الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زليخة … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2022 / 7 / 26
الادب والفن


( زليخة ) .. بنت عاشور بائع الطرشي .. فتاة دون العشرين من عمرها .. فلتة في جمالها .. ملفوف قوامها .. مثير تكوينها ، ورغم جمالها الذي يلوي الأعناق .. إلا أن الخطّاب كانوا يهربون منها هروب السليم من الأجرب ، فالشائعات والشكوك ، والألسن التي تتلوى كالأفاعي ، وتنهش اللحم النيئ .. لا تكف ولا تهدأ ولا ترحم أحداً .. !
فما أكثر ما كان يطوف من كلام على ألسنة الناس عن تعدد علاقاتها ، فهي كما قيل كالنار لا تشبع أبداً ، وأول سقطاتها كانت مع حمزة صاحب الفرن ، وضُبطت أيضاً مع سلمان العامل في محل أبيها ، وتردد الحديث كثيراً عن علاقتها بمفوض شرطة الحي ، وعن علاقتها بحسان ابن المختار .. هذا غيض من فيض ، ولعل ما خفي كان أعظم .
لكن ( سنان ) .. الذي كان يحبها بجنون ، ولا يتصور الحياة ، وزليخة ليست فيها لم يكن يرغب في أن ينظم الى طابور عشاقها كبقية شبان الحي ، فهو غير مؤهل للعب مثل هذا الدور ، ولا يملك اسلحته من وسامة ومال وجاه .. لكنه يريدها في الحلال ، فعزم على خطبتها ، ولا يهمه ما كان يسمع عنها من همسات مسمومة .
وسنان يعمل حداداً في ورشة يملكها .. شاب لا تشوب سمعته شائبة .. طويل عريض .. قوي البنيان .. داكن السمرة .. دسم الملامح .. عُرف بالطيبة وبالصلاح وخفة الروح ..
ووسط دهشة الجميع .. توافق زليخة على الزواج من سنان رغم رفض اهلها لعدم إمكانية الجمع بين مستحيلين .. ! فأين الحمامة الجميلة الوادعة من الغراب الاسود .. !
لقد وجدت زليخة نفسها وحيدة مع فكرتها .. فقررت الصمود والتمسك بموقفها .. ولا تدري .. أهو الحب الذي يدفعها الى ذلك ، أم التحدي ، أم العناد ، أم كلها معاً .. ؟!
وقال البعض لأمها : معمول لها سحر ، وذهبت الأم الى السحرة والمشعوذين ، والاضرحة والمزارات ، ونذرت النذور ، وانتشرت روائح البخور في كل ارجاء البيت ، لابطال مفعول هذا السحر ، ولكن كل ذلك ذهب ، وكأنه صفير في ريح ..
وتهتف الأم المفجوعة كأنها تندب حظ ابنتها :
— يا وعدي على بختك المايل ، يا بنتي يا زليخة .. ويا ضياع شبابك وجمالك !
أما الأب فمشغول في تجارته ، وترك الامر للأم التي تصر على أنه مشروع زواج فاشل ..
واشتد النقاش يوماً ، وعلا الانفعال ، وعم الحزن والتوتر بين زليخة وأمها التي تقول بأن الحي ملئ بشبان مثل الورود .. لا يقع اختيارك إلا على سنان لتتزوجيه ، فتجيبها زليخة بحرقة وبصراحة مؤثرة :
— أي شبان هؤلاء الذين تتحدثين عنهم ، يا أمي .. تقصدين أولئك الذين ينشرون الاشاعات ، وينسجون القصص حولي ، والتي تصورني ، وكأني فتاة لعوب أتنقل من حضن الى حضن كما تفعل المومس ، وجعلوا الناس يعاملوني ، وكأني بصقة معدية لا يُسمح لأية فتاة في الحي أن تقترب مني حتى لا أعديها .. ما الذنب الذي اقترفته ؟ .. إذا تكلمت مع أحد .. قالوا أن لها علاقة به ، وبنوا صوراً واحداثاً من خيالهم ، وكونوا منها قصة وسوقوها ، واذا تأنقت وخرجت في زيارة الى مكان ما .. قالوا بأني على موعد مع عشيق ، واذا ابتسمت لخاطر في ذهني ، أو لأي سبب كان .. قالوا ابتسمت لفلان ، والشائعة مثل الرائحة ، يا أمي لابد لها من أن تنتشر .. حتى أصبحت سمعتي في الحضيض ..
فهل يعقل .. ؟ ( بصوت عالٍ ) أنا زليخة عاشور أتدنى الى مستوى سلمان العامل في دكان أبي ، مع احترامي لشخصه .. ؟! ( تبلع ريقها وتأخذ نفسا ثم تُكمل ) : ثم ما علاقتي بمفوض الشرطة هذا .. الذي لم أراه في حياتي .. أما ابن المختار فأنا أعتبره مثل أخي ، ونحن تربطنا علاقة أسرية قديمة مع أسرته ، وانتِ تعرفين ذلك ، وأما حمزة صاحب الفرن فأخته صديقتي .. أزورهم بين فترة وأخرى ، وبموافقتك أنتِ ، ولا علاقة شخصية تربطني به على الاطلاق ..
قولي لي بربك .. ماذا افعل في هذه المتاهة ؟.. أعتكف في كهف وأعتزل الحياة .. لا أخرج .. لا ألتقي بصديقاتي .. لا أذهب الى السوق .. ماذا أفعل حتى أتجنب ألسنة السوء .. ؟ سنان .. هو الشخص الوحيد الذي لم يعترض طريقي ، ولم يهبط الى تلك المستويات الدنيئة التي هبط اليها أولئك الذين تتحدثين عنهم ، ثم أنا صاحبة الشأن ، وأعرف مصلحتي ، وأنا موافقة ، والآن دعينا من شكله ولونه اللذان ليس له ذنب فيهما ، كما ليس لي فضل في جمالي ، وانما خُلقنا هكذا ، وقولي لي بالله عليك .. ما الذي يعيبه غيرهما ؟
وتحصل الموافقة من وراء ضرس الأم التي قالت باقتضاب :
— لقد تمنيت لها حظاً أفضل ..
وتتم الخطبة و عقد القرآن ، ويحدد موعد الزفاف ، ويبدأ السعي في اتمام الشكليات الاخرى من تأثيث وحفل زفاف ومدعوين ، وغيرها من التفاصيل .. !
وفي ليلة الدخلة تبدو زليخة فراشة جميلة متعددة الالوان .. آية لا مثيل لها في الحسن والجمال واناقة الملبس .. تلمع بشرتها الناصعة تحت أنوار مصابيح الزينة وتتلون بالوانها .. تستحق فعلاً أن تُعشق .. بهرت بطلعتها كل مَن رآها ..
ويُزف العريس في نهاية الحفل ..
وعندما دخل سنان على عروسه ، ورفع الغطاء عن وجهها شعر كأنه دخل الملكوت من أوسع أبوابه .. انها لحظة السحر التي لم يتخيل أن يعيشها .. لحظة خارجة عن حسابات الزمن ، حتى اجتاحه الوجد فبكى دون أن يدري .. أكل هذا الجمال له ، وطوع بنانه .. ؟ بعد أن كانت زليخة حلماً في خياله .. تضخم ، وأصبح اليوم حقيقة .. التهمها بعينيه .. لثم جبينها في شوق وهيام .. وقبل يديها ، واحتضنها بكل ما في قلبه من حب ، ثم شكر الله على هذه النعمة التي اسبغها عليه !
وفي الصباح ..
يتزاحم المهنئون في بيت سنان لتقديم التهاني والتبريكات .. فوجئوا بأن كل شيء على ما يرام ، وان تيار الحياة يسير هادئاً وفق ايقاعه الاعتيادي .. وان زليخة تبدو سعيدة حقاً ، وتُبادل زوجها حباً بحب ، وهي مليئة بالحيوية والمرح ، والابتسامة لا تفارق وجهها الجميل ، وسنان أيضا يبدو سعيداً يتلذذ بسعادته ، ويرشف منها على مهل ، ويتذوق كل لحظة منها كما يتذوق الطفل قطعة الحلوى ..
وكانت بعض من نسوة الحي من الفارغات الحسودات ، والعوانس الغيورات يغمزن زليخة ، ويستنكرن عليها زواجها من سنان ، فترد عليهن بما لا يسرهن ، وتجيب بتفاخر :
— بخلاف الظاهر .. انه زين الرجال ، وأخيّرهم وأطيبهم ، وانا المحظوظة به وليس هو .. ! ( ثم تكمل ) ..
أقول الحق .. لقد كنت في البداية خائفة .. لأن تحدي الأهل ، والانفراد بموقف خطير مثل الزواج ، وتحمل مسؤوليته أمراً ليس سهلاً .. لكن دافعاً خفياً شجعني على الاستمرار في هذا الطريق .. والحمد لله إن مسعاي لم يخب ، وكان سنان عند حسن الظن وأكثر …
استنكرت احداهن بخبث مقصود :
— انك تمزحين بلا شك ؟
وتجيب زليخة بصوت الواثقة مما تقول :
— ولماذا أمزح .. انها الحقيقة بعينها .. بلا زيادة ولا نقصان .. !
تمط النسوة شفاههن ، ويغادرن كأنهن تلقين لطمة مباغتة .. صامتات محسورات ، وهن يزفرن انفاسهن غيظا .. !
وتقول زليخة لنفسها :
— ما شأنهن اذا تزوجت سنان أم غير سنان .. أما عجيب هذا الانسان .. كم هو مثير للدهشة حقاً .. حتى باتت تتعفف عن لقاء الزائرات كأنها جزعت من النميمة والقيل والقال !
وكان سحر جمالها يزداد تلألأً .. حتى أخذ شبان الحي يحسدون سنان عليها ، وجعلوا من زواجها بسنان حكاية يتناقلها الشباب والشابات عبر الأجيال ، وندم بعد ذلك من كانت زليخة في متناوله ، ولم يحسن استغلال الفرصة .
وتمضي الأيام ..
وحبلت زليخة ، وانجبت ولداً ، ثم تمر الاعوام ، وجاء بعده ولدان وبنت .. كل واحد أجمل من الآخر ، وتسائل الناس أين ذهبت سُمرة سنان الداكنه ؟ وأين اختبأت ملامحه الدسمة ؟ سبحانَ الذي غلَّب صفات زليخة الجميلة على صفات زوجها كأنه درساً ربانياً لعلهم يتعضون .. !
وتحولت زليخة الى زوجة مصونة كاملة ، ورمزاً حياً للأمومة .. ترعى بيتا يُعد مثالاً للحياة الزوجية الناجحة السعيدة .. !!

( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في


.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/




.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي