الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة نقدية-متعجّلة- لقصيدة (نزرع الأشجار صباحا ) للشاعر التونسي القدير جلال باباي

محمد المحسن
كاتب

2022 / 7 / 17
الادب والفن


قد لا أجاب الصواب إذا قلت إن الفكرة لدى كاتب الشعر لا توجه لغة الخارج، فالشاعر نفسه شبيه بلغة جديدة تبني نفسها،وتبتكر لِنفسها وسائل تعبيرية وتتنوع حسب معناها الخاص.
هنا ما نسمّيه شعراً ليس سوى فرع من الادب الذي تتأكد فيه الاستقلالية في أبهى صورها. فالكثير من المتذوقين للشعر الحديث لا يعتبرون القصيدة شعراً ما لم يكن بها أنين وحكمة أو استغاثة،لذلك واحد من أصعب الأمور في كتابة الشعر هو أن يعرف المرء ما هو موضوعه..؟ إن جلّ الناس يعرفون ولا يكتبون الشعر لأنهم واعون جداً للفكرة..وبعبارة أخرى أكثر تحديداً وسيولة، إن القصيدة هي التي تخبر الشاعر بم يفكر وليس العكس !
يسعى الشاعر التونسي القدير جلال باباي في جل قصائده إلى لغةٍ شفافة تعتمد على الوضوح والواقعيَّة؛ فهي لغة تكاد تكون خاصة بالشاعر، لغة تنطلق من الواقع ومن وعي الشاعر بأدواته الفنيَّة،فالنظر في التجربة الشعوريَّة وفَهم الحالة الذهنية لقصيدةٍ ما يتطلَّب القدرة على الانغماس في العالم النفسي للشاعر واستحضار حالته النفسية من خلال كتابته لهذه القصيدة، وفَهمُ الحالة الذهنية تَعني القدرة على استعادة الجوِّ الشعوري ومُعايَشتِه من جديد، ولا يتم ذلك إلا إذا استطاع الناقد أن يُمعِن النظر في الظروف والوقائع التي أدَّت إلى ولادة القصيدة، وبدون ذلك قد تُنزع القصيدة عن سياقها النفسيِّ وتَبقى تراكمًا لغويًّا وشكلاً دون معنى،وتفقد الحسَّ الشعري؛ ففي القصيدة التالية المهداة إلى الشاعرة التونسية الفذة فاطمة بن فضيلة (تمر خلال هذه الأيام بوعكة صحية حادة نرجو من الله أن يشفيها ويمدّها بالصحّة والعافية )
يقول الشاعر بلغة واضحة مؤثرة:

نزرع الأشجار صباحا

إلى فاطمة بن فضيلة شفاها الله
تصدير:
"لا شمس في الحديقة/سوى الشجرة
وجوقة أوراقها /لا حركة في الحديقة /سوى إيماءات الريح الخفيفة /في اكتمال النور لا كلمات
في الحديقة /سوى همسة من الورق/صدقة الأوراق /للأرض الفقيرة."
الشاعرة البلجيكية:ماري كلير أوربي( 1920-1990 )
،
في بداية العام
قلت للغريب: سنسافر طويلا ،
حتى أقرب نجم ،
نرى مسبقا المدينة البيضاء ،
تخترق الظهيرة المستديرة
طوينا يناير
لم تعد المدينة هناك
كانت خيوط العنكبوت تتماوج
لم يبق لنا عندئذ مساحة ماء
كي نُعَمِّر العالم من جديد
بقصب السكر
وتصبح ضفاف النهر أكثر اخضرارا ،
حيث يزرع الناس الأشجار صباحا
ويغرقون في ظلالها مساء
سأَعيد لفاطمة ممتلكاتها
مرٌت على جسدي العليل
أربع سنوات ، لم يوقظني ذئبها
تلك الليلة
قد جفٌ صدر مقلتي
من شدو النحيب
احتلٌ الدخيل مدينة الأشجار ،
ها أني أسمع صدى قلبها ،
و أحمل القرابين لمعبدها
كي اخمد وجعها ،
ماذا أقول لكاهنة القصائد؟
هذه المرة الأخيرة
سوى أنٌ الصيف قد ضربني بشدٌة
أنا ظلال الشجرة الزرقاء،
أمرٌر الحبر الحارق
على أصابعي رغم الكدمات
ماذا أقول لفاطمة؟
و قد مرت أربع سنوات
على يسراي الباردة
أخلص مثل الأعمى
إلى شجرة القمر الباقية
أتسكع تحتها
أصبحت الآن
غابة مكسوٌة بالثلج
كل شيء حدث بمحض الصدفة!
لحسن حظ الروح ليست مرئية
إلاْ الكدمات
بقيت فوق صدرها
علامات سوداء

جلال باباي
جويلية 2022

الشعر في نظر شاعرنا السامق (جلال باباي) تخليد وتركيز لا استرجاع،ومن هذا التخليد والتركيز تنبع الخصائص العديدة والفروع المتصلة في -زمكانية-نضوجه كانسان بخبرات متشعبة هي موضوعة ثيمة نصوصه الملتحمة،والتي تنم عن التحام الشعور باللاشعور ومزجهما بالوجدان الصادق المعبر عن حسه الانساني بفكرٍ عميق.علما أن الشعر نفسه يكفل أن يصبح لغة "انسانية" تماماً بصرف النظر عما اذا كان الشاعر يحاول أن يعكس داخلهُ الى خارجهِ،وهذا النوع من الشعر قد وصف بأنه شعر "مجرد" و"ملموس" على حد سواء..
القصيدة بها ايجاز بلغة الشعر،فتوحي للمتذوق بالمشاعر المثالية،فيلمس مباشرة الحقيقة؛ والغاية من القصيدة،لا عن تعبير العاطفة فحسب،بل بواسطة أهم الصفات الاساسية التي تعد قوام العمل أسلوبه الشعري،التصور والخيال والانفعال والتعاطف وقوة الاحساس والقدرة على نقل الاحساس.والشعر الجيد له القدرة على تشكيل النفوس وتدعيمها بإدخال البهجة عليها أكثر من أي شيء آخر وهذا هو الشعر الجيد الذي ننشده،يجمع بتفاصيلهِ بين البساطة والعظمة..
ختاما أقول : اللغة هي الوسيلة الأولى لعملية التواصل مع الآخرين، غير أنها تتعدَّى وظيفتها الاجتماعية المحدودةَ هذه، فتشكِّل الأساس في عملية بناء القصيدة؛ إذ تمثِّل الطريق الموصلة بين المبدع والمتلقِّي، فتؤدي بذلك وظيفةً أخرى، تتمثَّل في إيجاد روابطَ انفعالية بينهما، فتتَجاوز بذلك لغة التقرير إلى لغة التعبير،وتسعى للكشف عن العواطف والأحاسيس، والانفعالات الكامنة في قلب الشاعر،ومحاولة إيصالها في نفس المتلقي.
في قصيدة جلال باباي (نزرع الأشجار صباحا) يتجلى لنا الإبداع في موسيقى الشعر,وإرتباط أنغام القصيدة ببعضها البعض الى اخر القفلة نشعر وكأن جوهر الحرف أو الكلمة أو تشكيل الصورة هو نغم بحد ذاته يرتبط بالصورة الأخرى المكملة للكلام فتسمع رنيناً خاصاً وإيقاعاً جميلاً وتفاعلاً يطرب الروح..قصيدة فيها معانٍ معطرة..
وأنا أتابع وأقرأ جمال القصائد باحثاً منقبا ًأحاول أن أفهم،أفسر وأحلل تلك الصور الجمالية والعبارات القصدية باستخلاص خصائص جميلة جديدة فنية عند شاعرنا،جلال-حتى جعلني أعيش القلق وأنا أقوم بعملية إستكشاف ومتابعة دقيقة لخبايا النصوص في متن القصيدة وفضاءاتها،أبحث أيضا عن الذائقة الفنية الجمالية،أي العلاقة بين القصيدة ومحتواها وبيني أنا القارئ الناقد ،وما هو تأثيرها علي ّ!
شخصية شاعرية فذة تعتمد الإبداع في التعامل مع اللامرئي وتفعِّله بكل أبجديات الحياة ..شخصية تعيش في فضاءات المحبة والعشق الدائم الذي لايتوقف لحظة في هذا الزمن الذي نثر غباره الكثيف على نوافذ الحياة..
نراه يهدم عوالم قد الفناها سابقاً في ذاكرتنا وفي حواسنا،ومن ثم يعيد بناءها من جديد..
يختار جلال باباي من اللغة وإيحاءاتها،ويولِّد منها ما قدر على التوليد،لا ليأتي بمعانٍ يجهلها الناس تمامًا،ولكن ليصور صفوةَ معارفهم من زوايا متفردةٍ تدهشهم وتعيش إحساسات جماليةً لا تنتهي،وحجارة هذا البناء الموضوعيِّ الألفاظ، إلا أن الألفاظ في الشعر تومئ إلى ما وراء المعاني، فتُضيف إليها أبعادًا جديدة، وبذاك تتجدد وتحيا،وبغير ذلك تذبل وتموت؛إذ نجد ألفاظه تقدِّم صورة إنسانية وفنية بغرَض إماطة اللِّثام عن هذه الألفاظ..
أنا على يقين ان جلال باباي حقق ذاتاً شعرية خاصة به،وان ما يميزه اعتماده على الالفاظ بقدر صراعها لتجاوز هذه الالفاظ واعتمادها علاقة باندماجه كشاعر وكاتب وأيضا ناقد .
وبعد هذه القراءة اترك المتذوق للشعر مع هذه القصيدة وقد توخيت ان اقدم-في مقاربات سابقة-أكثر القصائد وعلاقتها بجلال واقربها الى روحه.
ينبغي الالتفات الى طاقة الشاعر التونسي الكبير جلال باباي الشعرية والاحتفاء به انسانا وشاعرا وكاتبا من طراز رفيع.
لك مني باقة من التحايا تعبق بعطر المحبة والإعجاب..يا جلال..يا باباي.
وأتمنى أن أكون قد طرقت بعضاً من ملامح الجمال بين ربوع قصيدتك الخلابة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا


.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية




.. -صباح العربية- يلتقي نجوم الفيلم السعودي -شباب البومب- في عر


.. فنان يرسم صورة مذيعة -صباح العربية- بالفراولة




.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان