الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وحدة تاريخ مصر

عطا درغام

2022 / 7 / 26
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


هناك مدرستان رئيسيتان.. إحداهما تؤكد فكرة استمرارية مصر،وتتطرف أحيانًا إلي حد الزعم بأن مصر الحديثة لا تزال فرعونية جوهرًا، وأن كل ما طرأ عليها من تغيرات لم يمس سوي القشور.
والثانية تؤكد فكرة تنوع مصر، وتتطرف أحيانًا إلي حد زعم بأن مصر العربية الإسلامية علي الأقل مصر الحديثة منبتة الصلة بما قبلها، وليس هناك بالتالي إطار واحد للتاريخ المصري، وليست هناك علاقة ما بين المصريين المحدثين والمصريين القدامي الذين هم مجرد أمة بائدة من الوثنيين.
ويرجع ذلك إلي ثلاثة أسباب:
الأول-: طول التاريخ المصري وتنوعه الشديد وتوزعه بين ثلاث أو أربع حضارات مستقلة هي الفرعونية والهيلينية والبيزنطية والإسلامية ، بحث أصبحت لا تربطه في الظاهر وحدة واحدة بحال من الأحوال، بل يبدو آخره مختلفًا عن أوله،في حين أن خيط الاتصال الحضاري أكثر وضوحًا بالنسبة لشعوب عريقة أخري وإن لم تكن أعرق من الشعب المصري كالصينيين والهنود والفرس.
الثاني: إن التاريخ المصري بالرغم مما كتب فيه من دراسات لا تُحصي بمختلف اللغات لم يُدرس بعد دراسة تحليلية تشريحية تنظر إليه ككل، وتحاول أن تبحث في أغواره عن خيط عام يربط بين مراحله وأجزائه ، بل إن الدراسات التاريخية عن مصر هي في جملتها- وباستثناءات قليلة للغاية- دراسات جزئية تركيبية تهتم بعصر واحد أو حقبة معينة وتغفل ما قبل وما بعد بدعوي التخصص الدراسي أو التباين الأساسي بين مراحل التاريخ، ومن الاستثناءات القليلة الحديثة التي تخلصت من هذا الأسلوب "تكوين مصر" لمحمد شفيق غربال و"سندباد مصري" للدكتور حسين فوزي، و"شخصية مصر" للدكتور جمال حمدان، و"مصر ورسالتها " للدكتور حسين مؤنس ، و"في أصول المسألة المصرية" لصبحي وحيد.
والثالث: هو تصور وجود تعارض بين القومية والتاريخ..فقد تنازعت مصر في مطلع نهضتها الحديثة ثلاث اتجاهات قومية لم تستطع أن تتعايش فيما بينها بل كل منها يرفض أحد زميليه أو كليهما بشدة.
وهذه الاتجاهات هي: الاتجاه الإسلامي الذي كان ينادي بالارتباط بجامعة الشعوب الإسلامية، ويجعل العقيدة الدينية محور التوجيه السياسي والاتجاه الفرعوني الذي يري أن مصر تختلف بحكم أصلها وظروفها عما يجاورها من الشعوب العربية والإسلامية، وبالتالي يحصر نشاطها في مجالها الإقليمي الذي قد يمتد ليعني وحدة وادي النيل ، والاتجاه العربي الذي يركز علي أن مصر جزء لا يتجزء من الوطن العربي بحكم الأصل واللغة والمصالح والمشاعر والتاريخ ، وينبغي بالتالي أن تكون القرمية العربية محورا للفكرة والسياسة.
وكان لهذه الاتجاهات تأثير واضح في النظرة إلي التاريخ المصري، فالذين ينادون بالاتجاه الإسلامي يركزون علي تاريخ مصر الإسلامية وثقافتها ويغفلون التاريخ الفرعوني باعتباره تاريخًا وثنيًا يستنكره الدين، ويرفضون القرمية العربية باعتباره نزعة شعوبية.
والذين يتمسكون بالاتجاه الفرعوني يركزون علي تاريخ مصر القديم وخصائصها الإقليمية، ويقللون من أثر الإسلام والعروبة معًا، والذين يتحمسون للاتجاه العربي يتجاوزون عن تاريخ مصر القديم وخصائصها الذاتية بدعوي أنهما يذكيان النزعة الإقليمية الانفصالية، ويقللون في نفس الوقت من أهمية العامل الديني باعتباره لا يصلح أساسًا للقومية.
والقول بوجود شخصية مصرية متميزة نتيجة لتطور تاريخي خاص لا يعني التنكر للعروبة، ولا يعني التركيز علي ما يفرق دون مايوحد بل إنه حقيقة موضوعية من الخطأ تجاهلها والإيمان بإسلامية مصر لا يتطلب بتر تاريخها فيما قبل عام 640 ميلادية، والإخلاص للقومية العربية لا يستدعي اعتبار هجرة القبائل إلي مصر بعد الفتح الإسلامي أساس عروبتها.
فهي نظرة خاطئة من وجهة النظر القومية ذاتها، لأن القومية العربية لا تقوم علي أساس ديني بمعني أن دخول مصر في الإسلام هو أساس قوميتها وبداية تاريخها، كما أنها لا تقوم علي أساس عنصري بمعني أن المصريين عرب بحكم ما ينساح في شرايينهم من دماء عربية خالصة، وإنما تقوم علي أساس ثقافي لغوي؛ بمعني أن نطق مصر بالعربية ومساهمتها في كنوزها الفكرية والإنسانية هو الأساس الوطيد لقوميتها العربية.
وعلي هذا فهناك ثلاثة ألون من التعصب ينبغي رفضها : التعصب للإقليمية المحلية علي أساس التميز التاريخي والعرقي للمصريين، والتعصب للمشاعر الدينية الذي يلغي التاريخ والقومية معًا، والتعصب للفكرة العربية إذا أنكر الشخصية المصرية وجردها من سماتها التاريخية والحضارية الخاصة.
ولقد أخذت تتبلور بالفعل النظرة السليمة للتاريخ المصري والشخصية المصرية، فهي نظرة لا تبتر الماضي ،ولا تعتبره في نفس الوقت عبئًا علي الحاضر أو قيدًا عليه، إنها تركز علي الحاضر، ولكنها تتبع للماضي وتبحث فيه عن جذور الحاضر والمستقبل.
إنها صيغة خلاصتها وحدة واستمرارية التاريخ المصري مع الإقرار بعدم جموده أو ركوده، فهي إذ تقول بأن جذور مصر الحديثة تمتد في أعماق مصر القديمة ؛فإن مصر الحديثة ليست مومياء تخلفت عن مصر القديمة، وهي إذ تزعم أن الشعب المصري أكثر شعوب العالم عراقة، إلا أنه في نفس الوقت من أكثرها تجددًا ومرونة ، فقد جدد دماءه وأفكاره أكثر من مرة عبر التاريخ، وكان يتمتع دائمًا بقدرة مذهلة علي تمصير الواردين، وطبعهم بطابعه، فلا تناقض بين الأصالة والتجدد بل أن أصالة مصر وقدمها هما أساس وخلفية تجددها وتطورها.
وإن استمرارية الشعب المصري يمكن تشبيهها من الناحية الرمزية باستمرارية النيل، فكما أن النيل قديم يشق نفس المجري منذ آلاف السنين إلا أن مياهه جارية ومتجددة كذلك مصر عريقة قائمة بلا انقطاع ، والحياة فيها مستمرة متجددة.
و استمرارية الشعب المصري ديناميكية ، وليست استاتيكية، فليس صحيحا أن الإنسان المصري لم يغير سوي ثيابه أو جلده الخارجي مع تغير العصور، بل أنه في الحقيقة تطور في أعماقه وأصبح حاصل ضرب لا حاصل جمع مختلف الحضارات التي عاشها وتمرس بها.
وكتاب(وحدة تاريخ مصر) لكاتبه محمد العزب موسي، محاولة للبحث عن خيط عام يربط بين مراحل التاريخ المصري، ويبرهن علي أنه تاريخ شعب واحد لا شعوب متعددة مما قد يوحي إلي بعض الأذهان بأن مصر كانت مجتمعًا مغلقًا منذ أبعد العصور، وأنها تطورت تطورًا ذاتيًا، وهذا خطأ واضح وأبعد ما يكون عن هدف الكتاب.
فليس هناك حد للتأثيرات المتبادلة بين مصر والعالم الخارجي في مختلف العصور بالرغم من عزلة مصر النسبية نتيجة للعامل الجغرافي المعروف، ولا يمكن نزع مصر من قلب التطور الحضاري العالمي طيلة خمسة آلاف عام علي الأقل، وليس الهدف من هذا الكتاب الفصل "الشوفيني" بين مصر والخارج، وإنما محاولة فهم العلاقة بينهما، والبحث عن رابطة بين العصور المصرية في نطاق المراحل المختلفة للتاريخ العالمي.
ويرجع السبب في عدم الإحساس بوحدة تاريخنا الموزع بين مختلف الحضارات والدول الحاكمة، إلي أربعة أسباب رئيسية هي: الصراع بين المسيحية والوثنية في العصر القبطي وما أدي إليه من انفصام وجدان المصريين : الأقباط عن تاريخ أجدادهم المباشرين، والسبب الثاني هو موجة العالمية التي شارك فيها المصريون خلال ثلاث حقب متوالية هي: الهيلينية والمسيحية والإسلام، وقد أدت هذه الموجة إلي القضاء تمامًا علي فكرة القومية، إذ لم يكن المهم هو الانتماء إلي وطن ،وإنما المهم و القياس في كل شيء هو الانتماء إلي العقيدة والدين.
والسبب الثالث :هو تعريب مصر ، ودخولها نهائيًا في صورة العروبة والإسلام مما أعطاها مقومات جديدة من لغة وعقيدة وانتماء قومي وحضاري.
والسبب الرابع: تلك المحن التي تعرض لها المصريون في مختلف مراحل تاريخهم، والتي مرغتهم أحيانًا في ظلام الجهل الدامس الذي لا يبين فيه شعاع واحد من المعرفة أو الوضوح.
ويطرح الكاتب تساؤلًا متمثلًا في، هل يمكن الوصول إلي خيط عام يربط بين التاريخ المصري.؟ نستطيع أن نعثر علي هذا الخيط بوضوح كاف، ابتداء من العصر الفرعوني إلي العصر الهيليني إلي العصر القبطي، ثم نفاجأ بانقطاعه في العصر العربي الإسلامي، فهل انقطع الخيط أم لا يزال قائمًا بشكل أو بآخر؟
هنا ينبغي أن نبحث مسألتين تتعلق الأولي بالرواسب الحضارية القديمة التي لا تزال عالقة بنفوس المصريين من أساطير وفولكلور ومفردات لغوية وعادات وتقاليد اجتماعية وتقاليد نفسية.
ولا نزال نحمل الكثير من هذه التركة التي تدل علي وجود علاقة تربطنا بماضينا القديم. ،وتتعلق النقطة الثانية بدراسة مدي الاستمرارية الجنسية عند المصريين من أقدم العصور إلي العصر الحديث لا لإثبات أي مزاعم أو أوهام عنصرية ، وإنما لتقرير ما إذا كان هذا الشعب في مجموعه شعبًا واحدًا أم شعوبًا متباينة من الناحية الإنثروبولوجية، ولسوف نجد أيضًا أن نسبة الثبات والاستمرار لدي المصريين في هذه الناحية أكثر من نسبة التغير الانقطاع نتيجة للتدفقات الجنسية التي طرأت عليهم من الخارج في مختلف العصور.
ويطرح الكاتب تساؤلًا آخر مؤداه ، لماذا يبدو كأن الخيط العام لوحدة التاريخ المصري قد انقطع في العصر العربي الإسلامي؟
ويؤكد الكاتب أن هذا يحتم دراسة ظاهرة تعريب مصر ، وكيف كانت من العمق والشمول، بحيث أعطت المصريين ضميرًا جديدًا باعتناقهم الإسلام، وتحدثهم بالعربية، في حين أن هناك شعوبًا كثيرة أخري دخلت الإسلام بل وتعلمت أحيانًا اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن، ولكن ذلك لم يؤد إلي تعريبها. وهذا ما حدا بالكاتب إلي مجال الأنثروبولوجيا لتفهم سر هذه الظاهرة.
وجدير بالذكر أن ما أعطي لمصر شخصيتها لم يكن مجرد اعتناقها الإسلام أو تحدثها بالعربية أوانصباب كميات جديدة من الدم العربي في شرايينها، وإنما أعطاها هذه الشخصية ذلك الدور العظيم الذي ساهمت به في الحضارة الإسلامية فكريًا وسياسيًا وعسكريًا،؛ دفاعًا عن هذه الحضارة وارتباطها بها في السراء والضراء.
وعندما نتجاوز مرحلة الظلام العثماني إلي مطلع العصر الحديث في القرن التاسع عشر، يبدأ المصريون في نفس تاريخهم والشعور بقوميتهم، وهذه أكبر علامات الصحوة بغض النظر عن الصراع بين الاتجاهات الثلاث التي تنازعتها ولا تزال تتنازعهم حتي الآن- إلي حد ما- وهي الاتجاه الإسلامي والاتجاه الفرعوني والاتجاه العربي.
ويختم الكاتب بدراسة لهذه الاتجاهات الثلاث ومحاولة لتحديد العلاقة بين القومية والتاريخ بما مؤداه أن قوميتنا عربية وتاريخنا مصري وعقيدتنا إسلامية، وليس هناك تناقض بين هذه العناصر الثلاثة.
ومن المهم أن نؤكد منذ البداية أن النظرة إلي الماضي ليس معناها الرجعة أو الارتداد، ولا تتعارض مع الاهتمام بالحاضر والمستقبل.
ويذهب إلي أن تذكر تاريخ أمجادنا إنما هو تجديد للروح، وأخذ بالعبرة وتسلح بالثقة لمواجهة الحاضر والمستقبل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شولتز: المساعدات الأميركية لا تعفي الدول الأوروبية من الاستم


.. رغم التهديدات.. حراك طلابي متصاعد في جامعات أمريكية رفضا للح




.. لدفاعه عن إسرائيل.. ناشطة مؤيدة لفلسطين توبّخ عمدة نيويورك ع


.. فايز الدويري: كتيبة بيت حانون مازالت قادرة على القتال شمال ق




.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة