الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأزمة الكورونية وتجربة -التعلّم عن بُعد-

وجيه العلي

2022 / 7 / 21
التربية والتعليم والبحث العلمي


دكتور وجيه العلي
مقدمة:
منذ عامين ونيّف والعالم يعيش حالة من الإرتباك والهلع قلمّا شاهدنا نظيراً لها من قبل بسبب التفشي السريع والواسع لجائحة كورونا (كوفيد-19) ومتحوراتها، وكذلك بسبب هوس الشائعات وضبابية المعلومات المتاحة حول طبيعة هذا الفيروس وكيفية علاجه أو الوقاية منه. وبالرغم من إحتمالية تحول الجائحة البنفسجية قريباً إلى حدث من التاريخ؛ إلا أنه ثمة دلائل صادمة تشير إلى أن هذه الجائحة الغامضة والمتفردة في عدوانيتها ومقاومتها الشرسة ما زالت تهدد بميلاد أزمات كارثية هي الأكثر خطورة في تاريخ الحضارة الإنسانية (وطفة 2021؛ سافيدرا 2020؛ غالغر2022). أزمات لم نعرفها من قبل إلا أننا نلمس إنعكاساتها وتداعياتها الدراماتيكية على مختلف القطاعات والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والصحية والبيئية وحتى التعليمية والتربوية.
عدد غير قليل من الباحثين والمراقبين الدوليين ومن بينهم رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس يحذّرون من أن الاقتصاد العالمي يواجه مستقبلاً قاتماً، ومن أن التداعيات الاقتصادية للجائحة يمكن أن تستمر لعقد من الزمن، وأن عالم ما بعد كورونا سيكون إلى الأبد مختلفاً عن عالم ما قبلها! منتدى "دافوس" والذي يعتبر أحد أهم الأحداث الاقتصادية والسياسية السنوية على المستوى العالمي، ذكر في بيان له من أنه سيركز في إجتماعاته لعام 2022 على آثار جائحة كورونا بالإضافة إلى التحديات العالمية الأخرى ومنها تصاعد معدلات التضخم وتراجع أسواق الأسهم والحرب في أوكرانيا. المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، قال في كلمة افتتح بها أعمال الجمعية العامة لمنظمة الصحة العالمية في 22 مايو/ أيار 2022، إن فيروس كورونا يفاجئنا في كل منعطف وتسبب في عاصفة مزقت المجتمعات مراراً وتكراراً، وما زلنا لا نستطيع التنبؤ بمساره أو شدته، بما في ذلك تزايد حالات الإصابات فيما يقرب من 70 دولة حول العالم، وطالب بضرورة تعميم حملات التطعيم في كل دول العالم.
قطاع التعليم هو من بين أكثر القطاعات التي شهدت تغيرات وإضطرابات هائلة بسبب الأزمة الكورونية؛ حيث ألقت هذه الأزمة بظلالها الثقيلة على هذا القطاع الحيوي وتسببت في إغلاق شبه تام للمدارس وللمعاهد وللجامعات في معظم البلدان والمناطق، مما أجبر المؤسسات التعليمية والهيئات الأكاديمية إلى التفكير في تطوير وإعتماد بدائل مناسبة ومبتكرة للتعامل مع هذا الواقع المرير وغير المتوقع. وفي خِضَمّ هذه المعاناة وتسارع إنتشار الوباء، توجهت غالبية المؤسسات التعليمية نحو تقنية أو منهجية التعلّم عن بُعد E-Learningبهدف حماية منتسبيها وضمان إستمرارية العملية التعليمية؛ وبالتالي أدخلت أزمة كورونا الجميع إلى عالم جديد من التعليم والتعلّم، وغدت منهجية التعلّم عن بُعد - بكل إيجابياتها وتعقيداتها – خياراً إستراتيجياً وملاذاً آمناً للوقاية ولمواصلة التحصيل العلمي ولدعم التعليم العالي مقارنة مع منهجية التعلّم المباشر وجها لوجه in-person teaching and learning والتي أثبتت الوقائع عجزها وعدم لياقتها لاسيما في أوقات الطوارئ والأزمات!
المقال الحالي يقدم تقييماً أولياً لإستراتيجية التحول المفاجئ إلى تقنية أو منهجية "التعلّم عن بُعد" في ظل أزمة كورونا وما بعدها بالإستناد إلى نتائج الدراسات والأبحاث السابقة وباستخدام مصفوفة التحليل الرباعيSWOT analysis بهدف الوقوف على تأثيرها العام والتعرف على نقاط القوة والضعف التي تعتري هذه المنهجية فضلاً عن إستشراف المخاطر والتهديدات المحتملة لذوي العلاقة وكذلك الفرص التي توفرها هذه التقنية وكيفية الإستفادة منها لتعزيز مسارات وأنظمة التعليم العالي المستقبلية والإرتقاء بها إلى مستوى تطلعات الأجيال القادمة في إكتساب مهارات القرن الحادي والعشرين؛ والإستجابة على نحو أفضل لتحديات التنمية المستدامة ولمتطلبات العصر الرقمي الذي نعيشه.


الأزمة الكورونية وفرص التغيير الإستراتيجي في منظومة التعليم
"الأزمة"، إصطلاحاً هي حدث مفاجئ أو خلل خطير غير متوقع؛ وفي معاجم اللغة لها معان عديدة، أهمها: الضيق، التوتر، الشدة، النزاع، التغيير المفاجئ، القلق، الإضطراب، عدم الاستقرار، ... الخ. والأزمات هي سمة ملازمة لواقع الحياة البشرية؛ فكلنا معرضون للوقوع في أزمات سواء أكان ذلك على مستوى الأفراد أو الجماعات أو البلدان أو المؤسسات، وبالتالي لا غرابة في أن نرى عالمنا اليوم يعج بالأزمات والكوراث وعلى كافة المستويات وفي شتى المناحي والمجالات. البعض من هذه الأزمات والكوارث هو من صنعنا نحن البشر، والبعض الآخر هو ما تفعله بنا الطبيعة وجبروتها الذي لا يقهر ولا يغتفر!
صحيح أن معظم هذه الأزمات والكوارث تهبط علينا بلا استئذان وتتسبب في أخطار وويلات وخسائر مادية وبشرية جسيمة؛ لكن الملاحظ أيضاً هو أنه في خضم هذه الأحداث الملتهبة، غالباً ما تظهر العديد من الفرص والمنافع تأكيداً لمقولة "رب ضارة نافعة". ولعله من المفيد أن نستذكر هنا نظرة الصينيين البارعة إلى مصطلح "الأزمة" وتفسيرهم لها على إنها مزيج من مقطعين ( we-ji) : الأول يدل على "الخطر" ويلفظ (وي) والثاني يدل على "الفرصة" التي يمكن إستغلالها أو إستثمارها ويلفظ (جي). وتكمن البراعة هنا في تصور إمكانية تحويل الأزمة وما تحمله من مخاطر وتهديدات إلى فرصة للتطوير وحشد الموارد وإيجاد الحلول المبتكرة والمستدامة.
وبالرغم من أن الجائحة البنفسجية ضربت قطاع التعليم في مقتل، إلا أن هذه الجائحة، من وجهة نظر الكثيرين وكاتب المقال أحدهم، جلبت معها أيضاً فرصاً للتفكير الإبداعي والتغيير الإستراتيجي. الكاتب الأمريكي والإعلامي المخضرم فريد زكريا هو الآخر تحدث في كتابه الموسوم "عشرة دروس لعالم ما بعد الجائحة" عن وجود فرص للتغيير والإصلاح، ومن أن هذا الوباء البغيض قد يفتح مجالاً لبناء عالم جديد، ومن أن الدول في الواقع "تكتسب القوة من خلال الفوضى والأزمات". جوناثان كرومويل من جامعة سان فرانسيسكو وبليد كوتلي من معهد ماسيشيوست للتكنولوجيا في مقال لهما نشرته مجلة MITللأعمال في فبراير 2021، يؤكدان بأنه بينما تستمر جائحة كوفيد-19 في إحداث إضطراب مدمر للاقتصاد العالمي لأكثر من عام، فإنها تواصل أيضاً فرض إبتكارات ملحوظة في مختلف القطاعات والصناعات؛ وأن العديد من شركات الأعمال وجدت طرقاً جديدة للبيع والخدمة والعمل أثناء الأزمة. والسؤال الذي يطرحانه هو: ما إذا كانت هذه التغييرات الانتهازية ( Opportunistic Changes ) التي يتم إجراؤها خلال الأوقات المضطربة ستؤدي أيضاً إلى خلق فرص للنمو المنتظم بعد مرور أو زوال الوباء؟
أكاديميون وباحثون تربويون يرون بأن جائحة كورونا وإن أصمت القاعات الدراسية وأقفلت المدارس والجامعات في عدد من دول العالم، إلا أنها سلطت الضوء على أهمية العمل من المنزل وأتاحت العديد من الفرص للتعاون الأكاديمي ولتحسين المهارات في التقنيات الجديدة وتطوير مناهج إبتكارية وبرامج دراسية ومساقات تعليمية بديلة عبر الإنترنت؛ فضلاً عن أنها سارعت الخطى في تفعيل التعليم الإلكتروني والتعليم عن بُعد في العديد من جامعات العالم بشكل أكثر فعالية وبجودة عالية. كذلك يؤكد فريق من الباحثين والمتخصصين بأن تجربة "التعلّم عن بُعد"، كانت من أبرز الإيجابيات التي أفرزتها الجائحة التي أزعجت العالم وأربكت المجتمعات على إمتداد المعمورة شرقاً وغرباً. الكاتبة الأمريكية أنيا كامينتزوهي أيضاً مدوّنة تعليمية نشطة تعمل في شبكة الإذاعة العالمية NPR كتبت تقول صحيح أن الأزمة الصحية العالمية التي جاءت بها جائحة كورونا قد أثرت تقريباً على جميع أوجه وجوانب التدريس والتعلّم؛ لكنها في الواقع قادت إلى "أكبر تجربة للتعلّم عن بُعد في التاريخ"(وطفة 2021؛ كامينتز 2020؛ ساعاتي 2020).





