الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلتي مع ماريو بارغاس يوسا

وليد الأسطل

2022 / 8 / 6
الادب والفن


"تمرّ الأزمنة على المواقف السياسية البليدة، لكن الرواية العظيمة تبقى مؤثرة وخالدة على مر الزمن” ماريو بارغاس يوسا.
في عام 1993 أصدر الروائي البيروفي الكبير ماريو بارغاس يوسا روايته حفلة التيس، التي هي نتاج إعجازي لتقنية روائية متقنة بشكل مثير للإعجاب، وضعت في خدمة رؤية سياسية قوية وواضحة. تغرقنا الرواية في قلب حادثة اغتيال الدكتاتور الدومينيكي تروخيو في عام 1961، وتكشف سياقها الاجتماعي والسياسي مثل الماسح الضوئي. يأخذ كل جزء من الواقع شكله وحقيقته من خلال قراءات متوازية متعددة. نجد أنفسنا – و نحن نقرأها – ننتقل بشكل غير واضح، أحيانًا حتى في منتصف الجملة، من الوصف الموضوعي لحدث ما إلى تجربة الوقت الحقيقي لهذا الحدث من قبل مختلف أبطاله، ثم إلى النظرة التي يلقيها الآخرون بعد سنوات. ما يكشف معناه أو يواجهه بعواقبه.
هذه الرواية التاريخية أصدق من القصة نفسها. تستمد قوتها من طابعها السمفوني، ومن أبعادها المتعددة، كما تولد صورة مؤثرة لهذه الديكتاتورية، لقائدها – ذكي وقاسٍ وفاسق – وأساليبه في الحكم التي يحيط بها شركاءه، وهي عبارة عن شبكة متحركة من الامتيازات والعار، التي يلعب بها بسادية.
ل يوسا رواية مشهورة جدا تحمل عنوان “حرب نهاية العالم”، تروي قصة حرب كانودوس في شمال شرق البرازيل في القرن التاسع عشر. إنها لوحة جدارية مدهشة لتطلعات الإنسان في عالم لا تزال فيه المدينة الفاضلة تحتل مكانها. يتم أخذ القارئ إلى أماكن غير معروفة – السرتاي – حيث يتم تعويض فقر الحياة إلى حد كبير من خلال الأمل في عالم أفضل، يتضح هذا من خلال الشخصيات التي تتبع شخصية “المستشار” المسيانية. تعد هذه الرواية في رأيي موضوع الساعة، حيث يتم فيها تناول الأسئلة الاجتماعية والدينية، من خلال مجتمع ثابت على جموده الرجعي في أيدي ثروات كبيرة.
إنها رواية تتمتع بالجاذبية الأولية والأساسية للمدينة المثالية ل جول فيرن، كما أنها تجعلني أفكر بشكل خاص في “الناجون من جوناثان” ل جول فيرن كذلك و ابنه ميشال. يسلم الإنسان نفسه لها بدلاً من الانكار؛ فالشخصيات لها قوة الواقع. ففي ثمانينيات القرن الماضي عندما كان الظرف في أغلب الأحيان – بسبب غلبة ثقافة المظاهر – أكثر أهمية من الرسالة، حملت هذه الرواية عالياً اليوتوبيا والأمل. بمعنى آخر، لقد قالت كلمتين كبيرتين في ذلك الوقت! هذا بلا شك ما يمنحها قوتها. هذه الرواية فرصة للاستمرار في الإيمان قليلاً بالإنسان.
إنها آسرة بقدر ما هي محرجة للقراءة. يدفعنا فيها يوسا إلى تبني قضية مجموعة من المتعصبين الدينيين، الذين يرفضون تمامًا العقلانية الديكارتية والقيم الجمهورية التي تشكل أساس مجتمعنا اليوم. تدور أحداث الحبكة، المستندة إلى قصة حقيقية، في نهاية القرن التاسع عشر، في منطقة نائية من جمهورية البرازيل الوليدة. وعلى الرغم من مرور فترة طويلة على قراءتي لهذه الرواية إلا أني لا زلت أحتفظ بتعاطف خاص مع شخصياتها التي يبدو أنها اكتشفت حقيقة القلب، بينما هي غارقة في أيديولوجية تبدو اليوم قد عفا عليها الزمن بقدر ما هي منحرفة.
إن التناقض بين المدافعين عن جمهورية البرازيل الوليدة وهؤلاء الطوباويين لا يمكن إلا أن يذكرنا بالتناقض الذي نشهده اليوم، مع نوع آخر من المتعصبين الدينيين.
من بين الروايات الرائعة التي كتبها يوسا، رواية العمة جوليا
وكاتب السيناريو، وهي رواية غارقة في الفكاهة وحب المراهقين، جوهرة تجعل ليما في الخمسينيات من القرن الماضي تهتز، رواية تتحدث عن سحر المدينة المفقودة. إنها أيضًا قصيدة للأدب، وهي قصيدة رائعة عن فعل الكتابة، والسرد، والإشادة بالتجارب السردية التي بدأها بلزاك وفلوبير.
هذه الرواية نوع من السيرة الذاتية لـ بارغاس يوسا. غمرتني طريقة كتابتها السلسة، الغنية والخفيفة على حد سواء، بالسرور والبهجة، وفي حنين يوسا إلى ليما في الخمسينيات من القرن الماضي.
هناك أيضاً رواية الكلاب و المدينة، التي هي العمل الأول ل يوسا، و العمل الثاني الذي قرأته له بعد رواية الجراء. كتبت هذه الرواية في ستينيات القرن الماضي(في علية بالحي اللاتيني في باريس)، تفاجئ بإيقاعها الأصلي للغاية للحوار، ووصفها للعالم العنيف للطلاب العسكريين في مدرسة ليونسيو برادو العسكرية، والتوجه التحليلي للعلاقات بين الشخصيات. يقدم الكل صورة، صورة للمجتمع البيروفي في منتصف القرن العشرين. من الواضح أن الشخصية الرئيسية “الشاعر” مستوحاة من الشاب بارغاس يوسا، فمن يعرف القليل عن سيرته الذاتية سيجده في العديد من أعماله الأخرى.
توجد كذلك رواية محادثة في الكاتدرائية، التي تعتبر من أهم ما كتب بارغاس يوسا، كونها وجدت اهتماما كبيرا و صدى واسعا بين المثقفين البيروفيين. وستفهم لماذا أقول هذا عندما تقرأ ما يورده فيها يوسا عن البيرو وتاريخها السياسي، فمن المستحيل تجنب تغيير منظورك تجاه المجتمع البيروفي، وخاصة في ليما بعد قراءتها. قرأت هذه الرواية قبل عشر سنين، وقد اندهشت من القدرة الهائلة لهذا الكاتب على التعبير عن المشاعر والمواقف والقضايا الإنسانية.
أما رواية ليتوما في جبال الأنديز، فهي إثارة حقيقية، مكثفة ورائعة. جبال الأنديز في الخلفية، خشنة وفخمة، المخبأ النهائي للهنود “بعيون جليدية”، والرقيب ليتوما، وهو رجل من الساحل، يجب أن يحل لغزًا. تمزج هذه القصة بين الحقيقة المروعة لبيرو، الملطخة بدماء أسالها الإرهاب الدموي، والواقع الهادئ لتحقيقات الشرطة.
مستعينا بمساعده المضطرب والرائع، يجد ليتوما نفسه في مواجهة أكثر جرائم القتل دناءة، مثل جريمة قتل اثنين من الأساتذة الفرنسيين في حافلة تقلهم إلى كوزكو. على خلفية حرب العصابات المشتعلة، ظهرت ممارسات شعبية تطاردها طقوس الإنكا القربانية. أحببت هذه الرواية بشغف، سواء بسبب حبكتها القاسية أو المضحكة أحيانًا، أو بسبب بعدها السياسي. صورة لبيرو في حالة غرق كامل حيث يبدو أن الآلهة ما زالت قوية، وتظهر مرة أخرى. أثار صمت هذه القصة إعجابي، حيث ساعدني في جعل الرياح الجليدية التي تهبط من “الجبهة الخشنة لجبال الأنديز” محسوسة.
يقول هنري ميللر(من يُجيد قراءة الرّجل، يُجيد قراءة مؤلّفاته)، لذا أرى أن من الأهمية بمكان أن أتطرق ولو في عجالة إلى تغيّر توجّه يوسا الفكري.
لقد تغيرت أفكار يوسا بسبب قراءاته لمفكرين كبار أمثال آدم سميث، وكارل بوبير، وفريدريك فون هايك، وأشعيا برلين، وأورتيغا إي غاسيت. حيث اعترف بهذا في كتابه نداء القبيلة. ولا ينبغي تجاهل أمر آخر، وهو إقامته سبع سنوات في فرنسا(1959 – 1966) تأثّر خلالها بأفكار (ألبير كامي)، و يعترف أن إقامته في فرنسا شكلت منعطفا جوهريا في حياته. كما لا يمكننا إغفال قراءته لشهادات المثقّفين المنشقّين عن الإتّحاد السّوفييتي وأثرها العميق عليه.
إنّ انتقال(يوسا) من الماركسية إلى الليبرالية، كان سبباً في حدوث قطيعة نهائية بينه وبين كتّابٍ كبار(خوليو كورتاثار، كارلوس فوينتس، وغابرييل جارثيا ماركيز)، خاصّة مع صاحب (مئة عام من العزلة) الّذي كانت تربطه به صداقة وطيدة، ف(يوسا) أصبح يعد الزعيم الكوبي الخالد(كاسترو) ديكتاتوراً، ويعتبر نظامه من أبشع الدّكتاتوريّات في أمريكا اللّاتينيّة، في حين أنّ الأسماء الأدبيّة الثلاثة التي ذكرتها، كانت داعمةًً ل(كاسترو)و نظامه.
وأخيرا، لا تفوتني الإشارة إلى ترشح يوسا لرئاسيات 1990 وفشله فيها.
إن أهم ما علمنيه يوسا هو أن هناك طريقة أخرى لقراءة الرواية، كما رسخ بداخلي عشقها، ووضعني على دروب الأدب في أمريكا اللاتينية، لذا فإن فوزه بجائزة نوبل في الأدب عام 2010 لم يكن حدثا هاما في حياته فقط، وإنما في حياتي كذلك، كونه عرفني عليه.
هذا نزر يسير عن رجل كبير وكثير اسمه ماريو بارغاس يوسا، قال ذات يوم: أكتب لأني حزين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا