الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شهية الضعف

علي باقر خيرالله

2022 / 8 / 1
الادب والفن


جمعتني الصدفة الزمكانية مع احد الفلاسفة الذين هم ليسوا بفلاسفة , حاتم , رجلٌ قد تجاوزَ بقائهُ حياً في العراق ما يزيد عن الخمسين سنة , كنتُ قد سألتهُ وانا مستطرقٌ في أحدى درابين شارع الرشيد عن سرداب لبيع الكتب القديمة .
اجابني وكأنهُ قد رسمَ خرائط سوق السراي و ما حوله , ثم اردف بتساؤله ؛ انت مو من بغداد ؟ اجبته بسؤالٍ حاولت تخفيف وقعَ وقاحته برسم ابتسامة اجبارية على شفتيَّ؛ شنو اهل بغداد يندلونها شبر شبر ؟ امسك كتفي واخذ بالضحك بمودةٍ لم أألفها منذ زمن .
اومئ لمن كان معه بحركة وداعٍ بيدهِ , ثم استدار مع اتجاهي مرافقاً ايايَّ نحو الاتجاهِ الذي دلني عليهِ بنفسهِ , اول شيء قالهُ لي بانهُ ليس من بغداد ايضاً , ربما شعرَ بان سؤاله لي سابقاً قد كان فيهِ نوعٌ من الاهانة قد تعرضَ لها سابقاً وربما في يومٍ ما قد ازعجتهُ كلمة "محافظات" بعنصريتها المتخفية تحت البعد المكاني.
رجوته والححت بأن يأخذ راحته فلا حاجة لي بمرافقتهِ فانا متعود على هذه الشوارع , ولكنهُ اصر , ادعى بانهُ ليس لهُ عمل مهم ايضاً وانما يتواجد هنا لتغيير الاجواء النفسية لديه في ايام الخميس او الجمعة , بعد ذلك ؛ ترافقنا انا وحاتم ليومٍ طويل بين سراديب الكتب المستعملة و البسطات و محلات الانتيكات القديمة , لقد كانَ انساناً استثنائياً بكل معاني الاستثناء , لقد كان فيلسوفاً حتى في انتقاء كلماتهِ مع الباعة , سألتهُ ما علاقتك ببغداد ؟ اجابني بانه عمل فيها عشر سنواتٍ كبائعٍ للأقراص الليزرية في ساحة الطيران ثم دنى مني مائلاً برقبته نحوي ؛ "اقراص سكسية" , بنبرةٍ تعبر عن "السكس" , هذهِ المرة انفجرتُ انا في الضحك حتى كاد ان يخرج الشاي من انفي حينما دعاني لشرب الشاي في مقهى حسن عجمي .
ولان الحديث اتجهَ نحو "السكس" فقد احسنتُ استغلالَ الفرصةِ ايما استغلال , فالذي مثلُ حاتم , هم اناسٌ يعلمونكَ أصول الاشياءِ التي لا تحتاج الى أصول , وكما توقعت , كانَ مثلي ايضاً , يحملُ تصوراتٍ وفلسفاتٍ متناقضة حول علاقتهِ بالفعل الجنسي , فقد كانت صاحبتهُ في محلة الكفاح , ارملةُ عريفٍ قضى دفاعاً عن وطنٍ تمزق فيما بعد , تاركاً لحاتم زوجةً تؤنس سنوات الحصار المريرة , بالزنا , كانت لبوةً بالفطرة , هكذا كان يقول حاتم , سألتهُ ولما لبوةٌ بالتحديد ؟ ؛ لقد كانت شرسة , حادة الطباع , تمتلكُ لسانَ عجوزٍ و رغم هذهِ الطباع الا انها كانتَ تتكورُ عندَ الأسد وكان يشيرُ الى نفسهِ ضاحكاً, تفرك اقدام –أسدها- بالماءِ والملح حينما يذهبُ اليها شبقاً عصرَ بعض الايام ولكنها تراهُ رغم شبقهِ تعباً من الوقوف او الجلوسِ الطويل و قد بحَ صوتهُ وهو ينادي على بضاعته , اسمها سامية , كانَ يتحدثُ عنها وكأنه يتحدث عن نبي , وهي ربما كذلك , فمن يحملُ في كينونته جميع التناقضات من الحدةِ و الطاعة , و الصراخِ والغنج , من الصعبِ ان يكونَ او ان يحيى حياةً عادية .
سألتهُ هل تستحيي لو تحدثت عن لقاءاتكم الحميمية اكثر؟
- حاتم حينما يستحي , يكون حينها ليس حاتم .
كانَ كثيراً ما يجيب عن نفسهِ بصيغة الطرفِ الثالث , وقد كان هذا يعجبني , فانا مغرمٌ بالأساليب الادبية في التعبير .
كانَت نحيفة رسحاء ولكن لها تقاسيم جسدٍ أُكوى بها عشقاً , هكذا استطردَ في كلامهِ , الا ان قاطعتهُ ؛ رسحاء؟ بنبرة الجاهل , الا ان اوضحَ لي بانهُ يقصد بانها لا تمتلك اردافاً ممتلئة مستعيراً هذا اللفظ من احدى مجالس الخليفة المتوكل , اعتذرتُ عن مقاطعتهِ ورجوتهُ ان يُكمِل .
كانَت لقاءاتنا شبهَ يوميةٍ , فلم تَكُن تملكُ من الاقارب الكثيرين من جانبِ اهلِ الزوجِ او الاعمام والاخوال , فأكثرهم يسكنون مدينة ديالى , وكان اهل زوجها قريبين مسافةَ دقائقَ عنهم ولكنَ ظروف الحياة كانَت قد اشغلتهم عن ارملة ابنهم , فالحصار الاقتصادي قد جعلَ صلةَ الرحم تكاليفاً غير مبررة في اغلب الاحيان .
هذهِ الظروف العائلية والاقتصادية قد ساعدت حاتم على الانفراد بسامية طوالَ ايامِ الاسبوعِ تقريباً , فطبيعة عمل سامية في بيع الاقمشة لنسوة المحلة قد جعلها مديرة نفسها , لم تَكُن "دلالة" بقدر انها سمساره توصيها النسوةِ باحتياجاتهن بالتحديد , فتجلب لهن ما يحتجنِ بسعرٍ مناسبٍ أدنى من سعرهِ في السوق في غالبِ الاحيان , وكانَ كثيراً ما يساعدها حاتم في هذا العمل فتواجده بالقربِ من الذين يبيعون الاغراض المسروقة اكثر ساعات النهار قد اعطاها ميزة الحصول عليها بأثمانٍ بخسة .
هكذا كانَ القدر , والظروف , والاشخاص , كلها تؤدي نحو طريقٍ يؤدي الى منزلٍ من ثلاثٍ غرفٍ يمارسُ فيهِ حاتم و سامية عادتهم شبهَ اليومية .
لَم أسمع ولم أقرأ عن امرأة تصالحت مع ذاتها كسامية , قال حاتم , فهي كانت معي عارية حتى لو كنا في الشارع , ليست عارية الجسد , بل عارية من غرورها , عارية من الدرعِ المطلي بالكبرياء والخشونة التي تحتاجهُ في تعاملاتها مع الناس في زمنٍ اخذت المروءة فيه بالنقصان , ولكنها لم تكن بحاجة هذا الدرعِ معي , كانت تعلم , بانني اعلم ما في جوفها من حبٍ للسكينةِ و الطاعةِ والاستسلام , جسداً وفكراً , ولو أن واحداً غيري عاشرها كان بالتأكيد قد وصفها بالبرودِ الجنسي , لأنها كانت اشبه بعديمة الحركة اثناء ممارستنا الجنسية , ولكني كنتُ اعلمُ بانها تسلمُ نفسها , كأسيرةٍ يقودها آسِرها من دون سلاح , كنتُ لو قُدتها للموت حينها , أجزمُ بانها لم تكن لتعارض هذا , كنتُ لو غرزتُ سكيناً في خاصرتها لوجدتها مستمتعةً بنزيفها وهي تحتي , كانت عجيبةً من عجائب الخلق , جماحها نحو التذلل و ليس هذا فقط , بل اعترافها بحبها للتذلل لهو شيء عجزتُ عن ايجادِ شيءٍ مثله , بطبيعة عملي في بيع الاقراص ذات المحتوى الجنسي وجدت هكذا ممارسات وربما تقول انت الآن بانهُ شيءٌ عادي متعارفٌ عليه وليس بهذه الغرابة التي أصفها لك , ولكن سامية كانت مختلفة , كانت تنقلُ هذا الشعور الى ابعد من الممارساتِ الجنسية , فكانت متصالحةً لدرجة انها تنتشي بتصرفٍ عفوي مني , او موقفٍ حول شيءٍ لا يندرجُ تحتَ اي تلميحٍ جنسيٍ حتى , في مرةٍ بعد ان اختلفنا حول موضوعٍ معين , وكنتُ قد صرختُ في وجهها و قد تغلبت عصبيتي على هدوئي , وبعد ان هدئنا بعد يومين او اكثر والتقينا وكعادتنا كانت تحتي , كانت تحدثني بان حتى صراخي في وجهها يومها , كان بمثابة شيءً يريها ضعفها , وضعفها كان وقودَ لذتها الجنسية , ليس في بعض الاوقات فقط , بل بشكلٍ دائمٍ ومستمرٍ بصورة غريبة , وكانت هذه الغرابة تحمل جمالاً يصعبُ ان اصفهُ لك , ولو كنتُ استطيعُ وصفهُ لوجدتني احد اشهر ادباء القرن .
ولأن الوقت قد بدأ يداهمنا , سألته ان يختصرَ حديثة على رواية اكثر المواقف الغريبة التي جمعته بها .
اخذت الحيرةُ منها مأخذاً كبيراً عند طلبي هذه , ربما كثرة المواقف الغريبة قد صعبت لديهِ اختيار ما يصطفيه منها او يسعُ مجلسنا لروايته , ولكنهُ سرعان ما توجه بسؤالٍ لي ؛ قال ما رأيك لو ان امرأة تعلمُ ان لها عزة نفسٍ كبيرة حضرت بين يديك بكل جديةٍ و قالت اصفعني ؟ ؛ غريب , هكذا اجبته , فأخذ يمهدُ لي هذا الموقف بانه قد منع سامية من المرور بأحد الازقة كونهُ يُسكن من قبل بعض عصابات الجالية السودانية , ولكنها في احدى الايام مرت بهِ , تثاقلاً من المرور بزقاقٍ غيرهُ كان ابعد , عندما التقينا قدمت وجهها لي , ورغم تساؤلاتي عن سبب طلبها بان اصفعها لم تجب و قد اخذت بالقسم بانها لن تخبرني مالم افعل ذلك , صفعتها بطريقة خفيفة اشبه بالمزاح , قالت بكل جدية انا لا امزح , فلا تمزح وافعل ذلك وكأنني عصيتُ أمرك و عرضتُ كيانكَ للاهتزاز , فصفعتها بقوة على مضض , بعدها اخبرتني بفعلتها , ولكنها حينما كانت تروي لي ما فعلت بنبرة المتردد الخائف , كان على وجهها علامات اعرفها , علامات اللذة , علامات الشبق الذي كان في اغلب الاحيان يمتزج لديها بـ هكذا مواقف وبـ هكذا اساليب لا تتبعَها الا سامية وحدها .
ختمنا حديثنا بان اعطى كل منا وعداً لصاحبه بمعاودة اللقاء هذا , وانصرف كل منا نحو مدينة يسكنها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..


.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما




.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى