الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديمقراطية ومستقبل أحزاب وفصائل اليسار الماركسي في بلادنا

غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني

2022 / 7 / 22
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



بداية أود التأكيد على أن الممارسة الفعلية الواعية للديمقراطية داخل أحزاب وفصائل اليسار الماركسي في بلادنا، هي أحد الضمانات الكفيلة بتطبيق مبدأ المركزية تطبيقاً خلاقاً يوفر التناسق والانسجام الرفاقي بين الهيئات القاعدية والوسطى والعليا في الحزب، بمثل ما يضمن صيرورة التجدد النوعي في صفوف الحزب وهيئاته بعيداً عن كافة المظاهر البيروقراطية والشللية، بما يحقق الحفاظ على مركزية الحزب وتماسك هيئاته عبر التفاعل الرفاقي بينهما بعد طرد وإزاحة مظاهر وأدوات الخلل فيه.
وفي هذا السياق، أعتقد أن التخلص من هذه المظاهر ، يفرض علينا مجابهتها وتفكيكها وإزاحتها ومناقشة الأسباب التي أدت إلى نشوئها، وهي لا تعود إلى الأسباب الذاتية أو المحاور الشللية فحسب، بل تعود ، وبدرجة أساسية ، إلى أسباب متعلقة بالوعي بمبادئ وأهداف الحزب او الفصيل الماركسي وأسس نظامه الداخلي، وبمبادئ الانتماء والالتزام والأخلاق الاجتماعية والثورية المرتبطة بهما، ومتعلقة أيضاً بالوعي بالنظرية الماركسية وبممارستها في النشاط الحزبي ،إلى جانب الظروف الموضوعية التي لا يمكن القفز عنها، لذلك لا يجب أن نفسر أسباب الأزمة الداخلية ارتباطاً بانعكاسها عن العلاقات الداخلية غير السوية فقط، فالممارسة والنظرية مترابطان ، وأي خلل في أحدهما يقود حتماً إلى خلل في الأخرى، لكن الوعي بالنظرية وبأهداف ومبادئ الحزب يظل هو المحدد الرئيسي لأي حركة أو فعل سياسي أو تنظيمي يصعد بمسار قوى اليسار الماركسي إلى الأمام .
فإذا كان المفكر والقائد الشيوعي العبقري لينين قد رّكز على المركزية ، وعلى خضوع الأقلية للأغلبية، والأدنى للأعلى، فإننا –في كل أحزاب اليسار في الوطن العربي- بحاجة إلى وضعها في إطارها الحقيقي ضمن مفهوم أكثر شمولاً للمركزية الديمقراطية، وهو مفهوم يعتمد أساساً على الديمقراطية الواسعة ضمن تراتبية الأطر التنظيمية ووفق الالتزام الخلاق والمتجدد بهوية الحزب الفكرية وبرنامجه السياسي التحرري والطبقي، لأن التركيز على المركزية وحدها مرادفاً للانضباط والالتزام التنظيميين، وبتجاهل كامل للديمقراطية، سوف يقود إلى إختلال أساسي في مجمل العملية التنظيمية، خاصة في ظل ضعف وتراجع الدافعية الذاتية، والأخلاق الرفاقية التي تقوم على الاحترام المتبادل، ومن ثم ضعف تطبيق مفهومي الالتزام والانتماء الحزبي، الأمر الذي يؤدي إلى نشوء الظواهر السلبية والانتهازية التي أشرنا إليها.
اذن المركزية كما افهمها وادعو الى الالتزام بها، يجب أن تترافق مع الديمقراطية الواسعة.
من جانب آخر ، فان مفهومي الالتزام والانضباط لابد أن يلازمهما الانتقاد والحوار الرفاقي الصريح والمباشر والموضوعي داخل الهيئات ، وإذا لم يتم تطبيق هذه الآلية أو لم يتم فهمها، فلابد من أن يحدث الشطط، فإذا تم الأخذ او الانحياز الى جانب المركزية الصارمة فقط، فإن ذلك يعني تبني مفهوم قمعي لا علاقة له بمفهوم المركزية الديمقراطية، خاصة وأن نصوص الأنظمة او اللوائح الداخلية لاحزاب وفصائل اليسار الماركسي تتبنى المركزية الديمقراطية كمفهوم غير قابل للفصل التعسفي، ولا تتبناها كشعار لممارسة فوقية أو بيروقراطية أو أحادية عند اتخاذ القرارات من الهيئة القيادية الأولى أو من رأسها القيادي أو مركز القرار فيها، لأن ذلك التبني يؤدي إلى المزيد من خراب العلاقات التنظيمية والمزيد من تراجع هذا الحزب او الفصيل تنظيمياً وسياسياً وجماهيرياً، ولا أظن أن أي مخلص لتاريخ حزبه ومستقبله يريد له مثل هذا المصير.
وبالتالي ، وفي ضوء المتغيرات النوعية في حياة الأحزاب الشيوعية منذ ثورة أكتوبر 1917 وخاصة بعد وفاة لينين ، وتفشي مظاهر عبادة الفرد والاستبداد بذريعة أسبقية المركزية على الديمقراطية في معظم تلك الأحزاب – بدرجات مختلفة- استمرت حتى لحظة انهيار الاتحاد السوفياتي 1991، الأمر الذي يعني إن مختلف تلك التجارب قد أثبتت أن على كافة أحزاب اليسار الماركسي إعادة النظر في كيفية تطبيق مفهوم المركزية الديمقراطية، ليس بمعنى نفيه، بل بتمحيصه، ومحاولة إعطائه معنى أشمل مما كان عليه خلال الحقبة الماضية، بما يجعل من هذا المفهوم أداة لتطور وتجدد الحزب ديمقراطياً ، بعيداً عن كل أشكال البيروقراطية والتفرد والجمود من ناحية، وبعيداً عن كل الممارسات التوفيقية أو المجاملة أو الحلول الوسط من ناحية ثانية، لكنني ادرك ان هذا المطلب مرهون بعمق التربية الحزبية المستندة الى الروح والأخلاق الرفاقية من جهة والى الوعي بالنظرية ومبادئ الحزب الى جانب مكونات الواقع السياسي الاقتصادي الاجتماعي في كل قطر من جهة ثانية.
إن تناولنا لمظاهر الخلل في احزابنا اليسارية الماركسية ، يفرض علينا، لا أن نعرف مكامن الاختلال فقط، بل أن نسعى عبر تزايد الوعي بالنظرية والواقع بصورة نوعية، جنباً إلى جنب مع ممارسة الأخلاق الثورية الرفاقية، لأن يصبح مفهوم الديمقراطية، والمركزية الديمقراطية ذا معنى أشمل، يؤدي إلى الخروج من الأزمة التي تعيشها أحزاب اليسار راهنا إلى النهوض المأمول في استعادة دورها الطليعي ، بما يضمن منع الاختلال مستقبلاً، ويؤسس لبنية ديمقراطية حقاً في قيادة وقواعد الاحزاب، تكفل استقرار وحماية الحزب وصعوده في المرحلة الراهنة والمستقبل، وهذا التوجه مطلوب بالضرورة لكافة الأحزاب في كل بلدان العالم عموما ، وفي البلدان المتخلفة في آسيا وافريقيا وامريك اللاتينية وبلداننا العربية خصوصا ، التي تعيش حالة من التطور الطبقي غير المتبلور والمشوه في ظل مجتمع محكوم حتى اللحظة بعوامل التخلف والتبعية والاستبداد والاستغلال، الى جانب غياب الوعي الطبقي لدى العمال والفقراء الكادحين والمضطهدين في بلادنا.
وفي هذا السياق، أشير إلى أنه إذا كانت الطبقة العاملة في البلدان الصناعية مارست تقاليد الديمقراطية التي اكتسبتها من خلال البنية التحتية التي أوجدتها البرجوازية (التقدم الصناعي والعلمي والتنويري)، فإنها عندنا لم تعرف ذلك بل عرفت –وما زالت- بنية بطركية بلباس حداثي شكلاني رث، هي أساس التسلّط، إلى جانب استمرار هيمنة الفكر التقليدي التراثي السلبي بذريعة الدين والعادات والتقاليد في خدمة مصالح الأثرياء القدامى منهم والجدد الكومبرادوريون، وفي ظل عفوية جماهيرية تكاد تكون مستسلمة لهذا الفكر ورموزه الطبقية والتراثية، وهو ما يجعل مسألة التنظيم في بلدان مغرب ومشرق الوطن العربي أكثر صعوبة، أو كمن يحفر في الصخر، ولا خيار لنا – من اجل التغيير الديمقراطي وتحقيق أهداف شعوبنا عموما وجماهيرنا الشعبية خصوصا- سوى مواصلة ذلك الحفر بإرادة جماعية واعية تتخطى كل المعوقات ، وتوفير الأسس الفكرية والثقافية اللازمة لتكريس الديمقراطية في مجتمعاتنا، فالديمقراطية عندنا تعتمد على الوعي أكثر من إعتمادها على الأطر والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية التابعة والمتخلفة الراهنة، وهذا ما له علاقة بالظروف الموضوعية ارتباطاً بأوضاع التبعية والتخلف التي نعيشها، وبالتالي فإن كل حزب او فصيل ماركسي في بلداننا ، يجب أن يجسد المعنى الحقيقي للمثقف العضوي – بالمعنى الفردي او الجمعي - الى جانب تجسيده الفعال لمفهوم المثقف الثوري الحامل الاجتماعي البديل للطبقة الغائبة أو غير المتبلورة.
أما الجانب المتعلق بالظروف الموضوعية، فإننا نتفق على أن تغيّر الظروف الموضوعية يؤدي إلى تأثيرات مختلفة في بنية التنظيم أيضاً. وما دامت الظروف الموضوعية ليست ثابتة بل تتطور باستمرار، فإن تأثيرات تطوّرها الاجتماعي أو الطبقي ، تنعكس أيضاً على البنية الديمقراطية في التنظيم، وبما أن تناول الوضع الطبقي في مجتمعاتنا ، تناول متعدد ، حيث ينقسم هؤلاء إلى مجموعات لكل منها وضع طبقي خاص، نتيجة الظروف "السياسية" التي تحكم كل مجموعة في كل بلد او مجتمع (كما هو الحال في الاختلافات التطورية الاجتماعية بين مصر و المغرب والجزائر وموريتانيا واليمن وبلدان الخليج والأردن وفلسطين ولبنان وسوريا ...الخ وما بينها من خصوصيات اجتماعية مختلفة ) وبالتالي اختلاف ظروف كل منهما، رغم أنه ليس اختلافاً نوعياً في كل الأحوال ، حيث أن هذا التطور المشوه في مجتمعاتنا ، أدى إلى تكوين شرائح اجتماعية طبقية كومبرادورية جديدة مرتبطة ومتكيفة بدرجات متفاوتة مع شروط التبعية والتحالف الامبريالي الصهيوني ، وما يحمله هذا التكيف من مفاهيم مجتمعية، تابعة ومتخلفة ورثة في آن واحد ، ترى في الديمقراطية الحقيقية وممارستها، في ظل وحدة الموقف والنظام السياسي ، نقيضاً لمصالحها الطارئة والمستحدثة ، وقد يعود السبب في ذلك إلى أن بلداننا المتخلفة لم تشهد تجربة الثورة الديمقراطية البورجوازية ، وظل التسلط والقمع والاستبداد، جنباً إلى جنب مع العادات والتقاليد الاجتماعية والتراثية الأبوية أو البطركية السالبة ما قبل الرأسمالية، مكوناً جوهرياً في بلادنا ، فالوعي السائد لم يستطع تجاوز "العادات الاجتماعية" القديمة، الأمر الذي أدى إلى تسرب مظاهر التخلف الفكري والإداري والتنظيمي والاقتصادي إلى داخل معظم أحزاب وفصائل اليسار في بلادنا ، حيث ظل دور المثقفين هامشياً في العديد من هذه الأحزاب، في مقابل استمرار حالة الارتباك والتشوش الفكري والهيمنة البيروقراطية عليها.
وفي هذا السياق ، فإن إعطاء مفهوم أشمل للمركزية الديمقراطية يعني محاولة طرح تصوّرات حول المسائل التالية :
‌أ. تطوير الوعي عموماً، والوعي الديمقراطي خصوصاً، لأن ذلك يسهم من جهة في تطوير أفق الحوار التنظيمي الداخلي، لأن الوعي يعني الحوار وإختلاف الآراء، ومن جهة ثانية إلى قبول النقد والاعتراض بروح رفاقية موضوعية بعيدة عن الشخصنة، وهي مسائل مهمة في العمل الثوري.
‌ب. وإذا كانت الديمقراطية تعتمد على الوعي عموماً والوعي بها بشكل أساسي، فإنها بحاجة إلى مجموعة من القواعد تؤكدها وتسهم في أن تأخذ مجراها في العملية التنظيمية ضد كافة المظاهر الانتهازية والشللية وأدواتها ورموزها، وضد كافة مظاهر الهبوط الفكري والسياسي، الليبرالي أو الديني الشكلي المتخلف، وهنا بالضبط تتجلى المعاني الحقيقية للممارسة المرتبطة بمفاهيم حرية الرأي والنقد والتعبير والنقاش والانتخاب، وحق الأقلية في التعبير عن رأيها في النشرات الداخلية.
‌ج. إن الديمقراطية بحاجة إلى إطار تنظيمي منضبط ونوعي في انتماء أعضاءه والتزامهم، يؤدي إلى إستيعابها وتطبيقها بشكل خلاق، لكي تأخذ مجراها الحقيقي الفاعل والمؤثر، لا أن تتحوّل إلى شعارات غير قابلة للتحقيق أو إلى وسيلة لامتصاص هذه الحالة النقدية أو تلك دون المعالجة الجدية لها.
وهنا ، لابد من أن أشير إلى أن هذا التوجه المطلوب يقتضي بالنسبة لاحزاب اليسار في كل بلدان الوطن العربي، التركيز على الوعي، الوعي بهوية الحزب الفكرية، النظرية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي ، والوعي بمكونات واقع بلدانها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، لأن الثورة أساسها الوعي، وحين يُفتقد الوعي تختلّ العملية كلها، وتفشل الثورات، وتتحوّل قيادة الأحزاب الثورية إلى سلطة بيروقراطية أو رخوة أو هابطة أو قمعية أو توفيقية انتهازية.
فالوعي هو صمام الأمان الذي يحول دون الوصول إلى تلك النهايات المحزنة، وهو الذي يسهم في تحديد التصوّرات الاستراتيجية، والخطوات التكتيكية، وتحديد الظرف المناسب والزمان المناسب لتحقيق أو ممارسة أي شكل من أشكال النضال.
وفي كل الأحوال ، فإن الوعي يقتضي ، التأكيد على الديمقراطية، في الحزب وفي المجتمع، لأنها وسيلة الوصول إلى الوعي، وضمانة تحديد الأهداف تحديداً صحيحاً، وضمانة تحقيق التفاعل الضروري اللازم للنضال الثوري وتطوره، ارتباطاً بتطور حرية الرأي والنقد والانتخاب، وهي قضايا جوهرية في الحزب وفي المجتمع أيضاً، وإن اتخذت أشكالاً مختلفة في كل منها.
كما يقتضي الوعي أيضاً، العمل على بناء قوّة تنظيمية صلبة ومتماسكة، وقادرة على استقطاب الطبقات الشعبية، والاندماج في نسيجها ، وتوعيتها والتعلم منها، وقيادتها.
بغير ذلك تفشل الأحزاب الثورية، وتتحوّل إلى هوامش، وينتهي دورها التاريخي، ليبقى دورها اللحظي، في المناسبات والاحتفالات الشعبوية، الذي لا يعدو أن يكون دوراً شكلياً أو كمياً، دون أي تأثير حقيقي في السياسة أو في المجتمع ، وقد يتحول –بفعل تهمشه- إلى تنظيم تابع وانتهازي ، يماليء قوى السلطة او الحكومة أو القوى البرجوازية بدل أن يحاربها، ويقبل قيادة البرجوازية التابعة والرثة، بدل أن يقودها، ويهرب أو يعجز عن طرح قضايا الجماهير الأساسية، إلى الحديث عن قضايا هامشية.
أخيراً ، إن تأكيدي على أهمية مبدأ الديمقراطية المركزية يعني أولوية الديمقراطية على المركزية ، لأن مبدأ الديمقراطية أولا هو بمثابة حجر الزاوية في بناء أحزاب اليسار الماركسي وتقدم مسيرتها النضالية وصولاً إلى تحقيق أهدافها التحررية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية في مجتمع عربي ديمقراطي موحد، فبدون الديمقراطية التنظيمية المستندة إلى قاعدة صلبة من الوعي لدى كل عضو من أعضاء هذه الأحزاب ، يتشوه التطور ويصبح من العسير تحقيق أي من أهدافنا الوطنية أو القومية التقدمية الوحدوية أو الاشتراكية، وإذا كانت الظروف الموضوعية الراهنة معقدة، وبحاجة إلى جهد ووعي، فإن توفر الظروف الديمقراطية داخل احزابنا سيسهم في إيجاد الظروف الملائمة للخروج من الأزمة الراهنة صوب النهوض المأمول والممكن وعند ذلك، ستتمكن من حل كل الإشكالات السياسية والفكرية والتنظيمية بأفق ثوري ومتجدد في مسيرة أحزاب وفصائل اليسار الماركسي العربي على طريق استعادة دورها الثوري الطليعي وتحقيق الانتصار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري