الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فـي صناعـة الاستبـداد

الطايع الهراغي

2022 / 8 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


"تولىّ الحجّاج العراق وهو عاقل كيّس، فما زال النّاس يمدحونه حتى صار أحمق طائشا".
(الحســن البصـري)
"ما قال "لا" قطّ إلاّ في تشهّده// لولا التّشهّد لكانت لاءَه نعم"
(الفرزدق)
"لا تقولنّ، إذا لم ترِد **أن تتمّ الوعد في شيء، نعم
حسنٌ قولُ نعم من بعد لا ** وقبيحٌ قولُ لا بعد نعم "
(المثقب العبدي)
يبدو أنّ أفلاطون لم يجانب الصّواب عندما اعتبر منذ ما قبل الميلاد أنّ المستبدّ (الطّاغية) "كائن حيوانيّ". المستبدّ من سماته "التّصرّف في الشّؤون المشتركة بمقتضى الهوى" كما ثبّت ذلك عبد الرّحمان الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" منذ القرن التّاسع عشر.

++ ضريبـة التّاريـخ ومأساويّتـه
نهاية عرش ديكتاتور قد يكون أمرا متاحا، بثورة القبر التي لا سلطان له عليها، بثورة القصر في إطار إرث هو خاصيّة المؤسّسة العسكريّة، صنعته فباتت له أسيرة.وقد تكون – في حالات نادرة خاطفة كومضة برق –في قالب هبّة شعبيّة تفعل فيها معطيات داخليّة وخارجيّة تحتّم رحيل رأس النّظام. بانتهاء الديكتاتور تنزاح معضلة من المعضلات لتنصب المعضلة الحقيقيّة : دولة المخلوع،إدارته ومؤسّساته، إرثه، اللّوبيّات التي تدور في فلكه والتي ربطت مصيرها بنظامه ،حرس النّظام الذي راكم من التّجارب ما يمكّنه من تجديد جلده.
تبدو التّجربة في تونس نموذجيّة. تنهض شاهدا على عذابات ثورة منفلتة من دبر التّاريخ. تقف اثنتا عشرة سنة من مقت التّاريخ دليلا على مأساويّتها: منظومة حكم تتعايش تعبيراتها في ما يشبه تنكيد الضّرائر/ مساع محمومة لإجهاض الثّورة، هي القاسم المشترك بين مختلف تعبيرات اليمين القديم منه والجديد مع رغبة جامحة في استئثار كلّ تعبيرة بأجهزة الحكم، يقابلها نخبة مسكونة بوهم الانتقال الديمقراطيّ والحلم بتشييد عهد التّداول السّلمي على السّلطة ودمقرطة نظام تربّى على عبادة الاستبداد ورسكلته وإعادة إنتاجه. الحكم في قاموسه وإرثه غنيمة، والمؤسّسات المنتخبة سبيل إلى التّحكّم وليس الحكم(بما هو فنّ تدبّر إدارة وتصريف الشّأن العامّ). التّطبيقة النّموذجيّة لذلك المجلس التّأسيسيّ. ذلك ما يفسّر التّرنّح الذي غرقت تونس في مستنقعه طيلة اثنتي عشرة سنة تتالت فيها الخطوب وخلقت حالة غير قابلة للحكم. كلّ العمليات القيصريّة تتنزّل في هذا الإطار،آخرها 25جويلية باستتباعاته وتداعياته. شاء له الوهم أن يُسوّق على أنّه مشروع إنقاذ، ثأر للثّورة الأولى المُجهضة ثورة 17ديسمبر .

++ عقـدة إحيـاء الأب وأمثلتـه
شعار"لا للعودة إلى الوراء" الذي لازم مرحلة مابعد 25جويلية 2021 والذي أرادته العقول المعطّلة والمروّضة بخطاب هلاميّ وبسيل من الأوهام حجّة على خصومهم الفعليّين والافتراضيّين وخصوم رئيسهم- البطل المأساويّ الذي يصارع كربّان سفينة وحيدا عاتيات الرّياح، ومحكوم عليه أن يكسب الرّهان-، أرادته حجّة مكتفية بذاتها، لا حاجة لها بالبرهنة والاستدلال مادام نقد اللّحظة الفارقة- لحظة تجميع قيس سعيّد لكلّ السّلطات واستيلائه على كلّ المؤسّسات- هو بالضّرورة أيّا كانت الجهة والمدخل والمقصد ردّة وحنينا إلى العهود البائدة.هذا الشّعار يبدو أنّه سيترك مكانه لسيل من التّهليل والتّأليه والشّخصنة.
المدوّنة المدحيّة التّونسيّة- أسوة بشقيقاتها في عالم العرب المليء بالعجائبيّ والغرائبيّ- ليست بضنينة على مريديها ممّن راموا ولوج سباق المديح المريح.فالتّماثل مع الحاكم في الذّهنيّة العربيّة يكاد يتحوّل إلى خاصيّة لدى بعض النّخب التي تتوزّع على أكثر من مجال فنّي وأدبيّ وحزبيّ ونقابيّ. سرديّة نحر الذّات قربانا في معبد الحاكم تثبّت مدى تماهي البعض في ذوبانهم في من يحكمهم فيضعون أنفسهم في خدمته بشكل مذلّ للذات ومستهتر بها. فيصبح المطلوب سحق الأنا ثمنا لإعلاء "سيّد الأسياد"، هديّة السّماء إلى الذرّات البشريّة. فمِن عكاظيّات المجاهد الأكبر و"توجيهات السّيّد الرّئيس" التي أعليت إلى مرتبة المدائح والأذكار" يا سيّد الأسياد يا حبيبي بورقيبة الغالي"/ " يا حبيب تونس يا عزيز علينا، من كيد الأعدا برايتك تحمينا"، إلى تخميرة مريدي وشيعة "صانع التّغيير" و"زين الشباب" في تعويذة "الله أحد الله أحد، بن علي ما كيفو حدّ، /"اربعتاش بعد ألفين ما ينجمّها كان الزّين" إلى شرنقات فيالق وحشود الرّئيس السّعيد التي تتبارى بتفنّن في إرساء مدائح تروم أن تسمو إلى ما يليق ب"العلوّ الشّاهق " الذي تفضّل به رئيس الجمهوريّة الجديدة ،التّغنّي بأفضال وفضائل الشّيخ الرّئيس "كلّنا قيس سعيّد"/" قيس سعِيّد لست وحدك". وليس مستعبدا أن يتحوّل هذيان من نوع " قيس سَعِيد رئيس فريد/ قيس سعِيد رئيس شديد/ وعالم الكبار عالم غريب / وعالم الكبار عالم عجيب" إلى صلاة المفسّرين والشّراح والأتباع من الفرقة النّاجية ما دامت تدين بالولاء لإمام معصوم.كأنْ لا سبيل إلى التّخلّص من لعنة أمثَـلة التّاريخ وشخصنته إلاّ باستبدال من رأى نفسه ملهم عصره وفريد زمانه بمن يروم أن يكون ملهم كلّ العصور وكلّ الأزمنة.
إنّها عقدة قتل الأب الماثلة ككابوس، رغم أنّه بات في ذمّة التّاريخ ، واستبداله بأب جنيس تفوق شمائله بالضّرورة قدرات أسلافه منفردة ومجتمعة.
شعار"لا عودة إلى الوراء" شعار سليم في المطلق باعتباره يعكس تطلّعا إلى القطع مع التّركة الثّقيلة. ولكنّه أعرج في واقع الحال لأنّ أصحابه يستجدون العسل من براثن الأفعى ويتوهّمونه في دبر اليعسوب .فالقطع مع "الوراء" لم يكن يوما من مهامّ تعبيرة من تعبيرات نفس النّظام الذي يُراد الإنهاء معه. هذا الشّعار المضلّل بنى عليه أنصار قيس سعيّد انصهارهم في ما بدا لهم "أمّ المعارك":التّخلّص من غول الإسلام السّياسيّ بتفرّعاته وتحالفاته أيّا كانت الجهة المنقذة. معركة تقتضي مبايعة الشّيخ الرّئيس وتزكيّة كلّ إجراءاته ومناشدته المزيد واعتبارها الحلّ الوحيد والأمثل للتّخلّص من بعبع النّهضة (وليس بالضّرورة الإسلام السّياسيّ) مع تعمّد قصديّ يختزل كلّ مآسي تونس في عشريّة حكم التّرويكات فقط، مع تضخيم مقصود للحدث الذي بات يُعرف لدى أنصاره بلحظة25 جويلية (رغم أنّه كإجراء مألوف في تاريخ الأنظمة العربيّة) واستماتة في معاداة كلّ من ينبّه إلى خطورة منزلقاتها مع مغالاة في التّسليم بضرورة وقدريّة احتضانها وتوهّم إمكانيّة دفعها إلى أقصاها.
أطاحت ثورة17 ديسمبر/14 جانفي برأس النّظام .التّفاصيل والسّرديّات المؤسطرة التي نُسجت حول السّاعات الأخيرة لحاكم قرطاج ( فرار بن علي: اختيار/حيلة/ إكراه/ مؤامرة) لا تلغي الحدث بل تثبّته. الثّابت أنّه يوم 14جانفي بات لا مكان لبن علي في تونس. ولكنّ القبض على الثّورة فشل -لأسباب بعضها ذاتيّ وبعضها موضوعيّ- في الإنهاء مع منظومة الاستبداد والاستغلال. انتهى بن علي. مات سياسيّا لكنّ نظامه ترنّح ولم ينته .
العشريّة السّوداء، عشريّة الغرائب والعجائب هي عمليّا عشريّة محاولات ومساع محمومة إلى الالتفاف على الإرهاصات الثّوريّة في تمضهرات عديدة تختلف في الشّكل والإخراج وتلتقي في الجوهر.
فتحالف التّرويكات بزعامة النّهضة أراد نفسه بديلا جنيسا للتّجمّع ودولة التّجمع .وسعى إلى تجيير دولة البوليس وتحويل ملكيّتها إلى حزب النّهضة، مع أنّ في الأمر بعض الثّأر من نظام كان شعاره وهدفه تجفيف منابع الحركة الإسلاميّة .
زواج المتعة السّياسيّ بين الباجي - سليل نظاميْ بورقيبة وابنه اللّقيط بن علي- والغنّوشي - لسان حال الإسلام السّياسيّ- هدفه بالنّسبة للباجي، الحالم باسترجاع هيبة الدّولة في أسرع وقت ممكن، ترويض النّهضة و"تمدينها" وحشرها في النّشاط السّياسيّ الممأسس، وهدفه بالنّسبة للنّهضة الاتّكاء على بيروقراطيّة الإدارة والمؤسّسات للتّسرّب إلى مفاصل الدّولة.


++ دستـرة المؤقّــت
من رحم أزمة منظومة الحكم – بما فيها مؤسّسة الرئاسة (سعيّد) وتوزّعها بين 03مراكز نفوذ، باردو حيث المؤسّسة التّشريعيّة(البرلمان) بشبه هيمنة لحركة النّهضة المعزّزة بحليف وافد من صلب منظومة الإسلام السّياسيّ، ائتلاف الكرامة، قرطاج اختزال لمعنى السّيادة وما تحظى به مؤسّسة الرّئاسة من رمزيّة خاصّة وأنّ الوافد الجديد على قصر قرطاج يتمتّع انتخابيّا بسبق على منافسيه ومعارضيه ، القصبة حيث الولادة العسيرة لحكومة (حكومات) تتجاذبها أهواء ويعسّر أمرها الفسيفساء الغريب للبرلمان وإصرار الرّئيس على المساهمة في تعفين المناخ السّياسيّ لتلميع صورة مؤسّسة الرّئاسة التي بقيت في المخيّلة العامّة وفي المخيال السّياسيّ الملجأ الذي يُحتمى به ويُنتظر منه حسم ما يشكُل على الفرقاء. صورة مخادعة وسلبيّة تتوهّم حياديّة ليست موجودة إلا في أذهان من يعتبر الرّئاسة جسما مستقلاّ عن الجميع وبمنآى عن الصّراعات.
في ظلّ سيادة حالة اللاّقابليّة للحكم، وفي غياب تعبيرة سياسيّة واضحة في المنظومة الحاكمة قادرة على ضبط القاسم المشترك بين المكوّنات الطّبقيّة للائتلاف الحاكم وتمثّله وقراءة إكراهاته وما تمليه من تنازلات وانعدامها في المعارضة ، وفي ظلّ خصوصيّات المؤسّسة العسكريّة التّونسيّة وعدم تورّطها في الشّأن السّياسي (بمعنى إدارته) وافتقادها لإرث على غرار مثيلتها في مصر والجزائر حيث تُحسم كلّ المعارك السّياسيّة بمراقبة وبتدخّل مباشر إن لم يكن سافرا من العسكرتاريا،في ظلّ هذه الملابسات ما كان للحلّ إلاّ أن يكون من صلب بيروقراطيّة الدّولة بتوظيف مؤسسة الرّئاسة كغطاء لإكساب انقلاب الرّئيس على بقيّة المؤسّسات غطاء الشّرعيّة .ذلك هو جوهر 25جويلية .إنقاذ منظومة الحكم من التّرهّل والعجز.ضرورات الإخراج تقتضي تعطيل البرلمان في مرحلة أولى ثمّ إحالته إلى /وعلى المعاش في مرحلة ثانيّة وخلق حالة من الفراغ في الحكومة والبرلمان بموجبها يصبح اللّجوء إلى الإجراءات الاستثنائيّة أمرا ضروريّا .وليس الاستفتاء غير دسترة للمؤقّت وتحويل الاستثنائيّ إلى حالة دائمة. كلّ السّلط معلّبة في قصر قرطاج بفعل الخطر الدّاهم ترجمتها دستور يقنّن نظاما رئاسويّا بلا حسيب ولا رقيب، يحاسِب ولا يحاسَب، كلّ المؤسّسات تعود إليه بالنّظر وتخضع لرقابته وإشرافه.أمّا
ماهواقتصاديّ واجتماعيّ فالبحث عنه خارج عتبات الدّستور.تحيل إليه إنجازات الرّئيس عبر حكومة الرّئيس التي لم تدّخرجهدا في المضيّ قدما في تمريرما تلكّات حكومات منظومة 24جوياية في فرضه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل باتت الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت


.. حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان..إشعال ل




.. طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية المؤيدون لغزة يواصلون الاعتصام


.. حكومة طالبان تعدم أطنانا من المخدرات والكحول في إطار حملة أم




.. الرئيس التنفيذي لـ -تيك توك-: لن نذهب إلى أي مكان وسنواصل ال