الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايات عادية جدا، الحكاية الثامنة - عقول صغيرة جدا

إدريس الخلوفي
أستاذ باحث

(Lakhloufi Driss)

2022 / 7 / 23
الادب والفن


حكايات عادية جدا، الحكاية الثامنة – عقول صغيرة جدا
بعد أن أشبع جوعه، فكر العربي في قضاء بضعة أيام في وادي الندم، لكن أين سيستقر؟
فكر مليا، وسرعان ما خطرت على باله فكرة. فعندما كان على مشارف البلدة، رأى بناية إسمنتية مزخرفة بشتى اشكال الألوان والرسوم، وأمامها لافتة كتب عليها: ضريح "سيدي علي بوعلام"، فقرر مباشرة زيارته ليرى إن كان مناسبا للاستقرار.
توجه صوبه، وبعد دقائق معدودة، كان أمام بابه: بناية في حجم منزل عادي، له باب ذو دفتين، مصنوع من خشب وبه زخارف ونقوش، دفع الباب فانفتح، لم يكن يغلق فهو مفتوح دائما في وجه زبائنه الذين كانوا في الغالب من النسوة، وجد العربي أمامه بناية من حجرة واحدة، لكنها واسعة جدا، فهي غرفة بحجم منزل، مساحتها تتجاوز المائة متى مربع، يتوسطها قبر المرحوم والذي تم وضع صندوق خشبي فوقه هو بحجم القبر طولا وعرضا، يسمى محليا "الضربوز"، ويرفع بحوالي المتر ونصف فوق الأرض، كان الصندوق مغطى بأصناف من الأثواب الفاخرة أفضل من الأسمال البالية التي يرتديها نصف سكان البلدة، ومن جهة رأس القبر، كانت هناك حفرة يستخرج منها تراب يسمونه " الرقي"، كان سيدي علي بوعلام طبيبا للمرضى، تقصده المرأة – وخاصة العجائز – وتخبره عن مرضها، ثم تأخذ الرقي، وتلطخ به جبهتها، ومكان الألم، ثم تخرج وقد زال الألم، وهو يكون في الغالب مرضا وهميا، تتوهمه المرأة لتتخذه دريعة للخروج من البيت، وأحيانا يكون الإحساس بالتعافي مرتبطا بالإيمان الشديد ببركة الولي، فقد يكون المرض حقيقيا، وقد لا تعطي زيارة الضريح نتيجة، لكن لا يجرؤ أحد على القول أن صحته لم تتحسن بعد زيارة المقام الرفيع، فذلك لا يجوز لعدة أسباب، أولا: لأن هناك تعاقد لا شعوري بين أهل البلدة حول بركة الولي، فلا يستطيع أحد التصريح بعدم جدوى العلاج، ثانيا: زيارة الولي كانت مرتبطة بالنية، والتصديق، وإذا شكك أحد في بركة الولي، يتهم بأنه قليل النية، وبالتالي فالعيب فيه وليس في الولي، ولا أحد يقبل عن نفسه أن يظهر بمظهر المشكك أو الجاحد. ثالثا: لأن زوار الضريح لم يكونوا من الأهالي فقط، بل من مختلف المناطق، وسمعة البلدة وقيمتها ستصبح رخيصة في أعين الغير إذا تم التشكيك في بركة الولي.
كانت أرضية الضريح مغطاة بالرخام، وفوق الرخام فرشت زرابي فاخرة لا ترى مثلها إلا في بيوت الأغنياء، وجدرانه مطلية بعناية، وتفوح منه رائحة العطر المنبعثة من أنواع البخور الذي تحضره النسوة، فكلفة العلاج كانت عبارة عن بخور أو شموع أو بضع دراهم توضع في صندوق صغير، عندما يملأ، يأتي شخص وصي على الضريح، ويستخرج المال الذي فيه، وهو عادة ما يعتبر أجرته التي يتلقاها مقابل العناية بنظافة الضريح، أما عندما يكون هناك قربان على شكل ذبيحة، فكان يأخذ جزءا منها لبيته، ويعطي الجزء الثاني لجزار يتكلف ببيعه ومناولته الثمن لاحقا.
وسط سقف الضريح كانت ثريا مزخرفة ومليئة بالمصابيح، معلقة بسلسلة من نحاس.
أي محظوظ هذا الذي مات قبل خمس مائة سنة أو أكثر، ويحظى بمسكن و إنارة، واحترام، وتقدير، وعطايا، وذبائح، وموسم سنوي يجتمع فيه علية القوم، وتخصص الدولة ميزانية لهذا الموسم تكفي لبناء مسجد أو مدرسة...في الوقت الذي ينام فيه أحياء تحت النجوم، أشباه عرايا، دون غطاء، جوعى يقتاتون من القاذورات...هذا النظام العقدي محمي بشكل كبير، وتتم تغذيته باستمرار، إنه نظام إيديولوجي، تتوفر فيه الوظائف الثلاث للإيديولوجيا، التي تحدث عنها الفيلسوف بول ريكور والتي لخصها في: وظيفة التشويه، ووظيفة التبرير، ثم أخيرا وظيفة الإدماج، فهذه الأخيرة تتجلى بوضوح في دور الضريح، إن الجثة المدفونة في الضريح تستغل إلى أقصى الحدود.
حرك العربي الصندوق الخاص بالهبات، فوجده ثقيلا، كان به قفل قديم، جرب العربي فتحه بمسمار كان ملقى على الأرض، فانفتح بسهولة، كيف لم يسرق أحد هذه الأموال؟ إن درجة تصديق الأهالي لبركة وكرامة الولي، تجعلهم ينأون بنفسهم عن مثل هذا الفعل، فهناك قصص متداولة حول أشخاص سرقوا أموال الضريح فمسخوا إلى خنازير، أو قردة...ولا أحد يقبل عن نفسه أن يتحول إلى خنزير، أما العربي فقال في نفسه، سآخذ بعض النقود التي أحتاجها الآن، وأترك الباقي للمرات القادمة في حال بقيت إنسانا، لست خائفا من التحول إلى قرد أو خنزير، قد تكون حياتهم أرحم من حياة الإنسان، على الأقل سأعفى من مسؤوليات كثيرة ملقاة على عاتق هذا الظلوم الجهول .
أخذ حفنة مال، وأعاد إقفال الصندوق، وقصد البلدة للبحث عن مطعم يتناول به عشاءه، وذلك ما كان. بعد أن تعشى، تراءى له مقهى في الشارع المقابل، فقصده، كانت تلك المرة الأولى التي يدخل فيها مقهى غير دكان القلعة السوداء، جلس في زاوية منعزلة في محاولة لتفادي عيون الزبائن التي كانت تتفحصه لدرجة أحس وكأنها ستلتهمه، اقترب منه النادل سائلا إياه بأدب: هل ترغب في مشروب يا سيدي؟ رد العربي: ماذا لديكم؟ أجاب النادل بابتسامة عريضة: كل أنواع القهوة، الحليب، العصير، المشروبات الغازية، الشاي...
أطرق العربي برأسه وقال: سأجربها جميعا، ابدأ بالقهوة، ثم بعد ذلك أحضر كل صنف عندما ترى أنني فرغت من السابق، ابتسم النادل من جديد وقال: حاضر، وهو يحاول إخفاء دهشته من هذا الطلب الغريب.
تذوق العربي فنجان القهوة، وجد أن طعمها مر كما أن حجمها صغير. فكر أن يعدل عن شربها، لكن خشي أن يظهر بمظهر شخص بليد، تجرعها بمرارة دفعة واحدة، ونادى النادل ليحضر شيئا آخر.
كان هناك في زاوية من المقهى شخص يرتدي حداء رياضيا مع سروال ثوب، وقميصا عليه العلم الأمريكي، ويعتمر قبعة على جبينها الحرفين الأولين لولاية نيو يورك بالأحرف اللاتينية، كان هذا الشخص لا يزيل عينيه عن العربي، وأمامه ورقة يدون عليها من حين لآخر.
بعد أن أنهى العربي مشروباته، قام ودفع الحساب، وخرج قاصدا ملجأه الجديد.
دخل العربي إلى الضريح واختار زاوية من زواياه جعلها مضجعا له، وراح يغط في نوم عميق.
لم يصح العربي إلا صباحا على ضجة قوية، وصوت يصرخ في وجهه: هيا استيقظ أيها الغريب.
قام العربي مفزوعا، ليجد نفسه أمام صاحب القبعة الذي كان يرمقه بالمقهى، وشخص يرتدي ثيابا تقليدية مكونة من جلباب وطربوش وبلغة، وثالث يرتدي ثياب رجال الأمن، وخارج الضريح تجمهر عشرات الأهالي.
يتبع....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/