الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حينما يتصارع الكبار ينفرج الصغار

جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)

2022 / 7 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


إن حكومات دول الصفّ العالمي الثالث، بمعنى الدول غير تلك الحائزة على العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي وغير تلك المصنّفة بأنها مصنّعة أو متقدّمة اقتصادياً، أي الغالبية العظمى من دول العالم، حنّت إلى زمن الحرب الباردة بُعيد زواله إذ كان زمناً ملائماً لاستقلالها النسبي. فإن تصارع المعسكرين العالميين بقيادة الولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفييتي في الجهة المقابلة، خلق هامشاً واسعاً من الاستقلالية استفادت منه دول الصف الثالث غير الخاضعة لسيطرة مباشرة من إحدى دول الصفّين الأول والثاني، أي غير دول أوروبا الشرقية التي تحكمت موسكو بمصيرها وغير الدول الخاضعة لسيطرة مباشرة استعمارية الطراز من إحدى الدول الغربية.
فإن تصارع القوتين العظميين في لعبة عالمية ذات مجموع صفري، أي في تنافس يشكّل فيه أي مكسب يحققه أحد الخصمين خسارة يُمنى بها الآخر والعكس بالعكس، إن ذلك التصارع كان من شأنه أن يجيز لدول الصف الثالث أن تناور بين الخصمين وتستفيد من استعداد كل منهما على تحمّل ما لا يروقه من أي من دول الصف الثالث ما دامت لم تنتقل إلى معسكر الخصم. لا بل تمكّنت تلك الدول من أن تخوض في اللعبة ذات مجموع صفري تلك بحيث انتزعت من كلتا القوتين العظميين تنازلات جمّة لقاء عدم تعاونها مع الخصم.
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي دخل العالم في ما أسماه أحد المعلقين الأمريكيين «البرهة أحادية القطبية» إذ لم يبق في ساحة القوة العظمى سوى قطب واحد، ألا وهو الولايات المتحدة. وقد عرفت البرهة أوجّها خلال العقد الأخير من القرن المنصرم، بما تجلّى في المنطقة العربية، على سبيل المثال، بانهيار النظام «الشيوعي» في اليمن الجنوبية واندماجها بالشطر الشمالي على غرار انهيار النظام «الشيوعي» في ألمانيا الشرقية واندماجها بألمانيا الغربية. والحال أن الاندماج الأخير وحده يأتي في بال معظم الناس عندما يفكّرون بنهاية الحرب الباردة وانهيار المنظومة السوفييتية بينما تنتمي الحالة اليمنية إلى السياق ذاته.

كما تجلّت «البرهة أحادية القطبية» في المنطقة العربية بالتحاق نظام حافظ الأسد، حليف موسكو القديم، بالبيت الأمريكي لبعض الوقت في التسعينيات، إثر مشاركته بالحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد العراق. شهد ذلك العقد الأخير من القرن العشرين ذروة الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط، بما سمح لإدارة بوش الأب أن تتحدّث في عام 1992 عن «نظام عربي جديد» يندرج في إطار «النظام العالمي الجديد» الذي أعلنه قُبيل انقضاضه على العراق. وحتى النظام الإيراني، ولو بقي مستعصياً على الهيمنة الأمريكية، إنما ارتاح لتدمير خصمه العراقي وتصرّف بحذر شديد، بل وتودّد، طوال تلك المرحلة التي توّجها تعاون المعارضة العراقية الموالية لطهران مع واشنطن وعودتها إلى بغداد ومشاركتها بالحكم في العراق تحت إشراف المحتلّ الأمريكي.
ثم أخذت الأوضاع العالمية والإقليمية تتبدّل في السنوات اللاحقة مع صعود القوة العسكرية الروسية بفضل عودة أسعار النفط إلى الصعود، وصعود قوة الصين الاقتصادية بفضل وتائر النموّ المذهلة التي شهدتها منذ التسعينيات وخلال العقد الأول من قرننا الراهن. وقد انعكس ذلك التبدّل انعكاساً ساطعاً في منطقة الشرق الأوسط يحكمه فارقٌ عظيم يميّزه عن زمن الحرب الباردة وثنائية القطبية، فارقٌ يكمن في أن نظام روسيا ما بعد السوفييتية لم يعد متعارضاً بطبيعته مع أنظمة الدول الخليجية، العربية منها كما والإيرانية، مثلما كانت الحال في زمن «الشيوعية». وينسحب الأمر ذاته على الصين التي باتت منفتحة انفتاحاً كاملاً على السوق الرأسمالية، وإن كان اسم حزبها الحاكم لا يزال «شيوعياً».
أما نتيجة هذا الفارق فهي مفارِقة للنمط العالمي إذ إن هامش المناورة تعاظم لدى الدول الخليجية عمّا كان عليه زمن الحرب الباردة. ذلك أن تلك الدول باتت قادرة على الدخول في لعبة المجموع الصفري أكثر بكثير مما كان الأمر عليه عندما كانت موسكو «مكّة الشيوعيين» كما كان يُقال. فعندما انتهى شهر العسل بين واشنطن وطهران، بعد أن بلغ أوجّه تحت رئاسة باراك أوباما، وانحطّت العلاقات بينهما مع اعتلاء دونالد ترامب سدّة الرئاسة الأمريكية، تمكّنت طهران من شدّ أواصر تعاونها مع كلّ من روسيا والصين.
جرى ذلك بينما روسيا والصين تشدّان كلتاهما أواصر علاقاتهما بدول الخليج العربية في الوقت ذاته، بما أتاح لهذه الأخيرة توسيعاً كبيراً لدائرة استقلال قرارها عمّا كانت عليه في القرن العشرين. وقد رأيناها تناور بين الأقطاب العالمية بعدما حلّ جو بايدن محلّ ترامب وهو يعد بمواصلة سياسة أوباما القائمة على الازدراء بعرب الخليج، بل أن يفاقمها في ضوء ما ترتّب على قضية اغتيال جمال خاشقجي.
وها أن شنّ روسيا لعدوانها الغاشم على أوكرانيا أجّج الصراع العالمي إلى ما عادل أكثر مراحل الحرب الباردة حدّةً أو كاد يفوقه، بحيث باتت الدول الخليجية كافة مستفيدة رئيسية، لاسيما أن ظروف الحرب أدّت إلى ارتفاع في أسعار المحروقات التي هي مصدر أهمّية الخليج الاقتصادية الأوحد، مع ازدياد حاجة أوروبا الغربية إلى استيرادها من غير روسيا بعد أن فرضت عليها عقوبات اقتصادية قاسية.
وقد انجلى تصاعد أهمية الدول الخليجية في مشهدين لم يكنا بالممكنين لولا الحرب الدائرة في أوكرانيا: رئيس أمريكي يبلع المرّ ويزور المملكة السعودية بعد أن وعد بمعاملة وليّ عهدها معاملة المنبوذ، ورئيس روسي يزور طهران في ثاني زيارة له خارج بلاده منذ جائحة كوفيدـ19 بعد زيارته لبكين قُبيل اجتياح قواته لأوكرانيا.
والحال أن تغلّب فلاديمير بوتين على هاجسه الأقصى من الوباء بذهابه إلى بلد انتشر فيه هذا الوباء خلافاً للصين، إنما يشير بذاته إلى احتياج روسيا لمعونة إيران مثلما تحتاج أمريكا لمعونة عرب الخليج.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حرب إسرائيل وإيران... مع من ستقف الدول العربية؟ | ببساطة مع


.. توضيحات من الرئيس الإيراني من الهجوم على إسرائيل




.. مجلس النواب الأمريكي يصوت على مساعدات عسكرية لأوكرانيا وإسرا


.. حماس توافق على نزع سلاحها مقابل إقامة دولة فلسطينية على حدود




.. -مقامرة- رفح الكبرى.. أميركا عاجزة عن ردع نتنياهو| #الظهيرة