الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية نحن.. يفغيني زامياتين

وليد الأسطل

2022 / 7 / 25
الادب والفن


قبل وقت طويل من أورويل، كشف كاتب روسي عن العواقب الحتمية للأحداث التي هزت روسيا والعالم في عام 1917. تجرأ يفغيني زامياتين، في أول ديستوبيا كبيرة في القرن الماضي، على تخيل عواقب انتصار الشيوعية، أو الشمولية التي عفا عليها الزمن. كتبت هذه الرواية في عام 1921 من قبل بلشفي محبط. لن نكتشف من خلال هذه الرواية الأساليب العشوائية للقادة في ذلك الوقت - لينين وتروتسكي بشكل أساسي - وإنما الإمتدادات الحتمية لتطبيق مبادئهم على الواقع. لا يتطرق زامياتين إلى ما حدث قبل الأمس، إنه يكشف عما سيحدث بعد غد، عن اللحظة التي يفقد فيها المجتمع الصناعي، الآلي إلى أقصى الحدود، الإتصال بالحيوانية الأولى - إن صح التعبير - والأساسية في الإنسان، اللحظة التي ينقلب فيها المستقبل غير المتوقع للإنسانية الحرة إلى حاضر مستمر وعقلاني ومنظم. عندما يتعلق الأمر بكسر القيود الأخيرة، وإزالة آخر السلاسل التي لا تزال تربط الإنسان بالطبيعة. ستؤدي مطالب الإنسانية التنظيمية والعقلانية إلى رمي الحياة العضوية المتحررة والفوضوية، في الهاوية.

يهرب الإنسان من أغلال فطرته ليرتبط بشكل أفضل بالآلة، بالعقل، بما يبنيه. تموت الروح عند زامياتين، ومن دون حياة داخلية يفقد الإنسان إنسانيته. ومن المفارقات، أن هذا الإنفصال يفتح مرة أخرى الأبواب أمام "جنة عدن"، لكنها جنة عدن تقشعر لها الأبدان، إنها معدنية وروبوتية، سجن أبدي حبس فيه الإنسان نفسه.

يقترب زامياتين من الارتفاعات المذهلة دون إعطاء الانطباع: للأسلوب طعم لا يمكن تحديده، نوع من الغنائية الفنية والروبوتية. يضيء الزجاج والفولاذ الرواية، هنا كل شيء شفاف، كل شيء يضيء في شكل من أشكال النقاء المادي الذي يتم إخلاء الحياة منه. هذا العالم ليس للبشر، إنه للروبوتات. والآفاق التي يقدمها مخيفة. السعادة البشرية، الحقيقية، لا يمكن مقارنتها بالمعتقدات الجماعية للقرن. إن ما فات الشيوعية والتقدمية وأي طموح آخر، يشبههما، ويسعى لتحقيق السعادة، أنه ليس بالإمكان خلق جنة أرضية، عن طريق كائنات ميكانيكية، تعاني من ضيق التنفس، منغلقة على تقنياتها غير الصالحة للحياة. بشر تشبه سعادتهم شكلاً من أشكال الموت. إنه الإنسان الذي حل أخيرا محل الإله، ليدرك، في اللحظة الأخيرة، أنه فقد الكون الوحيد المهم حقا، الكون الذي حمله بداخله.

في مجتمع المستقبل حيث الرجال ليسوا أكثر من مجرد أرقام، تحاول الدولة الواحدة ضمان السعادة. تم تأطير الفرح، لأن كل شيء يعمل من أجل حضارة ميكانيكية تم فيها محو جميع الجوانب الطبيعية، وطردها وسحقها. إذا كان عام 1984، قد حدث في عالم إجتماعي خانق وغير شفاف، الذي هو مرآة للتجارب الشمولية، التي حدثت بالفعل في القرن الماضي، فإن الرواية التي كتبها زامياتين تكشف عن حضارة شفافة، حيث الإصطناعية والمادية لها الأسبقية على حياة الإنسان. إن حكومة الأخ الأكبر - التي تكلم عنها أورويل - مخادعة، أخفت إخفاقاتها من خلال التزييف المستمر للتاريخ والقمع. أما زامياتين فقد قدم في روايته دولة تقدمية، صناعية ومتطورة، لا تؤدي عضويتها إلى طرح تساؤلات. يعيش المجتمع الذي تقدمه من خلال العرض الدائم والشفاف لنفسه، أما المجتمع الذي يقدمه أورويل، فيُحبط، ويتحكم، ويعتم.

المقارنة غنية بالمعنى، يحاول زامياتين، الذي كتب هذا النص في العشرينيات من القرن الماضي، أن يخمن الآثار الإجتماعية والسياسية - على المدى البعيد - لعهد مجتمع صناعي، زعيمه الوحيد يُدعى "فاعل الخير". للفرد - هنا - معنى فقط في عضويته الربوتية في الجسم الإجتماعي. عند أورويل، نجد البروليتاريين والبطل يَرْشَحون حياةً حيوانيةً وجسدية. عند زامياتين، نجد الرجل قد أصبح "روحا نقية"، وبالتالي يتم رفض الحياة الحيوانية، خارج "الجدار الأخضر"، الذي هو نظام محكم يمنع الطبيعة من التفاعل مع البناء البشري. إنه عمل مهندس، عالم رياضيات، يعيد تنظيم المجتمع لتحقيق الإنسجام. يجب تنظيم السعادة، هذا ما يقوله فاعل الخير للبطل دي 503.

في عام 1984، لم يكن الهدف نبيلا للغاية، فالطبقة السائدة تسعى قبل كل شيء، وبكل الوسائل، إلى الحفاظ على قوتها، حتى لو كان ذلك يعني اختراع أعداء أو حرب: الهدف هو منع أي انقلاب. ربما يجب أن أتوقف عن عقد المقارنات. ما أريد قوله هو التالي: لو افترضت أن أورويل قد قرأ رواية زامياتين، فإنه لم يسرقها، وآية ذلك، هي امتلاك الروايتين لمنطقين مختلفي التأثيرات، منطقين يكمل كل منهما الآخر أكثر مما يستجيبان لبعضهما البعض.

في الدولة الواحدة، التي ليس لديها إطار زمني ولا هيكل جغرافي محدد جيدا، انتصر النظام السياسي "الشمولي". فاعل الخير، الذي يُعاد انتخابه بالإجماع، يقود هيكلا لا تكون منظمته واضحة أبدا. يرتبط زامياتين بالحياة اليومية: المناحي التنظيمية، والمباني الزجاجية، والحياة الجنسية المنظمة. البطل، دي 503، هو منشئ مركبة فضائية تسمح للإنسان بأن يجتث نفسه من الكوكب، كما يروي، في ملاحظات يومية قصيرة، عن وجوده. يشكل انقطاع فرديته والتغيير التدريجي لعلاقته بالمجتمع مسار الرواية. البطل دي 503 مريض، ضحية وباء تخوض ضده الدولة الواحدة معركة طبية شرسة، هذا الوباء هو الروح. يبدأ دي 503، يتخيل، ويحلم، ويخطط لنفسه، يبدأ في رفض العضوية الشفافة في المجتمع الجماعي. إن المأساة تلوح في الأفق.

تعرض عليه امرأة حبها، من خلال "التذاكر الوردية" التي تنظم الحياة الجنسية للأفراد. قصة حبهما تعطل ترتيب الأشياء، شيئا فشيئا تصبح إمكانية مقاومة الرجال ظاهرة. خلف الجدار الأخضر، لا يزال الأفراد الأحرار موجودين. يتذكر زامياتين العملية الإرهابية الكبرى التي تصوروها، وفشلها النهائي: لقد وجدت الدولة الواحدة طريقة لقمع الخيال، من خلال استئصال الجزء الذي يحافظ زواله على الكليات المفيدة للدولة كما هي. سيتمكن دي 503، الذي شفي من "مرضه"، من استئناف نشاطه دون أن يحلم أو يتخيل أو يأمل مرة أخرى.

عندما عرض زامياتين روايته على قيادة الحزب البلشفي، ثار لينين وتروستكي وحظرا نشرها. لم تكن الأساليب السياسية البلشفية موضع تساؤل، ولا القادة كذلك.

إن ما تناقشه هذه الرواية يذهب إلى أبعد من كونه مشاكل يومية، إنه تدمير الإدعاء الفلسفي التاريخي للشيوعية، من خلال رسم صورة واضحة لما سيحدث. لذا أصبح زامياتين منبوذا. تتحدث رواية نحن، عن مجتمع صناعي غير إنساني، ليس على مستوى الأساليب فقط، ولكن على مستوى المبادئ. من هنا فإن الروح، التي هي وحدها تصنع الإنسان، لا يمكنها أن تحيا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/