الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلطات العنف، أو الشرعية المستمدة من العنف

راتب شعبو

2022 / 8 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


كان، ولا يزال، العنف العام هو المادة الأكثر حضوراً في مجتمعنا. نتكلم هنا عن العنف الداخلي، ونحاول فصله، بقدر الإمكان، عن الحروب أو الغزوات أو التدخلات العسكرية أو الأمنية الخارجية. الحضور الطاغي للعنف مؤشر أساسي على استعصاء مشكلة السلطة السياسية عندنا، أو بالأحرى مؤشر على أن السلطة السياسية في مجتمعنا لا تزال مشكلة معقدة ولا تزال هي المشكلة الأولى سواء في سوء إدارتها البلد بسبب تهميش البعد الوطني فيها، أو في سدها أفق التغير، الأمر الذي يحرض على توسل العنف المضاد للسلطة بهدف تغييرها، أي يستدعي اللجوء إلى العنف "غير الشرعي". ومعروف أن هذا العنف يتحول، إذا نجح في حيازة السلطة، إلى "عنف شرعي" أو "عنف دولة" سوف يبقى على طول الخط مستنفراً كي يتصدى لكل عنف آخر يسعى إلى أن يصبح بدوره "شرعياً".
الواقع أن كلام ماكس فيبر عن العنف الشرعي يتعثر حين نستخدمه في مجتمع لا تحوز فيه الإرادة العامة على حضور فاعل، ولا تحوز السلطة السياسية فيه بالتالي على شرعية، إلا إذا اعتبرنا أن قدرة نخبة السلطة على الوصول إلى السلطة (وغالباً بالعنف) هو مصدر كاف للشرعية. الحال لدينا هو أن العنف يفرض شرعيته ويفتح الباب، نتيجة ذلك، أمام حالات عنف مضاد له أيضاً شرعيته المستمدة من تأييد شعبي لا يقل أو ربما يتجاوز في اتساعه التأييد الشعبي لعنف الدولة. طاعة الحاكم عندنا لا تقوم على اعتراف المحكومين بشرعية الحاكم، بل تقوم على الخضوع لقوته أو على تقدير، وربما "تقديس"، هذه القوة بوصفها ضمان أمن المجتمع، في صدى عميق لفكرة هوبس عن اللوياثان، الكناية عن القوة القادرة على حماية المجتمع من "حرب الكل ضد الكل".
كما لا يصح، في حالنا، كلام حنا ارنت الذي يذهب إلى أن العنف لا يمكنه أن يخلق سلطة، ذلك أنه في غياب آلية مستقرة لإنتاج السلطة، يبدو في نظر المجتمع أن قدرة نخبة معينة على السيطرة بواسطة العنف هو جواز عبور "مشروع" إلى السلطة، ذلك أن نخبة كهذه تكفي المجتمع شر الحرب الأهلية وعنف النخب الأخرى، وهكذا فإن السلطة والطاعة يمكن أن تبنى على هذا الاعتبار.
***
حيازة السلطة بالعنف تحرض بصورة طبيعية ظهور عنف مضاد تستهلك السلطة جل طاقتها في منع ظهوره وفي مواجهته حين يتمكن من الظهور. أي إن السلطة السياسية في مجتمعنا تصرف جل طاقتها، وهي طاقة المجتمع بطبيعة الحال، في محاربة ما تحرض هي نفسها على بروزه، سواء بالطريقة التي جرى من خلالها استلام السلطة، أو بطريقة إدارة المجتمع ومعالجة الاختلافات فيه. على هذا تبدو السلطة السياسية هي المحظية التي يتم التنافس عليها بالعنف، ويحوزها الأقوى في العنف بصرف النظر عن مستوى قوته في السياسة، أي بصرف النظر عن مدى ملاءمة توجهاته وصلتها بالعصر، وعن اتساع أو ضيق الفئات الاجتماعية التي يمثلها فعلاً أو يخدمها نهجه السياسي. وهكذا فإن العنف السياسي (العنف الذي يستهدف الدولة) يحيّد أو يلغي السياسة بوصفها صراع أفكار وخطط وبرامج ومقترحات. وإذا جرى الاعتراض على هذا بالقول إن الأفكار التقدمية التي صعدت بها حكومات انقلابية في الكثير من البلدان العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، هي التي أعطت للعنف الانقلابي "مشروعيته"، بمعنى أن مشروعية الانقلابيين التقدميين العرب استندت أيضاً إلى أفكارهم، فإن تجربة الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، وتجربة "طالبان" الأفغانية تقدمان برهاناً كافياً على قدرة العنف في فرض سلطة (قبول وطاعة أو مشروعية) تتبنى أفكاراً لا صلة لها بالعصر.
إذا اعتبرنا أن السلطة تستمد من شعب أو من جماعة، ومن دون ذلك لا توجد سلطة، على ما يقول الخطيب ورجل الدولة الروماني شيشرون "في حين تكمن القوة في الشعب، تكمن السلطة في مجلس الشيوخ"، أي إن وجود السلطة يستند إلى قوة الشعب (الفكرة التي تستند إليها حنا ارنت كي تفصل بين العنف والسلطة، على اعتبار أن عنف السلطة قد يغلق عليها منابع القوة الكامنة في الشعب) فإن للعنف في مجتمعنا، كما هو واضح، دوراً أساسياً ليس فقط في الوصول إلى السلطة بل وفي استجلاب السلطة أو تمثيل "الإرادة العامة" أيضاً. العنف وليس الطرح السياسي ولا المواقف والوعود ولا الحق، هو الأساس في "إقناع" الناس وحيازة رضاهم. إن تاريخاً كاملاً من "تداول السلطة" بالعنف، حيث لا وجود لأي آلية سياسية لانتقال السلطة غير الوراثة أو العنف، خلق في المجتمع نوعاً من عبادة القوي، فالقوي الذي يتمكن من سحق خصومه، يستحق التأييد لأنه "الأعنف" وبالتالي يحوز على السلطة، أي على "القوة التي تكمن في الشعب". هذا التاريخ الطويل ولّد، في الواقع، حاضنة جاهزة للمنتصرين الداخليين (متصارعين على السلطة)، وأيضاً للخارجيين (غزاة).
***
هذا الحال الذي وصفناه يجعل المجتمع مصلوباً على خشبتي عنف، الأولى هي عنف السلطة التي تكون مستنفرة على طول الخط، للتصدي إلى كل عنف يستهدفها، أكان عنفاً خارجياً بالنسبة إلى السلطة (نقصد عنف طرف أو أطراف من خارج السلطة) أو داخلياً (عنف من داخل السلطة على شكل انقلاب أو تمرد)، في حين أن السلطة (سلطة العنف) نفسها هي من يحرض العنف كما ذكرنا. والثانية هي العنف المضاد الذي يستهدف السلطة والذي يتغذى بصورة دائمة على حقيقة أن العنف هو السبيل الوحيد الممكن لإحداث أي تغيير سياسي. هذه دائرة متكاملة من العنف الذي يغذي بعضه البعض، ولا يترك مجالاً صالحاً لاشتغال الأفكار أو لصراع المصالح على نحو سلمي، حتى صار يصح بالفعل عكس مقولة كلاوزفيتس بأن الحرب هي استمرار للسياسة بطرق أخرى، لتصبح السياسة أو (السلم) هو استمرار للحرب (للعنف) بطريقة أخرى.
في غياب آلية منظمة لحيازة السلطة والتخلي عنها، أو بوضوح أكبر، في ظل السلطات المؤبدة، يكون شكل الحكم الملكي المطلق الوراثي هو الشكل الأمثل للحكم، وهذا في الواقع ما استقر عليه الحال عبر تاريخنا. هذا الشكل يحصر السلطة الأولى في الدولة، ضمن خط عائلي ويسحب بالتالي هذا الموقع من الصراع العام، وهذا يخفف إلى حد ما من حدة الصراع على السلطة، كما أنه يحافظ على مرجعية لها اعتبار دستوري وشعبي (الملك) يمكنها أن تضبط الصراع، إذا اشتط، ضمن حدود معينة. معروف أن النهج الراشدي في مستهل الحكم الإسلامي سرعان ما استهلك الطاقة "الجمهورية" للدعوة الإسلامية وأخلى مكانه بعد فترة اضطرابات دموية إلى نهج وراثي ملكي مستقر. وفي العصر الحديث، في البلدان التي توصلت بتأثير الاحتكاك مع الغرب الاستعماري إلى نظام حكم جمهوري، فإن هذا الحكم مال، حين استقر له الحال، إلى ما يمكن تسميته التوريث الجمهوري، استجابة لمبدأ التأبيد لدى السلطات السياسية عندنا. غير أن هذا النظام الهجين يحمل في داخله تناقض يوازي تناقض التسمية المذكورة (وراثة جمهورية) ما يضطر النظام السياسي إلى ابتداع حيل "جمهورية" كي ينقل السلطة الى الوريث، الأمر الذي يفشل، بطبيعة الحال، في سحب المنصب الأول (رئاسة الجمهورية) من الصراع العام، لا بل يزيد في احتدام الصراع على خلفية التلاعب الدستوري الصريح.
في كل الحالات لا يوجد في النظام السياسي المعني (أكان جمهورياً أو ملكياً) أي مدخل مشروع لتغيير سياسي أو حتى لتعديل سياسي، الأمر الذي يجعل العنف غير المشروع، هو المدخل الوحيد للتأثير، ولكن المهم أن هذه الحال تجعل من هذا العنف غير المشروع مشروعاً.
***
ينظر إلى القرن العشرين على أنه قرن العنف، فقد كان مليئاً بالحروب والثورات والنزاعات العنيفة التي وقعت في 114 دولة من أصل 121 دولة. معلوم أن العنف وسيلة محمودة لدى الكثير من المفكرين، منذ هوبس الذي رأى أن المواثيق، في غياب السيف، ليست سوى كلمات، إلى ماركس الذي يرى العنف مولدة التاريخ، وانغلز الذي يرى أن العنف يسرّع عملية التنمية الاقتصادية، إلى فرانس فانون الذي يرى أن العنف هو ما يفيد ... من جهتنا لا نرى أن العنف شيئاً مرذولاً بحد ذاته، لكن علاقته بالسلطة في مجتمعاتنا هو ما يحتاج إلى تأمل لتلمس طريق الخروج من دوامة العنف العقيم الذي يستهلك حياة شعوبنا.
السؤال المهم هو كيف يمكن لسلطة تأسست على العنف أن تؤسس لسلطة تقوم على الإرادة العامة؟ أو بالأحرى هل يمكن لسلطة تأسست على العنف (أي استلمت مقاليد السلطة بالعنف) أن تتحول إلى سلطة خاضعة للإرادة العامة؟ هل لمن حاز على السلطة بالعنف أن يتنازل عنها لصالح آلية سلمية لإنتاج السلطة يمكن أن تفضي إلى إقصائه هو نفسه عن السلطة؟ بكلام آخر، كيف يمكن كسر حلقة العنف المتوالدة، وهل يمكن كسرها بالعنف؟
يمكن للعنف يمكن أن ينجح في كسر سلطة عنف قائمة، ولكنه لا يؤسس لسلطة تقوم على الإرادة العامة، بل يؤسس لسلطة عنف أخرى. في إشارة لامعة في كتابها "في العنف" تقول أرنت: "الحقيقة أن العنف، وعلى عكس ما يحاول أنبياؤه أن يقولوا لنا، يمكن اعتباره سلاح إصلاح أكثر مما هو سلاح ثورة". العنف الإصلاحي، إن صح القول، يمكن أن يفرض على سلطة العنف أن تأخذ في حسبانها إرادة هذه الفئات "العنيفة" من خارج السلطة، وقد يشكل هذا خطوة باتجاه نفوذ الإرادة العامة إلى سلطة الدولة. على أن العنف أكان إصلاحياً أو ثورياً يحمل، في المجمل، خطر تعزيز عنف السلطة ضد المجتمع ما يعني المزيد من مصادرة الإرادة العامة.
عندما تستند السلطة إلى الإرادة العامة للشعب في حيازة الشرعية فإنه يتم التوجه إلى عقول وقلوب الناس بهدف كسبها، ويتم السعي إلى التأثير، أو حتى التحكم، بهذه الإرادة العامة عبر وسائل إعلامية وثقافية ... الخ. التحكم بوسائل الإعلام وفنون إدارة الراي العام تصبح مهنة لها مكانة وأهمية أكبر من العنف المباشر الذي إذا لا يمكن الاستغناء عنه، فإن حضوره الزائد قد يهدد بالفعل استمرار السلطة التي تستخدمه لأنه يسحب منها الشرعية التي تستند إليها. أما حين تكون السلطة مستندة في حيازتها "الشرعية" والطاعة، إلى العنف فمن الطبيعي أن تعمل السلطة على تعزيز العنف السلطوي داخل وخارج السلطة للتصدي لأي اعتراض على السلطة دون أن يؤثر ذلك على "شرعيتها" لأن هذه تقوم أساساً على التفوق في العنف. لذلك نرى السلطات عندنا مشغولة أساساً في مراكمة وسائل العنف في الدولة (أدوات وأجهزة "أمن") كما أنها تستثمر أيضاً في العنف من خارج الدولة، مثل عنف الشبيحة في سورية وفرق الموت في أمريكا اللاتينية ... الخ.
السلطة التي تتأسس على إرادة عامة في مجتمع وجد طريقه إلى تحقيق الإرادة العامة فيه بسبل عملية منتظمة، تميل إلى التعامل مع المعترضين أو المحتجين على سياساتها بسبل شتى مثل الحوار أو التراجع عن قرارات أو تعديلها أو تبني مطالب مطروحة في الشارع ... الخ، آخر هذه السبل، وليس أكثرها أهمية، هو العنف. ويبقى من الممكن لهذه السلطات أن تفشل في احتواء الاحتجاجات وأن تضطر إلى "الرحيل"، لكي يتم إنتاج سلطة أخرى بآليات متفق عليها، تقوم من ثم بتولي الإدارة.
أما السلطات السياسية في مجتمعنا، وهي قائمة أساساً على العنف، لا تمتلك، في مواجهة الاعتراض والاحتجاج، مهما كان شكله، سوى العنف. كل استجابة غير عنفية تعتمدها سلطات العنف في مواجهة الاحتجاجات والمطالب، لا تعدو كونها تهيئة أو مقدمة أو تسويغ للعنف الساحق الذي يشكل الاستجابة الأكيدة، بصرف النظر عن سلمية أو لا سلمية الاحتجاجات. هذا لأن السلطة القائمة على العنف لا تفتح باباً "شرعياً" لأي سلطة تالية، وليس في قاموسها شيئاً كهذا، فهي تنظر إلى نفسها ليس فقط على أنها السلطة الشرعية التي تحوز على تأييد "كل" الشعب، بل على أنها السلطة "الطبيعية" التي تبدو أي حركة احتجاج ضدها شاذة وملعونة كما لو أنها مضادة للطبيعة. ليس بلا معنى أن يرتفع شأن "القائد" في نظر جمهور سلطات كهذه، إلى مصاف إلهية الأمر الذي يجعل معارضته ضرباً من الكفر، هذا ينسجم مع الخط نفسه من أبدية السلطة و"طبيعيتها".
على أن سلطات العنف هذه، يمكنها، منطقياً، أمام احتجاجات واسعة وذات وزن، أن تستوعب احتجاجات "إصلاحية" لا تستهدف تغيير السلطة. يكون هذا الاستيعاب في حقيقته نوعاً من صيانة السلطة والحفاظ على النفس. الخط الأحمر لدى سلطات العنف هو "الرحيل"، وسوف تلجأ دون هذا إلى شتى ضروب العنف والإجرام، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. لاحظنا كيف تراجعت هذه السلطات "إصلاحياً" أمام موجة احتجاجات الثورات العربية بأن قامت بزيادة في الرواتب وفي امتصاص البطالة وفي بعض المطالب الخاصة المتراكمة مثل منح الجنسية للكرد المجردين من الجنسية في سورية.
إذا صح ما سبق، يصبح من الصحيح الاستنتاج بأن الأكثر جدوى هو أن تتم مواجهة سلطات العنف بوسائل غير عنفية. ولا تستند هذه النتيجة إلى حقيقة الدمار الرهيب الذي يستجره العنف على ما شهدنا في معظم الثورات العربية وفي سورية واليمن وليبيا بوجه خاص، بل إلى حقيقة أخرى هي أن العنف، حين يصبح وسيلة لغاية ما، فإن هذه الوسيلة سوف تتفوق على الغاية منها، وليس من الخطأ القول إن الوسائل المستخدمة للوصول إلى غايات سياسية ترتدي في أغلب الأحيان، أهمية بالنسبة إلى بناء عالم المستقبل، تفوق الأهمية التي ترتديها الغايات المنشودة. ما يشير إلى أن غاية تغيير النظام تتحول، إذا نجح العنف في مسعاه، إلى مجرد تغيير النخبة، أي إلى إعادة صنع النظام بنخب جديدة.
***
المسار الذي يتوجب على مجتمعنا السير فيه هو مسار قطع العلاقة بين الشرعية والعنف، فلا تبقى القوة وامتلاك وسائل العنف مصدراً للسلطة وللشرعية. هذا يعني إعادة الاعتبار للجدوى السياسية للأفكار والبرامج والتوجهات ولمدى تمثيلها الشعبي. بذلك ينفتح الباب أمام أصحاب المواهب السياسية وأصحاب الأفكار والمبادرات، كي يساهموا في تطوير وحدة وازدهار مجتمعهم، هذا الباب الذي يغلقه في وجههم على الدوام، أصحاب القوة والسطوة والعنف، والذين إذ يغلقون باب السياسة والفكر السياسي، يفتحون باب العصبيات من كل الأصناف، ويفتحون باب تفتت المجتمع وضياع طاقاته وبؤس أهله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تحشد قواتها .. ومخاوف من اجتياح رفح |#غرفة_الأخبار


.. تساؤلات حول ما سيحمله الدور التركي كوسيط مستجد في مفاوضات وق




.. بعد تصعيد حزب الله غير المسبوق عبر الحدود.. هل يعمد الحزب لش


.. وزير المالية الإسرائيلي: أتمنى العمل على تعزيز المستوطنات في




.. سائح هولندي يرصد فرس نهر يتجول بأريحية في أحد شوارع جنوب أفر