الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مجرد مدينتين

ربيع نعيم مهدي

2022 / 7 / 21
الادب والفن


"1"
بغداد.. مجرد مدينة نشأتُ فيها، مدينة أتخمت ذاكرتي بأحداث وصور وأحاديث جمعتني بعابري السبيل، بعض الأحاديث لم تكن تخلو من غايةٍ أو معنى، خصوصاً إذا كنت تدور في شوارعها، التي لا زالت تروي حكايات الحمقى والأعاجم.
كان لي فيها في كل يومٍ رحلة، تبدأ من باب الدار وتنتهي عنده، وما بين البداية والنهاية عشرات الوجوه، بعضها مثقل بالحزن، وبعضها غابت ملامحه في فوضى الزحمة.
في كل الأحوال لم تكن تلك الرحلات بلا متعة، فالمدينة تتمتع بسحر الغواني، ترتدي مبانيها في الليالي أثواب السهر، والشوارع على عكس الحال، تسير بالسالكين الى حيث تريد، كأنها تتلاعب بهم كيفما شاءت.. إن اختنقت بهم غنت بضجيجها، وإن رحبت ساد السكون على الصخب.
مدينة فضولية بطبعها، تراقب الخطى في الأزقة، وتسترق السمع على همس المحبين، ترصد كل نظرة خاطفة خائفة، وإن أرادت كتمت أسرارهم وحملت على وجه جدرانها رسائل عاشق مجهول كتب كلماته دون أن يعلم ان الكلمات زينة الجدران، تحفظها بأي لغةٍ كانت وبأي لون، ولا فرق إن كانت تلك الكلمات رسالة عشق، أو دعوة ثورة أو قولٍ للقائد الضرورة.
"2"
أكتب هذه السطور وانا في بلادٍ بعيدة، لم تستطع ان تمحو صور المدينة من ذاكرتي، بعض الصور تشدني بشوق الى شمسها الحارقة وترابها الذي يعانق الوجوه، وبعض الصور لها نكهة من المُرّ، لا يستسيغ طعمه إلا من تآلف مع الغربة.
أحدى الصور التي استذكرتها كانت لرجل استوقفني في الطريق طالباً استعارة نضارتي، وبالرغم من غرابة الطلب استجبت له وأعطيته النضارة، فسارع الى ارتدائها والنظر الى إحدى المباني الحكومية، ثم أعادها قائلاً:
- يبدو ان المشكلة ليست في النضارة
تساءلتُ عن ماهيّة المشكلة، فأشار الى العلم المرفوع على المبنى، ثم أردف بالقول:
- لا أدري إن كانت المشكلة عندي أم أنها في العَلَم.. فمنذ زمن وأنا أقرأ ما يتوسط العلم "خُدا أكبر"..!!
وهنا أدركت المقصد من قوله واستأذنته مكملاً طريقي باتجاه المبنى الذي أشار اليه، إذ كنت أقصده لإجراء مقابلة مع أحد المسؤولين لإتمام إجراءات القبول والحصول على فرصة للعمل في وزارة الأمن الوطني في حينها، تلك الإجراءات لم تكن سوى مقابلات خاوية مع أشخاص منحتهم الصدفة صفة المسؤولية.
"3"
في الطريق الى المبنى تفحصت العلم لأكثر من مرّة، وبقيت كلمات الرجل تتردد على مسمعي.. حتى في مقابلتي للسيد "ف" والذي خرجت من لقائه وأنا أفكر في أمرين، الأول: قول لابن حوقل عن أهل قم، وصفهم فيه بأن الغالب عليهم عرب ولسانهم الفارسية، والذي ربما لو رافقني في تلك المقابلة لقال بأن الغالب على القوم فرس ولسانهم عربي، والثاني: هو الشمر.. ولا أقصد هنا شخص الشمر بن ذي الجوشن، بل الشخص الذي يؤدي دور الشمر في ما يُسمى بالتشابيه في عاشوراء، فالسيد "ف" كان كثير الشبه بممثل دور الشمر، الرجل الذي كانت لي معه حكاية .
ففي يوم من أيام عاشوراء خرجت مبكراً للذهاب الى دار أحد الأصدقاء القدامى حاملاً معي أكبر الأواني المتوفرة للحصول على سهمي من "التمن والقيمة"، والتي توزع بعد إقامة التشابيه، والتي بالرغم من كونها عمل مسرحي إلا إنها تتسم بالعفوية والبساطة لتمثيل واقعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين.
وعندما وصلت في الوقت المناسب تفاجأت بطلب ورجاءٍ من صاحبي بإنقاذ الشمر والهروب به بعد انتهاء مشهد الذبح، فوافقت على أداء المهمة ما دامت حصتي من "التمن والقيمة" مضمونة، ودار بيني وبين الرجل الذي يؤدي دور الشمر حديث طويل اشتكى فيه من الأذى الذي يتعرض له في كل عام من بعض الحضور، فتساءلت عن الدوافع لأدائه الدور، فأجابني وعلى وجهه ابتسامة " إن لم أقتل الحسين عليه السلام فمن سيقتله".. ضحكنا على المفارقة ووعدته خيراً.
اتخذت مكاني بين الحضور للمشاهدة والاستعداد لتنفيذ الهروب، لكني وجدت نفسي مشدوداً لصوت قارئ المقتل لألتحق بالباكين على مصاب الحسين، وفجأة أمسك بذراعي أحد رجال الشرطة المكلفين بحماية الموقع لتذكيري بأن الوقت قد حان لتهريب الشمر.
ركبت سيارتي منتظراً الهارب، الذي جاء ومعه شخص آخر كان يؤدي در عمر بن سعد، ركبا سريعاً وأدركا ما تضمره نظراتي المحملة برغبة في الانتقام، لكنني انطلقت بهما وسط حشد من الناس، انشغل بعضه باللطم والبعض الآخر يتربص للانقضاض على رفاقي.. والحمد لله وصلت بهما الى مكان آمن وانتهت مهمتي.
"4"
هذه المواقف لم تكن سوى بعض الصور التي شغلت ذاكرتي وأنا أتجول في دروب القاهرة، المدينة التي تحولت الى دار كرم وضيافة، كرم في المواقف وضيافة متخمة بالطيبة، مدينة جميلة تشبه بغداد ولا تشبهها، الناس فيها خليط مختلف متجانس متباين الأهواء لكنه في ذات الوقت خاضع للقانون، الشعب فيها يتمتع بمساحة واسعة من الحرية في إبداء الرأي، عند المقارنة بباقي شعوب العرب.
تجولي في المدينة فتح لي أبواب للحديث مع أهلها، أحاديث بمواضيع شتى، منها ما يكون محوره التاريخ، ومنها ما يكون محوره السياسة، ومنها ما يكون وسيلة للمقارنة بين نظامين حاكمين.
فكرت كثيراً في هذه المقارنات، وفكرت فيما لو أُتيح لمصر موارد كالتي يتمتع بها العراق، كيف ستكون النتيجة؟، أو ماذا لو أُتيح للعراق قيادة كقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي؟، كيف ستكون النتيجة؟..
هذه التساؤلات والتفكير في نتائجها، ولّد عندي أمنية قد يكون التصريح بها بوابة للاتهام بالتطبيل، لكنني سأقولها فهي مجرد أمنية، مفادها " أتمنى ان يُستبدل كل سياسيي الصدفة في بلادي برجل كعبد الفتاح السيسي، وإن كانت الأمنية مستحيلة التحقيق؟!.. سأرضى بالنصف"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا