الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة50

محمود شقير

2022 / 8 / 10
الادب والفن


عند نهاية سوق باب خان الزيت، يستطيع السائر في خط مستقيم أن يخطو خطوات عدة في فضاء مكشوف، ليجد نفسه في أول سوق العطارين. أما إذا انعطف ناحية اليسار، فسيجد نفسه في طريق عقبة السرايا، التي تشبه طريق الجبشة، في خلوها من ازدحام الناس، لندرة المحلات التجارية فيها. فليس ثمة سوى مقهى في أول الطريق.
أجلس على أحد كراسي القش في المقهى، وثمة من حولي عدد من أبناء الحي، من الكهول الذين جاءوا لتمضية وقت الفراغ. وثمة سائحات وسياح يجلسون في الفسحة المبلطة ببلاط قديم، وهم يدخنون النراجيل، وعلى وجوههم نشوة الذي يعيش تجارب جديرة بالتذكر في زمن لاحق.
من أمام هذا المقهى الذي يتجاوز عمره المائة عام، كنت أمر ومعي فتحي الشقاقي، فيصل العفيفي، وعادل عيد، متجهين نحو مدرسة دار الأيتام الإسلامية التي تقع في نهاية طريق عقبة السرايا. كان فتحي لم يزل في بدايات شبابه، تعمر صدره أحلام كبيرة، لم تتبلور على نحو نهائي إلا فيما بعد. نعبر الطريق مسرعين كي لا يبدأ وقت الحصة الأولى، فنصل إلى طلابنا متأخرين. وفي ساعات ما قبل المساء، نغادر المدرسة على مهل، إما عبر الباب المفضي إلى طريق الواد، وإما عبر البوابة المفضية إلى طريق عقبة السرايا، نجتاز الطريق ونحن منهمكون في نقاشات لا تتوقف، ونظل نقطع الأسواق والشوارع حتى نصل إلى مقهانا الذي اهتدينا إليه مؤخراً، في شارع عمرو بن العاص.
الآن، أجلس في هذا المقهى الواقع في أول عقبة السرايا، أستشعر وقع سنوات خلت، وأناس كثر مروا من هنا، ثم ما لبثوا أن مضوا. كان فتحي الشقاقي واحداً من أهم من عرفوا هذا الطريق وساروا فيه.
أحتسي القهوة، وأنا أتأمل الناس القلائل الذين يعبرون الطريق. وأستطيع تمييز أهل الحي من غيرهم من المارة انطلاقاً من ملاحظتين اثنتين: فأهل الحي، ولا سيما المتقدمون في السن منهم، لا يمكن أن يجتازوا المقهى من دون أن يطرحوا السلام على الجميع، بسبب المعرفة الأكيدة وطول الجوار. أما العابرون من غير أهل الحي، فإنهم يجتازون الطريق دون أن يشغلهم أمر المجاملات الاجتماعية، فتراهم يمرون وهم مشغولون في أحوالهم يفكرون فيها، وأحياناً ترى بعضهم، يجتاز الطريق بمفرده، وشفتاه تتلفظان بكلام متصل، فتحدق فيه ومن حوله، لتكتشف أنه إنما يحدث نفسه.
أما الملاحظة الثانية التي تميز أهل الحي، فتتمثل في الخروج المتأنق، في ساعات ما بعد العصر إلى شوارع المدينة التي تقع خارج السور، فترى الملابس ما زالت محتفظة ببهائها لم "يجعلكها" سفر أو قيام أو قعود، وتكاد تلحظ من المشية المتئدة، ومن نظرات الأعين التي يوزعها العابرون والعابرات في فضاء الطريق، فيما إذا كانوا من أهل الحي أو من غير أهله، فيتملكك إحساس بالعرفان تجاههم، لأنهم يضاعفون من جو الإلفة المخيم على المكان، ويضفون بحركاتهم المتزنة المحسوبة، عذوبة تجعل للوقت طعماً آخر.
غير أن لاعب كرة القدم في فريق المدرسة الرشيدية أواسط خمسينيات القرن العشرين، الذي كانت له ملامح الممثل جاك بالانس، جعلني متشككاً فيما إذا كان من سكان هذا الحي، فقد اجتاز الطريق بمشية تنم عن استمرار عشقه للرياضة بالرغم من تقدمه في السن، ولم يلتفت إلى الجالسين في المقهى لطرح السلام عليهم، فاعتبرته من غير سكان الحي، ولم أجزم في الأمر بسبب معرفتي لسلوكه المترفع الذي ينأى به عن مجاملة أقرب الناس إليه، ولم أتوقف كثيراً عند هذا الأمر، ولم أفكر بالاستفسار من أحد أبناء الحي عنه، ولم يقم أحد منهم بالتعليق عليه، فاعتبرت الأمر منتهياً كأنه لم يكن أصلاً، وواصلت تأملاتي، ثم لم ألبث أن نهضت بعد أن طال مكوثي في المقهى.
سرت هابطاً في طريق عقبة السرايا، التي تحف بها بيوت قديمة لها بوابات صغيرة، فوق بعضها يافطات تتحدث كل واحدة منها عن كبير العائلة، الذي عاد بالسلامة من الديار الحجازية بعد أن أدى فريضة الحج. اقتربت من بوابة مدرسة دار الأيتام الإسلامية التي عملت فيها مدرساً العام 1971، تأملت جدران المدرسة التي تطل على الطريق بحجارتها الهرمة، فلم أتوقف طويلاً عندها. مضيت مبتعداً وأنا أسمع ثرثرات الطلبة، الذين لم يخرجوا بعد من المدرسة.
ثرثرات مبهمة كأنها قادمة من مكان سحيق.
يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل


.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج




.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما