الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لآ وجود لإلاه - نحتاج إلى تحرير دون آلهة - الجزء الرابع من كتاب بوب أفاكيان - لنتخلّص من كافة الآلهة ! تحرير العقل وتغيير العالم راديكاليّا! -

شادي الشماوي

2022 / 7 / 17
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


لآ وجود لإلاه - نحتاج إلى تحرير دون آلهة - الجزء الرابع من كتاب بوب أفاكيان " لنتخلّص من كافة الآلهة ! تحرير العقل وتغيير العالم راديكاليّا! "
(الكتاب بنسخة بى دى أف متوفّر للتنزيل من مكتبة الحوار المتمدّن )
لنتخلّص من كافة الآلهة ! تحرير العقل و تغيير العالم راديكاليّا !
تأليف بوب أفاكيان – إنسايت براس ، شيكاغو ؛ الولايات المتحدة الأمريكية ، 2008


الجزء الرابع : لآ وجود لإلاه - نحتاج إلى تحرير دون آلهة


- " يد الإلاه اليسرى " – و الطريق الصحيح لكسب التحرير

- أسطوريّة صِحّة الأسطورة الدينيّة و دورها الإيجابيّ

- العقل لم " يخيّب أملنا " – العقل مطلق الضرورة – و لو أنّه فى حدّ ذاته غير كافي

- " الإيمان " الديني لنسمّيه كما هو : لاعقليّ

- الإلاه غير موجود و لا وجود لسبب وجيه للإيمان به

- الدين أفيون الشعوب – و حاجز أمام التحرّر

- لا وجود لشيء لا يتغيّر و غير قابل للتغيّر ، طبيعة الإنسان

- تحرير دون آلهة

------------------------------------------------------------------------------------------------------





" اليد اليسرى للإلاه " – و الطريقة الصحيحة للمضيّ نحو كسب التحرير

أودّ العودة الآن إلى نقاش كتاب " اليد اليسرى للإلاه : إستعادة بلادنا من أيدى اليمين الديني " لمؤلّفه الحبر مايكل لورنار. و يبدو أنّ للكتاب قدر هام من التأثير في أوساط عدد من التقدّميّين وهو يمثّل عرضا جدّيا لموقف و وجهة ظر يستحقّان الخوض فيهما خوضا جدّيا .
لقد تحدّثت عن عديد المواضيع التي أثارها لورنار أو عن مواضيع مرتبطة شديد الإرتباط بها في الجزء الثانيّ من كتابى " الوعظ من منابر العظمة ، نحتاج إلى أخلاق لكن ليس إلى أخلاق تقليديّة " لمّا علّقت على جيم واليس و كتابه " روح السياسة " ( نيو براس ، كتب أربيس، 1994 ). لكن يحسن بنا الكلام مباشرة عن كتاب لورنار " اليد اليسرى للإلاه " المكتوب في تاريخ احدث ، في إطار وضع يتميّز بنموّ نفوذ ما يُطلق عليه اليمين المسيحي و ما نشخّصه نحن على أنّه المسيحيّون الفاشيّون .
و مع ذلك ، قبل المضيّ أعمق في نقاش هذا الكتاب و بعض المسائل الخاصة التي يتطرّق إليها ، يترتّب عليّ أن أشرع بداية في نقاش هذا المفهوم ، مفهوم " اليد اليسرى " و " اليد اليمنى " للإلاه . مثلما يقدّم ذلك لورنار ، هناك النظرتين المتارضتين ( مشخّصة على أنّها " يدان إثنتان " للإلاه " صلب التقاليد الدينيّة التي يتماثل معها لورنار – التقاليد اليهوديّة ( او بصفة أعمّ التقاليد " اليهوديّة المسيحيّة ). " اليد اليسرى للإلاه " هي يد الرحمة و الشفقة و الحبّ و العناية بالفقير و بالعدالة ؛ و " اليد اليمنى للإلاه " هي المظهر الإنتقاميّ و الغاضب للإلاه. غير أنّى لا أعتقد أنّه يمكن إعتبار مثل هذا التقسيم صالحا .
لإستخدام مقارنة مفيدة جدّا مع أشخاص كلورنار يقبلون بالكثير من الإفتراءات و التشويهات التي تطال الشيوعية – و القصص عن الأهوال المقترفة في ظلّ ستالين و حتّى في ظلّ ماو – أتساءل كيف سيكون ردّ فعلهم لو بدلا من تفحّص ما جدّ فعلا في الإتّحاد السوفياتي و الصين حينما كانا إشتراكيين ، كان علينا المحاججة عوضا عن ذلك كما يلى : " تلك الأشياء التي تتحدّثون عنها تمثّل اليد اليمنى لستالين او اليد اليمنى لماو . [ ضحك ] و أنتم تتجاهلون " اليد اليسرى – و هذا هو الجانب الذى نرغب في الحديث عنه – كلّ الطرق التي سُلّمت بها الأرض للفلاّحين و تلبية حاجيات الجماهير الشعبيّة. إنّنا نُقيم تقاليدنا على " اليد اليسرى " للشيوعيّة ". حسنا ، الواقع هو سواء كنّا نتحدّث عن التجربة التاريخيّة للحركة الشيوعيّة و البلدان الإشتراكيّة حيث وُجدت و المضمون العمليّ للنظريّة الشيوعيّة ، أو عن الكتابات المقدّسة لديانات و تقاليد متنوّعة مرتبطة بهذه الكتابات ، ينبغي النظر فيها بصفة عامة و ليس بتطبيق نسخة أخرى من مقاربة " منضدة السلطة " [ الإختياريّة – المترجم ] : التأكيد على ما يعجبنا و نودّ الحديث عنه أو ما قد يبدو مقبولا أكثر حسب إتّفاقيّات وقتها بينما يجرى تجاهل الأشياء التي يمكن أن تكون خلافيّة أكثر أو قد لا نريد الدفاع عنها .
الآن ن بعد قول ذلك ، أودّ أن أشدّد على أنّ هناك أشياء نتوحّد معها في موقف لورنار فلديه نظرات ثاقبة يمكن و يجب أن نتعلّم منها . لذا أودّ أن أنطلق بتشخيص مقتضب لبعض من هذا ثمّ سأتفحّص و أتوسّع في تفحّص بعض المظاهر المفاتيح لما يعرضه في هذا الكتاب .
على طول كتاب " اليد اليسرى للإلاه " و عرضه ، يشدّ لورنار على الحاجة إلى – و في المجتمع الأمريكي على النقص الصارخ في – معنى و هدف أوسع لحياة الناس ، أبعد من المصالح الإقتصاديّة الضيّقة و الأنانيّة و ما نشخّصه نحن كتوجّه " إقتصادي " – كامل المقاربة التي تقلّص كلّ شيء إلى المصالح الإقتصاديّة للناس على أنّها العامل الواقعي الوحيد أو الشرعي الوحيد المحرّك لحياتهم . و يحاجج لورنار – و هنا أشاطره الرأي في الأساس – أنّ هذه نظرة مفقّرة للبشر و قدراتهم . لوضع ذلك بطريقة أخرى مستخدمين كلمات من الكتاب المقدّس ، يؤكّد لورنار أنّ البشر ليس بوسعهم الحياة بالخبر فقط . و مهما كان الخبز مهمّا بالنسبة إلى البشر – وهو لا ينكر أهمّيته – هذا غير كاف ليجعل تجربة البشر و علاقاتهم ذات مغزى و تحقّق ذاتهم .
و لى جانب هذا ، يُنجز لورنار نقدا حادا جدّا للفكر الإستهلاكيّ و ما يمكن أن نسمّيه ( وهو إلى درجة معيّنة يشخّ ذلك على أنّه ) الطفيليّة – التي ضمن أشياء أخرى تقاس بالقدر الكبير من الموارد العالميّة المستهلكة في الولايات المتّحدة وهي أكبر من حصّة الولايات المتّحدة نسبة لعدد سكّانها . و يُشدّد لورنار على الحاجة إلى النضال ضد كامل الثقافة الإستهلاكيّة و على أنّ الحياة لا ينبغي أن تنظّم حول و تعطى معنى عبر البحث عن السلع الإستهلاكيّة و إقتنائها .
و يؤكّد لورنار بصفة متكرّرة على الحاجة إلى تغيير طرق تفكير الناس و دوافعهم في علاقة بهذا . و يقدّم حجّة شاملة بهذا المضمار تقرّ بأنّه إن كان يتعيّن على الناس الكفاح بجهد من أجل هذا النوع من العالم الذى يرتئيه و يحاجج من أجله ( وهو كما سأتناول ذلك بالبحث في آخر المطاف غير قابل للتحقيق – رغم أنّ ذلك لا يعنى أنّ لا وجود لشيء نتوحّد معه في هذه الرؤية ) ، بالتالى لن توجد مثل حياة الرفاهيّة هذه بالنسبة لعديد الناس في بلدان كالولايات المتّحدة – لكن يتساءل ، ما الذى سيكون رهيبا جدّا بهذا الشأن ؟ ماذا لو أنّ الناس في الولايات المتّحدة لم يستهلكوا قدرا كبيرا جدّا من الأشياء ؟ ماذا لو لم يستهلكوا قدرا كبيرا من النفط ، ماذا لو لم تتحكّم الولايات المتّحدة كبير التحكّم في التكنولوجيا العالميّة و لم توظّفها لأغراض ضيّقة و حتّى تدميريّة ؟ ألن تكون الحياة مع ذلك ذات مغزى أكبر – ألن يكون ذلك جديرا بالمبادلة النافعة ؟
هذا محور من أهمّ المحاور التي إشتغل عليها لورنار و ليس بلا صلوحيّة أو بلا قيمة . فهناك أهمّية حقيقيّة للنضال ضد فكرة أنّ للأمريكيّين نوعا من الحقّ الكامن و يتعيّن عليهم السعي إلى حياة تساوى موضوعيّا و بطرق لها دلالتها أن يكونوا طفيليّين يستهلكون على حساب بقيّة العالم . لو فكّرنا في طرق إعادة هيكلة المجتمع على أساس حصول ثورة و عدم العيش على حساب أناس آخرين – و عدم جعل الاقتصاد يعتمد على إستغلال الناس بأعداد كبيرة داخل البلاد ذاتها و حتّى منتهى الإستغلال أكثر لأعداد حتّى أكبر من الناس بمن فيهم ملايين الأطفال عبر العالم قاطبة ؛ سيكون الصراع الإيديولوجي حول هذه المسألة حادا للغاية و حيويّا للغاية . و بهذا المضمار بينما هناك بالتأكيد مظاهر من رؤية لورنار بهذا الصدد لا تبلغ جوهر و أسس المشكل ، فيها الكثير ممّا يمكن التوحّد معه في سيقا التشديد على هذا .
و كذلك ، هناك وجهات نظر ثاقبة هامة في نقاشه لتأثير علاقات السوق كعامل تآكل ، بما في ذلك كيف تجبر الناس على بيع أنفسهم في تنافس مع آخرين من أجل مواطن شغل و تقدّم في موقع الشغل – تأثير هذه العلاقات عامة كعامل تآكل في المجتمع بما في ذلك العلاقات الشخصيّة و الأسريّة ، و الطريقة التي يُدفع بها الناس إلى النظر إلى بعضهم البعض كعوائق أمام تحقيق رغباتهم و أهدافهم . و يحاجج لورنار بأنّ هذا نابع من مجال العمل حيث هو المبدأ السائد و المحدّد لكافة نواحى العلاقات بين الناس و منها العلاقات الأكثر شخصيّة و حميميّة .
و إضافة إلى هذا النقد في حقل الثقافة ، هناك في مجال الصراع السياسي الكثير من مواقف لورنار نتوحّد معها و من ذلك موقفه تجاه الحرب في العراق و الكثير من برنامج نظام بوش بشكل عام و أيضا جوانب لها دلالتها لموقف لورنار من " اليمين المسيحي ". و هناك بُعدٌ إضافيّ فيه يتعيّن رؤية الوحدة مع أناس أمثال لورنار حتّى بينما يتمّ خوض صراع مبدئيّ بشأن مسائل إيديولوجيّة و كذلك سياسيّة هامة و حيويّة . و التالى من خاتمة " حقيقة مؤامرة اليمين ...و لماذا لا يمثّل لا كلينتن و لا الديمقراطيّون إجابة " جرى الحديث عن هذا و التشديد على الحاجة إلى بناء جبهة متّحدة ثقافيّا و قيميّا و كذلك سياسيّا :
" نعتقد أنّه إلى جانب بناء هذه الوحدة السياسيّة في النضال ، ثمّة أيضا حاجة و أساس لتشكيل وحدة واسعة من قوى متنوّعة حول ارضيّة قيم و تعبيرات ثقافيّة تشجّع و تحتفل بالمساواة بين الرجال و النساء و بين الشعوب و الأمم ؛ و تقف ضد الإضطهاد و ضد العنف الذى يعمّق و يفرض هكذا إضطهاد ؛ و تعارض الهيمنة الإمبراطوريّة لأمّة على أمم أخرى و الهجمات العسكريّة لفرض هذه الهيمنة ؛ و تشجّع العلاقات بين الناس إعتمادا على تقدير للتنوّع و أيضا المجموعة ؛ كما تشجّع على القيم و الثقافة التي تُعلى التعاون و تقدير الناس بدلا من التنافس القاتل ،و التي تضع حاجة الناس فوق السعي إلى مراكمة الثروة ؛ و تحفّز عمليّا المصالح العالميّة للإنسانيّة في تعارض مع التناقضات العدائيّة القوميّة الضيّقة و هيمنة القوى العظمى .
إنّ تطّور وحدة حول هكذا قيم و تعبيرات ثقافيّة مثل تعميق الوحدة السياسيّة من خلال الصراع سيمثّلان سيرورة مستمرّة . و بناء هذه الوحدة تحدّى يجب أن يرفعه كافة الذين يعترفون بفظاعة ما يمثّله الأصوليّون الرجعيّون و إنعكاسات ذلك على الجماهير الشعبيّة ؛ و الذين يرفضون القبول بأنّ " البديل " الوحيد لهذا هو بديل يشتكر معه في أشياء جوهريّة ؛ و الذين يعترفون بالحاجة إلى مواجهة – و تقديم بديل إيجابي ل – كافة سياسات التفقير و العقاب و البطرياركيّة و التبريرات الإيديولوجيّة لهذه السياسة . هذا تحدّى يجب رفعه بجسارة و بصفة إستعجاليّة . "
و في الوقت نفسه ، يجب أن يُقال إنّ هناك بعض الحدود و الأخطاء الحقيقيّة جدّا في تحليل – و صراحة ، هناك حتّى بعض المواقف السيّئة جدّا – في ما تقدّم به لورنار . و سيساعدنا تفحّص ليس بعض المواقف السياسيّة فحسب للورنار لكن أيضا نظرته الإيديولوجيّة و الفلسفيّة ، سيساعدنا في تسليط شيئا من الضوء و في التشديد على لماذا بينما يمكن و يجب أن نرتئي الوحدة مع الناس المتديّنين مثل لورنار ، من الضروريّ بالمعنى الأكثر جوهريّة أن ننجز نقدا أكثر راديكاليّة للمجتمع الرأسمالي و برنامجا مناسبا للتغيير الثوريّ منطلقين من نظرة و منهج علميّين شاملين و منهجيين ، نظرة و منهج الشيوعيّة.
كما لاحظت ، بينما يتحدّث لورنار ببعض الطرق العميقة و النفاذة النظر عن تأثيرات السوق الرأسماليّة ( و أحيانا يشخّصها كما هي " السوق الرأسماليّة " ) و كيف يمتدّ هذا إلى كافة مجالات علاقات الناس و مها أكثرها حميميّة و شخصيّة ، ما يعالجه هو في نهاية المطاف ليس أكثر من التعبيرات الأكثر خارجيّة و ثانويّة لمشكل أعمق و أكثر أساسيّة . ففى الواقع ، المشكل يكمن في التناقض الأساسي للرأسماليّة نفسها أي أنّ الإستغلال هو الوسيلة المحرّكة التي عبرها يتمّ إنتاج الثروة و مراكمتها في ظلّ الرأسماليّة ، و أنّ هذه الثروة تُنتج إجتماعيّا إلاّ أنّه يقع تملّكها فرديّا من طرف رأس المال . و بالنظر إلى التعبيرات الأكثر خارجيّة التي يتكلّم عنها لورنار ، أساسها الأعمق يكمن في علاقات الإنتاج الرأسماليّة ، و كذلك في العلاقات الإجتماعيّة المناسبة لعلاقات الإنتاج الرأسماليّة هذه . (34)
(34- في خطاب ألقيته قبل حوالي عقد من الآن ، " الأهداف الكبرى و الإستراتيجيا الكبرى " ، هناك نقاش التداخلات إلى درجة معيّنة مع ملاحظات لورنار حول التأثيرات الثقافيّة و الإيديولوجيّة لسير السوق الرأسماليّة . و مع ذلك ، يضع ذك الخطاب هذا في إطار نقد أكثر جوهريّة للنظام الرأسمالي – الإمبريالي ، و في ذلك الإطار جرى الحديث عن أنّ سير السوق الأكثر عدم تقييد و العلاقات الرأسماليّة عامة في هذه الفترة قد ولّدا فعلا ضربا من التذمّر الروحيّ و كيف أنّ هذا التذمّر قد دفع بدوره في آن معا بعض الناس عفويّا نحو الدين و الأصوليّة الدينيّة بوجه خاص ، لكن أيضا قد جرى اللعب عليهما عن وعي و إستخدمتهما فئات من الطبقة الحاكمة ذات نفوذ لتعزيز جاذبيّة الأصوليّة الدينيّة ". ( مقتطفات من " الأهداف الكبرى و الإستراتيجيا الكبرى " قد نشرت في جريدة " العامل الثوريّ" الأعداد 1127-1144 [ 18 نوفمبر 2001 إلى 10 مارس 2002] وهي متوفّرة على الأنترنت على الرابط التالى :
gogs # revcom.us/avakian/avakian-works.htm1).
و من الأشياء التي من المهمّ جدّا التأكيد عليها بهذا المضمار هي أنّ علاقات الإنتاج ليست مجرّد – و ليست أساسا – علاقات توزيع . لكن التوزيع هو ما يتعاطى معه لورنار بالأساس حين يركّز حديثه عن السوق . و مثلما أشار ماركس إلى ذلك ، بالمعنى العام نظام الإنتاج يحدّد نظام التوزيع . و بالنسبة إلى نظام إنتاج معيّن ، سيوجد نظام توزيع مناسب له نو بالمنى العام نظام توزيع مستمدّ منه – مستمدّ من و يتناسب مع الطبيعة الأساسيّة للوسائل و العلاقات التي من خلالها يُنجز الإنتاج و تتمّ المراكمة . و واقع أنّه في ظلّ الرأسماليّة يجرى توزيع الأشياء عبر آليّات السوق الرأسماليّة ينبع من نظام الملكيّة و من علاقات الإنتاج الرأسماليّة عامة ، (35) و من التناقض الأساسي بين الإنتاج الاجتماعي الطابع و التملّك الفرديّ.
(35- تتكوّن علاقات الإنتاج ، في أي نظام إقتصادي ، قبل كلّ شيء من نظام ملكيّة وسائل الإنتاج ( الأرض و المواد الأوّليّة و الآلات و التقنية عامة و ما إلى ذلك ). و إلى جانب هذا ، و أساسا بالتناسب مع نظام الملكيّة هذا ، توجد العلاقات بين الناس في سيرورة الإنتاج ( " تقسيم العمل " في المجتمع عموما ) و نظام توزيع الثروة المنتجة . و لنضرب مثالا من المجتمع الرأسمالي : ملكيّة وسائل الإنتاج تقع تحت سيطرة مجموعة صغيرة ، الطبقة الرأسماليّة ، بينما معظم الناس يملكون القليل من أو لا يملكون وسائل إنتاج ؛ يتناسب " تقسيم العمل " في المجتمع و تتناسب مختلف الأدوار التي تنهض بها مجموعات من الناس في السيرورة العامة للإنتاج بما في ذلك الإنقسام العميق بين الذين يقومون بالعمل الفكريّ و الذين يقومون بالعمل اليدويّ ( بإختصار ، تناقض العمل الفكري / العمل اليدوي ) ، مع علاقات الملكيّة ( و عدم الملكيّة ) هذه لوسائل الإنتاج ؛ و توزيع الثروةالمنتجة يتناسب هو كذلك مع هذا لذلك فإنّ الثروة المراكمة من قبل الرأسماليّين بالمعنى الأساسي ، هي في تناسب مع رأس المال الذى يمكونه ( وسائل الإنتاج التي يملكونها و يتحكّمون فيها ) و دورهم كمستغلّين لقوّة عمل ( قدرة عمل ) الآخرين الذين لا يملكون وسائل إنتاج ؛ بينما الذين ليوا من الرأسماليّين الكبار لكن يمكن أن يملكوا قدرا من وسائل الإنتاج و/ أو قد راكموا المزيد من المعرفة و المؤهّلات ، يحصلون على حصّة من الثروة الإجتماعيّة محدّدة بواقع أنّهم لا يملكون وسائل إنتاج ، و لم يقدروا على تحصيل الكثير أبعد من المعرفةو المؤهّلات الأساسيّة . و لن يكون من المفاجئ أن تستمرّ هذه العلاقات و الإنقسامات – العالية اللامساواة – في المجتمع و تستمرّ إعادة إنتاجها و ستنزع حتّى إلى أن يجري التشديد عليها عبر السير القائم للنظام الرأسماليّ والسيرورة القائمة للمراكمة الرأسماليّة و العلاقات الإجتماعيّة، و السياسة و الإيديولوجيا و الثقافة التي هي في تناسب أساسي مع وهي تفرض و تعزّز الطبيعة و السير الأساسيين لهذا النظام . و بوجه خاص في عالم اليوم ، يحدث سير هذا النظام الرأسمالي ليس ضمن بلدان رأسماليّة خاصة فحسب و إنّما فوق كلّ شيء على نطاق العالم .)
و نظرا إلى واقع أنّ علاقات الإنتاج ( و بصورة محدّدة أكثر نظام الملكيّة ) تحدّد جوهريّا نظام بيعته( وعلاقات التوزيع )، إذا حاولنا مجرّد تغيير علاقات السوق ، دون المضيّ إلى جذوره و إجتثاثها ن لن نقدر على القيام بذلك.
إلى جانب هذا ، ينبغي أن نسجّل أنّ هناك من طرف لورنار أكثر من قسط صغير من الرومنطيقيّة تجاه الإقطاعيّة ، في تعارض مع الرأسماليّة ؛ و يترافق هذا بتجميل دور الدين و المؤسّسات الدينيّة في المجتمع ما قبل الرأسمالي ، و في المراحل الأولى من الرأسماليّة .فى عديد المواضع في كتاب " اليد اليسرى للإلاه " يحاجج لورنار بأنّ بعض المؤسّسات قد إستخدمت لإدخال تحويرات أو تلطيف الإستغلال في المراحل الأولى من التاريخ . و ليس مفاجأ – إعتبارا لموقف لورنار أنّه يجب أن يوجد المزيد من الدين و الإلاه أو بالأحرى المزيد من " اليد اليسرى للإلاه " في المجتمع الأمريكي بما في ذلك في المجال العام – أن يُشير لورنار بوجه خاص إلى الكنيسة و الدين على أنّهما مارسا هذا الدور التلطيفي وهو يؤكّد و يشتكى من أنّه مع مزيد تطوّر الرأسماليّة و إنتصارها التام ، هذا الدور التلطيفي قد جرى تقويضه لذلك الآن صار الإستغلال أمرا عاديّا أكثر سفورا و على نطاق واسع دون هذا التأثير التسكيني . و تبرز رؤية لورنار هذه مثلا في التالى ذكره :
" ليس أنّ المؤسّسات الدينيّة لم تدعم لمدّة طويلة البطرياركيّة و العلاقات الإجتماعيّة الإضطهاديّة لكنّها وفّرت أيضا إطارا هاما فيه رغبتنا الإنسانيّة للعناية ببعضنا البعض أمكن لها أن تكون شرعيّة و ثابتة . على سبيل المثال ، فرضت الكنيسة القروسطيّة " مطالب أجر عادل " و " سعر عادل " على الذين كانوا يستخدمون عمّالا أو يبيعون سلعا في السوق ... لقد كانت العناية بالآخرين مظهرا هاما ممّا يعنيه أن تكون مسيحيّا و قد سادت أخلاق مشابهة عموما في صفوف المجموعات الدينيّة حول العالم .
و لمّا تداعت المؤسّسات الدينيّة طوال الثلاث مائة سنة الماضية أو ما يناهزها ، مع ذلك ، صار من الأيسر للسوق أن يصبح ملجأ للتلاعب و السيطرة . و مع ضعف الإطار الديني والمطلب الذى رفع بالمساندة المتبادلة والمسؤوليّة الجماعيّة، تحرّرت السوق الرأسماليّة لتعيد تشكيل التعليم و لتوجد وسيبة تعمل في درّاجة هوائيّة مزدوجة لتعلّمنا أنّ أوّل مسؤوليّة من مسؤوليّاتنا في العالم المعاصر هي تحقيق الأقصى خدمة لمصلحتنا الخاصة " ( " اليد اليسرى للإلاه " ، صفحة -5960).
ما يحاجج لورنار من أجله هنا يذكّرنا إلى درجة كبيرة بالجدال الذى جدّ ضد " بيان الحزب الشيوعي " : بعض نقّاد الرأسماليّة الذين ينطلقون في بعض المظاهر من جعل الإقطاعيّة رومانسيّة و تقديم نظرات لمجتمع تكون فيها العلاقات الإقطاعيّة ممزوجة ب- و أحيانا مقدّمة ك – ما يُزعم أنّه إشتراكيّة . و إعتبارا لما هو معروف عن ليس فقط المضمون العمليّ للكتاب المقدّس المسيحي لكن أيضا الدور الحقيقي للمسيحيّة و الكنيسة المسيحيّة لا سيما زمن قسطنطين - مع القمع بلا رحمة و بلا هوادة للزنادقة و قتلهم و لليهود " قتلة المسيح " و لغيرهم ؛ و الحروب المقدّسة و الحروب الصليبيّة ؛ و محاكم التفتيش و القمع الوحشيّ للمعرفة و الإكار التي كانت في أي وقت تتحدّى العقيدة التي ركّزتها الكنيسة – يضطرّ المرء إلى التساؤل عن أيّ عالم يتحدّث لورنار لعب فيه الدين و لعبت فيه الكنيسة هذا الضرب من الدور الإيجابيّ المنسوب إليهما ؟ في الواقع ، لقرون و قرون ، الكنيسة و الدين مثّلا عبئا ثقيلا جدّا يفرض و ينضاف إلى قمع و بؤس الجماهير الشعبيّة في المجتمع الإقطاعي – و ليس قوّة لتخفيف و تسكين تأثير هذا الإضطهاد . و فضلا عن الطريقة التي جسّد الدين الجهل المنظّم و خدم كعبء على كاهل الجماهير معا مع التطيّر و الخوف و الشعور بالذنب ، الواقع هو – واقع يتعامى عنه لورنار – أنّ الكنيسة القروسطيّة كانت هي نفسها أحد أكبر الملاّكين العقّاريّين و بتلك الصفة بلا رحمة إستغلّت الأقنان و غيرهم من الشغّالين .
و التالى من " حقيقة المؤامرة اليمينيّة ... و لماذا لا يمثّل لا كلينتن و لا الديمقراطيّون الإجابة " ( المكتوب أثناء الفترة التي كان فيها كلينتن متّهما و مقالا من الرئاسة ، على أنّه لم يرحل من منصبه ) مفيد جدّا في علاقة بما يثيره لورنار – في كلّ من المظهر الذى يتمثّل في أنّ لحجج لورنار بعض عناصر الحقيقة و الأهمّية و بالنظر إلى الحدود في نظرته و الطرق التي بها تقوده نظرته في الإتّجاه الخطأ :
" في بعض المظاهر الهامة ، " إستعادة " إقتصاد الولايات المتّحدة لعافيته حصل خلال إدارة كلينتن و الإنتاج الأشدّ " عولمة " و " مرونة " الذى كان مظهرا مميّزا لهذه " الإستعادة " للعافية الاقتصادية ساهم أيضا في " تقويض الأسرة التقليديّة ". و قد شجّع إزدهار نظرة خاصة ( و ليس حصريّا ) ضمن الحرفيّين الأعلى أجرا ما عني ليس قدرا ضئيلا من الإنغماس الذاتي و في إرتباط بذلك إضعاف بعض " القيم التقليديّة " و منها الوطنيّة من الصنف القديم و رغبة التضحية من اجل " المصلحة القوميّة " المحدّدة و المعلنة رسميّا .
ببعض الطرق ذات الدلالة ، ما كُتب قبل 150 سنة في " بيان الحزب الشيوعي " ، بشأن تبعات العلاقات السلعيّة البرجوازيّة غير المقيّدة ، يعرف تعبيرا بارزا في صفوف فئات من سكّان الولايات المتّحدة في إطار العالم الرأسمالي اليوم " ما بعد الحرب الباردة ". و الجمل التالية من " بيان الحزب الشيوعي " [ الصفحة 50 من " مختارات ماركس و إنجلز في أربعة أجزاء" ، الجزء الأوّل ؛ دار التقدّم ، موسكو – المترجم ] تنطوى على صدى خاص و قويّ :
" فحيثما إستولت البرجوازيّة على السلطة ... لم تبق على صلة بين الإنسان و الإنسان إلاّ المصلحة الجافة و الدفع الجاف " نقدا و عدّا ". و أغرقت الحميّة الدينيّة و حماسة الفرسان ورقة البرجوازية الصغيرة في مياه الحساب الجليديّة المشبعة بالأنانيّة ، و جعلت من الكرامة الشخصيّة مجرّد قيمة تبادل لا أقلّ و لا أكثر ... فهي بإختصار ، إستعاضت عن الإستثمار المقنّع بالأوهام الدينيّة و السياسيّة بإستثمار مكشوف شائن مباشر فظيع . " و هنا ثمّة سخرية كبيرة : أفرز " إنتصار " و " إنتصاريّة " الرأسماليّة في ظروف اليوم إنعكاسات و مشاعر تنزع إلى تقويض ، ضمن فئات هامة من سكّان الولايات المتّحدة ، الرغبة في بذل التضحيات الخاصة من أجل " الإلاه و البلاد " – يعنى التضحية من أجل مصالح و متطلّبات الطبقة الحاكمة الإمبراطوريّة في الولايات المتّحدة ذاتها وعلى الصعيد العالمي . كردّ على هذا ، يحاول " المحافظون " ، و اليمين المسيحي يضطلع بدور حيويّ في ذلك ، أن يعيدوا إحياء و فرض بالذات " الحميّة الدينيّة و حماسة الفرسان "- أن يعيدوا بعث وضع حيث الإستغلال عبر العالم الذى يشهد منتهى القسوة هو في الوقت نفسه " مقنّع بالأوهام الدينيّة والسياسيّة".
هنا من المهمّ أن نلاحظ ، ضمن أشياء أخرى ، أنّ هذه المقاطع الحادة في " بيان الحزب الشيوعي " ( المذكور في " حقيقة مؤامرة اليمين " ) بشأن التعبيرات السافرة للإستغلال الرأسمالي ، و في نقده للرأسماليّة عامة ، لم يكن ماركس و إنجلز ينظران خلفا للإقطاعية بشاعريّة و مثاليّة و رومنسيّة – فقد كانت في الواقع تتميّز بإرهاب لا ينتهى ضد الجماهير الشعبيّة – لكن بالعكس ، كانا ينظران إلى الأمام ، إلى الإطاحة بالرأسماليّة و تقدّم الإنسانيّة و تجاوزها الرأسماليّة و كافة الأنظمة الإستغلاليّة و الإضطهاديّة و أيّ تجميل لها و مدحها و تبريرها .
الآن ، في ضوء ما تقدّم ، ضمن أشياء أخرى يمكن أن نرى حتّى بمزيد من الوضوح النقائص الحادة جدّا في تحليل لورنار لليمين الديني حتّى و إن كان هدف كتابه كما ينعكس ذلك في عنوانه " إستعادة بلادنا من اليمين الديني " . إنّ مقاربة لورنار لقتال – أو ربّما ، معبّر عنه بدقّة أكبر ، إبعاد الناس عن – اليمين الديني هي مقاربة لا يمكن أن تنجح حتّى في حدّ ذاتها . فتحليله للمشكل عامة و لشكل اليمين الديني بخاصة يتميّز وهو غارق في إخفاق إدراك و تماما مواجهة الطبيعة الفاشيّة لما يمثّله هذا اليمين الديني ، عمق الخطر الذى يمثّله عمليّا و نوع النضال الشامل و المصمّم الذى يجب خوضه لإلحاق الهزيمة به بينما في الوقت نفسه ، أجل ، يتمّ البحث عن كسب أكبر عدد ممكن من الناس من صفوفه .
و حتّى في هذه الصيغة ( " إستعادة بلادنا من اليمين الديني " ) نقائص نظرة لورنار و أهدافه بارزة . لماذا ينبغي أن يكون الهدف مشخّصة و منحصرة في معانى " الإستعادة " و " بلادنا " ؟ ف " الإستعادة " تعنى أنّ هناك شيء - البلاد - كان في وقت ما على " ملكيّتنا " – و هذا من المفترض أن يعني شعب الولايات المتحدة . لكن بالمعنى الجوهريّ لم يكن الأمر أبدا كذلك بما أنّ واقع البلاد كان من البداية " على ملكيّة " – أي أنّه كان محكوما و كانت الجماهير الشعبيّة تحت سيطرة و إضطهاد و إستغلال – الطبقات الرأسماليّة و ملاّكى العبيد . و صيغة " بلادنا " لا تشكو فقط من ذات النقائص مثل " الإستعادة " لكنّها تشتمل أيضا على مظهر قوميّ شوفيني ( أمريكي ) حتّى و عن كان غير مقصود لأنّه ليس مجرّد " بلادنا " هي التي على الناس أن يعتنوا بها – و هذا هو الحال و أكثر حينما تكون المسألة بلدا إمبرياليّا طبقته الحاكمة ، عبر دولتها ، لا تضطهد الجماهير الشعبيّة محلّيا فحسب بل تستغلّ و بالفعل تستغلّ إلى أقصى حدّ و تعنّف الناس عبر العالم قاطبة ،و بأكثر شدّة في ما يسمّى بالعالم الثالث و مرّة تلو المرّة أنزلت دمارا رهيبا و موتا على رؤوس الناس في عديد البلدان الأخرى حيثما قاوموا هيمنة غمبرياليّة الولايات المتّحدة أو أصبحوا هدفا لهجمات الولايات المتحدة لأسباب ما أخرى. و ليس فقط و لا أساسا " اليمين الديني " هو الذى يجب " إستعادة " الأشياء منه – ليس اليمين الديني وحده بل و بأكثر جوهريّة ، الطبقة الحاكمة الإمبرياليّة ككلّ التي تمسك بالسلطة في الولايات المتحدة و تستخدم هذه السلطة لغايات إستغلاليّة و إضطهاديّة تكلّمنا عنها هنا .
بشكل متكرّر في " اليد اليسرى للإلاه " ، نعثر على لورنار وهو يؤكّد بشدّة على أنّه بينما لا يقبل بقوّة و سيعارض بقوّة اليمين الديني ، يرفض قول إنّ الذين يشكّلون اليمين الديني هم أناس سيّئون . و هذا ليس حقّا الموضوع أو ليس جوهر المسألة : ناس سيّئون أم ناس جيّدون . المسألة هي : أيّ نوع من البرنامج و الإيديولوجيا تتمّ تعبأة هؤلاء الناس حولهما ؛ و ما الذى يمثّله ذلك و مدى جدّية المشكل الذى يطرحه إذا كنّا نحاول بلوغ مجتمع أعدل فما بالك ببلوغ الشيوعية ؟
في " مقدّمة " كتاب ، " اليد اليسرى للإلاه " نجد التالى :
" من الشرعيّ تماما أن ندقّ ناقوس الخطر غزاء نموّ نفوذ أولئك اليمينيّين و غزاء الطريقة التي يستخدمون بها ذلك النفوذ، و ذلك قصد تحدّى أفكارهم تحدّيا قويّا و التحذير من المخاطر إن نجحوا في تحقيق نواياهم المعلنة . و بالتأكيد سأفعل كلّ شيء بوسعى للحيلولة دونهم و النشر الشعبيّ لمفهوم أنّه على الناس أن يكونوا دينيّين أو يعتقدوا في إلاه لتكون لديهم أخلاق و ليغيّروا فهمهم الخاص لما يريده منّا الإلاه .
و ما لن أفعله و ما أدعو أصدقائي في الحركات الليبراليّة و التقدّميّة أن لا يفعلوه هو أن ينسبوا دوافع شرّيرة للمنتمين إلى اليمين الدينيّ أو أن يعتبروهم متلاعبين منافقين لا همّ لهم سوى السلطة و رفعة الذات . و بالتأكيد أنّ اليمين الديني له حصّته من تجّار السلطة و المنافقين . لكن الغالبيّة العظمى المعنيّة هي أناس تدفعهم مبادئ و يرغبون في ما هو أفضل للعالم " ( الصفحتان 8 و 9 ).
و يجب قول إنّ هذا ساذج إلى درجة عالية و لا يصيب بجدّية الهدف . ما يهمّ وهو مناسب جدّا في الوقت الراهن ليس ما إذا كان هؤلاء الناس صرحاء أو حتّى مضحّين بالنفس و إنّما بالأحرى حول ايّة وجهة نظر و بإتّجاه أيّة غايات يجرى تنظيمهم و تجرى قيادتهم . على وجه التحديد ما هو مضمون " المبادئ " التي تقود فعلا هؤلاء الناس ؛ و ما الذى سينجم لو تحقّقت عمليّا رؤية " الأفضل للعالم " التي تمّ صهرهم حولها ؟
حدود لورنار هنا متّصلة مباشرة بنظرته الخاصة إلى العالم ، بإنطلاقه من و من خلال موقف ديني و موشور دينيّ بما في ذلك مفهومه أنّ هناك القليل جدّا من الدين و الحياة الروحيّة في الحياة الأمريكيّة و في المجتمع الأمريكي – قليل جدّا ! فيما الدين و الحياة الروحيّة التي يدافع عنها لورنار و يريد أن يراها تزدهر و تمارس تأثيرا اكبر كما هي مجسدّة في فهمه ل " اليد اليسرى للإلاه " في عديد مظاهرها الهامّة مختلفة جدّا عن الأصوليّة الدينيّة للمسيحيّين الفاشيّين إلاّ انّ لورنار يشاطرهم نفس التقاليد الدينيّة بالمعنى الواسع و معتقداته إلى درجة كبيرة متجذّرة و تنبع من ذات الكتابات المقدّسة الدينيّة ، و حتّى إن أمكن للورنار رؤية و تأويل أجزاء من هذه الكتابات المقدّسة بشكل مختلف كذلك. قناعة لورنار و تشديده على نظرة إلى العالم و مقاربة للواقع دينيّة و روحيّة تحتاج أن تمارس أكثر من تأثير في مجتمع يشجّع على طريقة تفكير و تصرّف في العالم هي فعلا في نزاع أساسي مع الواقع و بالتالى في نزاع مع وسائل تغيير الواقع في تناسب مع المصالح الحقيقيّة و الجوهريّة للغالبيّة العظمى من الإنسانيّة و في نهاية المطاف الإنسانيّة ككلّ .
و فضلا عن هذا ، بالرغم من إختلافاته الحقيقيّة جدّا مع الأصوليّين الدينيّين الرجعيّين و الفاشيّين حقّا ، تأكيد لورنار على الترويج لذات التقاليد الدينيّة و الكتابات المقدّسة ليس بوسعه إلاّ المساهمة في تقوية وجهات النظر و البرامج الإيديولوجيّة و السياسيّة الرجعيّة المعتمدة على الدين و التصرّفات النابعة منها . و ذلك كذلك بغضّ النظر عن كيف أنّ لورنار يمكن أن ينظر إلى " إعادة تأويل " هذه التقاليد و هذه الكتابات المقدسة فهي في النهاية مع ذلك تقف فعلا من أجل ما تقف من أجله – إنّها تقول ما تقول و تعنى ما تعنى . و من سخريّة القدر أنّ حدود لورنار ليست مرتبطة بلماذا لا يعترف بالإختلاف العميق و أجل التناقض العدائيّ الموجود موضوعيّا بين حتّى ما يبحث عن فعله و ما يمثّله ليس كثيرا جدّا من الأفراد الخاصين الذين جذبهم ليشكّلوا صفوف الحركة الفاشيّة لكن مرتبطة بالطابع و المضمون الأساسيّين لهذه الحركة و إلى أين تبحث عن المضيّ بالأمور.
بكلمات أخرى ، من المهمّ الصراع – مواجهة – ما هي الطبيعة الحقيقيّة ل " اليمين الديني " : طبيعته كحركة مسيحيّة فاشيّة تهدف إلى تكريس شكل تيوقراطي فاشيّ للحكم الرأسمالي – الإمبريالي في الولايات المتّحدة و الهيمنة على هذا الأساس على العالم . و كما جرى تفحّص ذلك هنا ، هذه الحركة المسيحيّة الفاشيّة ليست بقوّة مبنيّة فحسب حول و لها محرّك كبير هو إعادة التأكيد بقوّة نوع مطلق من البطرياريكيّة و كذلك تفوّق البيض ببعد إبادة جماعيّة ممكنة . و تدافع هذه الحركة دفاعا متحمّسا عن عسكرة و غزوات إمبرياليّة الولايات المتّحدة عبر العالم .
تخوض هذه الحركة معركة متزمّتة ضد الإعتراف – ليس من طرف الأشخاص فحسب بل من طرف المجتمع و مؤسّساته التعليميّة – للواقع العلمي للتطوّر . لماذا ؟ لأنّه من الضروري أكثر لنشر برنامجها أن تروّج أبستيمولوجيا تجعل الناس يبتعدون عن التفكير العقلاني وينبذون و يسخرون من المنهج العلميّ و يصبحوا عبيدا لإيديولوجيا مناهضة للعقلانيّة تشجّع و تركّد على الطاعة العمياء و دون تفكير للقوى و العلاقات المهيمنة في المجتمع و للسلطة المطلقة للوجوه ذات النفوذ الكبير التي تلبس لبوس اليمين الديني و تدّعى علاقة خاصة تعاقديّة مع القدير .
المعركة حول نظريّة التطوّر هامة في حدّ ذاتها و لها صلة وثيقة جدّا بالمعركة من أجل الثورة . قبل كلّ شيء ، هي معركة في مجال الأبستيمولوجيا – حول مسائل ما هي الحقيقة و ما إذا و كيف يمكن للبشر أن يحصلوا على فهم حقيقي للواقع . هل سننطلق من مقاربة علميّة – بحث الواقع و مراكمة التجارب و الأدلّة بشأن الواقع و تاليا إستخلاص الإستنتاجات العقلانيّة ؟ أن سنتبنّى عن عمى طريقة فات أوانها من فهم كيف يسير العالم و ما هي القوى المحرّكة و التأكيد على فرض ذلك بالقوّة على الواقع و على تدمير أي شيء يتنازع مع هذه المقاربة اللاعقلانيّة ؟ هل سنؤكّد على المفاهيم الماقبليّة للحقيقة – الفرضيّات الدغمائيّة التي ليست مستخلصة من الواقع و لا يمكن أن تختبر في الواقع – و محو الأشياء التي إستخلصت من الواقع و قد إختبرت و تبيّنت في الواقع أنّها صحيحة ؟
و هذه المعركة حول الأبستيمولوجيا معركة عميقة و لها تحدّيات و تبعات هائلة جدّا . ففي الولايات المتّحدة ، هناك بوجه خاص ، صراع سياسي شرس مخاض بصدد نظريّة التطوّر لكن هذه المعركة السياسيّة التي لا تعنى فحسب المسألة الخاصة بنظريّة التطوّر ، على أهمّيتها ، و إنّما تركّز النزاع بين الأبستيمولوجيّتين المتعارضتين جوهريّا . و طبعا ، هناك أكثر من تحليل أجراه ناس ذوى معتقدات دينيّة إلاّ أنّهم يقبلون بالواقع العلميّ لنظريّة التطوّر و يحاولون التوفيق بين واقع نظريّة التطوّر و النظرة الدينيّة إلى العالم . و في نهاية التحليل ، ليست قابلة للتوفيق لكن في أيّ زمن معطى عديد الناس قادرون على معانقة على الأقلّ الوقائع الأساسيّة مركّزة في النظريّة العلميّة للتطوّر حتّى بينما يتمسّكون بالمعتقدات الدينيّة . لكنّنا نتكلّم عن شيء مختلف راديكاليّا عن ذلك ، مع النظرة و المقاربة المسيحيّة الفاشيّة نتكلّم عن شيء يحدّد الحقيقة بصفة ما قبليّة – مقدّما وهو في إنفصال عن بحث الواقع و تلخيص ما يتمّ تعلّمه من الواقع . و ليس هذا مجرّد ما قبليّة بالمعنى العام بل هو ما قبليّة تخدم برنامج سياسي رجعيّ شامل يهدف إلى فرض دكتاتوريّة رأسماليّة تيوقراطيّة – فاشيّة في الولايات المتّحدة ، معا مع خوض حرب صليبيّة لفرض – حتّى على نطاق أوسع و بالقوّة و بلا رحمة – الهيمنة الأمريكيّة عبر العالم على أنّها هيمنة أمّة الإلاه المختارة .
في هذا الإطار ، أضحت نظريّة التطوّر محورا لمثل هذا الصراع الحاد . نظريّة التطوّر كأمر واقع علميّ – و المنهج العلمي الذى يؤدّى إلى إستنتاج واضح و صلب للغاية بأنّ نظريّة التطوّر أمر علميّ وهو يبيّن هذه الحقيقة بشمول حتّى أكبر – و كلّ هذا عائق كبير أمام تعبئة الناس خلف نوع النظرة إلى عالم مكتف ذاتيّا لا يمكن أن ينفذ إليها الواقع إلاّ و إلى أن يُصبح تأكيد الواقع شديدا بحيث تنفجر هذه النظرة إلى العالم بطريقة أو أخرى . لكن ، بينما يظلّ من المهمّ " خوض صراع هجومي " ضد هذه النظرة إلى العالم معتمدين حججا عقلانيّة و منطقيّة متّصلة بالواقع ، فإنّ مثل هذه الحجج ببساطة في حدّ ذاتها لن تنفذ حقّا إلى هذه النظرة إلى العالم . و يمكن أن نشاهد كيف يتمّ تشجيع مثل هذه النظرة إلى العالم إذ هي في غاية الأهميّة بخاصة لنواة الطبقة الحاكمة في الولايات المتّحدة الآن ( و التي تجمّعت حول نظام بوش ) في سياق ما يخطّطون إلى القيام به في العالم و كيفيّة القيام به و إلى ذلك هم مصمّمون على إعادة التشكيل الراديكالي للولايات المتّحدة نفسها في إتّجاه فاشيّ . إنّهم يأملون في إمكانية أن تعمل الأصوليّة الدينيّة المتزمّتة العمياء كنوع من الفرقة الفولاذيّة لتثبيت قويّ للأشياء في مكانها في وضع حيث ما دفعوا به إلى الحركة في العالم و داخل الولايات المتّحدة ذاتها – كلّ هذا بعيد عن أن يكون تحت سيطرتهم – قد يجعل الأمور تنفجر في إتّجاهات متعارضة شديد التعارض.
على ضوء هذا يمكن لمحاولات فرض " عالم مكتف ذاتيّا " – و كيف و لماذا أصبحت نظريّة التطوّر نقطة تبئير كبرى كهذه في النضال في علاقة بذلك – أن تُفهم بصورة أتمّ . و حسب ما عليه الأشياء الآن ، أحد العناصر المفاتيح في القبول بشيء بأنّه نظريّة علميّة صالحة هو ما يسمّى ب " مراجعة نظير " حيث العمل الذى أُنجز و الإستنتاجات التي إستُخلصت يعرّضان إلى المراجعة النقديّة من أناس ذوى معرفة بالمجال العلمي ( المجالات العلميّة ) المعنيّ لرؤية ما إذا أمكن بالفعل إحداث ثقوب فيه جرّاء اللكمات. و بالرغم من كون هذا لا يحدّد و لا يمكن أن يُحدّد صلوحيّة ( أو عدم صلوحيّة ) النظريّة العلميّة ، فإنّه جزء حيويّ في أيّة سيرورة علميّة شرعيّة و سيرورة إن كان أم لا شيء مقبول على أنّه صالح علميّا . حسنا، علاوة على الإستخدام المستمرّ لمناهجهم غير العلميّة – و في الواقع المناهضة للعلم – لمهاجمة النظريّات العلميّة كنظريّة التطوّر ( مثلا ، رغم أنّ البون في السجلاّت الإحاثيّة يجعل نظريّة التطوّر غير صالحة ثمّ في كلّ مرّة يتمّ فيها تـاكيد أنّه ما من " بون" بإكتشاف إحاثيّ جديد ، يجرى التحوّل و زعم أنّ هذا لم يفعل سوى إيجاد المزيد من " البون " ! (36) ) .
( 36- من أجل عرض وتحليل هامين ليس فقط لهذا التكتيك الخاص لأنصار فكر الخلق( في علاقة بالتسجيلات الإحاثيّة ) و لكن أيضا بهجوم أنصار فكر الخلق على نظريّة التطوّر بما في ذلك التجسيد الحديث لفكر الخلق ك " مصمّم ذكيّ " – و التبعات الأشمل إيديولوجيّا و سياسيّا لهذا – أنظروا كتاب " علم التطوّر و أسطوريّة فكر الخلق- معرفة ما هو واقعي و لماذا هو مهمّ " لأرديا سكايبراك ، إنسايت براس 2006).
و يسعى المسيحيّون الفاشيّون الآن إلى كلّ من تركيز مؤسّساتهم التعليميّة الخاصة المزوّرة حتّى على الصعيد الجامعي ( على غرار جامعة بات روبرتسن المؤسّسة الوصيّة التي تخرّجت منها أعداد كبيرة جدّا جلبتها إليها إدارة بوش ) و كذلك إلى جعل الناس يحصلون على شهادات متقدّمة منها شهادات في مجالات كالبيولوجيا من جامعات أكثر شرعيّة و حتّى من جامعات رفيعة المستوى لكي يتمكّنوا بالتالى من توظيف هذه الشهائد كأوراق إعتماد للحصول على المصداقيّة في هجماتهم على نظريّة التطوّر ( و حقائق علميّة راسخة جدّا تصطدم مع الدوغما الأصولي الديني ).
في كلّ هذا ، يواجه المسيحيّون الفاشيّون بعض التناقضات الحادة حين يتعلّق الأمر بمجال التعليم . فهناك حركة لها دلالتها في صفوفهم نحو تعليم أبنائهم في المنازل لكي " يعزلوهم عزلا صحّيا " أو " يلقّحوهم " ضد أشياء كانوا سيتعلّمونها في المدارس العموميّة و تتعارض مع الدوغما الأصولي و قراءة أكثر حرفيّة للكتاب المقدّس . و في الوقت نفسه ، بالتعاون مع الأفراد الأثرياء و المؤسّسات الثريّة ( جمعيّات يمينيّة إلخ ) ، يبنون و يموّلون مدارسا و معاهدا أصوليّة مسيحيّة كبديل عن المدارس و المعاهد العموميّة . لكنّهم يواجهون مشكلا فحينما يُنهى الطلبة الدراسات العليا ، لا يريد الأولياء أن يعلق أبناءهم و يناتهم في الصفّ الأدنى من المجتمع ، يريدون لهم أن يحصلوا على أعمال ناجحة و أن يكون لديهم تعليم كافى و شهائد تعليميّة تخوّل لهم الحصول على هذه الأعمال . و بهذا الصدد و رغم سعيها لتغيير هذا الوضع ، فإنّ الجامعات الأصوليّة المسيحيّة لا تزال سمعتها و " ختمها " غير كافيين في المجتمع الأوسع . و في الوقت نفسه ، إذا نظرنا في السائد ، نلاحظ أنّ الجامعات غير الأصوليّة عبر البلاد عامة يقع فيها ، في البيولوجيا على سبيل المثال ، تدريس نظريّة التطوّر كواقع ... لسبب بسيط ألا وهو أنّه من غير الممكن دراسة البيولوجيا دون دراسة نظريّة التطوّر كنظريّة جرى إثباتها جيّدا – إنّها أمر أساسي في البيولوجيا ككلّ . و هنا يظهر التناقض بين الشباب الذين يحصلون على " تعليم " وفق التقاليد الأصوليّة الفاشيّة و تُزرع فيهم تلك النظرة إلى العالم ، ثمّ يمضون إلى الجامعات السائدة و يواجهون واقع أنّ نظريّة التطوّر تقدّم لهم كنظريّة تامة الرسوخ و مدلّل على صحّتها . لهذا يطوّر المسيحيّون الفاشيّون طُرقا لمحاولة معالجة هذا . فهم ينظّمون مخيّمات صيفيّة إليها يرسلون المتخرّجين من المعاهد لإعدادهم إلى الجامعة : " كلّ هذه الدعاية العلمانيّة التي ستستمعون إليها حينما تلتحقون بالجامعة – كلّ تلك الأشياء العلمانيّة الإنسانويّة و كلّ تلك الأكاذيب عن نظريّة التطوّر . [ضحك ] لذا هذا ما تحتاجون إلى تعلّم قوله لأجل تخطّى جميع أكاذيب و ترّهات الواقعيّة و الإطلاقيّة و بقيّة ذلك . تمضون إلى ذلك المعرض في المتحف في نيويورك عن داروين و نظريّة التطوّر – كلّ ذلك أكاذيب " . و علاوة على هذا ، تنظّم المجموعات الأصوليّة رحلات و ينقلون الناس إلى متاحف فكر الخلق ( و قد فتح حديثا متحف في ولاية كنتوكى ، على سبيل المثال ، أيت يتعلّمون أشياء من مثل : تشكّل الكانيون الكبير / الغران كانيون نتيجة فيضان كبير له صلة بنوح.
و مرّة أخرى ، نقطة كلّ هذا هي أنّ مدى إمكانيّة إيجاد عالم مكتف ذاتيّا سيكون مطبوعا إيديولوجيّا و غير نافذ و غير قابل لإختراق العالم الأوسع و فهم الواقع فهما عقلانيّا و علميّا إعتمادا على الوقائع .
و بالنسبة للذين هم ضمن الطبقة الحاكمة و يساندون و يشجّعون هذه الحركة المسيحيّة الفاشيّة – و أساسا بالنسبة إلى الطبقة الحاكمة ككلّ – هناك أيضا تناقض حاد في كونهم يحتاجون بعض العلم للقيام بما يبحثون القيم به في العالم – إقتصاديّا و عسكريّا . لكن في المجتمع اواسع ، يحتاجون بصفة متزايدة إلى أناس مدرّبين على عدم التفكير تفكيرا نقديّا و على القبول بنظرة مطلقة إلى العالم لا تستند إلى الخوض في الواقع و فهمه عمليّا . إذا تمّ تدريبها و تعويدها على أفعتقاد في أنّ هناك حقيقة أعلى من الحقيقة العلميّة المؤسّسة ى الواقع ، حينئذ يمكن أن نقول كما يفعل البعض : " لا يهمّ عدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق . بوش لم يكذب لأنّه يكرّس إرادة الإلاه في العالم . و هذه حقيقة أعلى و أعظم من أيّة وقائع يمكن أن تذكروها بشأن الموقف الذى يمكن أن يكون بوش قد إتّخذه في مناسبة ما . هذا لا يهمّ . الأمر يتضمّن حقيقة أعلى ." و حين نكوّن أناسا يفكّرون بهذه الطريقة ، عندئذ – في غياب إنفجار كبير في حياتهم و في المجتمع الأوسع و العالم الذين هم جزء منه – يكون هذا نسبيّا ( ليس مطلقا بل نسبيّا ) منيعا إزاء الوقائع و التحليل العلمي و الخطاب العقلانيّ.
و يمضى هذا اليد في اليد مع كامل البعد الآخر للهجوم على الفكر النقديّ و المعارضة وهو مركّز بوجه خاص على الجامعات في هذه اللحظة و مقاد من قبل أشخاص و منظمات لها علاقات بأعلى مستويات الحكم في الولايات المتّحدة ، هناك توجّه منسّق لإستهداف و إسكات و / أو طرد من الأكاديميا برمّتها الأساتذة الذين يمضى عملهم و تعليمهم ضد أو حتّى يثيرون مسائلا هامة حول سياسات الحكم و أعمالهم – و بوجه خاص الذين يتحدّون " الرواية الرسميّة " عن طبيعة هذه البلاد و تاريخها و دورها في العالم اليوم . و هذا رأس حربة حركة أوسع لتسحب من الحياة العامة أيّ أساس لنضع موضع السؤال الطاغوت الكامل للحرب و القمع المطلقين من نظام بوش و لإيجاد عالم مكتف ذاتيّا و تعزيز الذات دون امجتمع عموما . و مثلما يضع ذلك مقال حديث في جريدة " الثورة " :
" من جهة ، تستعدّ قوى اليمين لإنشاء إدارات جامعة كأدوات فرض و مراقبة بالقوّة للجامعة و للطلبة – بثّ الخوف و التهديد و " تنظيف المنزل " من المفكّرين المعارضين فحينما ينادون بالقيام بهذا ن يتركون الأكاديميين تحت رحمة هجوم المحافظين عليهم .
و من الجهة الأخرى ، يستعدّون إلى تحويل الجامعة إلى مجال تلقين لا نزاع فيه حيث الحدود الصارمة ستوضع تحت خطاب تسامحي - و ما يتّصل بالأساتذة الذين يتحدّثون و يكتبون أو يشجّعون التفاعل مع المواضيع الخلافيّة في الفصل إلخ؛ و في ما يتّصل بتحديد و قطع برامج كالدراسات الأمريكيّة الأفريقيّة و دراسات النساء إلخ ، التي تتحدّى و تدحض الروايات و التفسيرات الرسميّة لتاريخ الولايات المتّحدة و اللامساواة في يومنا هذا و عدم التوازن العالمي .
و على مستوى أساسي جدّا ، إنّهم يستعدّون إلى كسر إلتزام الجامعة بالخطاب العقلانيّ و العلمي و تقويض قدرتها على التأثير في المجتمع في ذلك الإتّجاه . إنّ محاولة القوى المسيحيّة الفاشيّة أن تحقن الجامعات ب " التصميم الذكيّ " و بتشويه و حجب الحدود بين العلم و الدين ،و تدريبها و تعبأة جيل من " علم الخلق " تدافع عن تطوّر يمثّل علامة شؤم ." ( " تحذير : تحويل الجامعة الأمريكيّة إلى جامعة نازيّة " ، جريدة " الثورة " عدد 99 ، 26 أوت 2007 ، التشديد في النصّ الأصليّ ؛ و المقال متوفّر على موقع أنترنت revcom.us ).
هذا تجسيد دقيق للعلاقات و الوحدة الجوهريّتين بين النزوع غلأى قمع المعارضة و الفكر النقديّ في الكاديميّة و دور المسيحيّين الفاشيّين و أهدافهم ، و المصالح الأوسع للطبقة الحاكمة التي يرتبط بها و التي يخدمها في نهاية المطاف .
و إضافة إلى أهمّيتها العامة السبب الذى توّغلت في تحليله بشيء من الإسهاب هنا في إطار نقاش " اليد اليسرى للإلاه " هو أنّ أبستيمولوجيا لورنار تتضمّن في بعض المظاهر الهامة – وهو يقدّم تنازلات هامة – طرقا للتفكير ليست في نهاية المطاف عقلانيّة . و لهذا صلة بكيف يفهم لورنار – أو يخفق في الفهم التام و الصحيح – ما يمثّله المسيحيّون الفاشيّون و مدى العمق و الخطر الذين يمثّلانهم . و قد أخفق لورنار حتّى في نسبه الكثير من نموّ القوّة الأصوليّة الرجعيّة ليس فحسب إلى الأخطاء و إنّما إلى تكبّر " اليسار " كما يرتئيه – والذى يدمج فيه الحزب الديمقراطي بالمعنى العام . و وفق لورنار ، الواقع هو انّ " اليسار " لم يترك مجالا للدين و قد اكّدت العلمانيّة و ساهمت في و شجّعت على أجواء دفعت الناس الذين يبحثبون عن حياة روحيّة و معنى أعلى نحو اليمين. و هذا في جزء كبير منه ( على أنّه ليس كلّيا ) تفسير لورنار لنموّ " اليمين الدينيّ ".
في الواقع ، هذه الحركة المسيحيّة الفاشيّة ، إلى درجة كبيرة ، هي ردّ فعل إيديولوجي و سياسي رجعيّ على التحدّيات التي تواجهها بعض الإمتيازات و الطرق التقليديّة المتجذّرة التي تشكّلت وفقها العلاقات الإضطهادية و الإستغلاليّة لهذا النظام و توطّدت في المجتمع الأمريكي و كذلك في الدور الأمريكي في العالم . و مرّة أخرى ، يتركّز هذا إلى مدى هام جدّا في البطرياركيّة . فالتغيّرات في دور النساء في المجتمع – و الآن " يا إلاهي ! كلّ هؤلاء المثليّين الجنسيّين الذين يطالبون بالإعتراف القانوني و بالمساواة ! " – و الطرق التي كانت بها القيم التقليديّة المتناسبة مع و إلى درجة هامة المتركّزة في البطرياركيّة يقع تحدّيها و تقويضها حتّى و إن ظلّت في آخر المطاف داخل إطار و حدود النظام الرأسمالي – هذا أمر تجاوز الحدّ بالنسبة إلى الذين ينجذبون إلى المسيحيّة الفاشيّة . و إلى جانب هذا ، استثناء الأمريكي ( للعودة إلى صيغة إستخدمها كيفين فيليبس ) أي مفهوم أنّ أمريكا تمثّل الخير بصفة فريدة ، و القائم على علاقتها الخاصة مع الإلاه و مصيها البيّن و مهمّتها الإلاهيّة في العالم – هذا جزء جوهريّ و أساسي من نظام عقائد المسيحيّة الفاشيّة . و هذا أيضا يجرى تحدّيه في المجال العملي و في الصراع عبر العالم كما إيديولوجيّا و سياسيّا تنبذه قطاعات لها دلالتها في المجتمع الأمريكي ذاته – أعداد لا بأس بها لأسباب متنوّعة و منحدرين من وجهات نظر متباينة لا يقبلون بهذه النظرة لأمريكا و علاقاتها ببقيّة العالم . ضمن أعداد كبيرة من الناس في الولايات المتّحدة الذين عارضوا الغزو الأمريكي للعراق و إحتلاله ، جرى التعبير على نطاق واسع عن إحساس أنّ حياة الأمريكيين ليست أهمّ من حياة غيرهم ، و حتّى و إن لم يمثّل ذلك في الجزء الأعظم منه بعدُ قطيعة تامة و راديكاليّة مع الإمبرياليّة الأمريكيّة و من ثمّ’ ليس وجهة نظر ثوريّة فإنّه مع ذلك غريب و في تناقض عدائيّ تماما مع النظرة التقليديّة الأصوليّة المسيحيّة الفاشيّة الإطلاقية إلى العالم و الذين تجمّعوا حولها .
يقع تجييش هؤلاء الناس حول برنامج إمبريالي – فاشيّ – و هذا شيء لا يخوض فيه حقّا لورنار أو لا يعترف به تماما – كتوجّه يحدّد بشكل مطلق انّ السبيل الوحيد الشرعي و العادل لنظام الأشياء في المجتمع الأمريكي و للدور الأمريكي في العالم ، يمكن أن يعاد التأكيد عليه و يعاد تركيزه عبر فرض الشكل التيوقراطي للحكم في الولايات المتّحدة نفسها : " هذه أمّة مسيحيّة . أولئك العلمانيّون هم الذين أخرجوا الإلاه و الصلاة من المدارس و المعاهد و الذين شدّدوا على تدريس نظريّة التطوّر في المدارس و المعاهد و الذين أبعدونا عن كلمة الإلاه - لهذا نحن واقعون في المشاكل التي نحن فيها اليوم ، و لهذا يهاجمنا الناس و يفجّرون المباني في مدينة نيويورك ، و لهذا علينا أن نهاجمهم عبر العالم قبل أن يهاجمونا ".
و فيما يمكن للمرء أن يُشير إلى أخطاء و نقائص حقيقيّة لدى " اليسار " بشكل عام – بما في ذلك تأثير باعث للشلل للنسبيّة المستشرية و المرتبطة بسياسة الهويّة – من المضلّل أساسا و من النازع للسلاح إيديولوجيا و سياسيّا أن ينسب صعود هذه الحركة المسيحيّة الفاشيّة و علاقاتها القويّة و تلقّيها الدعم من أعلى مستويات الحكم إلى أخطاء أو " تكبّر " " اليسار ". و الآن هناك طريقة بها رغم إنتشار المشاعر و الأجواء الثوريّة في صفوف فئات عريضة من المجتمع الأمريكي ظهرت بجلاء في أواخر ستّينات القرن العشرين ، واقع أنّه لم تحدث ثورة وقتها تحوّل عمليّا إلى عامل ساهم في صعود البعض من هذه الأصوليّة الدينيّة . و من خلال نهوض ستّينات القرن العشرين ، وُضعت عدّة أشياء موضع سؤال – ليس فقط في مجال الأفكار رغم أنّ ذلك كان في منتهى الأهمّية و لكن أيضا عمليّا ، في مجال الصراع السياسي – أشياء مركزيّة بالنسبة لهذا المجتمع . و كانت الكثير من التغيّرات الحاصلة في جزء منها نتيجة الصراع السياسي الجماهيري و في جزء آخر منها نتيجة تغيّر ظواهر من الاقتصاد و حاجياته . و مرّة أخرى ، من أهمّ أبعاد هذا توجد العلاقة بدور النساء لا سيما ضمن أصحاب الحرف و القطاعات الأخرى من الطبقة الوسطى أين صار في آن معا ممكنا و ضروريّا بالنسبة للنساء الإشتغال لوقت كامل في مسعى للحفاظ على مستوى عيش الطبقة الوسطى . و حين نمزج ذلك بالتعبيرات السياسيّة و الإيديولوجيّة للحركة النسويّة و حركات أخرى تقدّمت في ستّينات القرن العشرين ، أثار الأمر تحدّيا مباشرا جدّا للأشكال المؤسّساتيّة التقليديّة للإضطهاد في هذا المجتمع .
لكن هذا لم يمض إلى نهايته – لم تقع الإطاحة بالهياكل السياسيّة و السلطات التي تفرض هذا الإضطهاد و الإستغلال – و بالتالى لم يقدر على بلوغ جذور و أسس هذه العلاقات . و مع تراجع الحركة و في إطار حصول إعادة تجميع للقوى في صفوف الطبقة الحاكمة و شنّها هجوما على عدد من الأشياء التي ميّزت الحركة السياسيّة و " الثقافة المعارضة " الناشئة في ستّينات القرن الماضي ، إنسحب الكثيرون خاصة من الفئات الوسطى من الذين شاركوا في تلك الحركة . و بالنظر إلى عدّة مجالات من المجتمع التي إتّخذت فيها حركة ستّينات القرن العشرين ( و بدايات سبعيناته ) تعبيرا راديكاليّا ، أضحت توجّهات و أهداف جزء هام " اليسار " بصفة متزايدة منحصرة و ضيّقة و إصلاحيّة أكثر فأكثر . فإلى درجة لها دلالتها ، إنتقل هذا نحو و تقلّص إلى سياسات الهويّة و أحيانا جدّ ذلك بأشكال ضيّقة و تافهة لا تبلغ جوهر و أساس ما يتجذّر فيه إضطهاد مختلف القوى و بدلا من ذلك تحوّلت إلى شكل من التنافس السلعيّ الضيّق ( " إضطهاد مجموعة أ تماثل معها كمقاطعة خاصة – و بالفعل كملكيّة – أناس مثلى و لا حقّ لأي شخص آخر أن يقول أيّ شيء عن ذلك و لا أن يتقدّم أيّ مطالب أو أن يتفاوض من أجل أيّة تنازلات في علاقة بهذا . " )
لذا ن بطريقة ثانويّة جدّا ، ساهم هذا في توجيه سوط خلفي ضد حركات المعارضة الشرعيّة و الضروريّة جدّا للأشكال المتنوّعة من الإضطهاد و الإستغلال الذين يمثّلان جزءا لا يتجزّأ من النظام الرأسمالي - الإمبريالي ؛ و بهذا المعنى ، ساهمت في – مرّة أخرى ، ثانويّا – في نموّ المسيحيّة الفاشيّة بوجه خاص . لكن هذا ليس بأي شكل من الأشكال السبب الأساسي أو المحدّد للماذا نمت هذه الحركة الرجعيّة . هذه حركة تقع قيادتها من أعلى – و هنا أحيل على ليس إلاه ما غير موجود و إنّما على فئات ذات نفوذ قويّ ضمن الطبقة الحاكمة حدّدت أنّ شكل مثل هذه الحركة و حتّى من الممكن تماما أن يكون شكلا تيوقراطيّا أصوليّا مسيحيّا ن الدكتاتوريّة الرأسماليّة ضروريّا نظرا لما تعدّ إلى إنجازه الولايات المتّحدة . و لا تكفّ هذه الوقى المسيحيّة الفاشيّة مطلقا عن البحث عن تحقيق أهدافها . و الجنود المشاة التابعين لهذه الحركة سواء كانوا " من الناس الجيّدين " أم لا يتمّ تدريبهم بروح متزمّتة على أن يكونوا من الجنود المسيحيّين من هنا فصاعدا و تماما الآن على نطاق واسع بمعنى سياسي و إيديولوجي لكن بعدُ كقوّة عسكريّة ممكنة ، إذا إعتبر الذين يقفون على رأس هذه القوى ذلك ضروريّا في لحظة معيّنة .
ربّما لسخرية القدر ، يمكن أن نقول إنّ للحبر رودين ( مؤلّف " تعميد أمريكا : مخطّطات اليمين الديني لبقيّنا " ) فهم أفضل لهذا مقارنة بالحبر لورنار حتّى و إن كانت وجهات نظر لورنار بالمعنى العام أكثر إغترابا و في تعارض مع الكثير من طبيعة المجتمع الأمريكي و العلاقة الأمريكيّة مع بقيّة العالم ، و كلّ التوجّه الذى تتّخذه الآن . لكن رودين (وهو أكثر " ليبرالي من الفكر السائد " ) قد أدرك بوضوح كبير حتّى مع حدوده أنّ " اليمين الديني "حركة لا تتوقّف في تصميمها على تغيير طبيعة المجتمع الأمريكي و كيف يجرى حكمه – بطرق هامة على تغيير بعض أشكال و بعض الأدوات الخاصة تكرّس عبرها الطبيعة الإضطهاديّة للنظام و تفرض . في كتاب " تعميد أمريكا " يوضّح رودين بجلاء كبير – و صراحة من المنعش تماما أن نقرأ هذا في كتاب مؤلّفه له نظرة رودين – أنّ محاولة المساومة مع هؤلاء المسيحيّين الفاشيّين لن تعطي ثمارا جيّدة و لن تؤدّي إلاّ إلى أن يغدوا أكثر عدوانيّة .(37)
(37- بخصوص النقطة الأساسيّة بشأن الحاجة إلى المواجهة بلا مساومة و معارضة ما تمثّله الحركة المسيحيّة الفاشيّة كذلك يحاجج كريس هايدجس بقوّة ، من وجهة نظره الخاصة ، في خاتمة " الفاشيّون الأمريكيّون " : " كافة الأمريكيّين – و ليس فقط من ذوى الإيمان - مهتمّون بأنّه يجب على مجتمعنا المنفتح أن يتعلّم الحديث عن هذه الحركة بمفردات جديدة و أن يتخلّى عن الموقف السلبيّ و يتحدّى الإستيلاء العدواني لهذه الحركة على المسيحيّة ، و أن يقوم بكلّ ما في وسعه دفاعا عن التسامح ... التسامح قيمة أخلاقيّة لكن التسامح مرفوقا بموقف سلبيّ رذيلة " ، صفحة 207 . عموما لحجج هايدجس هنا و عبر الكتاب إيّاه قيمة و أهمّية معتبرتين ، على هناته جرّاء نظرته الخاصة التي تشتمل على تأويل تقدّميّ للمسيحيّة لكنّه لسوء الحظّ يتأثّر بدرجة لها أهمّيتها بالنظرات الخاطئة و المعادية للشيوعيّة لدي فيلسوف من القرن العشرين ،كارل بوبر ، كما تجسّدت في عمله " المجتمع المنفتح و أعداؤه " و كذلك يتأثّر بهانا آرندت و نظريّاتها غير العلميّة عن " الشموليّة ".)
على سبيل المثال ، بشأن المسألة الحيويّة و المحوريّة للإجهاض ، عديد الليبراليّين – و فى هذا " يقودهم " أمثال كلينتن – يروّجون لفكرة البحث عن " أرضيّة مشتركة " مع المسيحيّين الفاشيّين بحجج مثل : " يمكن أن نتّفق جميعا على أنّه من المرغوب فيه تحديد عدد الإجهاضات و جعل الإجهاض نادرا فنتّحد معا لنضمن أن يكون التحكّم في الولادات متوفّرا على نطاق واسع و في المتناول ". مع ذلك ، بعدُ بيّنت التجربة أنّ المسيحيّين الفاشيّين مصمّمين على إلغاء ليس الإجهاض فحسب بل أيضا التحكّم في الولادات و أنّ مثل هذا الإلتماس ل" الأرضيّة المشتركة " لا يجعلهم إلاّ أكثر تزمّتا في البحث عن التخلّص من الإثنين . و مثلما يؤكّد رودن تماما بوضوح و تصميم نادرين ضمن الليبراليّين و التقدّميّين في هذه الأيّام :
" بالنسبة إلى المسيحيّين التيوقراطيّين ، معركة منع الإجهاض في الولايات المتّحدة هي غاتيبردهم أو ستالينغرادهم أي المنعرج في الحرب التي يخوضونها لكسب السيطرة على المجتمع . و الإجهاض عشقهم المسيطر و بالنسبة لهم هو قتال ينبغي المضيّ فيه إلى النهاية .
و لئن نجحوا في جعل الإجهاض ممنوعا قانونيّا في أمريكا ، سيكسب قادة المسيحيّين التيوقراطيّين و أنتابعهم المزيد من الطاقة و النفوذ ليدفعوا قدما حملة تعميد أمريكا ". ( " تعميد أمريكا " ، ص 205-206)
و هذا شيء هام يُدركه الحِبر رودين بصورة أتمّ بكثير و أصحّ من الحِبر لورنار .
و كما يوضّح تصميمهم على إلغاء مراقبة الولادات إلى جانب إلغاء الإجهاض ، ما يكمن في موقع القلب من مسألة الإجهاض و المحاولة التي لا تتوقّف للمسيحيّين الفاشيّين لجعله غير قانونيّ ، ليس قتل الأطفال ( و هذا خاطئ في المقام الأوّل ) لكن وضع النساء في أغلال العلاقات الإضطهادية التي فيها يقلّص دورهنّ الأساسي إلى أن تكنّ ملكيّة للرجال ومربّيات أطفالهم، وفق " مخطّط الإلاه " و إملاءات المؤوّلين التيوقراطيّين لإرادة الإلاه ".
و الواقع هو أنّه لن نلحق الهزيمة بهذه القوّة المسيحيّة الفاشيّة – و كلّ ما تمثّله و ترتبط به – و لن نكسب أعدادا هامة من الناس لإبعادهم عنها ، دون مواجهتها مواجهة مباشرة جدّا و قويّة جدّا - أجل إزعاج أناس . و بالمعنى الأتمّ ، من الضروريّ تحدّى هذه الحركة و الذين هم الآن جزءا منها جوهريّا و تأسيسيّا في إطار بناء حركة ليست مناهضة للمسيحيّة الفاشيّة فحسب بل هي بصفة متصاعدة تكسب إلى هدف قلب المجتمع و تغييره ككلّ و إجتثاث كافة العلاقات التي فات أوانها و العلاقات الإستغلاليّة التي تبحث الحركة المسيحيّة الفاشيّة عن تعزيزها بأشكال في منتهى الإضطهاد و القمع .
و قد تبيّن أنّه في مسار تحدّى – و أجل حتّى إزعاج – الناس ، يمكن لهم أن يتغيّروا . و لا يتعلّق الأمر بأفراد بل بجماهير شعبيّة . و قد جرت تجربة هذا على نطاق واسع في ستّينات القرن العشرين . فأنا شخصيّا أعرف عديد الناس الذين كانوا في خضمّ معركة الستّينات " جمهوريّين من المياه الذهبيّة " لكنّهم قطعوا مع ذلك و باتوا راديكاليّين جدّا على نحو إيجابي حينها . هذا الضرب من التغيير " من رجعي إلى ثوريّ " حصل على نطاق واسع جدّا في مسار ذلك النهوض الشامل . صحيح و من المهمّ الإقرار بأنّ هناك خصوصيّة لهذه الأصوليّة الدينيّة و أبستيمولوجيّتها التي لها قبضة أقوى على الناس أكثر ممّا للسياسات " المحافظة " الأكثر علمانية لكن هذا أيضا بطرق عميقة يصطدم بالطريقة التي يوجد علها العالم حقّا . و هذا يوفّر قاعدة ماديّة هامة لإنتزاع الناس من هذا المستنقع .
لكن هذا ما سيتطلّبه الأمر – إنتزاعهم من ذلك المستنقع . و في بناء مثل هذا النوع من النضال الذى نحتاج أن نطوّره ضد الجرائم و الفظائع التي إقترفها نظام بوش – و كامل النظام الذى هو جزء مفتاح منه وهو الآن قوّة قياديّة – كسب الذين هم حاليّا واقعين في أحابيل الحركة المسيحيّة الفاشيّة ليس و لا يجب أن يكون بؤرة التركيز و الهدف الأساسي و إنّما ينبغي أن يكون هدفا يُكسب إليه أكبر عدد ممكن من الناس كجزء من جهد أشمل لإعادة إستقطاب المجتمع ، سياسيّا و إيديولوجيّا في إتّجاه أكثر إيجابيّة و في نهاية المطاف بطريقة تكون اكثر مواتاة للثورة التي يمكن في الواقع أن تغيّر المجتمع ككلّ لإجتثاث علاقات الإستغلال و الإضطهاد.
و بدلا من ذلك و في تعارض معه ، نشاهد أنّ موقف لورنار يتداخل إيديولوجيّا مع و يجد تعبيرا له في سياسة في سياسة هي في نهاية الأمر و أساسا إصلاحيّة . عبر " اليد اليسرى للإلاه " يردّد لورنار كيف أنّ " اليسار " يمكن أن يعود إلى السلطة – كما لو أنّ المسألة مسألة ما إذا كان " اليمين " أو " اليسار " ببعض المعنى اللاطبقي هو الماسك بالسلطة – عوضا عن إدراك أنّ ما يوجد هو نظام تحكمه طبقة ، نظام طبيعته متجذّرة في علاقات الإنتاج الكامنة و يتّخذ تعبيره في البنية الفوقيّة بمعنى الحكم السياسي كشكل أو آخر من دكتاتوريّة البرجوازيّة . و في علاقة بهذا ، الجمل الثلاث - التي توجد ، ضمن مواقع أخرى ، في " التقدّم بطريقة أخرى " - مفيدة للغاية وهي تقتنص بعض الواقع الأساسي بصفة مكثّفة :
" فى عالم يتميّز بإنقسامات طبقية ولامساواة إجتماعية عميقين ، الحديث عن " الديمقراطية " دون الحديث عن الطبيعة الطبقية لهذه الديمقراطية ، بلا معنى وأسوأ. طالما أنّ المجتمع منقسم إلى طبقات ، لن توجد " ديمقراطية للجميع " : ستحكم طبقة أو أخرى وستدافع عن وتروّج لهذا النوع من الديمقراطية الذى يخدم مصالحها و أهدافها. المسألة هي : ما هي الطبقة التى ستحكم وإذا ما كان حكمها ونظام ديمقراطيتها، سيخدم تواصل أو فى النهاية القضاء على الإنقسامات الطبقية و علاقات الإستغلال والإضطهاد و اللامساواة المتناسبة معه ." ( أنظروا " التقدّم بطريقة أخرى " على موقع أنترت revcom.us) (38)
(38- نقاش أوسع للمسائل المتّصلة بمضمون هذه الجمل الثلاث أعلاه و بالديمقراطيّة و الحكم الطبقي و بالإنتقال من كافة أنظمة الحكم الطبقيّة إلى مجتمع شيوعيّ – دون إختلافات طبقيّة و مستغِلّين و مستغَلّين و دون دكتاتوريّة من أيّ صنف كانت – موجود في أعمال أخرى للكاتب و منها " الديمقراطيّة : أليس بوسعنا إنجاز أفضل من ذلك ؟ " و " ماتت الشيوعيّة الزائفة ... عاشت الشيوعيّة الحقيقيّة " ( الطبعة الثانية ، 2004 ) و كرّاس " الدكتاتوريّة و الديمقراطيّة ، و الإنتقال الإشتراكي إلى الشيوعيّة ".)
و كما جرت الإشارة إلى ذلك أعلاه ، عادة ما يماثل لورنار " اليسار " مع الحزب الديمقراطي وهو موضوعيّا حزب الطبقة الحاكمة . و بينما ينجز نقدا صائبا و أحيانا حادا لسياسات و حتّى لتوجّه الحزب الديمقراطي، من الجليّ أن لورنار يعتقد عمليّا أنّه من الممكن التأثير في قسم من الطبقة الحاكمة كما يمثّله الحزب الديمقراطي لتبنّى البرنامج الذى يدافع هو عنه . إنّه يُقرّ بأنّ الناس سيتهمونه بأنّه غير واقعي – وهي تهمة يردّ عليها بأنّ الأشياء كما هي الآن ليست لا إيجابيّة و لاواقعيّة بمعنى إنشاء عالم أفضل . غير أنّه لا وجود لإعتراف للورنار بأنّ الحزب الديمقراطي – و بالمناسبة ، " اليسار " كما يشخّصه هو ، " يسار" يوجد حقيقة في إطار حدود النظام الرأسمالي حتّى في حين يعارض بعض لامساواته الأمرّ- تعبير في البنية الفوقيّة للإنتاج و العلاقات الإجتماعيّة الكامنة و لديناميكيّة المراكمة الرأسماليّة التى تحدث عبر علاقات الإنتاج هذه و أنّ علاقات الإنتاج هذه و سيرورة المراكمة هذه جوهريّا و في آخر المطاف تعيّن الإطار و الحدود الذين داخلهما تجرى الصراعات في المال السياسي داخل هذا النظام . لهذه الأسباب الأساسيّة ، ليس ممكنا كسب الحزب الديمقراطي لنوع النظة و البرنامج الذين يحاجج من اجلهما لورنار و بحماس . و لنأخذ برنامج لورنار كما يعرضه هو نفسه – و لنترك جابا للحظة واقع أنّه من وجهة نظر الإلغاء التام لعلاقات الإستغلال و الإضطهاد ، يخفق برنامج لورنار في المضيّ بعيدا و حتّى في مظاهر هامة يعمل ضد هذا الهدف – الحقيقة هي أنّه على ضوء و طالما تظلّ الأشياء في حدود العلاقات و السيرورات الأساسيّة للرأسماليّة ، برنامج لورنار هذا غير واقعيّ و غير قابل للتحقيق تماما .
إنّ الحدود الشديدة لوجهة نظر لورنار الإيديولوجيّة و كذلك لبرنامجه السياسي تبرز بحدّة في علاقة بإضطهاد النساء . و الآن، عليّ أن أعترف باّنه هنا يغريني قول : لا تصدّقوا أبدا أي شخص ديني حين يتعلّق الأمر بالبطرياركيّة [ ضحك ]، لا تصدّقوهم أبدا ، على الأقلّ ، أنّ لهم موقفا متماسكا في معارضة هذا الإضطهاد و مساندة التحرّر التام للنساء . ربّما من غير العادل القيام بهذا التعميم الشامل – لكن ليس عرضا أنّ حدود لورنار الإيديولوجيّة و السياسيّة تتّخذ أبعادا قويّة و تعبيرا مكثّثفا في مسألة الإجهاض حيث يتقدّم – بنزاهة حقّا – بمواقف رهيبة كلّيا تعكس بدورها بطريقة مكثّفة بعض نقاط الضعف الجوهريّة لنظرته و مقاربته العامتين .
في الفصل المعنون بدلالة ، " الأسرة و الجنسانيّة و المسؤوليّة الفرديّة " ، من كتاب " اليد اليسرى للإلاه " ينطلق لورنار مباشرة في قسم حول الإجهاض بصيغة صرنا الآن معتادين عليها بشكل كبير : " إجعلوه آمنا و قانونيّا و نادرا " ( الصفحة 267) . و من هذا و بصورة عامة يمكن رؤية كيف أنّ موقف لورنار بشأن هذه المسألة على الخطّ بصفة وثيقة مع رؤية سياسيّين برجوازيّين كبيل كلينتن و هيلارى كلينتن و ألغولر و قيادة الحزب الديمقاطي بشكل عام . و الآن ، يشدّد لورنار على قول : " التقدّميّون الروحيّون ينبغي أن لا يشكّوا أبدا في معارضة أيّة محاولات لجعل الإجهاض غير قانونيّ " . و يضيف مباشرة : " لكن يجب أن لا نشكّ كذلك في الإعتراف بالإجهاض كخسارة ترااجيديّة ". و مذّاك يسترسل على هذا النحو .
و يزعم لورنار أنّ " معظم النساء اللاتى عرفن الإجهاضات ستقول لك إنّه من المؤلم شعوريّا المرور بهذه الخسارة للحياة ". ( ص 267) هناك شيئان أساسيّان خاطئان بهذا الصدد . بادئ ذي بدء ، هذا ليس صحيحا . إنّه بعيد جدّا عن حقيقة أنّ " معظم النساء " اللاتى عرفن الإجهاضات ستتّفق مع لورنار بهذا الشأن . و ثانيا ، إلى درجة أنّ هناك أيّة حقيقة في هذا – إلى درجة إنطباق هذا على بضعة نساء عرفن الإجهاضات – لا يمكن أن نفصل ذلك عن الإطار الاجتماعي الأوسع الذى فيه كان الهجوم الشامل لليمين على الإجهاض سياسيّا و إيديولوجيّا هجوما تخلّى أثناءه ليبراليّون و تقدّميّون – بمن فيهم أمثال لورنار و كذلك سياسيّي الطبقة الحاكمة أمثال بيل كلينتن و هيلارى كلينتن و ألغور – عن أرضيّة أخلاقيّة و إلتحقوا بكورال يصرّح بأنّ الإجهاض تراجيديا حتّى و إن كان أمثال لورنار لا يؤمنون أنّه يتعيّن جعله جريمة .
أنصتوا إلى لغة لورنار هذه و لا تنسوا أنّه يتحدّث هنا عن الإجهاض : " معجزة الحياة التي تسرى فينا تستحقّ أن تعامل بتقديس و عناية ؛ و لمّا تبدّد الحياة ، تكون النتيجة تعاسة جماعيّة و حداد ." ( ص 267).
لاحظوا : ليست حتّى " تعاسة و حداد " شخصيّين بل جماعيّين . عند هذا الحدّ أشعر بالرغبة في إستحضار مُزحة قديمة عن لون رنجر و تنتو حيث خرج لون رنجر بصحبة تنتو و فجأة حاصرهما الهنود الحمر فجعلوهما يترجّلان و هدفا لإطلاق النار ؛ و مع تفاقم سوء الوضع ، في النهاية وجّه لون رنجر نظره إلى تنتو قائلا: " حسنا ، يبدو أنّنا في وضع سيّء يا تنتو". فكانت إجابة تنتو : " ماذا تقصد ب " نحن " أيّها الرجل الأبيض ؟ " [ ضحك ] . لذا هنا و بالروح نفسها أتوجّه للورنال بالكلام التالى : " ماذا تقصد ب " معجزة الحياة التي تسرى فينا " ، أيّها الرجل الأبيض " ؟ [ ضحك ]
و لننظر عن كثب أكثر في هذا الموقف الذى يبدأ ب : " معجزة الحياة التي تسرى فينا تستحقّ أن تعامل بتقديس و عناية ". لاحظوا إختيار الكلمات " لمّا تبدّد الحياة " للإحالة على الإجهاض : هذا يشبه إلى درجة كبيرة وصفا طائشا يعتبر أخذ حياة إنسانيّة – شيئا مشابها و ليس متطابقا تماما – بمثابة جريمة قتل . و حتّى الأكثر لطفا ، أو ما يفترض أنّه كلمة لها صدى بهيجا ، كلمة " معجزة " تسرّبت إلى هذا النقاش تعبيرا عن شعور بالروحانيّة في سيرورة التوالد . تربية الأطفال – إذا كان مرغوبا فيها و يتمّ السعي إليها و التخطيط لها – قد تجلب فعلا سعادة كبرى لكن لا وجود لشيء "روحاني " بهذا المضمار. و مماثلتها مع مفاهيم " المعجزة " – و خاصة حين تستخدم جملا من مثل " معجزة الحياة التي تسرى فينا " – تحفّز على معنى أنّ تربية الأطفال نوعا ما واجب – واجب مغمور بمعنى الفريضة الدينيّة . و لاحظوا كذلك كيف يجعل لورنار من الإجهاض " تراجيديا " لا تشمل المرأة فحسب بل أيضا المجتمع بأسره ؛ و في إنسجام مع النظرة إلى هذا كنوع من التجربة الجماعيّة ، لاحظوا مجدّدا كيف يتكلّم لورنار بلغة منتقاة عمدا ، لغة " معجزة الحياة التي تسرى فينا " . و كما سنرى ، ليس هذا تركيبا عرضيّا للجمل .
للحظة فقط قبل الآن ، حينما إقتطفت ما يقوله لورنار متحدّثا عن الإجهاض على أنّه " " خساارة تراجيديّة " ، لم أذكر عمدا موقفه بأكمله هناك و إنّما إحتفظت بجزء منه فقط . و المضمون الكامل لما يقوله لورنار في تشخيص الإجهاض ك " خسارة تراجيديّة " هو أنّ الأمر كذلك " ليس فحسب للمرأة كفرد إختارت أن تجري الإجهاض لكن بالنسبة للمجتمع ككلّ ". ( ص267 ، التشديد مضاف ) . و يصبح هذا حتّى أسوأ مع مواصلة لورنار خطابه بهذا المضمار : بعد قليل ، يمضى بعيدا إلى حدّ المحاججة بأنّه مع إجراء إجهاض " ، لا تؤثّر " هذه الخسارة للحياة في المرأة و حسب بل أيضا في الرجل الذى شارك في تشكيل الحمل و في المجموعة التي تعيش ضمنها المرأة و في كامل المجتمع عامة ". ( ص 268، التشديد مضاف هنا ) (39)
(39- على سبيل المثال ، جدّت تحرّكات حديثة في ولاية أوهايو لفرض قوانين تمنح عمليّا " الرجل الذى شارك في تشكيل الحمل " سلطة الفيتو على حقّ المرأة في الإجهاض و هذا المثال يقدّم بصفة حادة مدى الفظاعة الحقيقيّة لموقف لورنار بشأن الإجهاض ).
نظرة لورنار هي أنّ الموقف الذى يدافع عنه " لا يخفّف من عبء المسؤوليّة الأخلاقيّة للقيام بهذه الخيارات " و يضيف بعناية : " و كذلك لا يمكّن المجموعة من التدخّل لتقوم بالإختيار لنا " وهو " يحذّر من أن يسعى أيّ شخص للضغط على امرأة لتكون جزءا من السيرورة الجماعيّة هذه ". ( ص 268-269 ) لكن لورنار يحاجج بأنّ مثل هذه السيرورة الإجتماعيّة إيجابيّة لأنّها " تضعنا جوهريّا في إرتباط الواحد بالآخر و كأشخاص يتحمّلون بعض المسؤوليّة في المراقبة مع الآخرين لتأثير أفعالنا عليهم " (ص 268).و الآن يقول إنّ هذا ليس مراقبة يمكن أو يتعيّن أن تفرض قانونيّا . و يسترسل : " تكلّمت أعلاه عن بناء حركة أنشأت أخلاقيّات في الثقافة الليبراليّة و التقدّميّة التي كانت لا تحبّذ تقويض الجنسانيّة . لذا كذلك ، يتعيّن أن نبحث عن إنشاء أخلاقيّات تشعر فيها النساء بأنّهنّ مدعوّات للفحص الطبّي و للحصول على مساندة الآخرين المتأثّرين بقرارهنّ الإجهاض ، و بالمقابل بالنسبة للذين ينخرطون في توفير الدعم و الرفاه إذا كان هكذا قرار متّخذا من أمرأة حامل . في كلّ مرحلة من مراحل هذه السيرورة ، تحتاج المجموعة المناسبة أن تنخرط بطريقة تبدى بها العناية و المساندة " .( ص 269 ، التشديد مضاف هنا )
و من الأشكال الأساسيّة ل " المساندة و العناية " اللذين يدافع عنهما لورنار أنّ، كما يضع ذلك : " مجموعة روحيّة ينبغي أن توجد هناك لتوفّر الدعم العاطفي و الروحي و لتجعل من الممكن للمرأة أن تعبّر حقّا عن حزنها للخسارة [ في حال الإجهاض ] و لتؤكّد نظرة مشتركة لتقديس الحياة ". و يمضى لورنار حتّى بعيدا إلى حدّ المناداة بإقامة إحتفالات للتعبير الرسميّ عن هذا الحزب الفرديّ و الجماعيّ ،كما يدعو – لاحظوا هذا جيّدا – إلى " طقوس حداد و التطهّر عارفين أنّه في غياب هذه الطقوس تعاش التراجيديا عادة فقط فرديّا " ( أنظوا الصفحتين 267 و 268 )
و ينبغي أن نقول مبارة إنّ – بالرغم من لغة العناية و المجموعة و الرعاية و الدعم و بالرغم من التنازلات بشأن عدم محاولة الضغط على المرأة لتشارك في هذه السيرورات الجماعيّة – وجهات نظر لورنار هذه و تبعات ما يدافع عنه ستتسبّب بصفة مباشرة جدّا في إضطرابات في صفوف الناس ذوى الفهم العميق ( و حتّى الفهم ألساسي ) لكيف أنّه لآلاف السنين لم تستخدم فحسب قوّة الدولة و إنّما أيضا العادات و التقاليد الإجتماعيّة – و أجل ، ضغط المجموعة الإجتماعيّة – للحفاظ على النساء في وضع إضطهاد و لعقابهنّ غالبا بالطرق الأقسى و الأكثر وحشيّة متى إعتُبر أنّهن تتجاوز الحدود الإضطهاديّة .
هنا ، أتذكّر ملاحظات ريتشارد برايور عن كيف أنّه لم يرغب في سماع الأشخاص البيض يستخدمون كلمة " زنجيّ " . قال إنّ ذلك جعله يردّ بالطريقة نفسها عندما سمع أطفالا جيدّين يصرخون وسط الليل : " يايا ... هايا ! ! " ، سرت قشعريرة أسفل عموده الفقريّ – و ليس بطريقة جيّدة .
مهما كان ما يسعى إليه لورنار ، الواقع هو أنّ ما ينادى به بخصوص الإجهاض سيساوى في الواقع لا شيء أقلّ من تأبيد الإضطهاد البطرياركي - و حتّى أسوأ الفظائع المرتبطة به - و مأسسة الفرض الجماعي للتقاليد و القيم و العلاقات البطرياركيّة و يُفرض بتغطية النساء في كفن ثقيل من الذنوب . و يجب أن يقال إنّ ما يتقدّم به هنا ليس يختلف كثيرا عن الخرقة القماشيّة الملطّخة بالدم ليلة الزفاف . [ تصفيق ] و من غير المفاجئ أنّ هناك صلة وثيقة جدّا بين وجهات النظر الفظيعة حقّا هذه للورنار و جانبه العاطفي المتّصل بالعائلة فقد كتب :" لا يهمّ ما يعيشه طفلنا الخاص ، لا يهمّ كم علينا أن نناضل لاحقا في الحياة لإصلاح بعض الأذى الذى يتسبّبت فيه أولياء أقلّ من أن يكونوا مثاليّين ، تقريبا جميعنا يعترف بأنّ العائلة هي المؤسّسة الوحيدة في مجتمعنا التي يقوم هدفها الصريح على توفير الحبّ و العناية ." ( " اليد اليسرى للإلاه " ، ص 241 ).
و هنا مرّة أخرى ، على المرء التساؤل : على وجه الضبط عن أي عالم يتحدّث لورنار ؟ " و هذا ليس لقول إنّه لا يوجد أولياء يحبّون أطفالهم و يتنون بهم ؛ لكن ماذا أفرزت التجربة الفعليّة عبر آلاف السنوات وصولا إلى الوقت الحاضر ، خاصة بالنسبة إلى النساء في إطار العائلة و حدودها ؟ ما أفرزته التجربة بعيد عن هذه النظرة العاطفيّة و الرومنسيّة للعائلة. إلى يومنا هذا ، و في ما يسمّى ب " المجتمع الحيث " ، إقتُرفت أهوال في إطار العائلة . و لنتذكّر ( كما أشرت في " الوعظ من منابر العظمة " ) أنّ فقط إلى بضعة العقود الأخيرة مفهوم الإغتصاب صلب الزواج كان يُعتبر و يتعاطى معه إجتماعيّا و قانونيّا كتناقض بمعنى أنّه " حسنا ، إلى ثمانينات القرن العشرين ، في معظم الولايات في الولايات المتّحدة إستطاع الرجال أن يغتصبوا قانونيّا نساءهم " ؛ و أنّ إلى تقريبا نهاية القرن العشرين لم يُعلن ذلك جريمة في كافة الولايات ، و قد انت شمال كارولينا آخر ولاية للقيام بذلك في أواخر 1993. ( أنظروا " الوعظ من منابر العظمة "، ص 20 ، التشديد في النص الأصليّ ).
و دعونا لا ننسى ما أشرت إليه أيضا في " الوعظ..." وهو لا يزال صالحا بدرجة كبيرة اليوم :
" من المرجّح أنّ معظم النساء يقع هنّ من قبل أزواجهنّ – و من المرجّح أنّ الأطفال يتعرّضون للهرسلة و الهجمات الجنسيّة من قبل آبائهم – و من غرباء عنهم . و فقط في السنوات الحديثة – و على نطاق واسع نتيجة للنهوض الاجتماعي ل " ستّينات القرن العشرين " ( و الذى تواصل عمليّا إلى سبعينات القرن العشرين ) و بالخصوص بفضل الحركة النسائيّة التي نجمع عن ذلك النهوض – جرى تسليط الكثير من الضوء على هذا العنف " الأسريّ " الرهيب . و قبل ذلك ، كان هذا إلى درجة معتبرة مدسوسا في الظلام ، خلف الأبواب الموصدة ( " المنزل" ، تحت حماية " تقدسي "" الأسرة التقليديّة " ". ( ص 19 ، التشديد في النصّ الأصليّ )
لذا ، أن نقول على الأقلّ – و في الواقع أن نقلّل من وحشيّة هذه الأشياء – إنّ لورنار الذى ذكرت هنا حول كيف أنّ العائلة هي " العائلة هي المؤسّسة الوحيدة في مجتمعنا التي يقوم هدفها الصريح على توفير الحبّ و العناية " تمثّل صورة عالية الرومنسيّة و التشويه للعائلة و للعلاقات التقدّميّة التي لا تزال في الساس وجوهريّا تحدّد العائلة كمؤسّسة بطرياركية و كجزء لا يتجزّأ من العلاقات الإضطهاديّة العامة للمجتمع الرأسمالي – مقاومة بوضوح نوايا و مساعى عدّة أولياء ( بمن فيهم بعض الآباء ) لبناء صنف آخر من العلاقات الأسريّة .
و الآن ، ليس لورنار جاهلا تماما و لا هو يجهل كلّيا واقع و تاريخ الإضطهاد المتّصل بالعائلة . لكن في إنسجام مع وجهات نظره العامة ، لا يقدّم هذا كشيء مرتبط إرتباطا لا تنفصم عراه بإنقسام المجتمع إلى طبقات متعادية – شيئا ينزع نحو الوجود كجزء تام و أساسي من أيّ مجتمع تحكمه طبقة إستغلاليّة و بأكثر تحديد في ذلك المجتمع الرأسمالي المعاصر .
مقاربة لورنار لهذا تبعا لذلك هي مقاربة إصلاحيّة ليس بوسعها و لن توفّر وسائل بلوغ الجذور – و في نهاية المطاف إلغاء – البطرياركيّة و إضطهاد النساء . فهو يضع المر على النحو التالى : " طبعا ، لا ترتقى كافة العائلات إلى المثال الأعلى للوجود في موقع حيث تقدّم عناية و مساعدة حقيقيّتين " . لن يبدو إلاّ عادلا أن نعطي لورنار نوعا من الجائزة لإستهانته بالأمر هنا . [ ضحك ] و يواصل " و كذلك ، لم تكن العائلة تمثّل دائما قيمنا العليا ". في مناسبتين بالتناسب ينبغي أن يحصل على جائزة . [ ضحك ] و يسترسل " من المكاسب العظيمة للقرن العشرين كان إدراكنا أنّ الأسرة البطرياركيّة كانت تضطهد النساء و الأطفال و تدعم الإنقسامات الطبقيّة في المجتمع الأوسع ، صانعة الشرعيّة لمفهوم أنّ اللامساواة في القوّة " أمر طبيعي ". و يقول إنّ " التقدّميّين روحيّا يبحثون عن تشجيع تطوّر العائلات من هيكلة تقوم على الهيمنة إلى هيمنة مؤسّسة على التشارك الروحيّ ". ( " اليد اليسرى للإلاه " ، ص 242)
لاحظوا أوّلا : تطوّر – ليس ثورة – في حين أنّ الثورة هي اللازمة حقّا . و إلى جانب الحدود الأخرى و التناقضات في موقف لورنار هنا ، الواقع الذى لا يمكن تجنّبه هو أنّه كما قد ناقشت هنا و في مواقع أخرى ، التقاليد الروحيّة و الدينيّة و ما يرتبط بها من قيم يريد أن يؤسّس عليها الأشياء هي ذاتها قوى ذات نفوذ في خدمة تبرير البطرياركيّة و إضطهاد النساء . و يتداخل الإخفاق في القطيعة مع هذه التقاليد و القيم تمام التداخل بالتمام نحو إقتلاع الجذور – هذا الإضطهاد و بالفعل كافة الإضطهاد .
لهذا ليس مفاجأ مرّة أخرى كما هو الحال مع الإجهاض ، أن يُخفق لورنار في فهم جوهر ما يجرى مع التأكيد العدوانيّ للمواقف الرجعيّة ، البطرياركيّة ، للمسيحيّين الفاشيّين ؛ و يرتبط هذا بواقع أنّ وجهات النظر الخاصة بلورنار بهذا المضمار تتقاسم بعض المقدّمات الأساسيّة مع الأصوليّين الدّينيّين . إنّه يُخفق في فهم أو في الموافقة على أنّه لا يوجد أساس جيّد مطلقا – و أنّه من الخاطئ تماما و مبدئيّا – البحث عن أيّ قاسم مشترك أبدا مع هؤلاء المصمّمين ليس على جعل الإجهاض غير قانونيّ فحسب بل كذلك على التأكيد القويّ للسلطة و الإضطهاد البطريكيّين المطلقين .
للحصول على معنى أتمّ ، يجدر بنا أن نستشهد بمقال لروسال شورتو في قسم من " مجلّة السانداي " التابعة ل " النيويورك تايمز " بتاريخ 7 ماي 2006 و عنوانه " ضد وسائل منع الحمل " . و ضمن أهوال أخرى مشار إليها في المقال إيّاه ، يصف شورتو ما يسمّيه الأصوليّون المسيحيّون ب " الحفلات الراقصة للنقاوة " . و يقتطف شورتو ليسلى أنروه مموّل هذه " الحفلات الراقصة للنقاوة " حيث يحضر الآباء مع بناتهنّ المراهقات ، وهو يقول : " نعتقد أنّ العلاقة بين الآباء و بناتهم هي المفتاح " ، و يعيد شورتو رواية كيف أنّه في مثل هذه " الحفلات الراقصة للنقاوة " ، " يقدّم الأب " خاتم نقاوة " لإبنته - رمزا للوعد الذى تطلقه بالحفاظ على عذريّتها لزوجها المستقبليّ . ثمّ أثناء حفل زفافها ، تقدّم الفتاة الخاتم لزوجها الجديد ".
و ضمن أشياء أخرى ، الكلمة المناسبة لهذا هي : " مريض ! " [ ضحك] و مثلما علّقت على ذلك رفيقة عندما قرأت عليها الوصف أعلاه : إنّه يستحضر وجهات نظر العلاقات الجنسيّة المحرّمة والحذر تجاه كلّ مزاد من المزادات العلنيّة للماشية. و مجدّدا ، إلى أي مدى هذا بعيد عن الخرقة القماش الملطّخة بالدم ليلة الزفاف . و عقاب القتل إذا لم تكن خرقة القماش ملطّخة بالدماء ؟
و إلى جانب هذا ، بالرغم من أنّ لورنار يبحث عن الدفاع عن حقوق المثليّين الجنسيّين و عن معارضة الهجمات عليها من قبل " الحقّ المسيحي " ، هو مضطرّ إلى بعض أكثر الإلتواءات المدهشة و السخيفة في محاولة تسوية هذا الموقف مع التقاليد الدينيّة التي يتماثل معها و التي يرغب في التشجيع عليها . و على سبيل المثال ، عديد الناس الذين شاركوا في النقاش حول العلاقات بين نفس الجنس و زواج المثليّين معتادين على الموقف السيّئ الصيت في سفر الاويّين 18:22 لرجل لا يقيم علاقات جنسيّة مع رجل آخر : " وَلاَ تُضَاجِعْ ذَكَرًا مُضَاجَعَةَ امْرَأَةٍ. إِنَّهُ رِجْسٌ ." حسنا ، يزعم لورنار بأنّ هذه الكلمات " تسمح بتأويل أنّ الرجال يجب أن يطوّروا تصرّفات جنسيّة خاصة للعلاقات المثليّة التي لا تبحث عن مماهاة التصرّفات الخاصة للعلاقات بن الجنسين " . ( " اليد اليسرى للإلاه " ، ص 264 ) لست بصدد المزح – هذا ما يقوله لورنار فعلا. [ ضحك ] من العسير صراحة أن نعتقد أنّ أي شخص بما في ذلك لورنار ، معتاد أبدا على هذا المقطع و عامة على الكتابات المقدّسة الذى هو جزءا منها ، يمكن جدّيا أن يصدّق ما يتفوّه به لورنار هنا . لكن لورنار بالمعنى العام يراوح مكانه و لا يمكن أن يساعد في المضيّ عبر هذه الإلتواءات الفكريّة لأنّه مصمّم على التشجيع على " الحياة الروحيّة التقدّميّة المتجذّرة في هذه الكتابات المقدّسة و التقاليد الدينيّة المرتبطة بها ،و مع ذلك يجرّه فهمه للعدالة إلى معارضة إدانة االعلاقات المثليّة . و تصبح الأشياء أكثر توتّرا لأنّ ليس فقط أي تأويل عقلانيّ للآية المعنيّة من سفر لاويّين يوضّح أن الجنس بين الرجال مُدان بأقوى العبارات " إنّه رجس " ) لكن بعد قليل في سفر لاويّين يتمّ إعلان عقوبة العلاقات بين الرجال وبكلمات جليّة : " وَإِذَا اضْطَجَعَ رَجُلٌ مَعَ ذَكَرٍ اضْطِجَاعَ امْرَأَةٍ، فَقَدْ فَعَلاَ كِلاَهُمَا رِجْسًا. إِنَّهُمَا يُقْتَلاَنِ. دَمُهُمَا عَلَيْهِمَا. سفر لآيّين 20 :13 ).
و أنا آسف لكن سفر لايّين يعنى ما يقول و هذا بالأحرى بديهيّ – هذا يعنى أنّ رجلا لا يمكن أن يقيم علاقات جنسيّة مع رجل آخر ة يفترض أن لا تكون له عدا علاقات جنسيّة مع امرأة ضمن الحدود الخاصة لعلاقات الملكيّة – أي ضمن زواج تقدّه السلطات الدينيّة و السياسيّة . لا وجود لتأويل عقلاني آخر لهذا . لا أؤمن بوجود أيّ سبيل يمكّننا من أن نقول حقيقة إنّ الكتاب المقدّس ، في سفر لاّويّين يؤكّد ببساطة : " حين تضطجع مع امرأة ، إفعل ذلك في وضع زرع ، لكن حين تضطجع مع رجل ن لن تستطيع فعل ذلك ، لذا بطبيعة الحال عليك فعل ذلك في وضع آخر " .[ ضحك ]
تاليا ، أودّ الحديث عن وجهات نظر لورنار للرهبة و الدهشة . و هذا موضوع متكرّر في كتابه : حاجة البشر إلى الرهبة و الدهشة . الآن ، أجد مناطق هامة من الإتّفاق مع لورنار في هذا – و هذا أمر أبرزته في عدد ن الكتابات و الخطابات بما فيها " الوعظ من منابر العظمة ". لكن هناك مشكلتين جدّيتين في وجهات نظر لورنار بهذا الشأن .
قبل كلّ شيء ، بينما لا يفعل سوى الإحالة على الرهبة و الدهشة بصورة متكرّرة سيصوغ ذلك ك " هبة و دهشة لدي الخلق " . لذا، مباشرة جلب عنصرا دينيّا أو إقتراح تجربة دينيّة بهذا الشأن . و إذا فهمنا وجهة النظر و المنهج العلميّن نتوصّل إلى أنّه لا خلق بالمعنى الديني – أي ، لا وجود لخالق ، لا كائن ما فوق الطبيعة و إنّما فقط مادة في حركة لا نهاية لها وهي تشهد تغييرا مستمرّا – ثمّ سنفهم أنّه بينما الرهبة الدهشة هامتين ، لا توجد و لا يمكن أن توجد رهبة و دهشة " في الخلق " لكن بالأحرى رهبة و دهشة ما هو في الواقع اشكال تفرّع الطبيعة و تغيّرها و الطريقة التي يمثّل بها هذا نفسه بأشكال متنوّعة عدّة و عادة غير منتظرة .
ثانيا ، لورنا يتّخذ موقفا وحيد الجانب بصدد الرهبة و الدهشة فنظرا لتأثير وجهات نظره الدينيّة - فلسفته المثاليّة و ميتافيزيقيّته – لم يستوعب العلاقة الجدليّة بين ، كما ستقولون ، المادية و الرومنسيّة ؛ بين تجربة الرهبة و الدهشة من جهة و معالجة أمور غامضة من الجهة الأخرى ،و هذه سيرورة متواصلة لا تنتهى البتّة طالما وُجد البشر. و لوضع هذا بطريقة أخرى ، إنّنا نحتاج الرهبة و الدهشة – لكن ليس رهبة و دهشة تطيّريّتين .
في كتاب " ملاحظات حول الفنّ و الثقافة ، و العلم و الفلسفة " ، تحدّثت عن كلا جانبي الصورة ، كلا مظهري التناقض المعنيّ . و كما وضعت ذلك هناك : " يحتاج البشر للدهشة . لا نحتاج إلى الدين لتحقيق ذلك أو تقديره . في حركة العالم الماديّ و تفاعل البشر مع بقيّة الواقع ، الأمور الغامضة تعالج وتظهر أمور غامضة جديدة " ( " مسمّم بالحقيقة " ، ضمن كتاب " ملاحظات حول الفنّ و الثقافة ، و العلم و الفلسفة " ، ص 69).
و قد شدّدت كذلك مثلا في " الوعظ من منابر العظمة " :
" الشيوعيّة – الشيوعيّة الحقيقيّة ، الحيويّة لماركس و لينين و ماو و ليست " الشيوعيّة " الزائفة التي تفتقد الحياة لخروتشوف و بريجناف و دنك سياو بينغ – تُغرق بل تعطى أتمّ تعبير هارب ل " الروح الإنسانيّة " ، للخيال و التأمّل المستمرّ للأشياء التي هي عند نقطة معيّنة مصدر الغموض و الرهبة . ترفض الشيوعيّة مفهوم أنّ الغموض و الرهبة يجب أن يتماثلا فقط مع الأشياء التي يمكن معرفتها أو فهمها ؛ كما ترفض أن يكون أعلى تعبير عن هذا الغموض و هذه الرهبة الإعتقاد في بعض المصمّمين الذين لا نعرف و هم فائقي الوصف و يتجاوزون الواقع الماديّ ؛ و ترفض أن نلغي التمييز بين الخيال و الواقع الموضوعي عبر إدّعاء أنّ قوى و كائنات ما فوق الطبيعة التي خلقها البشر في خيالهم ليست واقعيّة بل هي القوى الحاكمة و المتحكّمة في الوجود ." ( " الوعظ من منابر العظمة " ، ص 87 . و يتمّ الحديث عن هذا كذلك في " الماديّة و الرومنسيّة : أيمكننا الحياة دون أسطورة " ، المضمّن أيضا في كتاب " ملاحظات..." ).
و طريقة أخرى لوضع هذا هو أنّ الماديّة و الأمور الغامضة يمثّلان تناقضا ( ب " مصطلحات ماويّة " ، يمثّلان وحدة أضداد ). و يخوّل لنا منهج ماديّ و جدليّ أن نقدّر و نكتشف الأمور الغامضة و أن نعالجها أحيانا ؛ إنّه يخوّل لنا أن نقدّرها حتّى قبل معالجتها ، و أن نقدّرها بعد أن نكون قد عالجناها ، و أن نقرّ بأنّ الأمور الغامضة الجديدة ستظهر بإستمرار بما في ذلك في علاقة بالتى نعالجها .
النظرة الشيوعيّة إلى العالم نظرة ماديّة . و الآن ، ليس لهذا المعنى نفسه الذى تستخدم فيه " الماديّة " بصفة شائعة : " الماديّة " بالمعنى الشائع : " الماديّة " بالمعنى الشعبيّ مرتبطة بالحصول على الممتلكات الماديّة ( المضيّ إلى مركز تجاري و إقتناء الكثير من السلع الإستهلاكيّة التي نرغب فيها ) . و من الأشياء التي تجعل عديد الناس يشعرون بالقرف و التمرّد ضدّها – عادة بالتحوّل إلى الدين نتيجة لذلك- هو البحث الذى لا نهاية له عن المزيد و المزيد من الأشياء الماديّة. و هذا ليس أبدا في آخر المطاف مرضي . هناك حاجة إلى المزيد . لكن هذا ليس ما تعنيه الماديّة علميّا ، شيوعيّا . بهذا المعنى ، تحيل الماديّة على الفهم الأساسي بأنّ الواقع بأكمله متكوّن من مادة في حركة – و يتكوّن الواقع فقط من أشياء ماديّة موجودة عمليّا ، بعدّة أشكال متنوّعة وهي تعرف بإستمرار تغييرا- و كلّ ما هو غير ماديّ غير موجو. الشمس ماديّة و النجوم ماديّة و الطاقة ماديّة و نحن البشر مادة و السيرورات داخل الدماغ مادة – جميعها أشياء ماديّة واقعيّة تتحرّك و تتغيّر . هذا كلّ ما يتكوّن منه الواقع و لا وجود لواقع آخر مخالف لذلك.
و على خلاف مزاعم العكثيرين – بمن فيهم فلاسفة القرن العشرين و منهم كارل بوبر و برتراند روسل - الماركسيّة علم، مقاربة علميّة لفهم الواقع و تغييره . ليست دينا .(40)
( 40- أنظروا على سبيل المثال ، كارل بوبر ، " المجتمع المفتوح و أعداؤه " و خاصة المجلّد الثاني ، " التيّار العالى للنبوءة : هيغل و ماركس و بعدهما " ، صحفاة جامعة برنستين ، 1971 ؛ و برتراند روسل ، " لماذا لست مسيحيّا و بحوث أخرى حول الدين و المواضيع المتّصلة به "، شركة سايمن و شستار 1957. و في عمل آخر من أعمالى ، " القيام بالثورة و تحرير الإنسانيّة " ( متوفّر على موقع أنترنت revcom.us ) ، أتحدّث ن بعض محاولات بوبر تكذيب الماركسيّة و التشويهات بذلك الصدد ) .
هنا ، أودّ أن أقتطف التالى من " علم التطوّر و أسطوريّة فكر الخلق – معرفة ما هو واقعي و لماذا هو مهمّ " لأرديا سكايبراك ، بما أنّه يوفّر ردّا قويّا على لورنار و الذين يتبنّون وجهات نظر شبيهة في ما يتعلّق بالمسألة الأساسيّة لكيف نقدّم الوجود الإنسانيّ و علاقته بالعالم الأوسع ببقيّة الواقع الماديّ :
" نعلم الآن أن تطوّرنا الإنساني الخاص و كذلك تطوّر كافة الكائنات الحيّة يمكن أن يفسّر تماما بسيرورات طبيعيّة و لا يتطلّب تفسيرات ما فوق الطبيعة . لكن هل ستتركنا قدرتنا المتنامية على فهم الحياة دون إلاه نحيا بشكل ما غائم و فارغ ؟ لماذا ينبغي أن يحصل ذلك ! لا يزال بوسعنا و ينبغي أن ننذهل كما يجب و حتّى نتحمّل و نتواضع بالإقرار بالدهشة لتنوّع و تعقيد تطوّر الحياة تطوّرا طبيعيّا و ما يمكن أن يحدثه ذلك و بكلّ من الحدود و الإمكانيّات المستمرّة لإنسانيّتنا الخاصة ... بعيدا عن أن يكون وصفة من أجل نظرة و ماديّة باردة و لا حماس فيها ، فإنّ منهجا ماديّا علميّا حقيقة مطبّقا بصفة منهجيّة لكشف الدهشة الحقيقيّة الفعليّة للعلم الطبيعي و الاجتماعي ، يمكن أن يجعل الخيال يزدهر هو و معنى الهدف و الوعي التغييريّ و مبادرة البشر بطرق لا يمكن أن تحيل أبدا على قوّة عليا مفترضة . أليست هذه نظرة تستحقّ النضال من أجلها ؟ "
( أنظروا الصفحة الأخيرة لقسم اصورة الغلاف الأخير لكتاب " علم التطوّر ..." ، التشديد في النصّ الأصليّ ).
و قبل المرور إلى القسم التالى من هذا الكتاب ، أودّ أن أتفحّص اكثر و إن قليلا وجهات نظر لورنار في ما يتّصل بمسالة الأبستيمولوجيا – و بالأخصّ ما هو و ما ليس هو التفكير العقلانيّ . ينقد لورنار " مذهب العلميّة / سَينتيزم " لكن نقده هذا يشتمل على خلط و تداخل بين العلم و المنهج العلمي الفعليّين من ناحية ، و بين الفلسفة الواقعية / البوزيتيفزم من ناحية ثانية – نزعة تقليص الأشياء لأسبابها الماديّة المباشرة ( أو إلى الأدلّة التجريبيّة بذاتها و في حدّ ذاتها أو كشيء في حدّ ذاته) و للمحاججة بأنّه ليس هناك شيء آخر ، لا عوامل و سيرورات أشمل معنيّة او تتفاعل مع الظواهر المباشرة و الآنيّة ، و لا قفزات من وضع للمادة إلى وضع آخر بفعل مثل هذه السيرورات المعقّدة عادة و تفاعلاتها. (41)
( 41 – هذه الفلسفة الواقعية / البوزيتيفيزم هي تعبير عن الحتميّة بما أنّها تجسّد و تتضمّن الإستنتاج ( أو النتيجة ) أنّ ما عليه الشيء مهما كان يجب أن يكون كذلك ضروريّا ).
أحيانا ، يتعاطى لورنار مع العلم كإختزال لكلّ ما ،كما وضعه هو نفسه ، يمكن " ملاحظته و قياسه " ؛ و أحيانا أخرى ، يُحيل على " أدوات العلم – الملاحظة و التجربة و الفكر العقلانيّ " ( " اليد اليسرى للإلاه " ، ص 131 و 133 ) لكن نزعته العامة تخلط أو تسوّى بين التجريبيّة و الإختزاليّة من جهة بالنظرة و المنهج العلميّين الفعليّين من الجهة الأخرى ، ما يفضى إلى فوضى و بالتالى يستخدم في تكذيب العلم. في الواقع ، النظرة و المنهج العلميّين يعنيان ليس الدليل التجريبي فحسب بل كذلك قفزات نوعيّة نحو النظريّة و المفاهيم و تلخيص الوقائع و الملاحظات في مستوى أعلى من فهم الواقع ؛ و هذا يعنى إختبار الفرضيّات و النظريّات في الممارسة العمليّة و التعاطى مع العالم الموضوعي الأشمل . و هذا صحيح بالأخصّ بشأن النظرة و المنهج الشيوعيّن إلى العالم و هما خلاصة المادية الجدليّة و يوفّران مقاربة كلّ الواقع بأكثر صراحة و منهجيّة و شموليّة .
و هذا مختلف نوعيّا و راديكاليّا عن مذهب العلميّة / سينتيزم و عن الفلسفة الواقعية / البوزيتيفزم و عن الإختزاليّة و أشياء أخرى تتميّز بمفهوم الربط الخطّي و الإمتداد المباشر تقريبا بين التجربة و المفاهيم بدلا عن ما يحدث عمليّا في الواقع – حيث كما أشار ماو تسى تونغ ، هناك بصفة متكرّرة قفزات نوعيّة من التجربة و المعرفة الحسّية إلى المعرفة الفكريّة أو العقلانيّة . و المعرفة العقلانيّة مفهومة بصفة صحيحة هي ... حسنا معرفة عقلانيّة تلخّص ما تمّ تعلّمه من خلال التجارب المتنوّعة – بما في ذلك البحث و التجريب العلميّين – إلى تجريد يعكس الواقع بطريقة أكثر تكثيف و أرقى .
يرغب لورنار أن يحاجج بأنّ الدين ليس نمط تفكير عقلانيّ أدنى من العلم . لكن الحقيقة هي أنّ الدين تفكير لاعقلاني. إنّه يعنى و يعتمد على قفزات في الإيمان هي في تعارض مع – و تمثّل قطيعة مع – التفكير العقلانيّ و لا يعنى و لا يمكن أن يعني قفزات للتلخيص الصحيح لما يتمّ تعلّمه من خلال تجربة العالم القائم موضوعيّا . و الدين يقدّم كحقائق – و حتّى كحقائق أساسيّة و محدّدة – أشياء ليست منحدرة من و لا يمكن بدورها أن تختبر في العالم المادي الموضوعي الموجود. و تشخيص طبيعة الدين اللاعقلانيّة ليس مسألة قذف بالشتائم بل مسألة حديث عن واقع أساسي و عن طبيع التفكير الدينيّ . و في الواقع ، هذه الطريقة اللاعقلانيّة للتفكير التي تميّز الدين ليس بوسعها سى أن تنحو بطريقة أو أخرى نحو التفكير اللاعقلاني .
من كلّ هذا ، يمكن بطريقة أشمل من جهة رؤية أنّ هناك نظرات ثاقبة هامة في كتاب " اليد اليسرى للإلاه " و هناك مجال هام لبناء وحدة مع لورنار و الذين يتبنّون وجهات نظر مماثلة ؛ لكن في الوقت نفسه ، نظرة لورنار إلى العالم و توجّهه و أهدافه السياسيّة التي تنسجم مع ذلك لا يمكن أن تقود الأشياء إلى حيث تحتاج الذهاب إليه حتّى بمعنى التغيير التام و الشامل و إجتثاث الأمراض في العالم و في العلاقات بين الناس الذين يشير إليهم لورنار – أحيانا بشكل حاد تماما – و نهائيّا بمعنى إجتثاث كافة علاقات الإستغلال و الهيمنة و الإضطهاد والثقافة و طرق التفكير التي تتناسب معها و تعزّزها، و تجاوزها .
--------------------------------------------------------------------------------------------------------------
أسطوريّة صِدق الأسطورة الدينيّة و دورها الإيجابيّ

تاليا ، أودّ أن أناقش بإقتضاب الأطروحة الأساسيّة لكارن أرمسترونغ حول الأسطورة و دورها الاجتماعي كما وضعت ذلك في كتابها ، " تاريخ مختصر للأسطورة " و خاصة الفصل الأوّل منه المعنون " ما هي الأسطورة ". كتبت :
" ليس الفكر الأسطوري محاولة أوّليّة للتأريخ و لا يدّعى أنّ قصصه وقائع موضوعيّة . النيندرتال [ إنسان العصر الحجريّ الأوّل في أوروبا – المترجم ] الذين كانوا يُعدّون أصحابهم الأموات لحياة جديدة ربّما ينخرطون في ذات اللعبة ، لعبة صنع - إيمان روحيّة شائعة لدي كافة كلّ صنّاع الأسطورة : " ماذا لو أنّ العالم ليس كلّ ما هو موجود هنا ؟ كيف سيؤثّر هذا على حياتنا - نفسيّا و عمليّا أو إجتماعيّا ؟ هل سنصبح مختلفين ؟ هل سنصبح أكمل ؟ و إن وجدنا أنّنا تغيّرنا كثيرا ، ألن يبيّن ذلك أنّ إيماننا الأسطوريّ كان صحيحا نوعا ما و أنّه يقول لنا شيئا هاما عن إنسانيّتنا ، حتّى إن لم نستطع أن ندلّل على هذا تدليلا عقلانيّا ؟ " ( " تاريخ مختصر للأسطورة " ، ص 8-9 ).
و تسترسل :
" بالتالى ، الأسطورة صحيحة إذا كانت فعّالة و ليس لأنّها تقدّم لنا معلومة واقعيّة . و مع ذلك ، إذا لم تقدّم لنا رؤية ثاقبة جديدة للمعنى الأعمق للحياة ، فإنّها قد أخفقت . و إذا نجحت أي إذا أجبرتنا على تغيير أفكارنا و قلوبنا و وفّرت لنا أملا جديدا و دفعتنا إلى الحياة حياة أتمّ ، فهي أسطورة صالحة " . ( ص 10 ، و التشديد فى النص ّالأصليّ )
و مرّة أخرى ، نعد إلى مسألة الإختلاف – الإختلاف النوعيّ – بين الفنّ بما في ذلك الأسطورة من ناحية و الواقع من ناحية أخرى و كذلك الإختلاف بين الفنّ و العلم . في نهاية " الوعظ من منابر العظمة " ، تحدّثت عن هذه المسائل و سجّلت نقطة أنّ الفنّ بما هو متباين مع العلم ن بصورة عامة لا يتطلّب منّا أن نعتقد في أنّ ما يمثّله صحيح عمليّا و تماما بل بالأحرى يمثّل الفنّ ، و هذه ميزته الخاصة ، أشياء عن الحياة ليست تجسيدات أو مجرّد إعادة إنتاج للحياة كما هي . و الدين كذلك يمثّل أشياء متباينة مع الكيفيّة التي توجد عليها في الواقع عمليّا . هذا هو المشترك بين الفنّ و الدين – و أيضا هما يختلفان عن العلم . أين يكمن الإختلاف بين الفنّ و الدين – وهو إختلاف أساسيّ – إنّه يكمن في أنّ الدين يطالبنا بالإيمان بأنّ ما يمثّله هو عمليّا صحيح و ليس فقط حقيقة بل الحقيقة المحدّدة و الأساسيّة للواقع و أسبابه و قواه المحرّكة . و مثلما وضعت ذلك في " الوعظ ..." :
" إذا كان الدين ليمثّل نفسه بالطريقة نفسها و بالتوقّعات و المتطلّبات ذاتها التي يفعل بها ذلك الفنّ نموذجيّا – إذا كان ليسمح للناس و يشجّعهم على الحصول على الإقرار في نهاية المطاف بأنّ غبداعاته الخياليّة ليست واقعيّة – و من هنا لن يكون بعدُ ضارّا و من العراقيل أمام التطوّر الشامل للإنسانيّة كما هو عليه الآن . غير انّه كذلك لن يظلّ حينها دينا . في هذا العصر من التغيير التاريخي – العالمي و في المستقبل الآتيّ ، لن تقدر الإنسانيّة على الحياة دون خيال و دون فنّ بيد أنّه يجب عليها و ستقدر على الحياة دون دين – و عن هذا سينجرّ ما هو أفضل بكثير . " ( التشديد في النصّ الأصليّ، ص 88 )
و للتطرّق إل بُعد آخر من هذا ، يمكن أن نناقش ما هو مشترك لكن أيضا ما هو مختلف بين الجمال و الحقيقة . كلاهما هامان في حدّ ذاتهما . و بطرق هامة، هما مترابطان : يمكن أن يوجد ، و هذا عادة مظهر من ، الجمال في الحقيقة وفى إكتشاف الحقيقة ، و مظهر من الحقيقة في الجمال – الجمال أو الفنّ بالمعن الأشمل ، يمكن أن يكشف حقائقا هامة عادة من زوايا جديدة . لكن الجمال أو مفاهيم الجمال و ما هو و ما ليس هو الجمال – هو على خلاف الحقيقة ، مشروط إجتماعيّا و له مضمون إجتماعي و بالمعنى العام يتناسب مع وهو جزء من نظرة إلى العالم أو أخرى . وجهات نظر مختلفة تتناسب في مجتمع طبقيّ في نهاية المطاف مع وجهات نظر طبقيّة مختلفة ( و من المهمّ تسطير " في نهاية المطاف " كي لا نسقط في الإختزاليّة ) لها أفكار مختلفة عن ما هو الجمال و ما ليس هو . لا وجود لطريقة علميّة لبلوغ توافق عالمي حول ما هو جميل و ما ليس كذلك. و بالعكس ، هناك طريقة علميّة لبلغ تحديد ما هو صحيح و ما ليس صحيحا " . (42)
( 42 – من أجل نقاش مستفيض لوجهات النظر التي لها نقاط مشتركة بل كذلك بعض الإختلافات بشأن مسألة الجمال و الحقيقة ، أنظروا كتاب بوب أفاكيان و بيل مارتن ، " الماركسيّة و نداء المستقبل ، احاديث في الأخلاق و التاريخ و السياسة " ، منشورات أوبن كورت - منشورات كاروس ، 2005 ، الفصل الثالث ، " الأخلاق و مسألة الحقيقة ". )
الحقائق هامة لتغيير العالم – لكن ليس مرّة أخرى بالمعنى الضيّق و النفعيّ . إنّها هامة بذاتها و في حدّ ذاتها ، بمعنى أنّه من المهمّ معرفة ما هو حقيقة و ما ليس حقيقة ، بغضّ النظر عن ما إذا كانت لهذا تبعات خاصة على أي نشاط خاص أو مجال خاص من مجالات النشاط في وقت معيّن ( و ، في ما يتعلّق بالشيوعيّين ، سواء إرتبط ذلك أم لم يرتبط مباشرة بأهدافنا السياسيّة في زمن معطى ). و مع ذلك ، للحقيقة طابع عالميّ ليس للجمال ؛ الحقيقة ليست مشروطة إجتماعيّا . أو لنضع ذلك بطريقة أخرى : ليست للحقيقة طبيعة طبقيّة . و كما شدّدت على ذلك آنفا (43) ،
(43- أنظروا ، " ملاحظات حول الفنّ و الثقافة ، و العلم و الفلسفة " و خاصة " بوب أفاكيان في نقاش مع الرفاق حول الأبستيمولوجيا : حول معرفة العالم و تغييره " .)
طالما هناك طبقات ، الحقيقة ( ما هو معروف بأنّه حقيقة و الحقائق المكتشفة بإستمرار ) ستدخل بشكل أو آخر في الصراع العام بين الطبقات لكن الحقيقة ليست قابلة للإختزال إلى و ليست محدّدة ب – و ليس بوسعنا أن نحدّدها – بكيفيّة إرتباطها بالصراع الطبقيّ . الحقيقة موضوعيّة : الحقيقة هي تقريب صحيح – أو تقريبا صحيح – للواقع الموضوعيّ ، و لا ترتبط بالمواقع الطبقيّة للشخص أو الشخاص الذين يكتشفون هذه الحقيقة أو تلك ؛ و كذلك لا ترتبط حقيقة شيء بتأثيره الاجتماعي.
و كلّ هذا يتعارض مباشرة و جوهريّا مع ما تقدّم به أرمسترونغ بشأن الحقيقة ، لا سيما في ما يتعلّق بالعلاقة بين الأسطورة و الحقيقة . و إلى جانب مظاهر أخرى لما هو خاطئ في نظرتها ، هي مخطئة في تأكيدها الأساسي على أنّ أساطير الدين لا تقدّم نفسها كما لو أنّه يجب إعتبارها حقيقة بالمعنى الواقعيّ أو التاريخي . بالتأكيد هذه الأساطير تفعل ذلك و بالتأكيد قد فعلت ذلك . ما مغزى المعركة حول نظريّة التطوّر ؟ لا يمكن لنظريّة التطوّر أن تكون حقيقة ، حاجج الأصوليّون المسيحيّون، و أكّدوا أنّ ذلك يعود إلى أنّ أسطورة الخلق في الكتاب المقدّس [ في سفر التكوين ] صحيحة – و قد كانت هذه الأسطورة عبر التاريخ تحديدا تُقدّم كشيء يجب إعتباره حقيقة تامة و تاريخيّة . يقول الكتاب المقدّس إنّ الإلاه خلق السماوات و الأرض و كلّ ما يوجد فيهما في أيّام ستّة و في اليوم السابع نال قسطا من الراحة . و هذا يُقدّم كواقع تاريخيّ ، لا يقدّم كأسطورة " صحيحة " لمجرّد أنّها " فعّالة " . ليست مقدّمة لتعتبر مثل الفنّ الذى لا يمثّل الواقع ( في هذه الحال ، الواقع التاريخي ) كما هو ( أو كما كان ) عمليّا . ليست شيئا من المفترض مقاربته كنوع من " التجربة المنظّمة " (44)
( 44 - صيغة " الحقيقة كتجربة منظّمة " إستخدمها لينين في عمله الفلسفيّ الأعظم ، " الماديّة و مذهب النقد التجريبيّ " كجزء من نقده لوجهات النظر الفلسفيّة المتنوّعة التي تعاطت مع الحقيقة على أنّها ذاتيّة بدلا من أن تكون من الظواهر الموضوعيّة . و " الحقيقة كتجربة منظّمة " صيغة تعبّر عن وجهة نظر سنصفها اليوم عموما بأنّها " أداتيّة " بمعنى جعلها الواقع " أداة " للرغبات و الأهداف الذاتيّة – و محاولة قولبة الواقع لجعله ينسجم مع هذه الرغبات و الأهداف .)
التي يمكن أن يكون لها دور في جعل الناس يتصرّفون بطرق معيّنة لكن لا تتماشى مع ما حدث حقّا في التاريخ و في الواقع. على العكس تماما . و بصفة أعمّ عبر التاريخ ، عديد الأساطير الدينيّة وقع تقديمها على أنّها حقائق و وقائع تاريخيّة - و وقع القتال من أجلها على أنّها كذلك . و هذا ليس لقول إنّه لم يقع أبا تقديم أساطير ، بما في ذلك في الدين ، لم يكن تهدف لإعتبارها حقائق تامة . لكن التقدّم بموقف عام و توصيف عام للأساطير لا سيما في إطار الدين أنّها ليست تدف إلى إعتبارها حقائق تامة و تاريخيّة – فهذا غالط كلّيا .
ما تتقدّم به أرمسترنغ هو كذلك تعبير عن البراغماتيّة و الأداتيّة كما تبيّن ذلك في مفهومها لما يجعل الأسطورة صالحة . و هذا تعبير آخر لما سمّأه لينين ب " الحقيقة كتجربة منظِّمة ". أو بطريقة أخرى ، لصياغة هذا بصورة أكثر فظاظة – و ينسجم هذا مع النظرة البراغماتيّة التي يجرى نشرها و بثّها على نطاق واسع في صفوف الناس في المجتمع الأمريكي بوجه خاص – هي أنّه إذا كان شيء مفيدا و يساعد على بلوغ هدف مرغوب فيه ، بالتالى يمثّل حقيقة – أنّ هذا تحديد له دلالته و معيار للحقيقة . هذا ما تحاج به أرمسترنغ عندما تقول إنّ الأسطورة حقيقة لأنّها " فعّالة و ليس لأنّها تقدّم لنا معلومة واقعيّة ". و هكذا تعرض مفهوما ذاتيّا للحقيقة : على الأقلّ كما رجى تطبيقها على الأسطورة وفق أرمسترنغ ، الحقيقة تحدّد بما إذا " نجحت " أم لا – و ما " ينجح " هو بدوره محدّد بما إذا " أجبرتنا على تغيير أفكارنا و قلوبنا و وفّرت لنا أملا جديدا و دفعتنا إلى الحياة حياة أتمّ " .
لتأكيد ما هو خاطئ مع هذه النظرة و الأبستيمولوجيا التي تجسّدها ، لا نحتاج سوى إلى قول إنّ أكثر من بعض الناس كانوا يقولون في ألمانيا النازيّة –و بالفعل تصرّفوا كما لو أنّ – الفكر الأسطوريّ الذى روّج له النازيّون قد إستجاب إلى كامل المعايير التي أشارت إليها أرمسترنغ هنا بالنظر إلى صحّة الأسطورة – بمعنى فائدتها . و كذلك يطرح السؤال نفسه : : يوافق أحد على معيار من هذا الصنف في ما يتعلّق بالأسطورة فما هو الأساس لرفض تطبيق المعيار ذاته على أيّ شيء يقع تأكيده من قبل أيّ شخص ، على أنّه صحيح ؟ و إلى ماذا سيقود ذلك ؟
و لنتفحّص مظهرا آخر من كيف تبحث أرمسترنغ عن تركيز معيار صلوحيّة الأسطورة : إذا " وفّرت لنا أملا جديدا و دفعتنا إلى الحياة حياة أتمّ " أم لا . قبل كلّ شيء ، وجبت الإشارة إلى أنّ هذا جوهريّا حجّة سفسطائيّة إستنتاجها مؤكّد حقّا في مقدّمتها الأولى . ما معنى " الحياة حياة أتمّ " سوى أنّه محدّد بذات المفاهيم الماقبليّة التي تقارب بها أرمسترنغ المسألة من البداية ؟ من يقول ما هي " الحياة حياة أتمّ " إن كان ذلك منفصلا عن معيار التناسب مع الحياة الواقعيّة ، مع الواقع ؟ إذا إستطاع أيّ شخص أن يحدّد ، بإستخدام معيار ذاتيّ ، ما إذا كان شيئا يوفّر نظرة ثاقبة أكثر عن المعنى الأعمق للحياة ، بغضّ النظر عن ما إذا كان أم لم يكن ذلك الشيء يتناسب مع الحياة الواقعيّة ، ومع الواقع الموضوعيّ ، بالتالى تكون " الحياة حياة أتمّ " قد خسر في الواقع كلّ معنى عدا معنى أنّه جزء من تفكير ما قبليّ و سفسطة .و طبعا ، يتركّز هذا بالأحرى بفظاظة في التأكيد البراغماتيّ و الأداتيّ : " إذا نجح " فهو عندئذ صالح .
هذه أبستيمولوجيا مثاليّة ذاتيّة دون تزويق ( مفهوم ما إذا كان شيء صحيحا أم لا مسألة تحدّدها الذات ، يحدّدها شخص معيّن بقطع النظر عن ما إذا كانت تتناسب أم لا مع الواقع الأشمل ، الواقع الموضوعيّ ). (45)
(45 – خطّ جوهريّ فاصل في الفلسفة كما أشار إلى ذلك إنجلز ( أنظروا مثلا ، " ضد دوهرينغ " ) هو ما إذا كنّا نفهم أنّ الواقع موجود موضوعيّا و بإستقلال عن إدراك حسّي ( أو معتقدات ) أيّ كان ( أي ذات ) ، و أنّ في الواقع الناس ( و كذلك الكائنات الواعية الأخرى ) و سيروراتهم الفكريّة عينها تتكوّن من مادة و لا شيء غير المادّة – أنّ كلّ الواقع يتكوّن من مادة في حركة – او إذا ،من الجهة الأخرى ، يُعتقد أنّ الأفكار توجد بإستقلاليّة عن المادة ، و أنّ الأفكار و المادة صنفين منفصلين ( أنّ الأفكار و الوعي يتكوّنان من شيء آخر مغاير للمادة في حركة ) و أنّ الواقع المرتأى من قبل شخص إمتداد لعقله أو أفكاره وهو بالتالى ذاتيّ ( و في هذه الحال يمكن أن توجد وقائع مختلفة لمختلف الأشخاص أو الذواتات) أو هو إمتداد لذهن كائن متعالى و كونيّ ، و هذه طبعا طريقة لقول ( أو إفتراض شيء مساوى ل ) إلاه . النظرة الأولى ( الإعتراف بأنّ كلّ الواقع يتكوّن من مادة في حركة و أنّ الواقع يوجد بإستقلاليّة عن الذهن أو عن أفكار أيّ كائن خاص ) يتناسب مع الفهم الماديّ للواقع ؛ و النظرة الثانية هي الفلسفة المثاليّة ، بشكل أو آخر ( بصفة عامة ، مثاليّة " ذاتيّة " أم " موضوعيّة " ) ).
لكن هذه مثاليّة ذاتيّة في خدمة المثاليّة الموضوعيّة – أيّ دين و إيمان بما وراء الطبيعة كحقيقة موضوعيّة ( أو عمليّا كذات الشيء و الحقيقية الموضوعيّة ). و نعرف أين وجهة النظر بأنّه لا يهمّ إن كان شيء حقيقيّ واقعيّا أم لا – يمكن أن يكون وهما في علاقة بالواقع لكن إن لعب دورا كما يحدّد بشخص في مكان ما ، ما قبليّا ، بالتالى هذا جيّد بقدر ما هي جيّدة الحقيقة و إن لم تكن الحقيقة التامة – نعلم إلى إين يمكن أن يؤدّى مثل هذا النوع من الأشياء ، إلى أين قد أدّى و إلى أين سيؤدّى . ليس فحسب إلى كافة أنواع الأخطاء و إنّما أيضا إلى كافة أنواع الفظائع . إن كان كلّ شخص حرّ في إختيار ما هو صالح و صحيح وفق ما إذا كان يتناسب معه ، نعود إلى جميع مشاكل النسبيّة – بما فيها في نهاية المطاف ، بخاصة عندما تدخل الأساطير في نزاع مع بعضها البعض ، تقليص الأشياء إلى نزاع على علاقات السلطة لرؤية أيّة أسطورة يمكن فرضها على الأساطير الأخرى . بإختصار ، " القوّة تصنع الحقّ " – إلى هذا يمكن للأشياء أن تمضي و عادة قد مضت حين لا يوجد معيار موضوعيّ لتحديد ما إذا كان شيء حقيقيّ و صالح أم لا .
و يجرّنى هذا إلى مسألة أشمل ، مسألة اليقين ، اليقين العلمي و الأخلاقيّ – ما المشترك و ما المختلف بينهما . في العلم ، و من خلال تطبيق المنهج العلميّ ، يمكن أن نبلغ اليقين . أو لنستحضر ما يبدو ربّما كجمع أمرين مختلفين ، يمكن أ نبلغ اليقين ، نسبيّا : نسبيّا بمعنى أنّ الواقع في تبدّل مستمرّ و أنّ أفضل مقاربتنا له تجرى في هذا الإطار ؛ و نسبيّا بمعنى أنّه مهما كان جزء الواقع الذى نفهم مترابط مع أجزاء أخرى من الواقع ، و كذلك مع تبدّل الواقع . لكن مذع ذلك ، بينما هو نسبيّ ، هذا اليقين ( المستند إلى العلم ) واقعيّ . و هذه طريقة أخرى لصياغة مبدأ فلسفيّ جوهريّ أكّد عليه لينين . فقد أشار لينين إلى أنّ الماركسيّة تنبذ النسبيّة فلسفيّا – إنّها تقرّ و تشدّد على أفقرار بأنّ هناك بالفعل واقع موضوعيّ و أنّ الأشياء التي تمثّل موضوعيّا الحقيقة لها نوع من الإطلاقيّة في وجودها الحقيقيّ . لكن لينين أضاف أنّه بينما تنبذ النسبيّة ، تعترف الماركسيّة بأنّ هناك عنصر من النسبيّ في المطلق . و على سبيل المثال ، يولد البشر ثمّ يموتون حقيقة موضوعيّة و لهذه الحقيقة صفة الحقيقة المطلقة ( إنّها نهائيّا حقيقة و ليست حقيقة إلاّ بالمعنى النسبيّ – ليس فقط في علاقة ب و كما يتحدّد بالمعايير الذاتيّة ، من مثل ما إذا كان شخص يؤمن أم لا بقطع النظر عن ما إذا كان لها أساس موضوعيّ ، أي ، إذا كانت أم لا تتناسب مع الواقع الموضوعيّ ). لكن ، لأنّ الحدود في الطبيعة و المجتمع كما أكّد على ذلك لينين ، بينما هي واقعيّة هي أيضا مشروطة و نسبيّة ( أو ، كما وضع ذلك ماو تسى تونغ ، مروحة الأشياء عريضة و هناك ترابط بين الأشياء )؛ لأنّ مرّة أخرى أي مظهر خاص من الواقع جزء من و يتداخل مع واقع أشمل و لأنّ جميع الواقع يشهد تغيّرا مستمرّا ؛ لهذه الأسباب ، مهما فهمنا فهما جيّدا أنّ جزءا من الواقع صحيح موضوعيّا – يتناسب مع الواقع الموضوعيّ و له طابع الحقيقة المطلقة – لكن في الوقت نفسه يتضمّن مظهرا من النسبيّة . الفهم الماركسي الأساسي حيويّ في الحفاظ على التمييز الموضوعيّ و الجوهريّ بين النظرة و المقاربة العلميّة و الماديّة ( و الجدليّة ) من جهة و النظرة و المقاربة النسبيّة ( و المثاليّة فلسفيّا ) من الجهة الأخرى .
إذن أجل ، من الممكن أن نكون ، بناءا على قاعدة صحيحة ، على يقين بشأن بعض الأشياء و منها نظريّة التطوّر – يمكن أن نكون على يقين منها . لقد نجحت في إمتحان ليس الزمن في المطلق و إنّما أيضا في إمتحان المحاولات المتكرّرة لتخطئتها ، و بالفعل تعزّزت بالأحرى بدلا من أن يتمّ تقويضها بفعل المراكمة المستمرّة للدلائل و القفزة من أدلّة إلى خلاصة المزيد من المعرفة . لذا يمكن أن نقول عن يقين أنّ نظريّة التطوّر أمر راسخ علميّا . أو بكلمات بسيطة و أساسيّة : إنّها صحيحة . و يمكن أن نقول عن يقين إنّ قصّة الخلق في سفر التكوين ليست صحيحة .
و الآن عندما نبلغ مسألة الأخلاق ، تصبح الأشياء أكثر تعقيدا . بلوغ الحقيقة عبر الوسائل العلميّة يمكن أن يكون عادة أمرا معقّدا لكن في ما يتّصل بمسائل الأخلاق ، الأشياء معقّدة على نحو مغاير . فالعلم يتعاطى مع ما هو – و كذلك ما كان موجودا و ما سيأتى إلى الوجود. غير أنّ العلم في حدّ ذاته لا يمكن أن يقدّم إجابات عن كلّ مسائل " ما يجب " . يمكن أن يقول لنا ما هو لكن لا يمكن في حدّ ذاته أن يقدّم إجابة عن سؤال " يا يجب أن يكون " . هل يعنى ذلك من ثمّة أنّه ليس بإمكاننا أن نملك أيّ يقين أخلاقيّ ؟ لا ، يمكن أن يكون لدينا يقين أخلاقيّ – نسبيّا . و لنضرب مثالا حيويّا ، يمكننا أن نحدّد علميّا ما تهدف إليه الثورة الشيوعيّة و ما الذى ستبلغه و التغيّرات التي ستحدثها هذه الثورة في المجتمع الإنسانيّ و في العلاقات الإجتماعيّة الإنسانيّة و في تفكير الناس . يمكن أن نقيم ذلك علميّا عن يقين ( لكن بمظهر نسبيّ داخل هذا اليقين كما تكلّمنا عن ذلك هنا ). يمكن أن نقول إنّ تقدّم الشيوعيّة يُمثّل تحريرا و إنشاءا لعالم أفضل بالنسبة إلى الغالبيّة العظمى من الناس و في نهاية المطاف بالنسبة للإنسانيّة ككلّ . و يمكن أن نقول بالتالى إنّ في إنجاز هذه القفزة نتحرّك في تناغم مع مصالح الغالبيّة العظمى من الإنسانيّة و في نهاية المطاف الإنسانيّة ككلّ . و بهذا الشأن ، يمكن أن تكون لدينا قناعة أخلاقيّة.
طبعا ، يمكن لممثّلين للبرجوازيّة أن يقولوا و سيقولون : " لا يجب أن يحدث هذا " [ ضحك ] سيحاججون بأنّ ذلك ليس فعلا جيّدا بالنبة للإنسانيّة . و عليه ، لنفكّ: هذا أكثر . و هل يمكن أن لا يوجد تحديد موضوعيّ لما إذا كان هذا صحيحا ؟ لا. يمكننا موضوعيّا تحديد ذلك. بيد أنّه لإحداث القفزة و قول يجب أن يحدث يتطلّب شيئا أبعد من مجرّد العلم – إنّه يتطلّب و يشمل موقفا متحزّبا . و كلّ هذا مرتبط بالنقاط التي ناقشت آنفا حول عالميّة الشيوعيّة – عالميّة بمعنى إمكانيّة قول إنّ الشيوعيّة كنظرة إلى العالم و كمنهج تشمل كافة الحقول المتنوّعة لمعرفة البشر و نشاطهم في حين أنّها لا تعوّض هذه الحقول ، و بمعنى أنّ الشيوعيّة كهدف سياسي تشمل مصالح الغالبيّة العظمى للإنسانيّة .(46)
( 46- أثيرت هذه المسألة في سبيل المثال في " الوعظ من منابر العظمة " ؛ " و هكذا ، بينما ليست الأخلاق الشيوعيّة ، شأنها في ذلك شأن كافة الأخلاق الأخرى ، متعالية أي مستقلّة عن أيّة قاعدة تاريخيّة و إجتماعيّة و تنطبق في كلّ عصر ، و إنّما تنطبق صفة العالميّة بالذات على هذا العصر ، إنّها تتناسب مع القفزة التي يجب على الإنسانيّة تحديدا في هذا العصر أن تنجزها و مع وسائل إنجاز هذه القفزة ". ( ص 80 ، التشديد في النصّ الأصليّ )
و " عالميّة الشيوعيّة " يقع نقاشاها أيضا في " الأهداف الكبرى و الإستراتيجيا الكبرى " . بشأن مبدأ أنّ الماركسيّة تشمل لكن لا تعوّض ، عديد المجالات المتباينة للمعرفة و النشاط الإنسانيّين ، أنظروا كتاب ، " ملاحظات حول الفنّ و الثقافة ، و العلم و الفلسفة ".)
و مجدّدا طبعا سيحاجج المدافعون عن النظام القائم الذين يعارضون بحماس التقدّم نحو الشيوعيّة بأنّ ما يجرى في المجتمع الرأسماليّ و في ظلّ الحكم الإمبرياليّ لا يمثّل إستغلالا و إضطهادا و هيمنة بل هو بالفعل يخدم أفضل مصالح الذين هم عرضة لذلك ؛ و سيؤكّدون أنّ كلّ هذا ليس لا إستغلالا و لا إضطهادا و لا هيمنة . إلاّ أنّ ما يحدث للناس في ظلّ هذا النظام يمثّل واقعا موضوعيّا تعكسه بدقّة مفاهيم " الإستغلال " و " الإضطهاد " و " الهيمنة " – و تسمية هذا شيئا آخر ( حتّى تسمية لاإستغلال و لاإضطهادو لاهيمنة ) لن غيّر من جوهر هذا الواقع الموضوعيّ ( لن يعني سوى إستخدام الكلمات و المصطلحات بطريقة مختلفة جدّا عن و بالفعل يبلغ عكس ما تطوّر كشيء متّفق إجتماعيّا على أنّه معنى هذه الكلمات و المصطلحات ). و الشيء ذاته صحيح في ما يتعلّق بمفاهيم مثل " مصالح الجماهير الشعبيّة و في نهاية المطاف الإنسانيّة ككلّ " و " التحرّر " من الإستغلال و الإضطهاد : هذه أيضا تتناسب مع واقع يوجد موضوعيّا . و بينما من الممكن المحاججة بأنّ التقدّم صوب الشيوعيّة لا يمثّل هذه المصالح ( و أنّها لا تمثّل " تقدّما " أو " تحريرا " ) ، و التقدّم بهذه الحجّة لا ينفى الواقع الموضوعيّ الذى صدرت بصدده هذه المواقف . يخدم التقدّم نحو الشيوعيّة مصالح الجماهير الشعبيّة و في نهاية المطاف الإنسانيّة ككلّ . و هذا سيمثّل تحريرا من الإستغلال و الإضطهاد .
و يرتبط هذا بالمبدأ الأساسي و الحقيقة الجوهريّة القائلة بأنّ الشيوعيّة كنظرة إلى العالم و كمنهج في آن معا موضوعيّة و متحزّبة . إنّها في الوقت نفسه نظرة و منهج علميّين تماما و منهجيّين و شاملين لمقاربة الواقع – لفهم الواقع و تغييره – وهي تتناسب بالمعنى الأشمل مع مصالح طبقة هي البروليتاريا في قيادة النضال من أجل تغيير المجتمع كلّه و بلوغ " الكلّ الأربعة " التي تحدّث عنها ماركس ،و إيجاد عصر الشيوعيّة عبر العالم قاطبة . (47)
(47 – " الكلّ الأربعة " تشخيص لموقف ماركس جرى نشره شعبيّا أثناء الثورة الثقافيّة في الصين . و قد تمّت الإشارة إلى هذا آنفا في هذا النصّ حيث جرى الحديث عن " إلغاء كلّ الإختلافات الطبقيّة و كلّ علاقات الإنتاج التي تقوم عليها هذه الإختلافات الطبقيّة ، و كلّ العلاقات الإجتماعيّة الى تتناسب مع علاقات الإنتاج هذه ، و تثوير كلّ الأفكار المتناسبة مع هذه العلاقات الإجتماعيّة " . و الموقف الأصليّ لماركس الذى منه إستخلص هذا هو التالى :
" هذه الإشتراكية إعلان للثورة المستمرّة ، الدكتاتورية الطبقية للبروليتاريا كنقطة ضرورية للقضاء على كلّ الإختلافات الطبقية ، و للقضاء على كلّ علاقات الإنتاج التى تقوم عليها و للقضاء على كلّ العلاقات الإجتماعية التى تتناسب مع علاقات الإنتاج هذه ، و للقضاء على كلّ الأفكار الناجمة عن علاقات الإنتاج هذه ".
( كارل ماركس : " صراع الطبقات فى فرنسا من 1848 إلى 1850 " ، ذكر فى الأعمال المختارة لماركس و إنجلز ، المجلّد 2 ، الصفحة 282 من النسخة العربيّة لدار التقدّم ، موسكو ).
و كما أكّدت كذلك حديثا :
" على عكس الطريقة التي عادة و حتّى عامة تقدّم بها في هذا المجتمع ، لا تعنى الإيديولوجيا بالضرورة مقاربة أداتيّة " لتنظيم الواقع " بحثا عن أهداف مرغوب فيها ، و هذا ينطوى على صلة صغيرة أو لا صلة بكيف هو الواقع عمليّا . و الإيديولوجيا الشيوعيّة نهائيّا نظرة إلى العالم و جملة من المبادئ للعيش وفقها ، من ناحية ، و في الوقت نفسه ، هي بالمعنى الجوهريّ ، منسجمة مع الواقع و تغيّره و تطوّره ، وهي وسيلة للتعاطى العلمي مع الواقع . لهذا نقول إنّ الإيديولوجيا الشيوعيّة في آن معا متحزّبة – تقف إلى جانب و من أجل جانب محدّد ضمن القوى الإجتماعيّة المتنازعة في العالم ، جانب الثورة البروليتاريّة و التقدّم نحو الشيوعيّة – وهي موضوعيّة : تبحث عن فهم موضوعيّ و علميّ للواقع لأجل تغييره مع التقدّم صوب الشيوعيّة ، و بما أنّ هذا التقدّم ممكن موضوعيّا و إمكانيّته يجرى التعبير عنها بالطريقة التي تنحو بها التناقضات الجوهريّة في المجتمع الإنسانيّ ، على نطاق عالمي ، لا حاجة هناك للشيوعيّين أن يشوّهوا الواقع أو يمسخوه لجعله يتماشى مع أهدافهم و غاياتهم – و بالعكس ، أي تشويه أو مسخ من هذا القبيل سيمضى عمليّا ضد التقدّم نحو الشيوعيّة. و طبعا ، لم يكن الحال دائما أنّ الشيوعيّين قد تصرّفوا في إنسجام مع هذه الحقيقة الجوهريّة – فقد وُجدت نزعات بارزة في تاريخ الحركة الشيوعيّة العالميّة للسقوط في تبنّى أشكال متنوّعة من " الحقيقة السياسيّة " – بكلمات أخرى ، إعتبار أشياء في الواقع على أنّها حقائق فيما هي ليست كذلك بل هي تبدو مناسبة وقتها ( مقاربة شخّصها لينين فلسفيّا و نقدها على أنّها " الحقيقة كمبدأ منظّم " أو " تجربة منظّمة " ). لكن الواقع يظلّ كمسألة مبدأ أساسي أنّ الشيوعيّة كنظرة إلى العالم و كمنهج تنبذ مثل هذه المقاربات الأداتيّة و تقرّ بالمبدأ الأبستيمولوجيّ الجوهريّ أنّه كما وضعت ذلك في نقاش آخر :
" كلّ ما هو حقيقة فعلا جيّد بالنسبة للبروليتاريا ، كلّ الحقائق يمكن أن تساعد على بلوغ الشيوعية . "
( هامش للمؤّلف في " التقدّم بطريقة أخرى " و التشديد في النصّ الأصليّ ؛ و الموقف الأخير المذكور هنا ورد في " بوب أفاكيان أثناء نقاش مع الرفاق حول الأبستيمولوجيا : حول معرفة العالم و تغييره " ضمن كتاب ، " ملاحظات حول الفنّ و الثقافة ، و العلم و الفلسفة " ).
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------
العقل لم " يخيّب أملنا " – العقل مطلق الضرورة – و لو أنّه فى حدّ ذاته غير كافي

ويجرّنا هذا إلى النقطة الموالية من النقاش ، قبل المضيّ إلى خلاصة وهي مسألة ما هو ذو أهمّية كبرى على وجه العموم و على وجه الخصوص بمعنى العلاقة أو المقارنة بين العلم و الدين ، وهي عادة ما تطرح فى عالم اليوم : هل خيّب العقل أملنا ؟
بداية للغوص فى هذا ، يمكننا قول إنّ الحقيقة ، بذاتها و فى حدّ ذاتها ، لن تجعلنا أحرارا ، لكننا لن نصبح أحرارا دون الحقيقة . و هذا وثيق الإرتباط بموقف أنّ " كلّ شيء يمثّل فعلا الحقيقة جيّد بالنسبة للبروليتاريا ، كلّ الحقائق يمكن أن تساعدنا على بلوغ الشيوعية " .
و الواقع هو أنّ التفكير و العلم و نتائج العلم يمكن فى بعض مظاهرها و بعض أبعادها أن تستعملها ليس البروليتاريا فحسب، بل أيضا البرجوازية و الرجعيون الآخرون – يمكن أن تستعمل بغايات و أهداف متباينة جذريّا . شأنه شأن الحقيقة ، العقل – أو سيرورة التفكير العقلي- لن تؤدّي لوحدها و بذاتها و فى حدّ ذاتها ، بالضرورة إلى عالم مختلفا و أفضل جذريّا . لكنّه ليس بوسعنا أبدا أن نبلغ تحرير الإنسانية دون العقل و سيرورة التفكير العقلي – و فوق كلّ شيء ، العقل و التفكير العقلي كما هو مطبّق كجزء من النظرة و المنهج العلميين الأشمل و الأكثر نظامية ودقّة ، نظرة الشيوعية و منهجها .
و فى إرتباط بهذا هناك مسألة النوعين المتباينين جذريّا من القفزات : القفزة من المحسوس إلى المعرفة المفهومية ( أو العقلية ) للواقع ، من جهة ، و من جهة أخرى ، " قفزة فى الإيمان " . فى هذا الإرتباط يساعدنا أن نذكر بعض المقاطع من مقال كتبته فى السنوات الأخيرة معالجا هذا الموضوع :
" مثلما أشار ماو تسي تونغ فى أعماله الفلسفية الهامة ، مثل " فى الممارسة العملية " ، فى كسب الناس للمعرفة ( أو مراكمتها ) هناك مرحلتان أساسيتان : الأولى هي مرحلة المعرفة الحسّية و المرحلة الثانية هي المعرفة العقلية . و بلوغ المرحلة الثانية من المعرفة العقلية لا يعنى و يتطلّب البناء على ما تمّت معرفته من خلال المرحلة الأولى ( الحسّية ) فقط بل كذلك إجراء قفزة فى تنسيق ما تمّ إدراكه : تحديد " معايير " ما جرى إدراكه و الطابع الأساسي و الهويّة الجوهرية للأشياء التى توجد أبعد من المظاهر الخارجية للأشياء ...
و مثلما أشار ماو كذلك ، عندما يعترضنا أي شيء لا نراه سوى بطريقة جزئية و متفرقة ملاحظين بعض مظاهره و ليس " ما يربطها معا " – ما هو الطابع الأساسي لشيء ، ما يعطيه جوهره كجوهر- و كيف أنّه على حدّ السواء مختلف و فى نفس الوقت مرتبط بأشياء أخرى . هذه مرحلة مجرّد إدراك شيء ما ، مرحلة المعرفة الحسّية ...
و فهم الواقع المكتسب عبر القفزة من المعرفة الحسّية إلى المعرفة العقلية ، يصبح بدوره ، الأساس ، والقاعدة التى منها تحلّل المزيد من المعرفة الحسّية المراكمة و تلخّص للقيام بمزيد من القفزات من هذا الصنف ( من المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية مرّة أخرى ثم أخرى ...) . لذا كسب المعرفة من قبل الأفراد و المجتمع و الإنسانية بكاملها – ليس شيئا يحصل " بضربة واحدة " ،و إنّما هو سيرورة مستمرّة . و هذا ينطبق على ط الحياة اليومية " و ينطبق بطريقة مكثّفة فى علاقة بالتطبيق الواعي و النظامي للمنهج العلمي. ولهذا صلة بنقطة أخرى شدّد عليها ماو : ما بعد القفزة من المعرفة الحسّية إلى المعرفة العقلية ، هناك قفزة أعمق – من المعرفة العقلية إلى الممارسة ، فى مسارها يتغيّر الواقع المادي و يجري كسب معرفة حسّية أعمق ما يرسي أسس قفزة أعمق فى المعرفة العقلية ... و هكذا دواليك " ( " قفزة فى الإيمان " و قفزة فى المعرفة العقلية : نوعان مختلفان جدّا من القفزات . نظرتان للعالم و منهجان متباينان جذريّا " ، جريدة " الثورة " عدد 10 ، 31 جويلية 2005 ، التسطير فى الأصل ؛ متوفّر على (www.revcom.us.
و حسب ما يشدد عليه المقال ( و عنوانه ) ، إنّ " القفزة فى الإيمان " هي نقيض القفزة من المعرفة الحسّية إلى المعرفة العقليّة للواقع : " قفزة فى الإيمان " قفزة بعيدا عن الواقع و إلى إستنتاجات أو إستدلالات فى تضارب مع الواقع .
و ذكر المقال عديد الأمثلة التى تسجّل الإختلاف الجوهري بين الصنفين من القفزات : مشاهدة لعبة كرة القدم ؛ التروّى فى الأدلّة كجزء من هيئة حكم ؛ و طفل يتعلّم متى يكون و متى لا يكون آمنا قطع الطريق . و فى كلّ هذه الحالات – و عديد الحالات الأخرى من الحياة اليومية التى يمكن تفحصها ، الفرق يمكن و يجب إستخلاصه بين من جهة التعلّم أكثر عن واقع شيء ما و ثمّ تنسيق ذلك إلى مستوى أرقى من الفهم يركّز ما هو أساسي فى هذا الواقع ( تحديد " المظاهر " فى ما يحسّ و الطابع الأساسي و جوهر الأشياء التى يقع ما بعد المظاهر الخارجية للأشياء " ) وهو ما يحدث فى القفزة من المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية ؛ و من جهة أخرى ، قفزة فى " الإيمان " تعنى القطيعة مع سيرورة معرفة الواقع و تنسيق ما يقع تعلّمه ، تبنّى عوض ذلك مقاربة التعويل على الإيمان الذى لا يستخلص بل بالأحرى يفرض فرضا بقوّة على الواقع و أحداثه ( مثلا : أن نقول لطفل صغير : " لا تخشى حركة المرور ، الله سيرعاك " أو أن نأكّد على " أعلم أن المتهم مذنب لأنّ الإلاه أوحى إلى بذلك " ). بإختصار ، نظرة و منهج علميين يعنيان و يتطلّبان فكرا عقليّا ، بينما النظرة الدينية ب " قفزاتها فى الإيمان " تعنى و تجسّد فكرا لاعقليّا . و مثلما أشرت فى نقاش وجهة نظر مايكل لورنار ، و أبستيمولوجيته بصورة خاصة ، مثل هذا الفكر اللاعقليّ مدفوعا دفعا إلى الطرق اللاعقليّة فى مقاربة الأشياء .
والآن ، متحدّثين عن الفكر العقلي ، عنصر هام منه هو المنطق الشكلي . ( 48) على سبيل المثال ، يمكن أن يتحدّد بوضوح أنّه إذا حدث شيء بعد شيء آخر ، فإنّ الشيء الثاني لم و لا يكون سبب الشيء الذى حصل قبله . ( و من الصحيح أنّه عندما تصلون إلى مستويات معيّنة من المادة التى يبحث فيها المنظّرون الفيزيائيون ، تصبح الأشياء أكثر تعقيدا فى ما يتصل بالزمن و السببية . لكن بالمعنى الأكثر حصرية لمجال الواقع الذى نتعاطى معه عادة فى الحياة اليومية ، فإنّ المنطق الشكلي يمكن أن يؤدّي و يؤدّى إلى الإستنتاج الالح بأنّ شيئا يحدث بعد شيء آخر لا يمكن أن يكون سبب الشيء السابق ) غير أنّه حتى علاوة على المسائل التى يطرحها المنظّرون الفيزيائيون ، للمنطق الشكلي حدوده و هذا مهمّ للفهم كذلك . مشيرا إلى هذه الحدود لاحظ ماو – بطريقته ط الماوية " الخاصة – أنّ فى ما يتعلّق بالقياسات المنطقية ، كل تأكيد هو كذلك إستنتاج. ( هذا مثال آخر عن الترابط الداخلي الجدلي للأشياء الذى شدّد عليه ماو أيضا ). بيد أنّ هل ما يعنيه هذا هو أنّ فى القياسات المنطقية كلّ تأكيد هو كذلك إستنتاج ؟
حسنا ، القياس المنطقي هو ضرب من البناء المنطقي ينطلق من مقدّمة أوّلية أو تـاكيد ثمّ يعيّن مقدّمة ثانية فى علاقة بالأولى و بعد ذلك يستخلص إستنتاجا. مثلا : كلّ شخص فى التكساس لامع؛ كلّ الناس فى لوببوك يوجدون فى التكساس، بالتالي كلّ من يوجد فى لوببوك لامعون .
هذا تتابع منطقي . لدينا تأكيد أو مقدّمة كبرى متبوعة بمقدّمة ثانوية ثم بإستنتاج – و كلّ هذا متناسق منطقيّا . والسؤال هو: هل أنّ المقدمات ( أو التأكيدات ) دقيقة و صحيحة ؟ للإجابة على ذلك ، من الضروري الخروج من القياس الخاص و المنطق الشكلي المعني هنا . كانت تلك وجهة نظر ماو حول كيف أنّه بعدُ فى المقدّمة الأولى أو التأكيد هناك إستنتاج . و الإستنتاج فى هذا المثال هو أنّ كلّ شخص فى تكساس لامع .
لكن من أين تأتّي ذلك الإستنتاج ، كيف تمّ التوصّل إليه ؟ لتحديد ذلك ، و لتحديد إن كان الإستنتاج صالحا ، علينا أن نخطو خطوة إلى الوراء و نجري تحليلا و إستنتاجا بتطبيق المناهج العلمية التى هي اشمل كلّيا من المنطق الشكلي . هل تمّ التوصّل إلى هذه المقدّمة الأولى ( الكبرى ) أو هذا التأكيد بالمناهج العلمية و هل يمكن التثبّت منها و من مدى صحّتها بالمناهج العلمية ؟ لا ، فى هذه الحال ( متحدّثين عن التكساس و مدينة لوببوك ) .
أو لنضرب مثالا آخر ، لرتشارد براير أغنية يقول فيها : " ليس كلّ الإيطاليين فى المافيا ، لكن غالبيتهم يعملون من أجل المافيا " [ ضحك ]. حسنا ، فى الواقع هذا غير صحيح . لكن لنتفحّص هذا عن كثب أكثر . و لنجعل من موقفه الثاني " أشمل " ليصبح : " كلّ الإيطاليّين يعملون من أجل المافيا " . ولنجعل ذلك هو المقدّمة الكبرى لقياسنا . ثمّ يمكن أن نمضي لنقول : جيوزيبي إيطالي ، بالتالي جيوزيبي يعمل من أجل المافيا . حسنا لمعرفة إن كان هذا فعلا صحيحا ، علينا أن نحدّد إذا ما كان التأكيد الأوّل ، المقدّمة الأولى صحيحة أو لا ؟ هل أنّ كلّ الإيطاليين يعملون فعلا من أجل المافيا ؟ ( مرّة أخرى، فى الواقع هذا غير صحيح ) . و بعد ذلك سنحتاج أيضا إلى معرفة إن كانت المقدّمة الثانوية – أنّ جيوزيبي إيطالي – فعلا صحيحة ، قبل أن نتمكّن من تحديد إن كان الإستنتاج صالحا . لذا ليس فقط التأكيد الأوّل بل أيضا المقدّمة الثانية يجب التثبّت من صحتهما فى الإطار الأوسع للإنخراط ، و إستخلاص إستنتاجات عقليّة حول الواقع . بإمكان المنطق الشكلي – و فى الواقع يجب عليه – أن يكون جزءا من هذا لكن بذاته و فى حدّ ذاته ليس بوسعه أن يقول لنا ما هو الصحيح و ما هو غير الصحيح . من المهمّ إستيعاب هذا فى علاقة بالمنطق الشكليّ : لما يصلح المنطق الشكلي و ما هي حدوده ؟
و يمكن أن نواصل هذا إلى ما لا نهاية فنتلاعب بالأمثلة : " كلّ السود جيّدون فى كرة السلّة ؛ جيميس أسود و بالتالي جيّد فى كرة السلّة ". حسنا ، علينا أن نتثبّت من مدى صحّة المقدّمتين الأولتين . هل أنّ كلّ السود جيدون فى كرة السلّة ؟ فى الواقع ليس الأمر كذلك . هل أن جيمس فعلا أسود ؟ لا أدرى ، علينا أن نذهب للبحث عن من هو جيمس و نكتشف ما هي خلفيته وما هو " عرقه "( أو قوميّته ). [ ضحك ]، و مع ذلك رغم حدوده – و بفهم لحدوده – المنطق الشكلي مهمّ فى إطار مقاربة علمية و عامة و شاملة و على أساسها ( و هذا مرّة أخرى ، تعبّر عنه أتمّ التعبير نظرة الشيوعية و منهجها : المادية الجدلية ).
المنطق الشكلي ، مثل التفكير العقلي ( أو العقل ) بشكل أعمّ ، ضروري لكنّه بذاته ليس كافيا.

" الإيمان " الديني – لنسمّيه كما هو : لا عقلي

و لنتحدّث أكثر بعض الشيء عن الإيمان كنقيض للمنطق و العقل . فى الإنجيل ، بكلمات بول ( أو كلمات بأي حال تسند لبول) نجد التالي :" الآن الإيمان ضمان للأشياء المأمولة ، قناعة بالأشياء غير المرئية ". و" لا تنظر إلى ما يمكن رؤيته بل إلى ما لا يمكن رؤيته ؛ لأنّ ما يمكن رؤيته مؤقّت ، لكن ما لا يمكن رؤيته أبدي ". ( أنظروا الرسالة إلى العبرانيّين 11:1 و رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوسَ 4: 18).
صراحة هذا مشابه جدّا للتفكير ( اللاعقلي ) لكاران آرمسترونغ حول الأسطورة . ما تتمّ المحاججة من أجله هو أنّ للإيمان معاييره الخاصة للصلوحية ، و هي ليست المعايير التى يرسيها العلم . و بالفعل ، إدعاء أنّ للإيمان صلوحية مستبعد بصراحة من مجال العلم ذلك أنّ العلم قناعة – بماذا ؟ بأشياء غير مرئية – أشياء ليست غير مرئية و حسب بل لا يمكن رؤيتها فى الأصل و ما أهمية هذا ؟ مثلما رأينا فى كورانثيان الثاني " ما يمكن رؤيته مؤقّت "- إنّه من هذا العالم ، و بكلمات أخرى ، " ما لا يمكن رؤيته أبدي ".
هنا نعثر على حشو آخر فى الكلام . لقد وقع إختراع مجال ،ما بعد العالم الفعلي – و فى الأصل الأشياء المنتمية إلى هذا المجال لا يمكن التثبّت منها – و ثمّ وقع التصريح بأنّه نظرا لأنّ نوع هذا المجال " العالم الآخر " الذى لا يمكن التثبّت منه، أهمّ من العالم الذى يمكن تجربته و التثبّت منه ، و من ثمّة وقع إستخلاص إستنتاجات عقلية. و هذا منطقيّا لا يختلف عن المحاججة التالية : أ أكبر من ب لأنّ ب أصغر من أ .
هذا الإيمان بطبيعته ذاتها هو إعتقاد بعيد عن مجال التفكير العقلي . إنّه لا يعنى حتى بالضرورة منطقا شكليّا متناسقا لكن و أكثر جوهرية من ذلك ، و حتى حيث يمكن أن توجد تعبيرات للإيمان الديني تتناسق مع المنطق الشكلي – فإنّ مقدّمات الإيمان لا تتطابق مع الواقع و مع المقاربة العقلية للواقع: يمكن بالمناهج العلمية إثبات عدم صحّتها ، أو يمكن إثبات أنّه لا أساس لها فى أي شيء يمكن حتى إثبات و تحديد أنّه صحيح . لذا لنستبعد الإيمان من المكانة الرفيعة التى يبدو أنّها أسندت له من طرف المصالح الحاكمة و المؤسسات المهيمنة للمجتمع الرأسمالي المعاصر ( و المجتمعات السابقة ) ، و نعطي للإيمان نعته الصحيح : الإيمان ليس شيئا آخر سوى لاعقلانيّة .

لا يوجد إلاه – و لا وجود لسبب وجيه للإعتقاد فى إلاه

و نصل إلى المسألة العامة لواجب إقامة الدليل على صدق الدعوى . عادة ما نسمع المتدينين يحاججون : " رغم ما تقولونه، لم تدحضوا و ليس بوسعكم دحض وجود الله " . حسنا يمكنكم أن تواصلوا لعب هذه اللعبة إلى الأزل . لا يمكنكم أن تدحضوا أنّه بالضبط الآن هناك ديناصور غير مرئي يحوّم فى السماء فوقنا . [ ضحك ] إذا أعلنت " بالإيمان " أنّ هناك مثل هذا الديناصور لكنّكم ببساطة لا تستطيعون رؤيته – هل يمكنكم دحض ذلك ؟ فى الصل ليس وبسعكم لأننى لست بصدد تقديم أية مميزات لهذا الديناصور المدعى بنقدوركم التثبّت منها فى العالم الواقعي .
أو ، إن كنت لأخبركم بأنّ صديقي جايمس ( غير المرئي ) هنا – وهو بالمناسبة موجود – سيقوم بسرقتكم و قتلكم لاحقا اليوم ، ستطلبون منّى بعض الدلائل على هذا . [ ضحك ] و إن لم أستطع أن أوفّر أي دليل آخر سوى تأكيدى على هذا – أو بالإستشهاد ببعض " الجمل المقدّسة " التى كتبتها لدعم هذا ( " و ظهر جيمس فى سترة عظيمة من الضوء و الضوء بيّن كلّ شيء عنه ، حتىّ أنّ الآخرين لم يستطيعوا رؤيته : لكن جيمس كان شيطانا ومصمّما على سرقة الجميع و قتلهم " ) – إذا كان هذا ما قدّمته كدليل ، ستقولون إنّنى ربّما أحتاج إلى بعض المساعدة من قبل أخصّائي فى الأمراض الذهنية . [ ضحك ] فى تلك الحالة ، ستشدّدون عن حقّ تماما : " إذا كنت ستقول إنّ شيئا موجودا لا يراه أحد ، و لا وجود لواقع مادي يبيّن وجوده ، عليك أن تعطينا دليلا على ذلك . "
إذا حدّثتكم عن إلاه مختلف عن الإلاه الذى صرتم تعتقدون فيه و قلت إنّ هذا الإلاه أقوى من إلاهكم و إنّ أشياء فظيعة ستحصل لكم لو لم تتبعوا هذا الإلاه و إنّ إلاهكم ليس بوسعه أن يوفّر لكم أية حماية من هذا الإلاه الأقوى و الفظيع – ستقولون لى : " هات حجّتك " ؟
فى مثل هذه الأوضاع يمكن على الفور رؤية ، و الناس سيوافقون على الفور على أن المسؤولية تقع عن حقّ على كاهلي أن أدلّل على شيء لا دليل عليه فى العالم المادي الحقيقيّ . و سبب إجابة الناس بهذه الطريقة فى هذه الظروف هو أنّهم لم يكيّفوا إجتماعيا للإعتقاد فى هذا الإلاه الخاص الغريب عنهم – الحال مع هذا الإلاه الخاص ليس كما لو أنّ العلاقات و الهياكل و المؤسسات و الأفكار و الثقافة المهيمنة فى المجتمع الذى يعيشون فيه قد إشتغلت لتجعلهم يشعرون كما لو أنّ الإيمان بهذا الإلاه مجرّد " أمر طبيعي " و سيجعل منك نوعا ما " غريب الأطوار " عدم الإيمان بهذا الإلاه ، لكن حينما يتعلّق الأمر بإلاه تعلّم الناس و تكيفوا للإيمان به ، فجأة يريدون المحاججة بأنّه على الذين لا يؤمنون بوجود هذا الإلاه أن يدلّلوا على أنّه لا يوجد ، حتى و لو أنّه لا وجود لأدلّة أكثر فى العالم المادي الواقعي على وجود ذلك الإلاه نسبة لأيّة آلهة أخرى . وهذا يذكّرنا بملاحظة سقتها قبل بضعة سنوات : " كلّ دين فى العالم يعتقد أنّ كلّ دين سواه تطيّر . و جميعهم على حقّ ".
أحيانا سيحاجج الناس : " لعلّ الإلاه لا يوجد بالنسبة لك لكن الإلاه يوجد نهائيّا بالنسبة لي " [ ضحك ] . حسنا ، عندئذ هو ببساطة إلاه من إختراعك. [ مزيد من الضحك ] ذلك أنّه إن كان إلاه موجود حقّا فهو موجود بالنسبة للجميع – بما فى ذلك بالنسبة لى أنا – حتى و إن كنت لا أؤمن بإلاه . فى الواقع ، لأسباب تحدّثنا عنها سابقا ، بفعل الإيمان بآلهة متنوّعة قد جرت مأسسته – بفعل تأكيد المؤسسات المهيمنة لمجتمع معيّن على أنّ هذا الإلاه أو ذاك موجود – بفعل هذا و حسب يؤمن العديد من الناس بهذا الإلاه أو ذاك و يشدّدون على : " إن كنت تنكر وجود هذا الإلاه، عليك أن تثبت عدم وجوده ". و هذا قلب للواقع رأسا على عقب . ليس على الذين لا يؤمنون بإلاه أن يثبتوا عدم وجود شيء لا يوجد – و لم يقع تقديم أي دليل على وجوده . [ ضحك ]
و بالنسبة للذين يواصلون التأكيد رغم كافة الأدلّة على العكس بأنّ الآلهة الخياليّة التى إخترعها الناس موجودة حقّا ، من الضروري أن نقول لهم : " عليكم أنتم أن تقدّموا الدليل على ذلك . وهذا الدليل يجب أن يكون شيئا آخر غير الحجج فى دائرة فارغة مثل : " يقول الإنجيل إنّ الإلاه موجود ؛ والإنجيل حقيقة؛ بالتالي الإلاه موجود " . قدّم أدلة عملية عن هذا الإلاه فى العالم الواقعي – كيف أنّ هذا الإلاه ( و ليس فقط مجرّد إعتقاد فى هذا الإلاه ) قد تمظهر فى العالم الواقعي و كان له تأثير على الأشياء فى العالم الواقعي . قدّم حججا و براهينا عن وجود هذا الإلاه يمكن التثبّت منها " فى العالم الواقعي .
و من الضروري التأكيد على أنّ المقاييس و المعايير ذاتها التى تطبّق على الشياء الأخرى تنطبق أيضا على تأكيدات عن وجود إلاه : إذا إفترض أحد شيئا فعليه هو أن يقدّم الدليل على ما إفترض . إن كنت أتوقّع أنّ إعصارا سيضرب مدينة ، فى مكان ما ألف ميل عن أي محيط ، وسط فصل الشتاء ، فعلي أنا أن أقدّم الدليل على هذا الإدعاء . أو إن كنت أدعى أن فى السنة القادمة سيولد إنسان سيكون قادرا بمفرده على الطيران حول خطّ إستواء الكرة الأرضية فى عشر دقائق ، علي أنا أن أقدّم الدليل على هذا. و إن إفترض أي كان وجود إلاه يمكن معرفة وجوده فقط عبر " الإيمان " عندئذ على هذا الشخص أن يقدّم الدليل – غير حجج الحشو فى الكلام عن الإيمان – عن وجود ذلك الإلاه. فمجرّد قول " إخترت أن أعتقد فى أنّ الأمر كذلك ، كمسألة إيمان " لا يجعل من هذا شيئا آخر سوى فهم ذاتي من جانبك – وهو شيء لا وجود لسبب وجيه لمعانقته و الإيمان به إذا لم تستطع أن تقدّم أي دليل عليه فى العالم الواقعي . و قول " حسنا أؤمن بذلك و هذا صحيح لأنّه مهمّ بالنسبة إليّ " ليس دليلا على وجوده الفعلي . إنّه دليل فحسب على حاجتك النفسية للإعتقاد فى ذلك . لم يقع تركيز اي شيء أبعد من تلك الحاجة النفسية بإدعائك أنّ هذا الشيء يوجد لأنّ الإيمان به يجعلك تشعر بحال أفضل ، أو أنّك تعلم أنّها مسألة إيمان . هذا يعرّفنا فحسب بشيء عنك و ليس عن وجود هذا الشيء الذى تسميه إلاها .
لذا ، "جوهر الأشياء غير المرئية " يعنى الإيمان لا جوهر له . و هذا ليس تفكيرا عقليّا . إنّه تفكير لاعقلي بطريق الحتم يميل إلى و يعير نفسه إلى التفكير اللاعقليّ و يؤدى إلى النشاط اللاعقليّ – نشاط هو نوعيّا و أساسا خارج إطار الواقع .
و مثلما تمّ التشديد عليه سابقا ، تسمية ذلك بأنّه لاعقليّ ليس مسألة شتيمة بل مسألة تحليل علمي . و بينما ليس هناك أساس علمي او عقلي للإعتقاد فى أي إلاه أو أية كائنات ما وراء الطبيعة من أي نوع كانت ، هناك أساس عقلي و علمي لإدراك التأثيرات الضارة جدّا للإيمان بالآلهة و ما وراء الطبيعة ، و الدور السلبي للدين فى تاريخ المجتمع الإنساني و فى هذا العصر من تاريخ الإنسانية خاصة .
هنا ، المقتطف التالي من " علم التطوّر و أسطورة الخلق – معرفة ما هو حقيقي و لماذا هو مهمّ " الذى يردّ على إدّعاء أنّ الدين خارج إطار البحث العلمي ، مفيد للغاية :
" برأيى لاعلمي جدّا إدّعاء أنّه " ليس للعلم أيّ شيء يقوله عن الدين " . طبعا صحيح أنّ العلم ليس بوسعه إثبات وجود أية قوّة ما وراء الطبيعة هي فى الأصل ( و المؤمنون يقبلون بهذا ) ما لها وجود محسوس فى العالم المادي الطبيعي . لكن ماذا عن أفكار البشر عن الآلهة و قوى أخرى ما وراء الطبيعة؟ أليس للعلم ما يقوله عن هذا ؟ ألا يمكن تطبيق المناهج العلمية لكشف من أين تتأتى مثل هذه الأفكار و كيف أعطاها الإنسان تعبيرا ماديّا ؟ و ماذا عن التاريخ الإجتماعي الذى يجّل بالملموس متى و كيف أنّ الإنسان فى مختلف أنحاء العالم شرع فى رواية أو كتابة حكايات عن مجالات ما وراء الطبيعة متنوّعة ( الجذور الإجتماعية لأنواع عديدة مختلفة من أساطير الخلق و الكتابات الدينية من جميع أنحاء العالم )؟ و ماذا عن الأدوار التى لعبها الإيمان و لعبتها التقاليد و الممارسات الدينية ، و الأهداف التى قد خدمتها فى كلّ شيء من المستوى الفردي الشخصي إلى المستوى الإجتماعي (و العالمي ) الأوسع ؟ وماذا عن تاريخ كيف أنّ العقائد الدينية قد غيّرت عبر الزمن ( مهما حدث مثلا لالهة مصر و اليونان وروما القديمين ، التى إعتاد الناس على الإيمان بها بصلابة مثلما يؤمن فى أياّمنا المعاصرة هذه أناس بإلاه الكتب اليهودية و المسيحية و الإسلامية ) ؟
أليس بوسع ذات نوع المناهج العلمية المستعملة للبحث فى مسائل فى أي علم تاريخ آخر (التطوّر ، علم الكون ، الأركيولوجيا، اللسانيات المقارنة و ما إلى ذلك ) أن تطبّق للبحث فى تاريخ الإيمان الإنساني بقوى ما وراء الطبيعة ؟ وأليس بوسع المناهج العلمية أن تطبّق لكسب فهم أفضل لكيف أنّ بعض المعتقدات الدينية قد جرى أحيانا التشجيع عليها و الترويج لها رسميّا أو بالعكس جرت محاصرتها بقسوة أو حتى كانت هدفا للسحق ؟ كلّ هذه الظواهر – و المعتقدات الإنسانية المتنوّعة ذاتها فى مجال ما وراء الطبيعة – لها بما لا يدع مجالا للشكّ وجود واقعي ملموس و مادي حتى و لو أنّ مواد مثل هذه المعتقدات ( آلهة او قوى ما وراء الطبيعة أخرى ) فى الأصل ليس لها مثل هذا الوجود المادي الملموس ...
بإختصار ، سأحاجج بأنّ تطبيق منهج علمي – و بصورة خاصة نظرة و منهج المادية الجدلية و التاريخية – لبلوغ فهم ما يمثّله الدين ، و كيف أنّه يؤدّى عمليّا إلى الفهم المرتّب للواقع و تغييره ، وهو على حدّ السواء ممكن و ضروريّ . ( آرديا سكايبراك ، " علم التطوّر و أسطورة الخلق – معرفة العالم الواقعي و لماذا هو مهمّ " ؛ الصفحات 291-292 ، التسطير فى النسخة الأصلية ) .
الدين أفيون الشعوب – و حاجز أمام التحرّر

و يفضى بنا هذا إلى مسالة : ما هو دور الدين – و هل هو ضار حقّا ؟ يقول العديد من الناس " " حسنا ربّما هو غير صحيح لكن ما الضرر فى ذلك ؟ إنّه يجعل الناس يشعرون بأنّهم على أحسن حال – يتوفّى إنسان محبوب ويريدون أن يعتقدوا انّ هذا الإنسان يذهب إلى الجنّة ، و عندما يموتون سيلتقون به . أو يحدث شيء فظيع فى حياة إنسانة و تريد أن تتلقى عزاءا و سلوانا فى الإعتقاد فى أنّه هناك غاية أكبر يوجّهها إلاه ما ، تجعل لهذا معنى بشكل ما . كيف لهذا أن يتسبّب فى أيّ ضرر ؟ ".
حسنا لنستعير كلمات أغنية ستيفى ووندار " التطيّر " : " عندما تعتقدون فى أشياء وهي غير موجودة و تواجهون معاناة، التطيّر فى طريقه إليكم " [ ضحك ] ( عمليّا يقول " عندما تعتقدون فى أشياء لا تفهمونها ..." – لكن الأمر سيّان ) . إنّكم تعانون حينما تعتقدون فى أشياء أنتم لا تفهمونها فحسب بل إنّ ذلك فى الأصل لا تستطيعون فهمه . و سواء كان ستيفى ووندار يفكّر أم لا فى الدين لمّا قال ذلك ، فإن الأمر ينسحب على الدين قطعا .
الآن قد يحاجج البعض " لست ستيفى ووندار لذا من أنت لتقول إنّ ذلك ينسحب على الدين ؟ "[ ضحك ] كيف يمكّننى قول ذلك ؟ حسنا ، إنّه بسيط و أساسي : أنا إنسان يرى بكثير من الوضوح أنّه إن كنت تعتقد فى أشياء لا تفهمها و أنت تواجه معاناة ، عندئذ التطيّر بالفعل فى طريقه إليك . و هذا أصحّ حتى أكثر لمّا تعتقد فى أشياء لا تفهمها و ما هي بموجودة حتّى.
حينما تبنى حياتك و تحدّد مسارها أو تحاول القيام بذلك عن طريق الإيمان بهذه الأشياء ، ستواجه المعاناة . يمكن أن تبحث و حتى أن تبلغ بالمعنى القريب المدى بعض العزاء المؤقّت إلاّ أنّك ستمرّ عبر الحياة بطريق هي جوهريّا بعيدة عن المسك بالواقع ، إلى درجة أنّ هذا الإيمان يقود كيفيّة نشاطك و كيف تنظر إلى الأشياء . لن يكون العزاء طويلا أبدا لأنّ الحياة لن تفتأ تأكّد ذاتها . و فى ظلّ نظام من هذا القبيل ، بالنسبة لغالبية الناس فى العالم ، بإستمرار سيفرز الفظائع .
و مثلما قد ناقشت ، بعض الناس – ذوى القلوب الطيّبة و النوايا الطيبة – يحاولون إستعمال الإنجيل ، خاصة العهد الجديد و بصورة خاصة أكثر كلمات المسيح عينه ،كأساس للترويج للتسامح و التنوّع ، و الوقوف ضد التمييز و اللامساواة و النضال ضد الإضطهاد و الترويج للسلام ، و حتى كطريقة لمحاولة تقديم رؤية ملهمة لعالم أفضل . لكن الواقع هو : هذا لن يجدي نفعا ، لن ينجح .
و الآن من المهمّ أن تفهم لماذا عديد الناس ، لا سيما الناس المضطهَدين فى العالم يبدون بهذا الجنون و غير متسامحين ، عادة يتوجهون إلى الدين آملين أن يجدوا فيه شيئا صلبا يمكن أن يجعل الأمور تتماسك وسط كلذ هذا الجنون . لقد تحدّث ماركس عن الدين بإعتباره " أفيونا للشعوب " إلاّ أنّ ماركس لم يقارب هذا على نحو بسيط ذهنيّا . لقد قال أيضا إنّه " قلب عالم لا قلب له " . هذا العالم الرأسمالي لا قلب له . إنّه يعامل الناس كأشياء تستعمل ثمّ يرمى بها فى سقط المتاع – و يفعل هذا حتى مع الأطفال نعلى نطاق واسع وبأكثر الطرق فظاعة . و هذا ، عفويّا يعزّز دفع الكثير من الناس نحو الدين ، نحوالبحث عن طريق وهميّة للخروج من العالم الذى لا قلب له .
و فى ما يتّصل بالدور المخدّر ( " أفيون " ) للدين أودّ أن أستخدم المثال التالي . يتوجه كثرة من الناس إلى الدين و خاصة إلى نوع إطلاقيّ من الأصولية الدينية كطريقة للتعاطي مع كافة أسى الوضع الذى يجد المرء نفسه فيه غارقا فى الديون – إنّهم مدانون حيثما ولّوا بوجوههم ، مدانون بهذا و مدانون بذاك – و ثمّ هناك الشركات الإشهاريّة : سوف نجمع كلّ ديونكم فى دين واحد . سنسدّد كلّ ديونكم و فقط بإمكانكم أن تدفعوا لنا ( مع ربح طبعا ) ، عوض محاولة تسديد كلّ هؤلاء الذين تدينون لهم " . حسنا دور الدين ، خاصة الدين الأصولي هو أخذ كلّ أسى الشخص و لوعته و تجميعها فى أسى و لوعة كبيرين . [ ضحك و تصفيق ] .
لكن إلى جانب عدم تقديمهم للناس أي مخرج حقيقي ، ما ينتهى إليه الأمر هو توبيخ الناس لمعاناتهم و إضطهادهم و ظروفهم الخاصة البائسة .
كثير من الناس ، وهم يشعرون بأنّ آمالهم فى حياة أفضل قد تحطّمت فى هذا العالم قد سقطوا إلى الخلف فى الأمل فى مستقبل أفضل فى وجود آخر ، مستقبلي ، و يبحثون عن تنظيم حياتهم حول الإعداد لهذه " الحياة المستقبلية " المفترضة. المشكل مرّة أخرى هو أنّ هذا وهم . و هذا البحث عن الفرح أو الراحة من عذاب على هذا النحو لا يمكن أن يفضي إلى رضى يسعى الناس وراءه . مثل مخدّر ، الراحة أو الهروب الذى يوفّره هذا النوع من الإيمان الديني ليس كافيا أبدا . تحتاجون دائما إلى " تصحيح " آخر و سرعان ما يتحوّل هذا بعدُ إلى قيد آخر بأيدى الناس .
و أكثر جوهرية ، المسألة هي أنّنا لا نريد – و أبعد من ذلك ، لم نعد فى حاجة إلى – أن نسجن أنفسنا فى عالم لا قلب له . نحتاج و بمستطاعنا أن نوجد عالما له قلب : عالم محرّر من إضطهاد و بؤس تفرضهما و تعزّزهما و تتحكّم فيهما طريقة هيكلة المجتمع الإنساني . عالم فيه لا يفكّر الناس كلّ فى الآخر – و لا يعاملون بعضهم بعضا – كمجرّد أشياء تستعمل و يستفاد منها . الدين ، على الأقلّ كما يمارسه الناس حقّا الأكثر رحمة و تقدّمية اليوم ، قد يهدف إلى توفير العزاء – خلاص لأناس فى وضع يشارف الموت و عذاب – لكنّه بوسعنا أن نوجد عالما لا يعود فيه الناس فى حاجة إلى هذا النوع من العزاء لأنّ الفقر و الإضطهاد و كلّ العذاب الذى لا حاجة له المرتبط به ، سيتمّ القضاء عليهم و إجتثاثهم إلى الأبد ، إلى جانب الأفكار و الثقافة التى تعزّزهم .
لكن من أجل القيام بهذا ، علينا أن نواجه الواقع كما هو فعلا . نحتاج أن نواجه الواقع و نغيره ، واقع المجتمع الإنساني و كذلك الطبيعة بنظرة و منهج علميين واعيين و صريحين . و المسألة هي : لأوّل مرّة فى تاريخ الإنسانية ، هناك إمكانية القيام بذلك . مقارنة بهذا ، العقيدة و التقاليد الدينية و الطريقة الدينية لرؤية الواقع تقلّص – و بالفعل تؤدّى بعيدا عن ما أصبح لأوّل مرّة ممكنا بالنسبة للإنسانية .
و فى إرتباط وثيق بهذا هناك مسألة " الخطيئة " و هذا المفهوم مكوّن هام من الدين الذى أتحدّث عنه. إنّ الخطيئة محدّدة كإنحراف عن طريق الإلاه . و لهذا المفهوم من " المعصية " وزن هائل على كاهل جماهير الشعب. إنّه مرفوق ب – و يولد و بإستمرار يعزّز- معنى العار و الذنب و الخوف و كما رأينا فهو حتى يروّج لفكرة أنّ الأشياء مثل المرض تتسبّب فيها الخطيئة أو إمتلاك الشيطان للبشر ( " لدي هذا الطفل شيء خاطئ ، تملّكه الشيطان " ) . و هذا يبعد الناس عن فهم و معالجة ما يحصل فعلا و ما هو المشكل فعليّا لدى الأشخاص و أكثر جوهرية ما هو مشكل المجتمع والعالم .
ومثلما أشرت فى " وضع حدّ ل " الخطيئة " ( المبحث الثاني فى كتاب " التبشير من منبر العظمة..." ) ، هناك شيئان معنيان هنا . أحدهما هو أنه لا وجود لشيء إسمه " خطيئة " – هذا القياس المنطقي الشكلي صالح لأنّ مقدّماته صحيحة : مفهوم" الخطيئة " إنحراف عن طريق الإلاه ؛ لا وجود لإلاه ؛ بالتالي لا وجود لخطيئة . و هذا صحيح موضوعيّا و هام بديهيّا ، لكن ما هو كذلك صحيح موضوعيّا هو أنّه ثمّة مفهوم الخطيئة الذى يحطّ بثقله على كاهل الجماهير الشعبية . و من جديد ، ما هو تأثير ذلك و إلى درجة كبيرة الهدف من التبشير بمفهوم الخطيئة هذا ؟ إنّه الترويج لفكرة أنّ شخصا يعاني من العذاب و عموما جماهير الشعب المضطهَدة هي المسؤولة عن معاناتها الخاصة . يجب أن تكون أنت قد قمت بشيء ما خاطئ ، يجب أن تكون أنت من أغضب الإلاه ، يجب أن تكون أنت من زاغ عن الطريق القويم .
هذا ما يتمّ الترويج له بمفهوم " الخطيئة " – عوض النظر فى الأسباب الواقعيّة . و إن لم تنظر إلى الأسباب الواقعيّة ، إن لم تنظر إلى المشكل الواقعي ، كيف يمكنك أن تقضي على الأسباب الواقعية ، كيف يمكنك أن تجد الحلّ الواقعي ؟ إذا فكّرت فى أن المشكل كامن فيك ، كل ما بإستطاعتك فعله هو أن تحبط .إنّه إضافة شتيمة إلى جرح . إنّه وزر إضافي يوضع على كاهل الناس المضطهَدين . فكّر فى كم هو فظيع العذاب اليومي نتيجة سير هذا النظام ، ثمّ يسرّب إليك أن ذلك ليس سبب معاناتك – إنّك تعاني لأنّ لديك أنت شيء خاطئ و بطريقة ما أنت من قام بشيء خاطئ .
لا تقولوا لي لا ضرر من الدين . إنّ ضرره هائل .



لا وجود لشيء لا يتغيّر و غير قابل للتغيير، طبيعة الإنسان

فى علاقة بالمفاهيم الدينية هناك فكرة " طبيعة الإنسان " – و خاصة بعض الطبيعة الإنسانية الجوهرية غير القابلة للتغيير تتسبّب فى إقترافهم الخطأ ، فى إلحاق الضرر بالبشر الآخرين. كم مرّة سمعنا : " طبيعة الإنسان " هي بالضبط كالتالي ؛ إنّ الناس بطبيعتهم خطّاؤون " ؟ أو " الناس بطبيعتهم أنانيّون – إنّها بالضبط " طبيعة الإنسان " أن يدوس المرء على كلّ شخص آخر ". فى الحقيقة ، هذه ليست ميزات تمثّل جزءا من " طبيعة " الإنسان التى لا تتغيّر و غير القابلة للتغيير . هذه النزعات عند الناس إنعكاس و إمتداد لعلاقات الإنتاج و العلاقات الإجتماعية و الثقافة المناسبة و كذلك للحكم السياسي للنظام- نظام يشجّع على و يملي على الناس أن يعملوا بهذه الطريقة . يدفع الناس إلى المنافسة و حتى إلى عداء بعضهم لبعض على طول الوقت – على حدّ السواء بسياسات و تصرفات واعية للطبقة الحاكمة و بالديناميكية و السير الكامنين للنظام الرأسمالي – الإمبريالي . فى ظلّ هذا النظام ، حتى الحصول على عمل ، حتى الحصول على وسائل العيش ، تدفع إلى المنافسة مع أناس آخرين. و يحصل هذا عبر سير النظام الرأسمالي ، مثلما حصل فى الأنظمة الباقية المؤسسة على إستغلال الكثيرين من قبل فئة قليلة و إضطهادهم . لقد ميّز ذلك المجتمع الإنساني ليس منذ " الزمن الغابر " ، بل منذ زمن تجاوز و تعويض مجتمعات المشاعيّة الأولى بمجتمعات قائمة على إحتكار الثروة ( و وسائل إنتاج الثروة ) و كذلك إحتكار السلطة السياسية و الحياة الفكرية من طرف جزء صغير من المجتمع (49) .
فى " بؤس الفلسفة " ، أبدى ماركس ملاحظة غاية فى الأهمّية بهذا الصدد : " ليس كلّ التاريخ سوى التغيّر المستمر لطبيعة الإنسان ". و فى هذه الجملة يتكثّف قدر هائل من الحكمة ، إن أردتم . و ينبع هذا من – و يكثّف بطريقة عميقة – تحليل ماركس لكيف أنّه فى أية جملة من الظروف المعينة يدخل الناس فى مجتمع فى علاقات مع بعضهم البعض لأجل تلبية الحاجيات المادية للحياة . و علاقات الإنتاج هذه هي بدورها محدّدة تاريخيّا – ليست مختارة حسب مشيئة أناس يدخلون فيها ، تتحدّد جوهريّا بطابع قوى الإنتاج المعطاة ( الموارد و التقنية إلخ و كذلك الناس و معرفتهم ) . وتترافق علاقات الإنتاج السائدة بعلاقات إجتماعية معيّنة . و ناهضة على أساس نمط الإنتاج – مجسّدة علاقات الإنتاج السائدة – توجد بنية فوقية ( أشكال حكم سياسي ومؤسسات و طرق تفكير و ثقافة ) تنشأ عنها و تعزّز علاقات الإنتاج الكامنة و العلاقات الإجتماعيّة المتناسبة معها . و علاوة على ذلك ، و ذو أهمّية حيوية ، بيّن ماركس كيف أنّ تطوّر المجتمع الإنساني لا يتمثّل فحسب فى التغيّر التطوّري زيادة بل تدفعه بإستمرار جدلية التفاعل بين قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج ، و بين القاعدة الإقتصاديّة والبنية الفوقية السياسية – الإيديولوجية ؛ و أنّ هذا يشمل بصفة متكرّرة قفزات و قطيعة جذرية من شكل لآخر من المجتمع ، مجتمع مختلف نوعيّا ؛ و أنّه فى ظروف حيث علاقات الإنتاج السائدة صارت أكثر إعاقة لقوى الإنتاج منها شكلا مناسبا لمزيد تطوّرها ، فإنّ الحاجة إلى تغيير ثوري للمجتمع ، لتغيير ثوري ، فى البنية التحتيّة و البنية الفوقيّة ، سيجد التعبير عنه بشكل متنامي فى مجال البنية الفوقية – فى صياغة أفكار وبرامج تبحث عن تحقيق أو منع التغيير الثوري، و فى الصراع السياسي لتحديد إتجاه المجتمع ، ما سيتّخذ فى النهاية أكثر تعبير مركّز عنه فى الصراع العسكري لتحديد من ( أيّة طبقة ممثلة أية طريقة لإنجاز الإنتاج ، عبر أي علاقات إنتاج ) ستمارس السلطة فى المجتمع . لنختزل الأشياء فى جملة واحدة : حين تُعرقل علاقات الإنتاج قوى الإنتاج ، ستوجد حاجة إلى ثورة فى البنية الفوقية ، إلى إيجاد شكل جديد من الحكم السياسي ؛ و ممثلو الطبقة التى تمثّل علاقات الإنتاج الجديدة الصاعدة ، سيصوغون أفكارا وبرامجا و يحرّكون الجماهير الشعبية حولها لأجل خوض الصراع لإفتكاك السلطة و على ذلك الأساس تغيير المجتمع فى إنسجام مع مصالح ووجهة نظر تلك الطبقة ، منشئين قاعدة إقتصادية و بنية فوقية جديدين نوعيّا .
إلى درجة كبيرة ، كلّ هذا مكثّف فى صيغة ماركس المكثّفة :" ليس كلّ التاريخ سوى التغيّر المستمر لطبيعة الإنسان" . و تبعا لذلك ، ما يبدو " طبيعيّا " فى عصر ، يبدو غير طبيع جدّا فى عصر آخر . لقد أدلى ماركس بذلك التصريح حول مستقبل الشيوعية – أنه فى ذلك العصر المستقبلي ، سيبد سخيفا و فظيعا لشخص يمتلك جزءا من الكوكب ، كما يبدو الآن لشخص يملك شخصا آخر. لكن لآلاف السنين ، لم يبدو ذلك بالمرّة سخيفا و فظيعا ، على الأقلّ بمعنى وجهة نظر الطبقة الحاكمة و الأفكار السائدة فى المجتمع أن يملك شخص شخصا آخر. كان ذلك مُعتبرا " طبيعيّا " جدّا – كان " فى إنسجام مع طبيعة الإنسان " أن الأشياء كانت على ذلك النحو – هكذا كانت العلاقات السائدة والأفكار المناسبة لها .
فى هذا العصر حيث تحرّك المجتمع الإنساني إلى نقطة اين نمط الإنتاج الرأسمالي قد ترسّخ على نطاق واسع – أو على الأقلّ كلّما ترسّخ تقريبا بإحكام نمط الإنتاج الرأسمالي – فإنّ فكرة و ممارسة أنّ بعض البشر يملكون آخرين و يستغلّونهم ضمن عبودية سافرة و تامة ، ليس فى توافق مع مراكمة الربح من قبل الرأسماليين . فالرأسمالية تحتاج إلى طبقة تستغلّها ليست مستعبدة تماما : بسبب حركة رأس المال و الطريقة التى بها تتنافس مختلف الرساميل و تعمل عبر المنافسة إلى المزيد من مراكمة الثروة ، هناك أوقات أين من صالحهم أن يسرّحوا بعض ( أو حتى الكثير من ) العمّال . إذا إشتريت عبدا و لم تسترجع إستثمارك الأوّل ، إلى جانب قدر إضافي [ ربح ] ، ستعرف مشاكلا إقتصادية . إذا تخلّصت من ذلك العبد قبل أن تسترجع ما إستثمرته فى شرائه ، خسرت فى إستثمارك . لكن إن كنت رأسماليّا ، لن تدفع دفعة واحدة قدرا من المال لإمتلاك شخص . تدفع للعمال بالساعة أو باليوم أو الأسبوع أو شيء من هذا القبيل و بسرعة عندما لا يعود إستخدامهم مربحا لك بهذه الطريقة ، تتخلّى عنهم و لست مسؤولا عن منحهم أجورا بعد ذلك . لم َ تقدّم إستثمارا مسبّقا لشرائهم ، ما عليك إلاّ أن تعوّض الخسارة بجعلهم يعملون لديك لفترة من الزمن ز لذا من غير المربح ، عموما ، فى ظلّ نمط الإنتاج الرأسمالي – أينما قد ترسّخ تقريبا بإحتكام – شراء الناس و تملّكهم كعبيد ، جعلهم تماما ملكيتك و إستغلالهم بتلك الطريقة . من المربح أكثر القدرة على تأجيرهم و التخلّى عنهم ، و جعلهم أكثر حركيّة ، احرارا فى أن يتمّ توظيفهم أو طردهم حسب إملاءات المراكمة الرأسمالية . و بالتالي ، وفق " طبيعة الإنسان " التى تتناسب مع نمط الإنتاج الرأسمالي ، العبودية لا معنى لها وهي نقيض ما هو جيد و صحيح و طبيعي . (50)
كلّ هذه أمثلة لعدم وجود شيء مثل " طبيعة الإنسان " بمعنى جوهر بشري لا يتغيّر و غير قابل للتغيّر ( وهو ، مع ذلك، بالضبط يتفق مع مهما كان حينها يجسّد و يخدم الأشكال السائدة من الإستغلال ( و الإضطهاد ) . بالضبط مثلما لا يوجد شيء إسمه خطيئة ، لا وجود لشيء إسمه " طبيعة الإنسان " بالمعنى الذى تروّج له الطبقة المهيمنة و تنشره من خلال مؤسسات حكمها و مؤسسات صياغة الرأي العام .
للبشر بعض الميزات كنوع ، محدّدة بشكل واسع ، بما فى ذلك القدرة على التفكير العقلي – مستوى عالي نسبيّا من الوعي و القدرة على تلخيص المفاهيم – وهو ما يميّز البشر عن الأنواع الأخرى .إلاّ أنّ من الأشياء التى تميّز أكثر البشر بما فيها قدرتهم على التفكير ، هي مرونتهم أي قدرتهم على التغير مع تغيّر الأوضاع ، و تغيير الأوضاع بالتأثير فيها بوعي . و لعلّ هذا ، أوفر الميزات جوهرية هو ما يميّز البشر عن الأنواع الأخرى .
مفهوم " طبيعة الإنسان غير المتغيّرة " مفهوم خاطئ تماما و فكرة أنّ الناس أنانيّون بطبيعتهم ليست سوى حشو كلامي آخر. و مثلما أشار ماركس و إنجلز فى " بيان الحزب الشيوعي " ، لا يساوى هذا سوى قول إنّه مع هيمنة نمط الإنتاج البرجوازي ، الفكر المهيمن و طرق النشاط ستكون فى توافق مع إملاءات نمط الإنتاج البرجوازي . و كما يضع ذلك " بيان الحزب الشيوعي " ، الأفكار السائدة فى أي عصر هي دائما أفكار الطبقة السائدة . و هذه الأفكار تُنشر و تأثّر تأثيرا كبيرا ليس فقط ضمن الطبقة السائدة ذاتها بل كذلك ضمن الفئات الأخرى من السكّان ، ومنها الطبقة ( أو الطبقات ) الأكثر عرضة للإستغلال و الإضطهاد العنيفين للطبقة الحاكمة . لكن كما تحدّثنا عن ذلك قبلا ، من عصر لعصر فى تاريخ الإنسانية، و حتى فى حدود عصر الحكم الرأسمالي، عندما توجد تمرّدات من النضال الجماهيري ، يشهد الناس تغيّرا كبيرا فى طرق تفكيرهم و علاقتهم بعضهم ببعض . و بمعنى جوهري ، هذا و ليس بوسعه إلاّ ان يكون ، مؤقّتا و جزئيّا طالما أنّه ليست هناك ثورة مظفّرة و تغيير نوعي جذري فى المجتمع ككلّ . و مع ذلك ، خاصة فى ظروف نهوض و صراع إجتماعيّين كبيرين ضد النظام السائد ، يعرف الناس تغيّرات كبرى فى تفكيرهم و فى علاقاتهم بعضهم ببعض . إن لم يكن الأمر كذلك ، لم تكن الثورات لتستطيع أبدا أن تنجز و العلاقات الإجتماعيّة أن تتغيّر بفعل ردّ فعل الناس الواعي عليها . إلاّ أنّه بالنظر إلى تاريخ البشر و مجتمعهم قد حدث ذلك مرارا – بصفة متكرّرة حدثت تغيّرات جذرية فى المجتمع ككلّ - و هذا سيحدث مجدّدا على نطاق أوسع و أكثر جذرية مع الثورة الشيوعيّة .
على ضوء هذا ، إنّه لممكن جدّا أن نقرّ بالضرر الكبير الذى تتسبّب فيه النظرات الدينية للعالم و المفاهيم المصاحبة لها من الخطيئة و طبيعة الإنسان غير المتغيّرة و " الطبيعة الساقطة " للإنسانية : " يعود كلّ شيء إلى آدم و حوّاء . حينها بدأ كلّ الهمّ . أقنعت حوّاء آدم بأكل تلك التفاحة و لهذا نحن فى الوضع الذى نحن عليه اليوم "[ ضحك ] لا و ليس لهذا صلة بالواقع. لكن مفهوم أنّ ذلك كذلك يلحق ضررا كبيرا و يمنع الناس من لماذا فى الواقع نحن فى الوضع الذى نحن عليه اليوم ، و ما الذى يجب القيام به بشأنه .
و عليه ، من جهة ، من الضروري النضال بجرأة و حيوية ضد الدين بكلّ أشكاله – و خاصة ضد إطلاقيّة و ظلاميّة الأصوليّة الدينيّة و تعبيراتها السياسيّة كمسيحيّين فاشيّين فى الولايات المتّحدة الأمريكيّة . و من الحيوي ألاّ نستهين بأيّ شكل من الأشكال بأهمّية النضال فى مجال الفكر ، مجال الإيديولوجيا و خاصة النضال ضد النظرة الدينيّة و كلّ تمظهراتها، إعتبارا لتداخل هذا مع و إبعاده الناس عن الفهم الحقيقي للواقع ، و بالتالي عن القدرة على مواجهته و تغييره وفق مصالحهم الجوهرية الخاصة . و فى نفس الوقت ، و لمدّة طويلة ، سيكون كذلك من الحيوي التوحّد مع قوى متنوّعة واسعة ، منها عديد الناس الذين يملكون رؤى دينية . وفى ما يتصل أسس الوحدة فى الصراع السياسي ، لا يجب أن يكون الخطّ الفاصل أبدا إذا كان الناس يؤمنون ام لا بإلاه وهم متدينون أم لا ، و إنّما إن كانوا ينوون الوحدة و يمكن كسبهم للوحدة بطرق هي موضوعيّا فى مصلحة جماهير الشعب. إلى درجة كونها كذلك، من الضروري بناء وحدة معها ، الصراع معها للقيام بذلك على وجه أتمّ و أكثر صراحة حتى بينما يجري الصراع معهم فى المجال الإيديولوجي حول مسألة ما هي النظرة للعالم التى تتناسب مع الواقع و ستقود إلى التحرير . من أجل تشكيل أوسع وحدة ، من المهمّ الإعتراف و التأثير فى فهم أنّه ضمن الذين قاموا و هم قادرون على القيام بالتضحية بالذات و بأعمال ملهمة فى القتال ضد اللامساواة و الإضطهاد هناك عديد الناس لديهم معتقدات دينية و هم تدفعهم بطرق هامة هذه المعتقدات الدينية . لكن الدين و نظرة دينية للعالم ليس بوسعهما أن يقودا إلى حيث نريد أن نذهب .
و بقدر ما هي مهمّة الوحدة فى النضال السياسي ، و بقدر ما هو مهمّ بناؤها كأوسع ما أمكن فى كلّ لحظة ، فإنّ بذل الجهد من أجل مثل هذه الوحدة لا ينبغى أن يعني تجنّب أو الإستهانة بأهمّية النضال العميق الذى يجب أن يخاض فى المجال الإيديولوجي بما فى ذلك حول المسألة الدينية ؛ والواقع هو أنّه ، بقدر ما يُخاض هذا الصراع الإيديولوجي أكثر و بصورة أفضل ، بقدر ما تكون أقوى و ليس أضعف قاعدة بناء وحدة واسعة فى الصراع ضد الإضطهاد و الإستغلال و فى سبيل عالم جديد .
خلاصة القول ، عبر سيرورة النضال العالم بلوغ القيادة الضرورية للمهاجمة المباشرة و الصريحة لكل أعمدة الإضطهاد الجاثمة على كاهل جماهير الشعب و فى النهاية إجتثاثها من خلال التغيير الثوري للمجتمع ، و فى النهاية العالم برمته - بلوغ القيادة الشيوعية عمليّا و إيديولوجيا – سيتطلّب العمل على تحقيق وحدة أوسع ما أمكن على قاعدة مبدئية مع العديد من الناس و القوى المختلفة و منها أناس متدينون تقدّميون ؛ لكن سيتطلّب أيضا التقدّم و النضال بصراحة و بشكل منظّم و حيوي لكسب الناس إلى البرنامج الشيوعي و إلى النظرة للعالم و المنهج الشيوعيين – لإستيعاب و تطبيق المادية و الجدلية – و بصورة خاصة كجزء مفتاح من هذا ، الإلحاد .
الفهم – ليس الرأي بل الفهم العلمي – بأنّه لا وجود لإلاه و أنّ الإعتقاد فى إلاه و الجهل المنظّم و التطيّر الذى يجسّده الدين ستسبّب فى ضرر كبير وهو حاجز مباشر أمام النضال من أجل عالم مختلف و أفضل جذريّا : هذا أمر حيوي يجب بنشاط و جرأة التقدّم به و النضال حوله .
و فى نفس الوقت ، ضمن الذين يبحثون عن بناء وحدة فى النضال السياسي ، يجب أن تشمل هذه السيرورة الصراع القويم و نعم مواجهة بين وجهات النظر ، حول المسائل الحيوية للسياسة و الإيديولوجيا من مثل القضيّة الأساسية للإصلاح أم الثورة ، و كذلك المبادئ الجوهرية للإبستيمولوجيا و الفلسفة . و يجب على هذا أن يشتمل على :
• ما هو المحتوى الفعلي و كذلك التأثير و الأثر التاريخيين للأديان الكبرى و التقاليد الدينية فى العالم ، و إلى ماذا يؤدّى عمليّا إتباع تعاليم هذه الأديان و تقاليدها ؟
• ما هو المحتوى الفعليّ للشيوعيّة و ما هي الطبيعة الواقعية والأساسيّة لتجربة البلدان الإشتراكية التى حكمتها البروليتاريا و قادها حزبها الطليعي ( دكتاتورية البروليتاريا ) ؟ ما هي الدروس التى يمكن و يتعيّن إستخلاصها من ذلك ؟
• ما هو الفهم الصحيح لما هي أمراض المجتمع ، ما هو منبعها ، و ما هو ضروري لنضع لها حدّا و لنوجد مجتمعا و عالما أفضل ؟
• ما هي الوسائل و المناهج الصحيحة لفهم تطوّر المجتمع الإنساني بما فى ذلك فى مجال الأفكار ، و كذلك بمعنى العلاقات و المؤسّسات الإقتصاديّة و الإجتماعيّة و السياسيّة ، و المسألة الأوسع لطبيعة البشر و علاقتهم ببقيّة الواقع ؟
• ما هي أفضل طريقة لفهم ، و ما هي أتمّ إنعكاسات مبدأ أنّه فى حين تتمّ تلبية الحاجيات المادية الأساسيّة للحياة لكافة الإنسانيّة أحد ركائز مجتمع و عالم عادلين ، ليس هذا كلّ ما يحتاجه البشر ، انّ الناس لا يعيشون بالخبز فحسب ؛ و كيف نفهم دور الروعة و حاجة البشر لأن ينذهلوا ، فى علاقة بالعالم المادي و مجال الأفكار و الفلسفة ؟

تحرير دون آلهة

فى الختام إذن لنطرح سؤال : فى تعارض مع أن نكون عبيد الأشياء المرئية و " الأشياء غير المرئية "، ماذا سيشبه حقّا أن نكون أحرارا و ماذا سيعنى ذلك ؟
إلى درجة هامة خاصة مثلما تطرح الأشياء نفسها فى مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية ( و على نحو أوسع فى العالم ) اليوم ، يعنى هذا مسائل ليس فقط ما إذا كان يمكن إجتثاث المضطهِدين القساة و المتخندقين جيّدا من السلطة بل أيضا ما إذا كان بإمكان الجماهير الشعبية ذاتها أن تتغيّر من أجل خوض نضال ثوري سينتج حقّا عالما أفضل . هل يمكن أن يقود الشيوعيون هذا ، الشيوعيون الذين ينبذون الدين و الإيمان بما وراء الطبيعة و يؤكّدون على أنّ الناس ذاتهم يجب و يمكن أن يفهموا العالم و يغيّرونه بوسائل أساسية ، عبر جهودهم الواعية الخاصة و من أجل مصالحهم الأعلى الخاصة فى مصلحة الإنسانية الجمعاء ؟
هل يمكن أن نكون فى حالة جيّدة دون إلاه ؟ حسنا ، مثلما تحدّثت عن ذلك فى " التبشير من منبر العظمة ..." يمكن أن نكون – و يجب أن نكون – لسببين إثنين . أوّلا ، و جوهريّا ، لا وجود لإلاه . لذلك إن كنّا سنوجد مجتمعا جيّدا ، عالما جيّدا ، يجب أن ننجز ذلك دون إلاه . لكن أيضا ، وهو أمر غاية فى الأهمّية ، لكافة هذه الأسباب التى تحدثنا عنها هنا ، عالم جديد – مختلف و أفضل راديكاليّا – يمكن فى آخر التحليل أن يوجده فقط أناس يتخلّصون بصفة متصاعدة من الإيمان بإلاه ( و بالموارائيات على وجه العموم ) فى سيرورة و كجزء حيوي من سيرورة مزيد المواجهة أبدا بوعي للواقع كما هو فعليّا و تغييره تغييرا ثوريّا .
هل يمكن أن يكون للوجود الإنساني معنى دون إلاه ؟ جواب الشيوعية على هذا السؤال هو قطعا نعم . لكن المعنى الذى يعطى لوجود الإنسانية ما هو سوى المعنى الذى نعطيه له نحن البشر . بالنسبة للذين يقع بلا رحمة إستغلالهم و إضطهادهم و الهيمنة عليهم و إذلالهم فى ظلّ حكم النظام الرأسمالي و وفق إملاءاته – و بالنسبة لجميع المعنيين بعمق بمستقبل الإنسانية و يقرّون بالحاجة إلى عالم مختلف راديكاليّا و بإمكانيته – المعنى الأعظم الذى يمكن إعطاؤه للوجود هو أن نكون جزءا من النضال لإيجاد هذا العالم الجديد و لتبنّى النظرة الشيوعية للعالم و منهجها العلميين ، ما سيمكن من إنارة الطريق و توفير أساس إنشاء وسائل التقدّم عبر الصراع من خلال كافة المنعرجات و الإلتواءات لتحقيق ذلك الهدف .
و من هنا ، فى الختام : جيلا بعد جيل – ليس فى تلك الأجزاء من العالم حيث قد سيطر " التقليد اليهودي – المسيحي " فحسب ، بل ضمن مليار أو حوالي المليار من الناس الذين يعيشون فى أراضي أين يهيمن الدين الإسلامي ، و فى أماكن أين هيمنت ديانات أخرى و تقاليد و مفاهيم مشابهة للدين – لآلاف السنين على هذا النحو ، كان المجتمع الإنساني و الغالبية العظمى من الإنسانية قد ناءت ليس تحت وطأة العلاقات المادية من الإستغلال و الإضطهاد و ما رافقها من عذاب نفسي و فقر و عنف فقط ، و إنّما أيضا تحت وطأة المفاهيم الدينية و " الخطيئة " و مفاهيم مشابهة مثل " الكرما " التى إستعملت لتضليل الناس فى ما يتصل بمنبع عذابهم ، و بالفعل قد إستعملت لإقناع الناس بأنّهم هم أنفسهم مسؤولون عن هذا العذاب بما أنّهم قد يكونوا بشكل ما قد قاموا بإغضاب بعض الكائن أو الكائنات الماورائية أو قوى ماورائية أخرى تحدّد فى النهاية مصير الإنسانية .
و مثلما صغت ذلك فى " التبشير من منبر العظمة ..." مع الشيوعية ستنتهى " الخطيئة ". إن كان مفهوم " الخطيئة " هو الإنحراف عن طريق الإلاه بالتالي موضوعيّا لا وجود ولم يوجد أبدا أي شيء مثل هذا لأنّه لا يوجد و لم يوجد أبدا اي إلاه. لكن ، أبعد من ذلك ، عندما يتمّ بلوغ نقطة حيث الظروف المادية و الإيديولوجية تتوفّر للإنسانية لتغيّر نفسها و العالم طوعا و عن وعي ، عندئذ لن يُوجد أيضا أساس ( ذاتي) ل " الخطيئة " لأنّه لن توجد حاجة أو أساس للإيمان بإلاه. عند تلك النقطة و بعدها فى المستقبل سيظلّ هناك صواب و خطأ ، حسن و سيّئ – بمعنى ما ينطبق و ما لا ينطبق على الواقع الموضوعي و يساهم أو لا يساهم فى صياغة الحرّية من الضرورة و تنمية قدرة المجتمع و الأفراد الذين يشكّلونه لمواصلة التطوّر بطريقة شاملة . لكن لن يوجد بعدُ مفهوم " الخطيئة " .( ص 81)
عندما نكون قد بلغنا تلك النقطة ، نكون قد خفّفنا أوزارا ثقيلة عن الناس ، و كلّ هذا سيكون تحريرا حقيقيّا ، عظيما و غير مسبوق .
" الثورة الشيوعية و العالم الشيوعي الذى ستوجده سيزدهر و يعطي أجنحة للفنّ و الخيال – ل "روح الإنسان " – على اساس أوسع بكثير و على مستوى أرقى بكثير من أي زمن مضى فى تاريخ الإنسان و سيتمّ التخلّص من قيود الدين و التطيّر . بكلمات أغنية " الأممية "ستحرّر الروح من سجنها " و يسمح لها بالتحليق إلى أعالي غير مرئية و غير متخيّلة قبلا ". ( " الوعظ من منابر العظمة ..." ، ص 89).
هذا ما سيعنيه العيش فى عالم أين سيكون ممكنا أن يجنح الخيال دون الوقوع فى وهم أنّ ما هو خيالي واقع ؛ أين لن يمضي الناس حياتهم و هم يخشون السلطة الرائعة المفترضة لكائنات ماورائية ، هي بالفعل غير موجودة ؛ أين الدين و التطيّر لم يعودا يقفان فى طريق المواجهة الواعية للواقع و تغييره فى مصلحة الإنسانية ؛ أين لن تكون هناك حاجة للبحث بيأس عن حياة أخرى " تالية " فيها سيُوضع حدّ فى النهاية لليل طويل من العذاب و الآلام النفسية المبرّحة و كذلك الجسدية التى تعيشها اليوم الغالبية العظمى من الإنسانية – لا حاجة لأنّ العذاب و الآلام النفسية المبرّحة فى هذا العالم سيكون قد قضي عليهما.
هذا ما سيعنيه أن كون أحرارا بصيغة جديدة وأعظم بكثير نوعيّا من ذى قبل أبدا فى تاريخ الإنسانية !
----------------------------------------------------------------
الهوامش :
48- فى " ضد دوهرينغ " ، قال إنجلز حين أنجزت الماركسية إختراقا فلسفيا ركّز المادية على أساس صلب و علمي ، كلّ ما بقي من الفلسفة السابقة هو الجدليّة و المنطق الشكليّ . و بينما لدي بعض الإختلافات الهامة مع حجّة إنجلز هذه ، هناك أهمّية مستمرّة للمنطق الشكلي ، مفهوما الفهم الصحيح . و لنقاش الإختلافات مع إنجلز حول هذه النقطة ، أنظروا " ملاحظات حول الفنّ و الثقافة ، و العلم و الفلسفة " ، وعلى وجه الخصوص، " الماركسية علم و ليست " نهاية الفلسفة " ".
49- أسباب تعويض المجتمعات المشاعيّة الأولى بمجتمعات قائمة على الإستغلال الطبقي - و متميّزة بالعلاقات الإجتماعيّة الإضطهاديّة ، بما فى ذلك بشكل جدّ هام و محوري ؛ إضطهاد النساء – ناقشتها فى خطابي " وجهات نظر حول الإشتراكية و الشيوعية - نوع جديد راديكاليّا من الدولة ، نظرة للحرّية مختلفة راديكاليّا و أوسع بكثير ". و قد نشرت نسخة منقّحة منه فى " الثورة " وهي متوفّرة على https://www.revcom.us .
و تحليل هام و رؤى ثاقبة لهذه المسائل و غيرها ذات الصلة ، مع تركيز خاص على إضطهاد النساء ، متوفّر أيضا فى " الخطوات الأولية و القفزات المستقبلية ، بحث فى ظهور الإنسان و منبع إضطهاد النساء و طريق التحرير" لآرديا سكايبراك ، بانر براس 1984.
50- صحيح أنّ الرأسمالية قد إستطاعت أن تستعمل و أن تدمج فى سيرورتها العامة للمراكمة ، الإستغلال الذى يتمّ بأشكال ما قبل رأسمالية و منها ليس فحسب الإقطاعية بل كذلك العبودية السافرة . و صحيح أيضا أنّ بعض أشكال العبودية يتواصل وجودها فى عالم اليوم و أنّه ، بمعنى شامل ،نتيجة هذا الشكل من الإستغلال الكامن ، السيرورة العامة للمراكمة الرأسمالية، لا سيما على النطاق العالمي .( أنظروا مثلا " عبودية القرن الواحد و العشرين فى ظلّ الرأسمالية المعولمة "، " الثورة" عدد 102 ، 23 سبتمبر 2007 ، وهو مقال متوفّر أيضا على موقع
www.revcom.us) .
لكن هذه الطريقة فى الإستغلال ليست مميّزة للإنتاج / الإستغلال الرأسمالي فى حدّ ذاته ، و كذلك لا تتمّ الدعوة إلي العبودية السافرة و الدفاع عنها على أنّها " طبيعية " ( " فى توافق مع طبيعة الإنسان " ) فى المجتمع الرأسمالي .
==================================================
++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصريح عمر باعزيز و تقديم ربيعة مرباح عضوي المكتب السياسي لحز


.. طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز




.. يوم الأرض بين الاحتفال بالإنجازات ومخاوف تغير المناخ


.. في يوم الأرض.. ما المخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي على ا




.. الجزائر: هل ستنضمّ جبهة البوليساريو للتكتل المغاربي الجديد؟