الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليمن وأوكرانيا: تأملات في جغرافية الجوع وبؤس السياسة!

منذر علي

2022 / 8 / 1
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


الجوع ظاهرة متوقعة في المجتمعات البشرية، ولا سيّما في أثناء الحروب، و لكن مستوى الجوع يتباين من بلد إلى آخر. فالجوع ليس فقط النتيجة المتوقعة لطبيعة الصراع السياسي والعسكري، ولنوع التنظيم الاجتماعي والاقتصادي، ولكنه أيضًا مرتبط بالطبيعة، وبمساحة الأرض وخصوبتها، وبنوع المحاصيل الزراعية، وما إذا كانت الأرض تعتمد على الأنهار، مثل أوكرانيا، أم على الأمطار الموسمية، مثل اليمن.
***
اليمن تشبه أوكرانيا من زاوية أنَّ البلدين غارقتان في صراع مسلح، ولكن باستثناء أنهار الدَّم الذي يُسال بشكل عبثي في مدن وقرى اليمن البائس، فاليمن لا تشبه أوكرانيا. ومع أنَّ اليمن يتميز بماضٍ حضاري عريق إلاَّ أنه، في الوقت الحاضر، يعاني فقر ثقافي عميق، مقارنة بأوكرانيا. وفي اليمن لا توجد أنهار دائمة الجريان، كما هو الحال في أوكرانيا، التي تحتوي على عشْرةَ أنهارٍ كبرى، تعتمد عليها في الإنتاج الزراعي. في اليمن الإنتاج الزراعي يعتمد على مياه الأمطار الموسمية التي تتفضل بها السماء، بين وقتٍ وآخر، على الإنسان والحيوان والنبات. ولذلك فأنَّ الإنسان في اليمن يعاني الحروب، مثل أوكرانيا، ولكنه فضلاً عن ذلك، يعاني الحصار و الجوع والعطش وأعراض التخلف المختلفة وعدوان المجتمع الإقليمي وتجاهل المجتمع الدُّوَليّ.
***
في أوكرانيا تمثِّل المساحة الصالحة للزراعة 56.6% من مجموع المساحة الكُليِّة لأوكرانيا، التي تبلغ 603548 كيلومتر مربع، فيما لا تمثِّل المساحة الصالحة للزراعة في اليمن سوى أقل من 3% من مجموع المساحة الكُليِّة لليمن، التي تبلغ حوالي 527,968 كيلومتر مربع، ومع ذلك فأنَّ المساحة المزروعة في اليمن لا تمثِّل سوى 82% من إجمالي المساحة الصالحة للزراعة.
***
في أوكرانيا، يبلغ معدل النمو في القطاع الزراعي 16.7%، ويبلغ معدل النمو السكاني 0.63- % سالب. ويبلغ عدد سكان أوكرانيا 44 مليون نسمة، ومن المتوقع، حسب الشواهد الإحصائية أنْ ينخفض سكان أوكرانيا، إنْ بقيت موحدة، إلى 40.88 مليون نسمة سنة 2030، وإلى 35 مليون نسمة سنة 2050. وهذا يعني أنَّ لدي الأوكرانيين، في الوقت الحاضر، ما يكفي لإشباع حاجاتهم ويزيد، و لديهم فائض كبير من الإنتاج الزراعي يمكنهم تصديره، وسيكون لديهم، بسبب الانخفاض السكاني، فائض أكبر قابل للتصدير في المستقبل. الأوكرانيون يزرعون كثيرًا وينجبون قليلًا، ويصدرون قمحهم إلى العالم، وعند المحن يهب العالم كله لنجدتهم، كما هو حاصل اليوم، فيما يهب العالم لافتراسنا.
***
في اليمن، في الوقت الحاضر، يبلغ معدل النمو في القطاع الزراعي 2%، ويبلغ معدل النمو السكاني 3.5%. ويبلغ عدد سكان اليمن حوالي 30 مليون نسمة، ومن المتوقع، حسب معدل النمو السكاني، أنْ يرتفع سكان اليمن إلى 36.41 مليون نسمة سنة 2030 وإلى 48.08 مليون نسمة سنة 2050. وهذا يعني وجود فجوة كبيرة، قابلة للأتساع، بين النمو السكاني المتكاثر والنمو الزراعي المتضائل في اليمن، وفي الوقت الحاضر، فأنَّ اليمن يستعين بملء هذه الفجوة عبر الاستيراد والمساعدات الخارجية، أما في المستقبل فسيواجه اليمنيون كارثة حقيقية لن يتمكنوا من تجاوزها إذا ظلوا يتحاربون، وينجبون أطفالًا دون ضوابط، وإذا ظلَّ جزءًا كبيرًا من المساحة المحدودة الصالحة للزراعة في اليمن، تزرع بالقات والألغام.
***
اليمنيون يزرعون قليلًا وينجبون كثيرًا. ولذلك، ليس لدي اليمنيين ما يكفيهم من القمح، وليس لديهم ما يُصَدِّرُونَ إلى الخارج سوى أنفسهم إنْ استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فهم يستوردون القنابل والقمح من العالم، فيحصلون على القنابل مجانًا وليس على القمح، وحينما يعجزون عن شراء القمح فأنّهم يستغيثون بالعالم الخارجي، ولكن لا مُغِيث!
***
اليمنيون، مثل الأوكرانيين، تحكمهم، جماعات مجرمة وفاسدة ومتنافرة وعميلة للقوى الخارجية، ولكن شتان بين نخبة سياسية متعلمة كالنخبة الأوكرانية، قادرة على التفاهم مع العالم، ونخبة سياسية جاهلة كالنخبة اليمنية خرساء، عاجزة حتى عن التخاطب فيما بينها.
***
الأوكرانيون يقطنون في أوربا الشرقية وتعرضوا خلال وجودهم الممتد في التاريخ، لإشعاع التنوير الأوربي، واليمنيون يقطنون في ركن مَنْسِيٌّ من جَنُوب غرب آسيا وتعرضوا للاستعمار البريطاني والتركي و للظلم والظلام السعودي وللتدخل الإيراني. الأوكرانيون نهضوا تعليميًا، ولاسيما عقب ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى بين 1917-1991، واليمنيون تعلموا إبان العقود القليلة الزاهرة لثورتي سبتمبر وأكتوبر بين 1962- 1985، ولكنهم، بعد ذلك، كرهوا النور وعدّوه رجسًا من عمل الشيطان، وارتدُّوا على أعقابهم واستعانوا بخبرات العفاريت وانشغلوا بصناعة الموت والتوابيت.
***
في أوكرانيا ثمة أكثر من ثمانمائة جامعة، أشهرها أربعة وثلاثين جامعة، من بين أشهرها في العالم، جامعة كييف وخاركيف، وجامعة سومي الوطنية. فيما اليمن يحتوي على سبع وعشرين جامعة، بعضها، باستثناء جامعتي صنعاء وعدن المتواضعتيْنِ، أقرب إلى المدارس المتوسطة والثانوية. أوكرانيا هي واحدة من البلدان التي لديها أعلى معدل في معرفة القراءة والكتابة يصل إلى 100 ٪، بينما اليمن من البلدان التي لديها أدنى معدل في معرفة القراءة والكتابة يصل 54%.
***
اليمنيون يُقْلِلون من الإنتاج ويكثرون من التقاتل ومضاعفة القتلى، فيستعيضون عن الموتى بزيادة الإنجاب، والرزق على الله، فيتكاثر السكان على الرغم من كثرة الموتى، ولكن المحاصيل الزراعية المحلية المحدودة في اليمن لا تلبي الزيادة المطردة في النمو السكاني، فيتعذر على اليمنيين إطعام أنفسهم، فيسعون لاستيراد القمح من الخارج، ولكن المال قليل والبؤس كثير، وسعر القمح أرتفع بشكل جنوني، وهذا يعني، ببساطة، أنَّ اليمنيين في ورطة كبيرة، ورطة شاركتْ في صناعتها النخب الحاكمة و الطبيعة والظروف التاريخية والموقع الجغرافي والقوى الخارجية المتربصة باليمن.
***
خلاصة القول، على الرغم من التوزيع غير العادل للأرض والموارد بين البشر في العالم، فالشعب اليمني عنيدٌ وتمكَّن من ترويض الطبيعة، واستطاع في الماضي البعيد، عندما توفرت له قيادة رشيدة، أنْ ينحت الصخور ويقيم المدرجات والتعاونيات الزراعية في أعالي الجبال، ويشيِّد السدود ويصنع أعظم حضارة في الجزيرة العربية. كما استطاع الشعب اليمني أنْ يقاوم الغزاة عبر التاريخ ويخرجهم من وطنه خاسئين. و الشعب اليمني قادرٌ أن ينتصر على أعداء اليوم، كما انتصر على أعداء الأمسِ، ويستعيد دوره الريادي في التاريخ.
***
إنَّ مشكلة اليمن هي أنه منكوب بالجيران الأشرار وواقع تحت حكم الجهلة والمرتزقة وعبدة الدولار، وبذلك فأنَّ اليمنيين، في الوقت الحاضر، لا يحصدون سوى الموت، ولكن اليمن أرضه كبيرة، فهي تعادل مساحة فرنسا تقريبًا، واليمن غنيٌ في ثرواته المعدنية والسمكية التي لم تُستغل بشكل حكيم حتى الآنَ. واليمن متميزٌ في موقعه الجغرافي، إذْ يشغل موقعًا استراتيجيًا هامًا في الخريطة العالمية، وهو متصل بالبحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن وبحر العرب ولديه حوالي 186 جزيرة، متناثرة في حدوده المائية، لم تُكْتَشَفْ ثرواتها ولم تُسْتَغلْ حتى الآنَ، والأهم من ذلك كله أنَّ اليمن غنيٌ بشعبه الأبي الذي لا ينكسر أمام النكبات والملمات ويستطيع أن يحيل الصعوبات إلى ممكنات.
***
ولذلك فأنني أعتقد اعتقادًا راسخاً أنَّ الشعب اليمني قادر على استعادت دوره الريادي وجعل المُستحيلات ممكنات إذا توحد على أهداف نبيلة، تتصل بالحرية والعدالة الاجتماعية والتقدم. واليمنيون، إنْ كانوا اليوم ممزقين ويمرون بمحنة كُبرى، فأنهم سيتوحدون ولن يستسلموا لأقدار الطبيعة ومكر التاريخ ودسائس المتآمرين عليهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملف الهجرة وأمن الحدود .. بين اهتمام الناخبين وفشل السياسيين


.. قائد كتيبة في لواء -ناحل- يعلن انتهاء العملية في أطرف مخيم ا




.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش تداعيات الرد الإيراني والهجوم ال


.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟




.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على