سلب روحه. أصيب المستعمر الغاصب بهلع شديد، وبدأ في الابتعاد تدريجيا إلى أن خرج للأبد، أو هذا ما قد هيئ لنا.
وماذا كان مصير المقاومين بعد ذلك يا جدي؟
كمصير جدك يا بني، لقد ترك المستعمر أبناءه، هم أخذوا الوطن، ونحن أخذنا الوطنية، منذ تلك الحادثة يا بني، أصبح التاج الأبيض يلقب بالقلعة السوداء.
يتبع.......








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة