الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مراجعات في فكر إميل دوركهايم

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2022 / 7 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.

إن إميل دوركهايم هو الفيلسوف الذي يمكنه أن يساعدنا على فهم سبب كون الرأسمالية تجعل البشر أكثر ثراءً ومع ذلك في كثير من الأحيان أكثر بؤساً؛ حتى - في كثير من الأحيان – بائسين إلى درجة توق الانتحار. لقد ولد عام 1858 في بلدة إبينال الفرنسية الصغيرة، بالقرب من الحدود الألمانية. كانت عائلته يهودية متدينة. لم يكن دوركهايم نفسه يؤمن بالله، لكنه كان مفتوناً بقوة الدين التأثيرية في البشر. وقد كان طالباً ذكياً درس في مدرسة الأساتذة العليا للنخبة في باريس، وسافر لفترة من الوقت إلى ألمانيا، ثم شغل وظيفة جامعية في بوردو. وتزوج وكان له طفلان: ماري وأندريه. وقبل أن يبلغ الأربعين من العمر، تم تعيينه في منصب مرموق كأستاذ في جامعة السوربون (جامعة باريس الرئيسية). كان له مكانة وتكريم استثنائي طوال حياته، لكن عقله ظل غير تقليدي بفضول جامح. توفي من سكتة دماغية في عام 1917.

عاش دوركهايم خلال التحول السريع الهائل لفرنسا من مجتمع زراعي تقليدي إلى حد كبير إلى مجتمع اقتصادي صناعي حضري بامتياز. وكان بإمكانه أن يرى أن بلده أصبحت أكثر ثراءً، وأن الرأسمالية كانت منتجة بشكل غير مسبوق، لكن ما أذهله بشكل خاص، وأصبح محور حياته المهنية بأكملها، هو التكاليف النفسية للرأسمالية. ربما يكون النظام الاقتصادي المستحدث للرأسمالية قد أوجد طبقة متوسطة جديدة بالكامل، لكنه كان يفعل شيئاً غريباً للغاية في وجدان وعقول البشر. لقد كان – بشكل حرفي تماماً بحسب دوركهايم- يدفعهم إلى الانتحار بأعداد متزايدة.

كانت هذه هي البصيرة الهائلة التي تم الكشف عنها في أهم أعمال دوركهايم - الانتحار - الذي نُشر في عام 1897. وقد سجل الكتاب اكتشافاً مذهلاً ومأساوياً مفاده بأن معدلات الانتحار تتصاعد بمجرد أن تصبح الدولة دولة صناعية ويستحوذ نمط الإنتاج الرأسمالي والاستهلاكي عليها. وقد لاحظ دوركهايم أن معدل الانتحار في بريطانيا في عصره كان ضعف معدل الانتحار في إيطاليا. لكن في الدنمارك الأكثر ثراءً وتقدماً، كانت أعلى أربع مرات من مثيلتها في المملكة المتحدة. علاوة على ذلك، كانت معدلات الانتحار أعلى بكثير بين المتعلمين من غير المتعلمين، وأعلى بكثير في البروتستانت منه في البلدان الكاثوليكية؛ وأعلى بكثير بين الطبقات الوسطى من بين الفقراء.

وقد كان تركيز دوركهايم في الانتحار يهدف إلى إلقاء الضوء على مستوى أكثر عمومية من التعاسة واليأس على وجه العموم في المجتمع. كان الانتحار هو الطرف المروع لجبل الجليد من الضيق الروحي والعقلي الناجم عن مفاعيل الرأسمالية.
وخلال مسيرته المهنية، حاول دوركهايم أن يشرح سبب تعاسة الناس في المجتمعات الحديثة، على الرغم من أن لديهم المزيد من الفرص وإمكانية الوصول إلى احتياجاتهم من البضائع الاستهلاكية بكميات لم يكن أجدادهم يحلمون بها أبداً. وقد قام دوركهايم بعزل خمسة عوامل حاسمة في تشكيل ذاك المناخ الانتحاري:

1. الفردية
في المجتمعات التقليدية، ترتبط هويات البشر ارتباطاً وثيقاً بالانتماء إلى عشيرة أو طبقة ما. وتكون معتقداتهم ومواقفهم، وعملهم ووضعهم، ناجمة بشكل تلقائي من معطيات ميلادهم. وهناك القليل من الاختيارات المتاحة لهم في حيواتهم. ويمكنهم التحرك أساساً في الفضاء الذي تم إنشائه لهم من قبل أسرتهم ونسيج فئة المجتمع الذي ينتسبون إليه.
ولكن في ظل الرأسمالية، فإن الفرد (بدلاً من العشيرة، أو "المجتمع"، أو الأمة) هو الذي يختار الآن كل شيء: ما الوظيفة التي يجب اتخاذها، وما الدين الذي يجب اتباعه، ومن يتزوج. هذه "الفردية" تجبر كل منا على أن يكون مخطط ومصنع مصيره، إذ تصبح حياتنا انعكاساً لمزايانا ومهاراتنا وثباتنا الفريد من نوعه.
إذا سارت الأمور على ما يرام، يمكننا أن نحصل على كل ما نصبو إليه. لكن إذا سارت الأمور بشكل سيء، فهي أكثر قسوة من أي وقت مضى، لأنها تعني أنه لا يوجد أحد آخر يتحمل المسؤولية وإلقاء اللوم، أو يشاركنا مصابنا المهول. علينا أن نتحمل المسؤولية كاملة. لقد قمنا بالاختيار وعلينا تحمل تبعاته بأنفسنا. والفشل في ظل الفردانية يصبح حكماً فظيعاً على نفس المرء؛ وهذا هو عبء الحياة الخاص في الرأسمالية الحديثة بحسب دوركهايم.

2. الإفراط في الأمل
إن الرأسمالية ترفع آمالنا. فالجميع - بجهد كاف - يمكن أن يصبحوا في سدة رياسة المجتمع. يجب أن يفكر كل فرد على نحو أكبر. أنت لست محاصراً بالماضي - كما تقول الرأسمالية - أنت حر في إعادة تشكيل حياتك. الإعلان يثير الطموح من خلال إظهار الترف الذي لا حدود له لنا، والذي بإمكاننا إذا اجتهدنا بالشكل الصحيح أن ندركه في وقت قريب للغاية. حيث في الرأسمالية تنمو الفرص على نحو هائل، وكذلك الاحتمالات لخيبة الأمل. ويصبح الحسد متفشياً. ويصبح المرء غير راضٍ كثيراً عن نصيب المرء من كعكة النجاح والثروة في المجتمع، ليس لأنه جشع بشكل موضوعي، ولكن بسبب ما تزرعه الرأسمالية في وجدانه من أفكار تدفعه لمراكمة الثروة والنجاحات والاستهلاك المحموم الذي وفق قوانين الرأسمالية يجب أن يكون من نصيب كل المجتهدين، على الرغم من أن تلك الأفكار غير صحيحة في الواقع الرأسمالي المعاش يومياً.
جذب الجانب المبتهج والمتحمس من الرأسمالية غضب دوركهايم الخاص. في نظره، تكافح المجتمعات الحديثة للاعتراف بأن الحياة غالباً ما تكون مؤلمة وحزينة. وتميل اتجاهاتنا إلى الحزن والأسى لتبدو وكأنها علامات الفشل بدلاً من - كما ينبغي أن يكون الحال – أن تكون استجابة عادلة للحقائق الشاقة للحالة الإنسانية.

3. في الرأسمالية الكثير من الحرية المزيفة
إن الرأسمالية - في أعقاب الجهود السابقة للمتمردين الرومانسيين - قوضت بلا هوادة الأعراف الاجتماعية، وأصبحت الدول أكثر تعقيداً، وأكثر غموضاً، وأكثر تنوعاً. ولم يعد هناك الكثير من الأشياء المشتركة بين الأشخاص مع بعضهم البعض. والقواعد أو المعايير التي قَبِلَها البشر تم التوقف عن تطبيقها واستعمالها.
في ظل الرأسمالية، تصبح الإجابات الجماعية على ما هو الصائب وما هو الخاطئ مائعة وأضعف وأقل تحديداً. فهناك الكثير من الاعتماد على عبارة: "أي شيء يناسبك". والتي قد تبدو ودودة، ولكنها تعني أيضاً أن المجتمع لا يهتم كثيراً بما تفعله، وأن المجتمع لا يشعر بالثقة بأن لديه إجابات جيدة على الأسئلة الكبيرة التي تخص حياتك.
في لحظات الثقة الكبيرة، نود أن نفكر في أنفسنا على أننا مستوفيين بالكامل لمهمة إعادة اكتشاف الحياة الصحيحة والتي نسعى لإدراكها، ولكن - في الواقع الرأسمالي المعاصر - كما يشير دوركهايم، إننا في كثير من الأحيان ببساطة مشوشون، ومشتتون، ومتعبون للغاية، ومشغولون للغاية، وغير متأكدين مما هو الخطأ أو الصواب في كل ما نفعله أو نقوم به.

4. الإلحاد
كان دوركهايم نفسه ملحداً، لكنه كان قلقاً من أن الوعي الديني أصبح غير قابل للتأثير على الرغم من أن كون جانبه المجتمعي ضرورياً للغاية لإصلاح النسيج الاجتماعي المتهالك. وعلى الرغم من أخطاء الدين الواقعية، فقد قدّر دوركهايم الإحساس بالمجتمع الذي قدمه الدين: "لقد أعطى الدين للبشر تصوراً لعالم خارج هذه الأرض حيث سيتم تصحيح كل شيء؛ وهذا الاحتمال جعل عدم المساواة بين البشر أقل ظهوراً، وقد خفف من شعور البشر بالضيق."
وكان ماركس يكره الدين لأنه يعتقد أنه جعل الناس أكثر استعداداً لقبول عدم المساواة إذ كان "الأفيون" الذي خفف الألم وقلص من إرادة التغيير في وجدانهم. لكن هذا النقد كان قائماً على قناعة مفادها أنه لن يكون من الصعب في الواقع تكوين عالم قائم على أسس العدالة والمساواة بين البشر، وبالتالي يمكن خلع الأفيون من المجتمع دون مشكلة.
وتبنى دوركهايم وجهة نظر أكثر قتامة مفادها أن عدم المساواة سيكون من الصعب للغاية القضاء عليها وربما مستحيلاً، لذلك يجب علينا أن نتعلم - بطريقة ما - التعايش معها، وهذا قاده إلى تقدير أكثر تقبلاً لأية أفكار قد تخفف من الضربات الوجدانية للواقع المؤوف بعدم المساواة.
ورأى دوركهايم أيضاً أن الدين خلق روابط عميقة بين الناس، فقد عبد الملك والفلاح نفس الإله، وصلوا في نفس المبنى مستخدمين نفس الكلمات، وقد عُرض عليهم بالضبط نفس الطقوس المقدسة، والثروات والمكانة والقوة لم تكن لها قيمة روحية مباشرة، ولم يكن للرأسمالية شيء تستبدل به هذا، وبالتأكيد العلم وكشوفاته لم يقدم نفس الفرص لتجارب قوية جمعية مشتركة.
لقد كانت المأساة - في نظر دوركهايم - هي أننا تخلصنا من الدين في الوقت الذي كنا فيه في أمس الحاجة إلى أبعاد المواساة الجماعية التي يقوم بها الدين، ولم يكن لدينا شيء نضعه في مكانه.

5. إضعاف الأمة والأسرة
في القرن التاسع عشر، كان يبدو - في لحظات معينة - وكأن فكرة الأمة قد تنمو بقوة وكثافة بحيث يمكن أن تستحوذ على الشعور بالانتماء والتفاني المشترك الذي كان يتم توفيره من قبل الدين. لقد كانت هناك بالفعل بعض اللحظات البطولية القومية، كما في الحرب ضد نابليون حينما طوّر البروسيون الألمان مذهباً فكرياً يلم شمل الجميع للدفاع عن أرض الأجداد. ولكن إثارة الأمة في حالة الحرب – كما رأى دوركهايم - قد فشلت في أن تترجم إلى أي شيء يستحق التقدير حقاً في زمن السلم.
قد يبدو أن العائلة تقدم تجربة الانتماء التي نحتاجها، ولكن دوركهايم لم يكن مقتنعاً بذلك. إننا نستثمر بالفعل بشكل كبير في عائلاتنا، لكنها ليست مستقرة بقدر ما نأمل، وهي لا يمكن أن تكون بديلاً عن العلاقة مع المجتمع الأوسع.
على نحو متزايد، لم تعد "الأسرة" بالمعنى الواسع التقليدي موجودة. وتم اختصارها في الزوجين اللذين يتفقان على العيش في نفس المنزل ويقومان برعاية طفل أو طفلين لفترة من الوقت. ولكن بعد مرحلة البلوغ لا يتوقع هؤلاء الأطفال العمل إلى جانب والديهم؛ ولا يتوقعون أن تتداخل دائرتهم الاجتماعية مع والديهم كثيراً. شعورنا الفرداني بخصوص العائلة ليس بالضرورة شيئاً سيئاً. إن هذا يعني فقط أنها ليست في وضع جيد يؤهلها لتولي مهمة منحنا إحساساً أكبر بالانتماء الذي يمنحنا شعوراً بأننا جزء من شيء أكثر قيمة من أنفسنا.

الخلاصة
يعدُّ دوركهايم مدققاً فاحصاً لأمراض المجتمعات الرأسمالية. إنه يوضح لنا أن الاقتصادات الحديثة تفرض ضغوطاً هائلة على الأفراد، وتتركهم محرومين بشكل خطير من بوصلة العقل المتزن والعزاء المجتمعي.
لم يشعر دوركهايم بأنه قادر على العثور على إجابات للمشاكل التي شخصها، لكنه علم أن الرأسمالية ومن يعيش في لجها يجب أن يجدوا حلولاً لتلك الإشكاليات أو لا بد لتلك الرأسمالية من الانهيار قبل أن تحول كل الخاضعين لقوانينها إلى منتحرين مع وقف التنفيذ إلى حين فقط. وفي مضمون قول دوركهايم دائماً إشارة إلى أنه ما زال أمامنا مهمة شاقة تتمثل في إنشاء طرق جديدة للانتماء المجتمعي الحق، ورفع هول الضغوط التي يتعرض لها الإنسان في لج الرأسمالية، وإيجاد توازن صحيح بين الحرية والتضامن، وتوليد أيديولوجيات تسمح للبشر بالتعبير عن شعورهم بالانتماء الحق إلى مجتمعاتهم التي يعيشون فيها، بشكل يتجاوز كونهم براغ في آلة سحق الرأسمالية للبشر وأرواحهم وأحلامهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: ضربة أصابت قاعدة عسكرية قرب أصفهان وسط إيران|#عاجل


.. القناة 12 الإسرائيلية: تقارير تفيد بأن إسرائيل أعلمت واشنطن




.. مشاهد تظهر اللحظات الأولى لقصف الاحتلال مخيم المغازي واستشها


.. ما دلالات الهجوم الذي استهدف أصفها وسط إيران؟




.. دراسة جديدة: اللحوم النباتية خطرة على الصحة