الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية ذكريات الحرب الأخيرة.. كارلوس ليسكانو

وليد الأسطل

2022 / 8 / 3
الادب والفن


في بداية افتتاني بالروايات، قرأت رواية "صحراء التتار" ل دينو بوتزاتي، التي كان لها تأثير عميق علي. لقد قامت هذه الرواية بتجميع كل الانطباعات عن عدم الجدوى التي كانت قد منحتنيها بيئتي الأولى. وعلى الرغم من أنني لم أقرأها مرة أخرى، إلا أنها لا تزال محفورة في ذاكرتي. يتم إرسال جندي شاب إلى قلعة بعيدة لمراقبة الصحراء، التي من المتوقع أن يخرج منها التتار المخيفون في يوم من الأيام. يضيع الجندي الشاب حياته في نشاط يومي غبي ومرهق. كان دروغو، هذا اسمه، بعد فترة صعبة من التكيف، قد تأقلم مع حياة الإنتظار الغبية هذه: فبعد بضع سنوات من مشاهدة الصحراء، كان هذا كافيا لكسر نفسية الملازم الشاب بشكل نهائي. بعد أن أصبح مثل أولئك الذين كان يخشى في البداية أن يشبههم، حارس حدود، كان ينتظر فقط اقتحام التتار لإعطاء معنى لوجوده. إن الكارثة، لأن الغزو لا يمكنه أن يكون إلا كارثة، هو وحده من يمكنه أن يعطي عمقا للحياة الروتينية للثكنات. كما أن المفارقة الكبرى المحبطة في الرواية، هي أن التتار لن يأتوا إلا بعد وفاة دروغو: لقد أهدر الملازم حياته على حواف السهب.

إن رواية "ذكريات الحرب الأخيرة"، هي رواية الانتظار، كما هو الحال مع أعمال أخرى معاصرة لها، مثل: "على منحدرات الرخام" On the Marble Cliffs ل إرنست يونغر، و"الشاطىء المقابل" The Opposing Shore ل جوليان جراك. ألهمت رواية بوتزاتي الروائي الأوروغوياني "كارلوس ليسكانو" كتابة روايته "ذكريات الحرب الأخيرة". يعترف ليسكانو، في مقدمة مثيرة للإهتمام، أنه مدين للكاتب الإيطالي. كان ليسكانو محتجزا لما يقرب من 15 عاما في سجون المجلس العسكري في مونتيفيديو، وقام بطريقة ما بتكييف رواية "صحراء التتار" مع ما عاشه: كان بوتزاتي، الذي ظهر بشكل غريب على رفوف مكتبة السجن العسكري، الرفيق المخلص له، إبان سنوات اعتقاله. الرواية تكريم لهذا الحضور المعنوي للكاتب الإيطالي في حياة السجين.

لأنه لم يفِ ببعض الالتزامات القانونية، يتم تجهيز راوي هذه الذكريات تلقائيا للحرب التي تهدد بلاده. بعد إرساله للإستعداد بعيدا عن العاصمة، سيعيش المجند لعدة أشهر آلام التدريب العسكري المرهق جسديا ومعنويا. ينتظر الجنود الشباب حربا لن تأتي أبدا. يشك القارئ في أن هذا مجرد ذريعة لاحتجاز العناصر التخريبية المحتملة. لن يوضح ليسكانو هذه النقطة. بعد أن عانى من قسوة الانضباط العسكري لأنه أعرب عن بعض الشكوك الخجولة حول انتصار بلاده في الصراع الذي اندلع، سيألف الراوي الوضع.

في الجيش، تطيع أو تهرب. ولأنه غير قادر على الفرار، سيستوعب أنه يجب عليه قبول الأوامر.
ذات يوم، وهذا هو موضوع الرواية بأكملها، لن يكون قادرا على الاستغناء عن هذه الأوامر، وسيحبها.

بعد أن أصبح الراوي عنصرا محترما في المعسكر، تكلفه الإدارة بمهام مكتبية تعزله عن بقية المجموعة: عمل سخيف، نسخ يومي، سيتعود عليه بسهولة. لقد انتهى وقت المعضلات الأخلاقية.

السنوات تمر، والحرب بمعناها الحقيقي والفعلي، لا زالت بعيدة، وأصداؤها لا تصل إلى المخيم.

أثناء انتظار تعميدها بالنار، تمتثل القوات لأوامر الضباط وتفقد تدريجيا معالم حياتها المدنية السابقة. لا يعرف الجنود شيئا عن أحبائهم، وفي عزلتهم، سيقضون على كل احتمال قد يعيدهم إلى ما كانوا عليه من قبل. عندما يحين وقت تسريحهم، بعد 17 عاما قضوها في المعسكر، لن يتمكن هؤلاء الرجال، بمن فيهم الراوي، من العودة إلى الحياة المدنية الطبيعية. المفارقة الكبرى أن الراوي سوف يلتحق بالجيش من جديد بعد أيام قليلة من تسريحه، إنه ضحية متلازمة ستوكهولم. وهكذا تنتهي الرواية بالعودة الطوعية للراوي إلى سجنه السابق.

إن اقتصاد الوسائل، والأسلوب الذي جرده ليسكانو من كل شغف إنساني، والغموض الذي أحاط به - عن قصد - المخيم، والحرب، والبلد والمجندين، يستجيب للمخاوف التي ربما عانى منها المؤلف أثناء احتجازه الطويل في أوروغواي.

غير مكترث بالآخرين - لا يوجد شخصية لها اسم، باستثناء الطبيب، ارتباط هش وعابر بالعالم - يصل الراوي إلى شكل من الإنفصال لا يعرفه إلا الشخص المنعزل. يشير ليسكانو إلى تعقيدات هذه العزلة الأخلاقية القسرية والعبثية، التي تتيح، من خلال مرافقتها الخالية من العاطفة، السمو الروحي الشخصي، والبعد عن فساد الحياة اليومية، لكنها تدمر بعمق النفس البشرية بحرمانها من كل الروابط العاطفية، والحسية والشخصية مع العالم من حولها. مثل سولجينتسين من قبله، أصبح ليسكانو كاتبا لأنه سُجن. وقد غير هذا الحبس علاقته بالعالم. وهذه الرواية هي الترجمة الأدبية لهذا. هناك ما أجيز لنفسي أن أسميه قوة سلبية: الراوي ليس لديه طاقة متبقية إلا للطاعة والامتثال للأوامر والانغماس في تأملاته الخاصة. يفقد السجين جزءا من إنسانيته، لن يجده مرة أخرى، هذا الجزء الذي يأتي من الروابط الإجتماعية والعاطفية. إن هذه الرواية انعكاس لتجربته في السجن. صحيح أن "ذكريات الحرب الأخيرة" رواية انتظار، ولكن بطريقة تختلف عن طريقة رواية بوتزاتي أو جراك أو يونغر. لا يعرف الراوي المأساة التي من شأنها أن تلقي الضوء على مؤامرات مصير الإنسان. وصول التتار عند بوتزاتي، وغزو المرسى عند يونغر، والهجوم على فارغستان عند جوليان جراك، هي أحداث تعطي معنى للوجود، وتنتزع الرجال من حياتهم اليومية الرديئة، لتنميهم من خلال مواجهتهم بـ "التاريخ والدراما

إذا كانت حرب ليسكانو قد حدثت، فإنها قد حدثت من دون المجندين في المعسكر البعيد. الدولة، التي لا نعرف اسمها، لم تفكر أبدا في استخدام الشباب الذين احتجزتهم بعيدا عن العاصمة، والذين تم تدريبهم على الرماية مرة واحدة خلال 17 عاما!

تأتي الحياة ب دروغو -صحراء التتار - وألدو - الشاطئ المقابل - والراوي - على المنحدرات الرخامية - ليكتشفوا مصيرهم في الكون. أما في رواية "ذكريات الحرب الأخيرة "، تحدث الحياة من دون الراوي - إن صح التعبير - الذي يحتفظ به المجتمع على حافة بعيدة. إن ذكريات الحرب الأخيرة، من خلال تقشفها الأسلوبي والرومانسي، الشديد، تقترب من حكاية أخلاقية مجردة. طاقم المعسكر ليس له إسم، العلاقات بين الجنود تقليدية بحتة، الراوي يمر في الحبس الانفرادي، من دون أصدقاء، من دون أحباء، وكأنه منعزل بين أناس منعزلين.

خلف المأساة الغبية المتمثلة في إعادة تجنيد المجند الذي دمر حياته في المعسكر، تلوح في الأفق الملاحظة الأخلاقية والفلسفية للسجين الأوروغوياني. لا رثاء أو حزن هنا: مجرد الاستنتاج المخيف لحياة مسروقة. سُرقت بدوافع كاذبة - هذه الحرب الزائفة التي تشير من بعيد إلى الحرب التي شنها المجلس العسكري في أوروغواي ضد الشيوعيين - ولم تنكسر بالانتظار بل بالانضباط والعزلة والتكرار.

إذا كانت الحرية العسكرية، لأنها تعطي أهدافا - عبثية، مثل المقالات التي نسخها الراوي على مدى 17 عاما - يُحكم عليها في نهاية الرواية من قبل الراوي أنها أعلى قيمة من الحرية المدنية، يكون نظام الاحتجاز في هذه الحالة قد حقق أهدافه. الظروف ليست مسؤولة عن هذا الوجود المحطم، سواء اتخذت شكل الصدفة السيئة التي تسببت في وفاة دروغو في يوم غزو التتار، أو النكبة التي شكلها الخطر الجهنمي الذي اجتاح مرسى يونغر. المسؤولون معروفون، وهم بشر. انتهى المطاف بالراوي في رواية ليسكانو بالانهيار لأن الآخرين أرادوه بهذه الطريقة.

إن رواية ذكريات الحرب الأخيرة، بتجريدها وانفصالها، تشكل قبل كل شيء تأملا في العزلة وعواقبها. العزلة غير الطوعية، التي تصبح، بعد فترة زمنية معينة، الحياة الوحيدة الممكنة لمن عرفها، وبالتالي فهي الشيء الوحيد المرغوب فيه. يكشف ليسكانو بعض جوانب تواطؤ الضحية مع جلادها. إنه تصوير معقد، لأن الإحتجاز يكشف للضحية أيضا عن طبيعتها وأعماق شخصيتها وعلاقتها بالعالم.

في مواجهة ضغط الحبس، ينفتح طريق واحد، هو طريق التأمل، للبحث عن الذات، والذي يقوم ليسكانو بتقييمه. هذا الذي قاد السجين الأوروغوياني إلى الأدب، وهذه الرواية القصيرة والمكثفة موجودة لتشهد على ذلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي