الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايات عادية جدا، الحكاية السابعة - الثقافة والطبيعة

إدريس الخلوفي
أستاذ باحث

(Lakhloufi Driss)

2022 / 7 / 20
الادب والفن


حكايات عادية جدا، الحكاية السابعة – الثقافة والطبيعة
قطع العربي مسافات، عبر خلالها جبالا ووديانا، تمزق نعله البلاستيكي، تورمت قدماه، أنهكه الجوع، أصبح منظره يوحي بالتشرد، أكل من حشائش الأرض...ولم يستسلم، كان حلمه أن يرى الوطن الذي مات من أجله اسلافه، هل يشبه القلعة السوداء؟ وهل سكانه يعرفون أن هناك من مات كي يحيوا؟
أوشكت الشمس على المغيب، العربي جائع، متعب، وقف على تلة تطل على قرية كبيرة، أو لنقل مدينة صغيرة، كانت البنايات تبدو أكثر عددا وأكبر حجما، كما أنها كانت مصطفة في أشكال هندسية مستطيلة، وكل بيت يلتصق بالبيت الذي يليه، وبين كل صف من البيوت شارع معبد، لأول مرة يرى العربي مثل هذا البناء، فهو أكيد ليس من الطين، ثم كيف يستحملون قرب بعضهم البعض بهذه الطريقة؟ لقد ألف حياة القلعة السوداء التي يبعد فيها كل بيت/كوخ، عن الكوخ الآخر بكيفية تحفظ حميمية الناس، أما كما يرى أمامه فهذا مستحيل، مع مغيب الشمس، تمت إنارة الشوارع، كان الضوء خافتا، لكن تدريجيا يزداد لمعانه، وكلما اشتد الظلام زادت الإنارة، وكلما زادت المدينة توهجا، زادت التلة التي يقف عليها العربي حلكة.
هنا يقف العربي متأملا، إنه أمام تمازج غريب بين الطبيعة والثقافة، ينظر خلفه، الظلام، الظلام.. ورائحة يحسها ولا يشمها، رائحة أمه والدوار، رائحة الأغنام، رائحة جده يوم وفاته، نعم لقد كان العربي حاضرا في الدفن، كانت تنبعث من جثة جده المغطاة بالكفن رائحة عطرة، تشبه رائحة الياسمين، أو رحيق الورد، بعد أن كانت النسوة ضمخن جثته بكافة انواع العطور المصنوعة يدويا ومحليا.
إنها الرائحة نفسها التي يحسها الآن في أنفه.
أعاد النظر إلى الأمام، وكأنه ينتشل نفسه من هذا الماضي الذي يعذبه، مشاعر مختلطة تنتابه، لا يدري أهي مشاعر حزن أم كراهية، أم حنين...
ماذا أفعل الآن؟ أنام هنا وأنزل المدينة الصبح؟ أم أنزل الآن؟ وما الذي سأفعله إذا نزلت؟ لأنتظر حتى الفجر وبعد ذلك لننظر ما سنفعل.
استلقى العربي على الأرض، ومن كثرة تعبه سرعان ما راح في نوم عميق، ومع خيوط الضوء الأولى، هب واقفا، فرك عينيه، وألقى نظرة أخيرة وراءه، وردد في نفسه: وداعا أيها التاج الأبيض، وداعا أيتها القلعة السوداء، وانزلق بين الأشجار راكضا نحو القرية/المدينة، كان يحث السير رغم الجوع والنصب، عندما اقترب من مدخل المدينة، لمح بيتا منعزلا، أمامه حبل نشير علقت عليه ملابس، وقف أمام الحبل، فلمح جلبابا على مقاسه، دون أن يفكر، أخذ الجلباب وابتعد قبل أن يتفطن إليه أحد، انزوى في مكان غير بعيد، ارتدى الجلباب، وواصل طريقه كأن شيئا لم يكن.
التقى برجل مسن عائد من المسجد، فسأله بعد التحية؟ في أي يوم نحن يا عم؟
أجاب الشيخ باستغراب: إنه يوم الجمعة يا بني.
أضاف العربي: وما اسم هذه البلدة؟
زاد استغراب الشيخ، وقال ممازحا: هل أنت أحد أفراد أهل الكهف؟ هذه البلدة يا بني تدعى وادي الندم.
وما دلالة هذا الاسم؟
رد الشيخ: في قديم الزمان، أقدم الأهالي على فاحشة عظيمة، فحل بهم القحط، وأصابتهم الأمراض، ونفقت بهائمهم...فأمر بعض حكمائهم بضرورة الندم الشديد، والحزن الصادق، حتى يرفع عنهم الله بلاءهم، فقضى السكان – كبيرهم وصغيره، أطفالهم ونسائهم- ثلاثة أشهر من النواح المتواصل، ومن كثرة دموعه تشكل الواد الذي ترى أمامك، فأطلقوا عليه تسمية وادي الندم، وهو الاسم الذي يطلق على البلدة منذ ذلك الحين، أما الاسم الذي كانت تحمله قبل ذلك، فهو "لوطا" (كلمة محلية تعني السهل) لأنها كما ترى توجد في سفح الجبل.
وأين توجد مقابر هذه البلدة، سأل العربي؟
أجاب الشيخ: في تلك الناحية، وهو يشير بسبابته.
شكره العربي وانصرف في الاتجاه الذي أشار إليه الشيخ.
كانت الشوارع مليئة بالحفر، كأن حربا ضروسا عرفتها المنطقة، وأكوام الأزبال هنا وهناك، روائح كريهة تزكم الأنوف، وكلاب متشردة تمزق أكياس القمامة، وهناك حاوية القمامة ينقب فيها متشرد عن بقايا لقمة تسد رمقه...إنها "الحضارة" .
بينما العربي يسير، استولت عليه جملة من الأسئلة: كيف يعيش الناس في المدينة؟ ولماذا يقبلون العيش هكذا؟ هل كان لزاما أن يأكل ذلك المتشرد من القمامة؟ وهل هو مقصر في البحث عن لقمة شريفة؟ أم أن هناك من يتحمل مسؤولية فقر هؤلاء؟
وهو غارق في تأملاته، يشاهد بيوتا ملتصقة كعلب الكبريت، تراءت له في الجانب المقابل قصور ضخمة، محاطة بأسوار عالية، وفوق الأسوار أسلاك شائكة، يتوسط الأسوار باب كبير، من حديد، وبه أشكال من الزخرفة، وبالداخل كلب ضخم عيناه متوقدتان، يصدر زمجرة وزئيرا كأنه أسد.
ترى لمن هذه البيوت الضخمة؟ ولماذا توجد في الجهة المقابلة للأكواخ والبيوت الصغيرة؟ أما كان الأجدر أن تصغر هذه القصور، كي تكبر قليلا تلك الأكواخ؟
بعد هنيهة، وجد العربي نفسه أمام المقبرة، دلفها وهو يقول: الحياة صراع، وأنا غريب ووحيد، تأمل الجلباب الذي سرقه، ثم قال في نفسه: لست لصا، سأعيده إلى مكانه، نعم، استعرته فقط، لو طلبت ذلك من صاحبه لما رفض.
العربي كان في مفترق الطرق، كان بين طبيعة تربى عليها، وواقع يعيشه عنوانه الصراع من أجل البقاء.
كانت النسوة، وخصوصا منهن العجائز عادة ما تقصدن المقابر كل جمعة للترحم على موتاهن، لم يطل الوقت كثيرا حتى قصدت العربي امرأة عجوز، حيته وقالت: من فضلك يا فقيه أريد الترحم على والدي، ووالدتي، وزوجي .
رد العربي وهو يحاول تصنع الوقار: بكل سرور يا خالة.
تبعها حتى توقفت عند قبر وقالت هذا قبر والدي، والذي بجانبه قبر والدتي، والثالث هناك قبر زوجي.
أخذ العربي مكانا وسطا بين هذه القبور، وشرع في تلاوة القرآن، ثم ختم بالدعاء للهالكين وللعجوز.
أخذت العجوز صرة اخرجتها من تلابيبها، فتحتها بعناية فائقة، وتناولت بضع دراهم ناولتها للعربي وانصرفت بعد أن شكرها ودعا لها بطول العمر.
بدأت النسوة تتقاطرن على العربي، وهو يكرر القراءة والدعاء، ويتناول أجرته، حتى قاربت صلاة الظهر، كان العربي قد جمع قدرا محترما من المال يمكن أن يساعده على تدبر بعض أموره، فقام مغادرا تحت نظرات شزراء من بعض الذين ألفوا احتكار هذا السوق لوحدهم، فللدين أيضا تجار يكرهون المنافسة.
قصد العربي دكانا اشترى منه بعض ما يحتاجه من أكل، دون أن يفرط في كل ماله تحسبا للقادم، حمل مقتنياته في كيس، وقصد وادي الندم ليتناول وجبته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا


.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه




.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة