الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بائعة مناديل الورق

شريف حتاتة

2022 / 7 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


-----------------------------------
ذلك المساء ، كنت أقف على الرصيف عند المدخل الخلفي لدار سينما "جالاكسي" في انتظار موعد الدخول إلى فيلم "غزو الهمجيين" الـذي تم عرضـه ضـمن مهرجان الفيلم الأوربي. في الشارع سيل من السيارات تروح وتجيء، ومنادون يزعقون بأعلى صوت لتنظيم أماكن الركن، وأبواق تتردد في توتر مستمر. علـ الرصيف زحام حول الباب، يقف أمامـه اثنـان مـن الحراس يرتديان ملابس كحلية اللون، ومـن حـولي أصوات مرحة، وضحكات، ووجوه مقبلة على الحيـاة، على سهرة فيها فرصة للاستمتاع.
لمحتها تتسلل وسط التجمعات، صـغيرة الحجـم، نحيلـة الجسم. طفلة بشرتها سمراء، وعيناها سوداوان فيهما شـعلة الجوع، ونظرة تطل بعناد من بين ملامحها.. ترتدى ملابــس ممزقة صفراء اللون عبارة عن قميص وبنطلون ، تبرز منهمـا العظام لا يكسوها سوى الجلد. في يدها "باكوان" من المناديـل الورقية تتحرك بهما بين الواقفين على الرصيف. ترفع إليهم عينيها دون استجداء، دون أن تطلب منهم شيئا. لا يلتفت إليها أحد ما عدا الحارسين المنتصبين عند البـاب . فكلمـا اقتربـت منهما انقضا عليها بألفاظ غليظة وأيدى خشنة ، تدفعها بعيدا عن المكان الذي تجمع فيه رواد الفيلم . ثم ليتناول المنادون مهمـة إبعادها بأسوب يتصاعد في درجة العنف، لتهبط إلى الشـارع مخترقة طريقها بين السيارات المنطلقة ، كأن لا شئ يمكن أن يصيبها.
يمر وقت قليل ، لأجدها وقد عـادت إلـى التســل وسـط التجمعات المنتظرة على الرصيف ، أغلبها من الشباب والشابات العصريين يعبرون عن رفاهيتهم بإهمال مدروس في طريقة اللبس، أو يهبطون من السيارات "الميتالك" اللامعة تفوح منهم رائحة العطر، وتتردد الكلمات الإنجليزية أو الفرنسية في أحاديثهم. حول أعناقهم السلاسل الرفيعة، وفي ملامحهم سعادة الإقدام على مشاهدة فن سینمائی رفیع نادرا ما يتاح لنا رؤيته. لا أحد يتنبه للطفلة تتحرك هنا وهنـاك. تتسـلـل بـين سيقانهم ، رافعة عينيها إليهم في صمت ، كأنها تريد أن ترى ما الذي سيفعلونه عندما تعرض عليهم مناديلها. لا أحـد سـوى حارسي الأمن يواصلان مطاردتها من المكان ، لتهبط إلى الشارع حيث يتولى المنادون مهمة إبعادها عـن محـيط دار السينما ليتكرر المشهد المرة بعد المرة، فقد ظلت مصرة على العـودة من جديد، على الزحف حتى الباب والوقوف بين الجمـوع ، رافضة الاستسلام للزجر الذي تزايد عنفاً ، كأنها قررت أن مـن حقها أن يفتح المجال أمامها.
شاهدت أربعة من الأفلام المعروضة في المهرجان ، وفـي كل مرة رأيتها واقفة بين الناس. لكن في المرة الأخيرة لم تكن تحمل بين يديها "باكوين" من المناديل الورقية البيضاء. كانـت قد تسللت إلى الممر لتقف أمام إعلان عـن فـيلم إسـمـه "ذي فيليج". رأيتها صغيرة الحجم رافعة عينيهـا فـي تـأمـل إلى الصورة المعلقة أعلاها فوق الجدار، فأدركت أنه مهمـا طـال الزمن ، لن يقف شيء أمام زحفها وزحف الساكنين في الحواري الخلفية من أمثالها.
وصف نساء مصر
.......................
أكره قراءة الصحف، وأكثر منها أكره مشاهدة التليفزيون. أكره صور القتلى، والأطفال المصابين، والهلع فـي العيـون، وابتسامات رؤساء الدول يفعلون عكس ما يقولون، وفتـاوى المشايخ تغلق أمامنا منافد الحياة، ومقالات الكتاب تنقد مـا لا يمس أسس الفساد، أو تبرر ما لا يجب تبريره. أكره الوجـوه المقررة علينا كل صباح ومساء، والعرى إلى جانب الحجـاب، وادعاء المعارضة يخفى الصفقات. لكني مضطر إلى قراءتهـا فلابد من تتبع ما يحدث في البلاد، ومحاولـة القـراءة بـين السطور لاكتشاف الحقيقة التي تختفي في المساحات البيضاء.
ومن بين ما أكره ، الطريقة المقززة التـي يـصـور بـهـا رسامو "الكاريكاتور" النساء. أنا أحب السخرية والفكاهة . فهـى مهمة في تخفيف وطأة الحياة، وفي كشف العيوب التي نعـاني منها. السخرية والفكاهة والضحك ، أشكال من التمرد على أدران المجتمع ، إن تفادت الحط من قدر الإنسـان، وإذا ارتقـت بإنسانيتنا، وهذبت أحاسيسنا وأشعلت جنوحنا إلى الفكر. لكـن إذا سارت في غير هذا الاتجاه ، فإنها تضر إلـى أبـعـد الحـدود ، خصوصاً أن ثقافتنا المصرية يلعب فيها الضحك السخرية دورا مهما في تشكيل الوجدان الكـائن في أعماقنا.
رغم كل ما يقال عن حقوق المـرأة، والارتقـاء بأوضاعها، رغم وجود ما يسمى "بالمجلس القـومـي للمـرأة" ، فإن رسامي الكاريكاتور في بلادنا مصرون على السير في عكس الإتجاه. فالمرأة عنـدهم دائما كائنا أدني، بدينة، قبيحة، متسلطة، ومسـرفة، غبيـة وغيورة أو مدللة، أو عجوز شمطاء متصابية ، أوتظهر مفاتن جسمها لتبيع نفسها في سوق العمل أو الزواج، جسد بلا عقل، ملونة، مصطنعة، ماكرة بـلا صدق، ليس فيها أي صفة إيجابية. إنهم يعبرون عن احتقـار أصيل للمرأة، وعن كراهية دفينة لها، ويفرزون أحد مواطن الخلل المهمة في حياتنا إلى درجة الملل المقزز ، وكأنهم عاجزون عـن إيجاد موضوع جديد، أو معالجة قضايا المرأة بقدر من الرقي.
لا أقول إن المرأة في بلادنا ليس فيها عيوب شأنها شـان لرجل. لكن المرأة في بلادنا عاملة وموظفة، ومدرسة، وفلاحة تعمل وتكد وتواجه مشاكل الحياة وأعباءها ، ربما بجلد أكبر من الرجل بسبب التفرقة التي تعاني منها. إنها تسهم بجهدها في المجتمع وفي مختلف المجالات. لذلك ليس دور الذين يسهمون في تشكيل الرأي العام ، أن يجعلوها كبش فداء لنزواتهم لأنها لا تملك السلطة والقوة التي يملكها الرجل. ليس كـل رسـامي الكاريكاتور ضالعين فـي هـذه الحملـة المقيتة ضـد المـرأة . لكـن الاستثناءات نادرة جدا ، فأصبح من المهم التنبه لهـذه الظـاهرة ، لا سيما أن أغلب كتابنا يشاركون فيها بـأقلامهم فـي الصـحف القومية والحزبية والمستقلة على حد سواء، وفي المجلات بما فيها المجلات النسائية ومجلات الشباب.
وهذا يشير الى الوضع المأساوى بالنسبة الى قضايا التساء ، وقضايا الوطن الأخرى ، أن ما تسمى " النخبة " فى الفكر والاعلام ، هى بحاجة الى التوعية والتنوير وضبط الأولويات وتشخيص الأمراض بدقة ونزاهة . وفى أحيان كثيرة ، نجد أن الشعب المستثنى من النخب ، يكون أكثر وعيا وانسانية واخلاصا وفهما للأوضاع . وهذه النخبة تتحمل فى المقام الأول ، مسئولية بقاء وترسيخ التخلف والتفرقة والتبعية والتجارة بالدين ، وتعطيل حركة التقدم والنقد الواعى المبدع .
من كتاب " يوميات روائى رحّال " 2008
-----------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة- إسرائيل: هل بات اجتياح رفح قريباً؟ • فرانس 24 / FRANCE


.. عاصفة رملية شديدة تحول سماء مدينة ليبية إلى اللون الأصفر




.. -يجب عليكم أن تخجلوا من أنفسكم- #حماس تنشر فيديو لرهينة ينتق


.. أنصار الله: نفذنا 3 عمليات إحداها ضد مدمرة أمريكية




.. ??حديث إسرائيلي عن قرب تنفيذ عملية في رفح