إشكاليات التعلّم عن بُعد في سياق الأزمة الكورونية
ينظر إلى التعلّم عن بُعد على أنه تقنية حديثة نسبياً لنقل المعرفة إلى المُتعلِّمين في مواقع إقامتهم أوعملهم، بدلاً من حضورهم شخصياً داخل أروقة ومباني المؤسسة التعليمية. كما ينظر إليه على أنه إمتداد للتعلّم المفتوح الذي بدأته الجامعة البريطانية المفتوحة في الستينات من القرن الماضي والذي تطور من حيث الأسلوب والوسائل وصولاً إلى التعليم الإلكتروني. ويختلف التعليم عن بُعد بشكل رئيسي عن التعليم الكلاسيكي أوالتقليدي في كونه بيئة تعليمية مستقلة عن الزمان والمكان، وبكونه يعتمد أيضاً على طرق ووسائل تكنولوجية ورقمية حديثة مع وجود إمكانية للتفاعل بين المعلم والمتعلم عبر المنصات التفاعلية وتطبيقات الإتصال المرئي والمسموع مثل برامج زووم ومايكرو سوفت تايمز وموودل وغيرها كثير.
لقد تفشى الفيروس البنفسجي منذ ظهوره في أواخر العام 2019 مثل النار في الهشيم وإجتاح حواجز الزمان والمكان، وتصاعدت معه دعوات "التعلّم عن بُعد" لتجتاح هي الأخرى حواجز الزمان والمكان. ذلك أن إنتشار الفيروس القاتل قد عطل وبشكل كبير العمل الطبيعي للمؤسسات التعليمية وبسببه توقف نحو 1.6 مليار طالب يمثلون 94% من إجمالي طلاب العالم عن الذهاب إلى مدارسهم وجامعاتهم في أبريل 2020 إستناداً إلى أرقام البنك الدولي. ومنذ ذلك الحين، بدأت مرحلة جديدة من التعليم ألا وهي "التعلّم عن بُعد"، وأصبح نقل المحتوى التعليمي إلى الطلبة عن بُعد هو القاعدة الجديدة. والمفارقة هنا هي أن هذا النمط من التعليم لم يكن شائعاً من قبل في العديد من البلدان وخاصة الدول العربية، إلا أنه بات في زمن الوباء الوسيلة الوحيدة لإستمرار العملية التعليمية والحفاظ على صحة وسلامة الطلاب والمعلمين خلال فترات العزل الاجتماعي والحجر الصحي. كما تجدر الإشارة إلى أن البلدان المتقدمة إستطاعت أن تعتمد هذا النمط من التعليم بسهولة ويسر كنتيجة طبيعية لتوفر البيئة التعليمية المناسبة والبنية التحتية من أجهزة ووسائل ومعدات ومهارات وخبرات. ولكن، ووفقاً لتقارير المنظمات الدولية، كان هذا التحول صعباً لا بل وكارثياً في العديد من الدول النامية والفقيرة ذات الدخل المنخفض في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط.

وثمة إجماع ما بين الخبراء والمعنيين بأن تقنية التعلّم عن بُعد قد نجحت في توفير بيئة تعليمية مشابهة إلى حد كبير لبيئة المدارس والجامعات ومراكز التدريب؛ ففي دراسة إستقصائية أجرتها منظمة اليونيسف مؤخراً وجدت أن 127 دولة تستخدم تقنية التعلّم عن بُعد بنجاح، وبفضل آلياتها المتقدمة أصبح من الممكن ممارسة التعليم والتدريب من أي مكان بالعالم عبر بيئة تفاعلية إفتراضية تعتمد التكنلوجيا التعليمية العالية وشبكات الإنترنت الفسيحة. وبالتالي فأن التعلّم عن بُعد بهذه المزايا إنما يرسخ أيضاً مبدأ مجانية التعليم ويحقق توازنات معرفية وثقافية بين كل المجتمعات الإنسانية بحيث تنتشر الثقافة والمعرفة وتصل إلى كل راغبيها بصرف النظر عن جغرافية المكان الذي يتواجد فيه طالب المعرفة أو الدولة التي ينتمي إليها أو الجنسية التي يحملها. ومن هنا تكمن أهمية وتفرد منهجية التعلّم عن بُعد في تحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة 2030 الذي أعلنته منظمة اليونسكو والذي ينص بالعموم على ضمان التعليم الجيد والمنصف والشامل وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع.
ومع كل ذلك، فقد كشفت منظمات دولية وكذلك عدد غير قليل من الباحثين والمتخصصين عن إشكاليات وفجوات في التعلّم عن بُعد القائم على التكنولوجيا الرقمية، نتيجة إكراه المجتمع التعليمي على إعتماد نمط من التعليم عن بُعد من دون إستراتيجيات واضحة ومن دون إعداد مُسبّق. وأن ما شاهدناه أو نشاهده من تعليم عن بُعد خلال الأزمة الكورونية الحالية لا يعدو، في الغالب، عن كونه مجرد محاكاة للتعليم التقليدي ولكن بطريقة حديثة عن طريق إستخدام وسائط تعلّم إلكترونية ونقل المعلومات على عجل عبر الشبكة العنكبوتية لتلبية المتطلبات الملحة للوضع الطارئ الذي أفرزته الجائحة؛ أي أننا إستبدلنا الكتاب بشاشة إلكترونية لكن من دون أهداف تعليمية محددة ومن دون فلسفة واضحة أو تطوير لمحتوى المناهج، لا بل وحتى من دون وجود بُنية تكنولوجية متقدمة تدعم تطبيق التعليم الالكتروني. وفي هذا السياق، يعلق أستاذ علم الإجتماع التربوي بجامعة الكويت الدكتور علي وطفة بالقول بأن التسمية المناسبة لهذا النّمط من التعليم هي: "التعليم عن بُعْدٍ في حالات الطوارئ". ذلك أنّ التعليم الإلكتروني عن بُعْدٍ - في مفهومه الدّقيق والصحيح - يتمثل في منظومة منهجية وفكرية وفلسفية ومهنية الكترونية عالية المستوى ومتكاملة العناصر والغايات، في حين أنَّ التعليم عن بُعْدٍ في حالات الطوارئ يقوم على مبدأ المفاجأة وعدم التخطيط ولا يعتمد فلسفة تربوية واضحة.

كذلك أظهرت بيانات منظمة اليونسكو في نيسان / أبريل 2020 عن إشكالية وجود ما يزيد عن 830 مليون طالب لا يمكنهم الوصول إلى جهاز الكمبيوتر. والصورة قاتمة بشكل خاص في البلدان الفقيرة وذات الدخل المنخفض؛ إذ ما يقرب من 90% من الطلاب لا يمتلكون الهواتف الذكية وليس لديهم أجهزة كمبيوتر منزلية، بينما لا يستطيع 82% منهم الاتصال بالإنترنت. تقارير الخبراء والمراقبين هي الأخرى تشير إلى أن طائفة كبيرة من المُعلِّمين حول العالم لم يكونوا جاهزين لخوض تجربة التعليم عن بُعد، وقد جاءت الجائحة لتزيد من إرتباكهم، لقِلَّة خبرتهم ونقص مهاراتهم في التعامل مع التقنيات التي تسمح بإدارة عملية التعليم عن بُعد، أو صناعة مُحتوى تعليمي ملائم!

تجربة "التعلّم عن بُعد" من وجهة نظر أصحاب المصلحة الرئيسيين
في أعقاب إنتشار الأوبئة الفتاكة (كوفيد-19 مثلاً) أو نشوب الإضطرابات والصراعات المسلحة (سوريا، اليمن، العراق، أفغانستان، وأوكرانيا مثلاً) يصبح توصيل المعرفة مهمة عسيرة وشاقة إن لم تكن مستحيلة. إذ غالبا ما تؤدي هذه الإضطرابات أو الأزمات إلى تعطيل عمليات التعليم والتعلم؛ وفي كثير من الأحيان يفضي إغلاق المدارس والكليات إلى عواقب وخيمة على الطلاب ويحرمهم من حقهم الأساسي في التعليم ويعرضهم وأولياء أمورهم ومدرسيهم لمخاطر نفسية وتحديات مستقبلية عديدة. وإزاء واقع كهذا، كان لابد من إيجاد حلول سريعة ومناسبة لإستكمال المسيرة التعليمية ولتمكين الطلاب من الانتقال إلى المستوى التالي أو حتى التخرج والمحافظة، بنفس الوقت، على صحتهم وسلامتهم وسلامة جميع العاملين في الميدان التربوي أو التعليمي. وهنا ظهرت التكنولوجيا المتقدمة كمنقذ رئيسي في مواجهة تداعيات الأزمة الكورونية؛ إذ تحولت العديد من الدول، وبشكل شبه فوري، من نظام التعليم التقليدي إلى نظام التعليم الإلكتروني عبر المنصات الإلكترونية والتعلّم عن بُعد.
لقد طرح هذا التحول السريع والمفاجئ لمنهجية أو تقنية "التعلّم عن بُعد" بهدف الحد من تفشي الفيروس القاتل عدداً من التحديات وردود الفعل لثلاثة من أصحاب المصلحة الرئيسيين في التعليم، وهم:
1. الطلاب
2. أعضاء هيئة التدريس
3. المؤسسة التعليمية
وعلى الرغم من أن التأثيرعلى هذه الأطراف الثلاث كان متشابهاً في كثير من الأحيان، إلا أن كل طرف أو مجموعة تأثرت بشكل مختلف قليلاً وفقاً لما كشفت عنه نتائج الدراسات الميدانية وتقارير المنظمات الدولية والتي إعتمدت في معضمها على تحليل المحاور الأربع الرئيسية لمصفوفة "سوات" S-W-O-T analysis بهدف الوقوف على مواطن القوة والضعف التي تعتري تقنية "التعلّم عن بُعد"؛ وكذلك لإستكشاف الفرص والتعرف على المخاطر أو التهديدات التي تلازمها. ولعله من المفيد هنا التذكير بأهمية تحليل مصفوفة "سوات" بإعتبارها إحدى أدوات التحليل الإستراتيجي التي تساعد على تحديد نقاط الضعف والقوة وإدراك نوعية التهديدات أو المخاطر وطبيعة الفرص المتاحة وتقييم مختلف العوامل الداخلية والخارجية المؤثرة في أي نشاط أو عمل بهدف جعله مستدام وفاعل.
وبعيداً عن الجدل غير الأكاديمي حول تلك المحاور الأربع والذي مازال محتدماً، يمكننا من خلال المراجعة المنهجية للأدبيات والدراسات السابقة إستخلاص وتثبيت الحقائق التالية بخصوص إستراتيجية التحول المفاجئ إلى تقنية التعلّم عن بُعد في سياق الأزمة الكورونية (كالونج وآخرون 2022):
المحور الأول: نقاط القوة Strengths
أن أعلى نقاط القوة في تقنية التعلّم عن بُعد هي تلك المرتبطة بالعوامل الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية والبيداغوجية والمتمثلة في: إنخفاض تكلفة التعلّم؛ ومرونة إيصال المحتوى التعليمي؛ وتعزيز التعلم الذاتي والمستقل؛ والتعلّم من أي مكان به إتصال بالإنترنت؛ والتطابق مع إحتياجات الجيل الجديد المنفتح على تقنية التواصل الرقمي؛ وتنوع طرق التدريس والتعلّم؛ وتيسير التعلّم التفاعلي؛ وتحسين عملية التشارك المعرفي بين أعضاء الهيئة التدريسية؛ والتركيز على المُتعلِّم؛ وإظهار المؤسسة التعليمية على أنها حديثة وتنافسية ومتطورة.
المحور الثاني: Weaknesses
أن أهم نقاط الضعف لتي تتسم بها تقنية التعلّم عن بُعد هي تلك المرتبطة بالقيود وبالمحددات التكنولوجية والاجتماعية والإقتصادية والبيداغوجية والمتمثلة في: صعوبة التكيّف السريع مع التقنيات الجديدة لكل من المعلمين والمتعلمين؛ وفقدان الاتصال المباشر بين المُعلم والمُتعلِّم؛ وإرتفاع تكاليف الإستثمار؛ والشعور بالوحدة والإنعزالية نتيجة لنقص التفاعل الإجتماعي؛ ونقص المهارات اللازمة لإستخدام الوسائط الإلكترونية والحاسب الآلي وبرامجه المختلفة؛ وكذلك الفشل في إدارة التعلّم الإلكتروني بنجاح وفاعلية.
المحور الثالث: Opportunities
أن العديد من الفرص التي أتاحتها تقنية التعلّم عن بُعد نجدها مرتبطة بالإبتكار وبالتكنولوجيا وبإنشاء صناعة جديدة لهذا النوع من التعليم، وكذلك في تطوير المناهج الدراسية، وتنمية القدرات التعليمية المؤسسية، وتبادل الخبرات والموارد، وإمكانية الجمع بين الدراسة والعمل، وتعزيز التعاون الأكاديمي محلياً وإقليمياً، وإكتساب مهارات وقدرات أكثر شمولاً وحداثة وإبداعاً، وإمكانية التوسع في أعداد الطلبة المقبولين دون الحاجة إلى إنشاء فصول دراسية جديدة، وعولمة التعليم العالي، وتقليل التكاليف، وزيادة الإيرادات.
المحور الرابع: Threats
أن من أبرز مخاطر أو تهديدات التعلّم عن بُعد، هي تلك المتعلقة بالمشاكل التكنولوجية وبالمخاطر الصحية والنفسية وبالعوامل الاجتماعية والبيداغوجية ولعل أبرزها هي: عدم وجود بيئة إجتماعية أكاديمية لتطوير الطالب؛ وتدني مشاركة الطلاب؛ وفقدان العامل الإنساني فى التعليم؛ وخطر خلق مفكرين أو محللين غير نقديين أو منطقيين؛ وعدم الثقة في التعلّم الإلكتروني؛ وزيادة عبء العمل؛ وإرتفاع تكاليف التدريب لتحديث طرق التدريس؛ وصعوبة تعيين المعلمين والمدربين المتميزين والحفاظ عليهم؛ وتعرض المواقع الإلكترونية للاختراق والتشويش؛ وعدم التوافق مع بعض التخصصات ومع بعض الحالات المرتبطة بالطلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة.
ملاحظات ختامية:
1) لقد سرعت الأزمة الكورونية في عملية التطوّر المستقبلي للتعلّم عبر الإنترنت، وشكّلت ضربة قوية زعزعت بها أركان التّعليم التّقليدي، وهيأته لنقلة جديدة نحو التعليم الإلكتروني القائم على تقنيات الذكاء الإصطناعي والإجتماعي. واليوم، يُعد "التعلّم عن بُعد" بأنواعه الثلاث المتزامن Synchronized وغير المتزامن Unsynchronized والهجين/ أو المدمج Blended أحد أهم التقنيات الحديثة في مجال التعليم لشتى مجالات وفروع المعرفة العلمية. وثمة مؤشرات تؤكد أن هذا النوع من التعليم سيحقق مزيداً من الإنتشار في كل أنحاء العالم، حيث لعبت آلياته دوراً هاماً ومحورياً في التغلب على الكثير من العوائق والظروف الاقتصادية والمكانية والزمانية التي كانت تحول بين المُعلّم والمُتعلِّم. كما إكتسحت تلك الآليات شيئاً فشيئاً الأنظمة والوسائل التعليمية التقليدية، وغدا التعلّم عن بُعد ضرورة حتمية فرضتها تداعيات الأزمة الكورونية والظروف الحياتية التي نعيشها اليوم وكذلك تطلعات المستقبل القريب والبعيد.

2) لقد إستطاعت تقنية التعلّم عن بُعد أن تحدث تغييراً جذرياً في مفهوم التعليم والتعلّم وحققت نجاحاً مُلفتاً في العديد من جامعات العالم المرموقة، وأثبتت أنها الحل المثالي الذي يمكن الإعتماد عليه، ليس فقط من أجل إستمرارية التعليم، ولكن أيضا للحفاظ على صحة وسلامة الطلاب والمعلمين خلال فترات العزل الاجتماعي والحجر الصحي. كذلك أثبتت هذه التقنية بالفعل بأنها منظومة تعلّم عصرية لا غنى عنها في التدريس وإستيعاب المعرفة سواء في وقت الأزمات أو ما بعدها. كما تحدث معظم الطلاب والمعلمين المستطلعة آراؤهم بشكل إيجابي حول أهمية إدخال تقنية التعلّم عن بُعد في مجال التعليم العالي ومن أنهم يحققون مكاسب علمية ومهنية يصعب تحقيقها في ظل التعليم التقليدي. لذلك لا غرابة في أن يحظى هذا الأسلوب التعليمي قدراً متزايداً من الاهتمام من مختلف الحكومات والمؤسسات التعليمية في البلدان المتقدمة والنامية على حد إدراكا منها للمزايا الاقتصادية والأكاديمية التي تتفوق بها هذه التقنية مقارنة بطريقة التعلّم التقليدية، ولكونها أيضاً منظومة تعليمية متطورة قادرة على تحقيق أكبر إستفادة ممكنة من التطبيقات الرقمية التعليمية التفاعلية والعالية الذكاء التي أوجدتها الثورة الصناعية الرابعة.

3) قطاع التعليم هو أحد القطاعات الإستراتيجية والحيوية لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة في أي مجتمع، بل إنه عماد المجتمع ومقياس لتطوره الإجتماعي والإقتصادي والسياسي والثقافي. أحدث التقارير تشير إلى وجود تحديات حقيقية يواجهها قطاع التعليم في العديد من البلدان العربية سببها هو تخلف الأنظمة التعليمية وغياب الرؤية المستقبلية وتقادم البنى التحتية وتعاظم الفجوة الرقمية؛ وبالتالي إن أرادت هذه البلدان اللحاق بركب التنمية والحداثة عليها أن تسارع الخطى في إصلاح وتطوير مؤسساتها التعليمية وتحديث أنظمتها ومناهجها وأساليب عملها والتركيز على تلك المعارف والمهارات التي تساعد على الإبتكار والإنتاج والإبداع والإستخدام المثمر والفعال لمختلف التكنولوجيات التعليمية لا سيما تقنية التعلّم عن بُعد من أجل مواجهة التحديات والإستجابة السريعة للأزمات ولمتطلبات العصر الرقمي الذي نعيشه. وفي تقديرنا المتواضع، تلك هي الفرصة الأخيرة لهذه البلدان للحالق بركب الحضارة والتقدم؛ وفي عكس ذلك سوف تقبع هذه البلدان في دائرة الجهل والتخلف!


دكتور وجيه العلي
أكاديمي عراقي
20 تموز/يوليو 2022

مراجع مختارة:
علي أسعد وطفة، "إشكاليات التعليم الإلكتروني وتحدياته في ضوء جائحة كورونا"، مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية، 2021.
فريد زكريا، "عشرة دروس لعالم ما بعد الوباء"، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2020.
أمين ساعاتي، "التعليم عن بعد وأزمة كورونا"، جريدة الاقتصادية، 5 أبريل 2020.
خايمي سافدرا، " التعليم في زمن الكورونا: التحديات والفرص"، البنك الدولي، 30 مارس 2020.
جيمس غالغر، "فيروس كورونا: أعداد الإصابات بكوفيد ترتفع مجدداً في بريطانيا ومخاوف بشأن متحورين جديدين"، (بي بي سي)، 3 يوليو/ تموز 2022.
Cromwell, J. and Kotelly, B., “A Framework for Innovation in Covid-19 and Beyond”, MIT Sloan Management Review, Feb 17,2021.
Kamenetz, A. “The Biggest Distance-Learning Experiment in History: Week One, NPR, March 26, 2020.
Calonge et al., Contactless Higher Education: A Swot Analysis of Emergency Remote Teaching and Learning during COVID-19, JESMA, 2022.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما ردود الفعل في إيران عن سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز


.. الولايات المتحدة: معركة سياسية على الحدود




.. تذكرة عودة- فوكوفار 1991


.. انتخابات تشريعية في الهند تستمر على مدى 6 أسابيع




.. مشاهد مروعة للدمار الذي أحدثته الفيضانات من الخليج الى باكست