الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


The Promised Day Has Come (4) جاء اليوم الموعود

راندا شوقى الحمامصى

2022 / 7 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ذلـّـة مباشــرة كاملــة...........
من بين ملوك الأرض الذي حكموا حين أعلن بهاءالله رسالته اليهم وأنزل سورة الملوك في أدرنة كان الإمبراطور الفرنسي والبابا هما الأجرأ قلباً والأشد تأثيراً. إذ أنهما كانا يتبوّءان أبرز مكانة في العالم السياسي والديني على التعاقب وكان ما لقياه على السواء من ذلة ومهانة مباشرة وكاملة.

قلّما ينكر مؤرخ من المؤرخين أن نابليون الثالث من لويس بونابرت (أخ نابليون الأول) كان أبرز ملوك عصره في الغرب وكان يقال عنه "الإمبراطور هو الدولة" وكانت العاصمة الفرنسية أشد عواصم أوروبا جاذبية والبلاط الفرنسي "ألمع وأفخم بلاط في القرن التاسع عشر". وقد طمح -وهو ذو الطموح الراسخ المتاصل- إلى أن يحذو حذو عمه الإمبراطوري وأن يتم ما انقطع عمله. كان أخا أحلام ورجل مؤامرات ودسائس؛ ذا طبيعة زئبقية ونفاق وتهور، ولما كان وارث عرش نابليون فقد استغل السياسة الرامية إلى إحياء الاهتمام بعمل مثله العظيم والتمس أن يطيح بالملكية، فلما فشل في محاولته هذه فأرسل إلى أمريكا ثم اسر بعد ذلك في محاولة قام بها لغزو فرنسا وحكم عليه بالسجن المؤبد ثم فرّ إلى لندن حيث مكنته ثورة سنة 1848 من العودة كما مكنته من أن يطوّح بالنظام الحكومي ونودي به بعد ذلك امبراطوراً وبالرغم من أنه كان قادراً على القيام بحركات بعيدة الأثر إلا أنه لم يكن لديه من الحكمة ولا من الشجاعة ما يكفيانه للسيطرة على هذه الأعمال.

إلى هذا الرجل، وهو الإمبراطور الفرنسي الأخير الذي حاول أن يحبب أسرته إلى الشعب بالغزو الخارجي وحلم بأن يجعل من فرنسا مركزاً للإمبراطورية الرومانية بعد إحيائها من جديد - إلى هذا الرجل وجّه سجين عكاء الذي نفاه السلطان عبدالعزيز ثلاث مرات لوحاً - من خلف أسرار الثكنات التي سجن فيها - يحمل في طواياه ذلك التعنيف الجليّ وتلك النبوءة المشؤومة؛ فقال: "نشهد بأنك ما أيقظك النداء (نداء الأتراك الذين غرقوا في البحر الأسود) بل الهوى لأنّا بلوناك وجدناك في معزل ... لو كنت صاحب الكلمة ما نبذت كتاب الله (اللوح الأول) وراء ظهرك إذ أرسل إليك من لدن عزيز حكيم ... بما فعلت تختلف الأمور في مملكتك ويخرج الملك من كفك جزاء عملك."

أما رسالة بهاءالله السابقة التي أرسلها على يد أحد الوزراء الفرنسيين إلى الإمبراطور فقد استقبلت استقبالاً يمكن أن تعرف طبيعته من الكلمات الواردة في لوح ابن الذئب حيث قال: "أرسلنا إليه لوحاً (اللوح الأول) فلم يتفضل بجواب فلما وردنا السجن الأعظم جاءتنا من وزيره رسالة أولها بالفارسية وآخرها بخطه أبدى فيها احترامه وقال: أبلغت الرسالة كما رجوت ولم يتفضل إلى الآن بجوابها ولكني أوصيت سفيرنا في الآستانة وقناصلنا في تلك البلاد أن ينجزوا لكم أي مطلب تطلبونه. من هذا البيان يتبين أنهم فهموا أن مقصود هذا العبد هو إصلاح الأمور الظاهرة."

وفي اللوح الأول رغب بهاءالله أن يمتحن إخلاص دوافع الإمبراطور فعمد إلى لهجة رقيقة مظلومة متواضعة وبعد أن أطنب في وصف البلايا التي تحملها خاطبه بهذه الكلمات: "بلغ مسامع هذا المظلوم بيانات نطق بهما ملك الزمان. الحق أن هذين البيانين هما سلطان البيان. كان الأول إجابة على الحكومة الروسية حين سألت لماذا انصبت الحرب (حرب القرم) لها. فأجبت أيقظتني عند الفجر صيحة المظلومين الذين أغرقوا في البحر الأسود بلا ذنب ولا جريرة. لهذا شرعت عليك السلاح. على أن أولئك المظلومين قد قاسوا ظلماً أكبر وهم في كرب أعظم. إذ أن المحنة التي انصبت على رؤوس هؤلاء المظلومين لم تدم إلا يوماً واحداً على حين أن البلايا التي تحملها أولئك العباد دامت خمساً وعشرين سنة؛ تضمر لنا كل دقيقة منها بلاءً جديداً. وكان بيانك الآخر -وهو بيان عجيب يظهر للعالم وهو قولك: (واجبنا هو أن ننتقم للمظلوم وأن نعين العاجز) وأن شهرة عدل الإمبراطور وإنصافه قد أحييتا الآمال في نفوس كثيرة وأنه لجميل بملك الزمان أن يفحص حال أولئك المظلومين وخليق به بأن يمد يد عنايته للضعفاء. إنه لم يكن على الأرض وليس عليها اليوم من ظلم كما ظلمنا ومن عجز كما عجز هؤلاء المطرودون."

ويروى أن العاهل التافه المحتال المغرور طرح اللوح حين تسلم هذه الرسالة قائلاً: "إن كان هذا الرجل هو الله فأنا إلهان!" ويروى عن ثقة أن حامل اللوح الثاني أخفاه في قبعته ليتجنب تفتيش الحرس الشديد واستطاع أن يسلمه إلى الوكيل الفرنسي المقيم في عكاء فترجمه هذا إلى الفرنسية كما يؤكد النبيل في تاريخه وأرسله إلى الإمبراطور، ثم آمن حين رأى آخر الأمر تحقق هذه النبوءة الخطيرة.

وسرعان ما اتضحت دلالة الكلمات المظلمة الزاخرة التي نطق بها بهاءالله في لوحه الثاني. فذلك الذي دفعته الأطماع الأنانية إلى إعلان حرب القرم، والذي حفزه الحسد الشخصي لقيصر روسيا، والذي كان يتلهف على تمزيق معاهدة سنة 1815 لينتقم من فاجعة موسكو والذي التمس أن يسكب على عرشه مجداً عسكرياً؛ سرعان ما جرفته هو نفسه طامة طوّحت به إلى الحضيض؛ وكلفت فرنسا أن تنحدر من مكانتها السامية بيد الأمم إلى منزلة الدولة الرابعة في أوروبا.

نعم ختمت معركة سيدان سنة 1870 على مصير الإمبراطور الفرنسي إذ تمزق الجيش جميعه واستسلم مسجلاً بذلك أعظم هزيمة عرفت حتى آنذاك في التاريخ الحديث وفرضت عليه تعويضات فادحة وسجن هو نفسه وقتل وحيده الأمير الإمبراطوري في حرب الزولو بعد عدة سنوات، وتلاشت الإمبراطورية دون أن يتحقق في برنامجها شيء وأعلنت الجمهورية وحوصرت باريس بعد ذلك وفتحت وأعقبت ذلك “السنة العظيمة” التي تميزت بالحرب الأهلية التي فاقت قسوتها الحرب الفرنسية الألمانية ونودي بلولهلم الأول ملك بروسيا إمبراطوراً على ألمانيا في نفس القصر الذي شمخ بأنه “الأثر المكين والرمز القائم تفخر لويس الرابع عشر قوته التي احتفظ بها بعض الشيء بإذلال الألمان.” ونزل عن عرشه بكارثة “بلغ من شدتها أن تردد صداها في أرجاء العالم.” وعانى هذا الملك الكاذب المغرور في النهاية وحتى آخر نسمة من حياته نفس النفي الذي تجاهله بلا رحمة ولا شفقة عند بهاءالله.

وكان بانتظار البابا بيوس التاسع ذلة لا تقل ظهوراً وبروزاً وإن كانت من الناحية التاريخية أعظم دلالة. نعم كان إلى ذلك الذي عدّ نفسه خليفة المسيح أن كتب بهاءالله "قد ظهرت الكلمة التي سترها الإبن (عيسى) إنها قد نزلت على هيكل الإنسان." وإن الكلمة هي هو، وأنه نفسه هو الأب، كان إلى ذلك الذي لقب نفسه بأنه "خادم خادمي الله" أن كشف له موعود كل الأزمنة عن مقامه في أوج العزة وأعلن أنه "قد أتى رب الأرباب في ظلل السحاب" نعم كان هو من كان يعد نفسه خليفة للقديس بطريس فذكره بهاءالله بأنه: "هذا يوم فيه تصيح الصخرة بأعلى الصيحة .. يقول قد أتى الأب وكمل ما وعدتم به في الملكوت." كان هو من يتوّج رأسه بالتاج المثلث ثم اصبح فيما بعد سجين الفاتيكان الأول - فأمره سجين عكاء أن: "دعها (أي القصور) لمن أرادها وأن دع الملك للملوك واطلع من أفق البيت مقبلاً إلى الملكوت."

هو الكونت ماستي فيرتي (Count Mastai Ferretti) أسقف أمولا، البابا الرابع والخمسين بعد المائتين منذ افتتاح خلافة القديس بطرس، رقي العرش الرسولي بعد إعلان الباب بسنتين وفاقت مدة بابويته مدة أي بابا سبقه ولسوف يذكره التاريخ كمؤلف للوثيقة التي أعلنت أن الرأي الذاهب إلى طهارة مريم العذراء (سنة 1854). وهو الرأي الذي أشير إليه في الإيقان هو من معتقدات الكنيسة، وكمروّج لمذهب جديد في العصمة البابوية (سنة 1870) كان سليطاً بالطبع رجلاً هزيلاً في سياسته غير ميّال إلى التراخي عاقد العزم على أن يتمسك بكامل سلطانه وعلى حين نراه قد أفلح في زيادة تحديد مقامه وتعزيز سلطته الدينية باصطناعه مسلكاً شامخاً نراه قد فشل آخر الأمر في الاحتفاظ بسلطته الزمنية التي طالما زاولها رؤوس الكنيسة الكاثوليكية قروناً عديدة.

تقلصت هذه السلطة الزمنية على مر الأجيال إلى حدود تافهة هزيلة وكانت العقود السابقة على زوالها مليئة بأخطر التقلبات. وعلى حين كانت شمس ظهور بهاءالله تصعد إلى كمال بهائها السماوي كانت الظلال التي أطبقت على ميراث بطرس تزداد قتاماً في اطراد إيجابي. وعجل لوح بهاءالله الموجه إلى البابا بيوس التاسع بزوال هذا الميراث. وإنه لتكفينا النظرة العجلى إلى مجرى الجدود العواثر أثناء هذه العقود الأخيرة: طرد نابليون الأول البابا من مقاطعاته. ثم إقامة مؤتمر فينا رئيساً لها على أن تكون إدراتها بيد القساوسة ولقد حدا الفساد واضطراب والعجز عن تأمين المجتمع الداخلي وتجديد الرقابة والتفتيش بأحد المؤرخين إلى أن يقول: "لا أرض في إيطاليا بل ربما في أوروبا ما عدا تركيا تحكم بمثل ما تحكم به هذه الدولة الدينية." كانت روما "مدينة أطلال مادية وخلقية" وقد أفضت القلاقل إلى تدخل النمسا وطالبت خمس دول كبيرة بإدخال إصلاحات واسعة النطاق وَعَدَ البابا بتنفيذها غير أنه عجز عن ذلك. فتدخلت النمسا من جديد وعارضتها فرنسا وظلت إحداهما تراقب الأخرى بالقياس إلى أملاك البابا حتى سنة 1838 حين ساد الاستبداد من جديد بعد انسحابهما وبدأ بعض رعايا البابا ينددون بسطلته الزمنية معلنين زوالها في سنة 1870 واضطرته الارتباكات الداخلية إلى الفرار تحت جنح الليل متخفيا في زي قسيس متواضع من روما التي أعلن أنها أصبحت جمهورية. وبعد ذلك أعادها الفرنسيون إلى حالتها الأولى. إلا أن بروز ملكية إيطاليا إلى حيز الوجود وسياسة نابليون الثالث الزئبقية وكارثة سيدان؛ وأخطاء حكومة البابا التي فضحها كلارندون في مؤتمر باريس الذي انتهت به حرب القرم بقوله أنها: "عار على أوروبا" ختم على مصير ذلك الملك المزعزع.

وفي سنة 1870 بعد أن أنزل بهاءالله لوحه إلى بيوس التاسع نصب فيكتور عمانوئيل الحرب للممتلكات البابوية ودخلت فصائله روما واستولت عليها وفي مساء الاستيلاء عليها لجأ البابا إلى الاتران (The Lateran) وبالرغم من كبر سنة صعد السلم المقدس (Scala Santa) على ركبتيه منهمر الدمع. وفي الصباح التالي حين بدأ قذف المدينة بالمدافع أمر بالراية البيضاء فرفعت على قبة القديس بطرس وبعد أن جرد من أملاكه أبى أن يعترف "بمخلوق الثورة" وطرد غزاة مقاطعاته من رحمة الكنيسة، وندد بفيكتور عمانوئيل قائلاً بأنه "الملك اللص" وبأنه "غافل عن كل مبدأ ديني"، محتقراً لكل حق، معتد على كل قانون." أما روما "المدينة الخالدة التي عليها يرتكز مجد خمسة وعشرين قرناً والتي حكمها البابوات عشرة قرون حكماً لا يناقشهم فيه مناقش فقد أضحت آخر الأمر عاصمة لمملكة جديدة ومسرحاً للذلة التي تنبّأ بها بهاءالله والتي فرضها سجين الفاتيكان على نفسه.

ويكتب معلق على حياة البابا فيقول: "كانت سنوات البابا الشيخ الأخيرة مليئة بالآلام والحسرة وإلى بلاياه الجسيمة أضيف أسى أتاه من رؤيته حرمة الدين تنتهك في قلب روما في كل حين والأوامر الدينية تجرد من قوتها وتضطهد والأساقفة والقساوسة ممنوعين من مزاولة واجباتهم."

وفشلت كل محاولة لإصلاح الوضع الذي نشأ سنة 1870 إذ ذهب رئيس اساقفة بوزن إلى فرساي يوسط بسمارك لحساب البابوية إلا أنه استقبل استقبالاً فاتراً ثم شكّل بعد ذلك حزب كاثوليكي في ألمانيا ليضغط على المستشار الألماني ضغطاً سياسياً. على أن كل ذلك ذهب سدى. وذلك لأن العملية الجبارة التي اشرنا إليها من قبل كان لا بد لها من أن تتابع مجراها بلا عائق. وحتى الآن بعد انقضاء ما يزيد عن نصف القرن نجد أن ما يسمونه إعاد السلطة الزمنية لم تزد على أن زادت في بؤس ذلك "الأمير" المقتدر في يوم من الأيام الذي كانت الملوك ترتجف لاسمه والذي كانوا يخضعون لسلطته المزدوجة طائعين. ولقد تم الحصول على تلك السلطة الزمنية المتقصرة خاصة على مدينة الفاتيكان الصغيرة المخلفة لروما ملكاً لا جدال فيه لملك دنيوي بالاعتراف المطلق بمملكة إيطاليا -وهو اعتراف طال الامتناع عنه. والواقع أن معاهدة لاتران التي ادعت أنها قد حلت المسألة الرومانية حلاً نهائياً قد ضمنت للسلطة الدنيوية فيما يختص بالمدينة الخالدة المطوّقة حرية للعمل مليئة بالاضطراب والخطر. ولقد علق كاتب كاثوليكي فقال: "إن روحيّ المدينة الخالدة قد انفصلا لا لشيء إلا ليتصادما عن عنف أعظم من أي وقت مضى."

من الخير أن يستعيد البابا الملك إلى ذاكرته عهد أقوى أسلافه وهو أنوسنت الثالث الذي استطاع خلال ثمانية عشر عاماً أن يعز ويذل الملوك والأباطرة والذي كان نطقه يحرم أمما بأسرها من مزاولة العبادة المسيحية والذي وضع ملك إنجلترا تاجه تحت قدمي مندوبه والذي بندائه قامت الحملة الصليبية الرابعة والخامسة.

ألا يجوز لهذه العملية التي أشرنا إليها من قبل أن تثير في هذا الميزان أثناء عملها خلال السنوات العاصفة التي تنتظر الإنسانية هياجاً أشد تخريباً مما قد اثارته إلى الآن؟

لم يكن تلاشي الإمبراطورية الثالثة وانقراض أسرة نابليون ولا القضاء على سلطة البابا الزمنية في أيام بهاءالله إلا من مقدمات لكوارث أجسم يمكن أن يقال بأنها ميّزت عهد عبدالبهاء. أما القوى التي أطلقها صراع لا تزال دلالته الكاملة غير مسبورة: صراع يمكن أن يعد بحق سبباً لهذه الكوارث الكريهمة. فأوائل حرب 1914/1918 قد طوّحت بآل رومانوف على حين عجّلت أواخرها بسقوط كلاً من آل هابسبرج وهوهنزلرن.

ظهــــور البلشفيـــــــة

هزّ ظهور البلشفية وسط نيران ذلك الصراع الذي لم ينتهِ إلى نهاية عرش القياصرة وثلة. والواقع أن نيقولافتش اسكندر الثاني الذي أمره بهاءالله في لوحه أن: "قم ... ثم ادعُ الأمم إلى الله" وحذّره ثلاث مرات بقوله: "إياك أن يحجبك هواك عن التوجه إلى ربك" "إياك أن تبدل هذا المقام العظيم." "إياك أن يمنعك الملك عن المالك" لم يكن آخر من يحكم بلاده من القياصرة؛ بل كان أقرب إلى أن يكون المفتتح لسياسة رجعية أثبتت في النهاية أنها قتالة له ولأسرته معاً.

ابتدع هذا القيصر في الجزء الأخير من حكمه لوناً من السياسة الرجعية أحدثت يقظة واسعة النطاق وأنشأت حركة الفدائية (الفهلزم) التي انتشرت وافتتحت عهداً من الإرهاب لم يسبق له مثيل في عنفه أفضى بدوره إلى محاولات عدة للاعتداء على حياته وانتهى باغتياله. وكان القمع الصارم هو الذي يسود سياسة خلفه اسكندر الثالث الذي "اصطنع مسلكاً عدائياً صارخاً ضد المبتدعين والمتحررين" أما الاستبداد المطلق والتزمت المطلق في الأمور الدينية فقد توخاهما آخر القياصرة نيقولا الثاني وكان أقسى منه، إذ كانت ترشده في الأمور نصائحرجل كان "مثال الاستبداد الضيق العقل المتصلب العنق" وتعاونه في دفتها بيروقراطية فاسدة والحقت به الهوان نتائج الحرب الخارجية الفادحة فزاد ذلك من سخط الجماهير سواء منهم المفكر والفلاح ولقد لجأت البلشفية إلى الكهوف الأرضية زمناً ما وقمعتها القوى العسكرية، إلى أن انفجرت آخر الأمر في ثنايا الحرب العظمى على هيئة ثورة لا نكاد نرى لها مثيلاً في التاريخ الحديث من حيث المبادئ التي تحدثها أو الأنظمة التي قلبتها أو الهلع الذي أحدثته.

سرت في أسس هذه البلاد رجفة عظيمة وهزت كيانها هذا وأظلم لها نور الدين. واكتسحت كل الهيئات الدينية أياً كانت صبغتها وسلبت أوقاف دين الدولة واضطهدته ثم ألفته وتجزأت الإمبراطورية المترامية الأطراف ونفت طبقة العمال العسكرية الظافرة المفكرين ونهبت طبقة النبلاء وقتلتهم واختزلت الحرب الأهلية والأوبئة السكان الذين كانوا من قبل واقعين بين براثن الكرب واليأس وأخيراً انجرف عاهل هذه البلاد القوية هو وزوجه واسرته وآله في تيار هذا الإنقلاب العظيم وهلكوا.

... وبعد ذلك يستعرض حضرة شوقي أفندي كيفية سقوط القيصر الألماني الجبار وارث الإمبراطورية الرومانية المقدسة الشهيرة. وكان حضرة بهاءالله قد تنبأ قبل ذلك بسقوط مخزٍ لويلهلم الأول في كتاب الأقدس، وتنبأ في التفاتته إلى شواطئ الرين بالحداد الذي سوف تلبسه عاصمة الإمبراطورية الحديثة الاتحاد في عبارات جلية أيضا. ويعطي لمحة عن البلايا التي ألمت به وسقوطه المخزي عن العرش. ويورد أيضا سقوط فرنسيس جوزيف الذي عنّفه حضرة بهاءالله في الكتاب الأقدس بعجزه عن أداء واجبه من السؤال عن دينه والتماس محضره حين كان كل ذلك في متناول يده أثناء زيارته إلى الأرض المقدسة. كذلك كان مصير إمبراطورية نابليون ورومانوف وهوهنزلرن وهابسبرج اللاتي وجه القلم الأعلى خطابه إلى حكامها وإلى الحاكم الجالس على العرش البابوي فعنّفهم على التوالي وأنذرهم وندد بهم ووبخهم وعاتبهم. فماذا كان من مصير العاهلين اللذين تسلطا تسلطاً سياسياً مباشراً على الدين ومؤسسيه وأتباعه والذين ولد الدين في بحبوحة ملكيهما وانتشر أول ما انتشر فاستحلا لنفسيهما أن يصلبوا مبشره ويخرجوا مؤسسه ويصرعوا معتنقيه؟

ماذا كان من أمر تركيا وإيران

في ايام بهاءالله ثم أثناء عهد عبدالبهاء من بعده كانت الضربات البطيئة - الثابتة اللازبة رغم بطئها - تكال لكلا سلاطين آل عثمان الأتراك وآل قاجار الإيرانيين - وهما ألد أعداء دين الله الوليد. فهلك عن السلطان عبدالعزيز سلطانه واغتيل بعد إخراج بهاءالله من أدرنة بقليل على حين خر ناصر الدين شاه صريعا على أثر رصاصة مغتال انطلقت أثناء حبس عبدالبهاء في مدينة عكاء الحصينة. إلا أنه كان من نصيب العصر الإنشائي لدين الله - وهو عصر ميلاد نظامه الإداري ونهضته - الذي يلقى بتفتحه الإضطراب في أرجاء العالم، كما أشرنا في رسالة سابقة ألا يشهد انقراض هاتين الأسرتين فحسب بل ويرى كذلك إلغاء نظامي السلطنة والخلافة التوأمين.

إدبار أمر الملكية

أفلا يجوز لنا ونحن نستعرض إدبار أمر الملكية في الميادين الأخرى سواء خلال السنوات التي سبقت الحرب العظمى مباشرة أو تلتها ونتدبر المصير الذي داهم الإمبراطورية الصينية ومملكة البرتغال وإسبانيا ثم الإنقلابات التي حلت -ولا تزال تحل- بملوك النرويج والدانمارك وهولندة ونشاهد عجز أقرانهم ونلاحظ الخوف والارتجاف الذي اعترى العروش - أقول أفلا يجوز لنا أن نعقد صلة ما بين حالهم هذه وبين فواتح سورة الملوك والتي أراني مضطراً -نظراً لدلالتها الجبارة - إلى تلاوتها مرة أخرى: "اتقوا الله يا معشر الملوك! ولا تحرموا أنفسكم عن هذا الفضل الأكبر ... توجهوا بقلوبكم إلى وجه الله ثم اتركوا ما أمركم به هواكم ولا تكونن من الخاسرين .. ما تجسسم في أمره بعد الذي كان. هذا خير لكم عما تطلع الشمس عليها إن أنتم من العالمين ... إياكم أن لا تغفلوا من بعد كما غفلتم من قبل... قد ظهر الوجه عن خلف الحجبات واستنار منه كل من في السموات والأرضين وأنتم توجهتم إليه ... إذاً قوموا ... وتداركوا ما فات عنكم ... إن لم تستنصحوا بما أنصحناكم في هذا الكتاب بلسان بدع مبين؛ يأخذكم العذاب من كل الجهات ويأتيكم الله بعدله ... أن يا أيها الملوك! قد فضت عشرين من السنين وكنا في كل يوم في بلاء جديد ... وأنتم سمعتم أكثرها وما كنتم من المانعين بعد الذي ينبغي لكم بأن تمنعوا الظالم عن ظلمه وتحكموا بين الناس بالعدل ليظهر عدالتكم بين الخلائق أجمعين."

فلا عجب أن نجد بهاءالله يكتب ما أوردناه آنفاً نظراً لما لقيه من ملوك الأرض فيقول: "رفعت العزة عن طائفتين: الأمراء والعلماء" والواقع أنه يمضي إلى أبعد من هذا فيقرر في اللوح الموجه إلى شيخ سلمان: "من علامات بلوغ الدنيا ألا يتحمل أحد أمر السلطننة من بعد، تبقى السلطنة ولا يقبل أحد عليها ليتحمل أعباءها وحده ... تلك الأيام هي أيام ظهور العقل بين البرية. إلا أذا حمل هذا الثقل العظيم رجل لإظهار أمر الله وانتشار دينه. فطوبى لمن ألقى بنفسه في هذا الخطر العظيم وقبل هذه المشقة والصعوبة لحب الله وأمره ولوجه الله وإظهار دينه."

الإعتــــراف بالملكيـــــــة

ولكن لا يخطئ فهم غاية بهاءالله أو يفسرها تفسيراً مخطئاً من غير قصد فإنه مهما قسا في تنديده بهؤلاء الملوك الذين اضطهدو؛ ومهما عنف في نقده وتجريحه لأولئك الذين عجزوا عجزاً بيّناً عن القيام بواجب البحث عن حقيقة دينه أو الضرب على أيدي الظالمين فإن تعاليمه لا تتضمن ما يمكن أن يؤول بالتنكر للنظام الملكي أو الحط من قدره لا تصريحاً ولا تلميحاً. أما سقوط الأسر الفاجع وزوال الإمبراطوريات من تنبّأ بنهايتهم المحزنة تنبأ خاصاً. أو إدبار الأمر عن ملوك عصره الذين ندد بهم عموماً (وهي أمور تدخل في تكوين مرحلة منتهية من مراحل تطور دينه)، فلا ينبغي بحال من الأحوال أن يخلط بينها وبين مركز ذلك النظام في المستقبل. والواقع أننا لو أمعنا النظر في كتابات مؤسس الدين البهائي لما عجزنا أن نستكشف فقرات لا حصر لها ولا عد يمتدح فيها مبدأ الملكية بعبارات لا يمكن لأحد أن يسيئ فهمها ويمجد فيها مكانة الملوك العادلين المنصفين ومسلكهم بل ويصور فيها قيام الملوك ليحكموا بين الناس بالعدل بل ويعتنقوا دينه ويلقن فيها واجب القيام على نصرة الملوك البهائيين. وعلى هذا فالاستدلال من الكلمات الواردة آنفاً مما وجهه بهاءالله إلى ملوك الأرض أو من سرد هذه الكوارث الرهيبة التي داهمت كثيراً منهم، على أن أتباعه يعتنقون أو يتوقعون زوال النظام الملكي زوالاً تاماً - أمر يوازي تشويه تعاليمه.

وإني لا أرى أفضل من أن أروي بعضاً من شهادات بهاءالله الخاصة تاركاً القارئ أن يكون حكمه في بطلان مثل هذا الاستدلال. ففي لوح ابن الذئب يعين المصدر الحقيقي للملكية: "ولكن مراعاة مقام السلاطين أمر من عند الله وهو واضح من كلمات الأنبياء والأولياء قالوا للروح (أي السيد المسيح) عليه السلام: "يا روح الله! أيجوز أن تعطى الجزية لقيصر أم لا؟ قال بلى ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فلم يمنع ذلك. وهاتين العبارتين عند المتبصرين لأن ما لقيصر لو لم يكن من عند الله لنهى عنه المسيح. وكذلك في الآية المباركة "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" فالمقصود من أولي الأمر هذه في المقام الأول والرتبة الأولى الأئمة صلوات الله عليهم فهم مظاهر القدرة ومصادر الأمر ومخازن العلم ومطالع الحكم الإلهي والمقصود في الرتبة الثانية والمقام الثاني الملوك والسلاطين أي الملوك الذين تضيء آفاق العالم بنور عدلهم وتنير."

ويقول مرة أخرى: "السلطان العادل أقرب عند الله من الكل، يشهد بذلك من ينطق في السجن الأعظم." وكذلك في البشارات يؤكد بهاءالله أن "شوكة السلطنة آية من الآيات الإلهية لا نحب أن تحرم منها مدن العالم." وفي الكتاب الأقدس يبسط غرضه ويثني على الملك الذي يؤمن بدينه فيقول: "تالله لا نريد أن نتصرف في ممالككم بل جئنا لتصرف القلوب إنها لمنظر البهاء يشهد بذلك ملكوت الأسماء لو أنتم تفقهون والذي اتبع مولاه إنه أعرض عن الدنيا كلها وكيف هذا المقام المحمود." "طوبى لملك قام على نصرة أمري في مملكتي وانقطع عن سوائي إنه من أصحاب السفينة الحمراء التي جعلها الله لأهل البهاء ينبغي للكل أن يعززوه ويوقروه وينصروه ليفتح المدن بمفاتيح اسمي المهيمن على من في ممالك الغيب والشهود إنه بمنزلة البصر للبشر والعزة الغراء لجبين الإنشاء ورأس الكرم لأهل العالم. انصروه يا أهل البهاء بالأموال والنفوس."

وفي لوح الرئيس يتنبّأ تنبؤاً فعلياً قاطعاً بقيام مثل هذا الملك فيقول: "سوف يبعث الله من الملوك من يعين أولياءه. إنه على كل شيء محيط ويلقي في القلوب حب أوليائه هذا حكم من لدن عزيز جميل."

وفي رضوان العدل حيث يمجد فضيلة العدل يتنبأ تنبؤاً مماثلاً فيقول: "فسوف يظهر الله في الأرض ملوكاً يتكئون على نمارق العدل، ويحكمون بين الناس كما يحكمون على أنفسهم أولئك من خيرة خلقي بين الخلائق أجمعين."

وفي الكتاب الأقدس يتنبّأ بهذه الكلمات بارتقاء مَلِك مزيّن بزينة العدل والإيمان المزدوجة عرش مدينته الأصلية "أم العالم" و "مطلع النور" فيقول: "يا ارض الطاء (طهران) لا تحزني من شيء قد جعلك الله مطلع فرح العالمين. لو يشاء يبارك سريرك بالذي يحكم بالعدل ويجمع أغنام الله التي تفرقت من الذئاب إنه يواجه أهل البهاء بالفرح والانبساط ألا إنه من جوهر الخلق لدى الحق عليه بهاءالله وبهاء من في ملكوت الأمر في كل حين."








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب


.. مأزق العقل العربي الراهن




.. #shorts - 80- Al-baqarah


.. #shorts -72- Al-baqarah




.. #shorts - 74- Al-baqarah