الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايات عادية جدا، الحكاية التاسعة - سيدي العربي

إدريس الخلوفي
أستاذ باحث

(Lakhloufi Driss)

2022 / 7 / 26
الادب والفن


حكايات عادية جدا، الحكاية التاسعة – سيدي العربي
وقف العربي مشدوها أمام هذا المشهد الذي لم يتخيله أبدا، كان منظر رجل الأمن مرعبا، فقد كان متوسط القامة، ممتلئ الجسم، له بطن كبير كأنه حامل في شهرها التاسع، يحيط ببطنه حزام عسكري عريض، وكانت بدلته العسكرية قد فقدت لونها الأصلي بفعل الزمن، وينتعل حداء عسكريا ضخما مصنوعا من الجلد الذي زال أديمه وأصبح خشنا رغم محاولات تلميعه.
قطع رجل الأمن السكون المطبق بصوت مجلجل: من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟
بدون تفكير، وكأنه خطط للإجابة من قبل، رد العربي متصنعا الهدوء والوقار: أنا السي العربي، حفيد مولاي علي بوعلام، ولدي شجرة العائلة التي تثبت ذلك، فأنا العربي بن الجيلالي، بن سعيد، بن عبد الله، بن عبد العزيز، بن عبد الرحمان، بن الشيخ الفقيه سيدي سعيد بن مولاي علي بوعلام.
نظر رجل الأمن في وجه القيم على الضريح كأنه ينتظر رأيه، فأطرق هذا الأخير برأسه قليلا وكأنه يحاول أن يتذكر، كان الجميع ينتظر ما سيقوله، هز رأسه وتمتم بصوت غير مسموع، كادت الآذان أن تطير من الرؤوس لتلقف ما همس به.
أخذ يمسح بيسراه على لحيته البيضاء، وبيده اليمنى سبحته التي يمرر حباتها تباعا بين إبهامه وسبابته، ثم قال: لعل ما قاله الفتى صحيح، فسجل عائلة الولي سيدي علي بوعلام يقول بأن أحد أبنائه ويدعى سعيد، كان قد وقع بينه وبين إخوته شنآن فقرر الرحيل، لم يعلم أحد بوجهته منذ ذلك الحين، وقد بدل إخوته كل جهدهم للبحث عنه دون جدوى، ولعل الله سبحانه و تعالى، وبركة مولاي علي بوعلام قد أرسلا إلينا بحفيده ليضيء تلك العتمة التي بقيت في سلالة مولانا الشريف، ثم مد القيم يده مصافحا يد العربي وانحنى لتقبيلها، في لحظة هم فيها العربي بانتزاع يده، لكن عدل عن الفكرة ليعطي للمسرحية مصداقية أكثر.
أما رجل الأمن فقد وقف معتدلا وقدم التحية العسكرية للعربي، وعون السلطة بدأ في تقبيل يد العربي ورأسه وكتفيه، وهو يقول: بركاتك سيدي العربي.
أما الجماهير التي كانت غاضبة بالخارج تنتظر فرصة التنكيل بالدخيل، فقد بدأت تهلل وتصيح: بركاتك يا مولاي العربي، بركاتك يا حفيد مولاي علي بوعلام، وبدأت النسوة في إطلاق الزغاريد والصلاة والسلام على النبي.
يبدو أن الجماهير صدقت الأمر، فهي سهلة التصديق، وميالة بالفطرة إلى صناعة الوهم، إنها الأوهام الأربعة التي تحدث عنها فرانسيس بيكون في الأورغانون الجديد، خاصة أوهام القبيلة، التي يلتف حولها العامة للإحساس بالوحدة، والقوة، والانتماء...
هل فعلا انطلت الحيلة على هؤلاء؟
الجواب هو نعم.
لكن ماذا عن القيم وعون السلطة، ورجل الأمن؟
لا أظن ذلك.
لكن لماذا صدقوا أو تظاهروا بالتصديق؟
كي تكتمل الأسطورة، فهي تحتاج إلى الكثير من الكذب، وتحتاج من يصدق هذا الكذب، كما تحتاج من يضفي المشروعية على الكذبة، وهذا ما فعله الثلاثي، طبعا بدون اتفاق مسبق حتى يتخذ المشهد مصداقية أكثر، فكأن كل واحد منهم يقول في نفسه، أعرف أنك تعرف الحقيقة، والآخر يرد في نفسه: وأنا أيضا أعرف أنك عرفت أنني أعرف الحقيقة، فيرد الآخر في نفسه مرة أخرى: وأنا عرفت أنك عرفت أنني عرفت أنك تعرف أنني عرفت أنك تعرف أنني أعرف....إنها دوامة لا متناهية في العمق، الكل يعرف أن الكل يعرف، لكن لا ينبغي التصريح بهذه المعرفة، إنها تدخل في باب المسكوت عنه، ويستمر الوضع هكذا طالما أنه يخدم استمرار الأسطورة.
غادر الثلاثي المكان، بعد أن سلموا على سيدي العربي، وطلبوا منه أن يدعو لهم ويباركهم، ثم جاء الدور على الحشد الغفير الذي بدأ يتوافد، بل سرعان ما بدأ الخبر ينحرف عن أصله بالانتقال من فم لأذن، حتى أن البعض وصلهم خبر يقول أن مولاي علي بوعلام قد بعث من جديد.
بعد حوالي ساعة من الزمن، عادت سيارة للأمن، ترجل منها أربعة رجال، وفسحوا الطريق وسط الجماهير الغفيرة، حتى وصلوا أمام سيدي العربي، ثم وجه كبيرهم خطابه للناس قائلا: عودوا إلى بيوتكم، فمولاي العربي يحتاج إلى الراحة، ثم استدار نحو العربي قائلا: هل يمكن أن تشرفنا بالصعود على متن السيارة؟ فعمدة البلدة يأمل في تشريفه على مائدة الغذاء، وستجد هناك أشخاص مهمين في انتظارك.
نظر العربي إلى قدميه، وتأمل الملابس التي يرتديها، ففهم مسؤول الأمن قصده وبادره قائلا: لا تشغل بالك، رتبنا كل شيء، أنت فقط وافق، ولا يهمك الباقي.
صعد العربي سيارة الجيب الخاصة بالأمن، فقام السائق بتشغيل أضواء زرقاء وبوق الجيب، مما أدى إلى تراجع الجماهير فاسحة الطريق، فانطلقت كالسهم، أما الجماهير فهتفت بصوت عالي: بركاتك مولاي الشريف وهي تلوح بأيديها في الهواء.
دخلت السيارة إلى بناية كبيرة يبدو أنها خاصة بالأمن، تم إنزال العربي، ثم تقدم أحدهم أمامه قائلا: اتبعني سيدي العربي.
تبعه العربي وهو مرتاب، فقد تسلل إلى قلبه هلع شديد، وأسئلة كثيرة بدأت تراوده: هل سيقتلونني؟ هل هذا سجن؟ أي مصيبة ورطت نفسي فيها؟ هل أحاول الهرب؟ وكيف ذلك وأنا في مقر للأمن؟
إنها مغامرة بدأتها، وعلي أن أنهيها مهما كان الثمن.
بعد لحظات توقف رجل الأمن، واستدار نحو العربي قائلا: سيدي العربي، ادخل هذه الغرفة، إنها حمام، هناك ستجد الماء الساخن والبارد، والصابون، والمنشفة، وكل ما تحتاجه من ملابس جديدة.
أحس العربي ببعض الطمأنينة، ثم دخل إلى الحمام، لم يسبق له أن استحم من قبل في حمام كهذا، فهو كان يستحم صيفا في النهر، وشتاء مرة واحدة أو مرتين بالمطهرة.
لم يعرف كيف يستخدم خلاط المياه الساخنة والباردة le mélangeur, فنادى على رجل الأمن، وسأله كيف يستخدمها؟ قام هذا الأخير بضبط المياه بالشكل الذي أرضى العربي، ثم قال له: أنا بالخارج أنتظر انتهاءك، وإذا احتجتني في شيء لا تتردد في طلبي.
شكره العربي، ثم بدأ في نزع أسماله البالية، وحدائه البلاستيكي، فانبعثت رائحة كريهة من أقدامه، دخل العربي تحت رشاش الماء الدافئ، فأحس بانتعاش لم يسبق أن أحس به، واستخدم انواع الصابون والعطور التي لم يسمع بها من قبل، ثم تنشف بفوطة كأنها ريش نعام في نعومتها، وارتدى الملابس التي كانت جديدة بالكامل، ومعلقة بعناية، وقد كانت ملابس تقليدية كتلك التي يرتديها رجال الدين أو خطباء المساجد.
تأمل نفسه في المرآة، وأحس بنشوة كبيرة، ثم قال في نفسه: با العربي، الرؤيا بدأت تتحقق، والتحليق في السماء بدأ الآن، لكن إلى أي مدى سيصل؟ ومتى ستكون السقطة؟ وما هولها؟ سنرى ذلك يا با العربي.
خرج العربي من الحمام، فوجد رجل الأمن في انتظاره، طلب منه بأدب أن يتبعه، فدخل إلى غرفة أخرى، فوجد بها حلاقا ينتظر، حياه رجل الأمن وقال مخاطبا إياه: نريد أن تقوم بأحسن قصة شعر لسيدي العربي.
رد الحلاق: أمرك سيدي، وهذا واجب علينا تجاه سيدي الشريف.
قام الحلاق بقص شعر رأس العربي بحيث جعله قصيرا جدا حتى يتلاءم مع غطاء الرأس الذي يعتمره رجال الدين، والذي غالبا ما يكون طربوشا أو عمامة، أما اللحية فقد اكتفى بتشذيبها وحلق أطرافها كي لا تبقى عشوائية كما كانت، فاللحية المشذبة جزء أساسي من البروتوكول.
شكر العربي الحلاق، الذي رد بأدب أن ذلك من دواعي سروره.
ركب العربي الجيب إلى جانب رجل الأمن، فانطلق قاصدا أحد تلك البيوت الفخمة التي رآها عند وصوله أول مرة إلى البلدة.
بعد وصولهما، فتح باب ضخم على مصراعيه، دلفت السيارة إلى الداخل، ثم أغلق الباب، استمرت السيارة في التقدم وسط طريق معبد ضيق يسير وسط عشب أخضر وصفين من الأشجار، سارت السيارة حتى وصلت إلى ساحة مغطاة بسقيفة من الزنك، نزل الإثنين من السيارة التي تكلف أحد الخدم بركنها، أما خادم آخر فتكلف بإدخال الضيفين.
صعد الجميع سلالم واسعة جدرانها مزخرفة بأفخم الزخارف، حتى وصلوا إلى صالة شاسعة، مفروشة بأغلى المفروشات، وتتوسطها طاولات مزخرفة بالأرابيسك. دهش العربي من هذه الفخامة والعظمة التي لم يشهد لها مثيلا، أيعقل أن يعيش البعض هذه العيشة الرغدة، ويقتات آخرون من الأزبال كالكلاب؟
سلم على الجميع، فردوا التحية بأدب مبالغ فيه، عرف منهم رئيس الأمن، والقيم على الضريح، وعون السلطة، وإمام المسجد الذي حالما التقت عينيهما، حتى أحس العربي بأن هذا الأخير يكاد يطلق عليه رصاصا من عينيه، لكن ما سبب ذلك؟ قد يكون هذا الأخير قد أحس بأن العربي ينافسه في مجاله؟ على أي لننتظر إن غذا لناظره قريب.
قام القيم من مكانه، وتكلف بتقديم العربي للحضور على أنه حفيد مولاي علي بوعلام، ثم قام بتقديم الحضور للعربي، بادئا بصاحب البيت، الذي كان يرتدي لباسا رسميا بربطة عنق، ويبدو عليه أثر الخير والغباء في نفس الوقت، وقال: هذا هو عمدتنا وولي نعمتنا، إن احتجته في شيء فلا تتردد، إنه مفتاح كل المشاكل ولا شيء يستعصي عليه، له علاقات مع الكبار وكبار الكبار في البلد، ثم استمر في تقديم الآخرين، وأعين العربي تسترق النظر إلى الفقيه الذي لم يستطع إخفاء امتعاضه من العربي، أو لعله قلب العربي أحس شيئا سيئا تجاه الفقيه.
يتبع......








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا