الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وجه الخير - حُبّ ومنفضة الأجساد

كمال جمال بك
شاعر وإعلامي

(Kamal Gamal Beg)

2022 / 8 / 10
الادب والفن


حُب – ومن أسمائه الشعبية أيضا المزمّلة أو الخابية - هو إناء فخاري مخروطي الشكل يلبسونه في كرسي خشبي أو معدني، و يملأونه ماء، ثم يغطونه بطبق، يتدلى فيه منشل معكوف من خوص النخيل، مطلي من الأسفل بالقير مخصص للشرب، وفي قعره يرسب الرمل، فيصفو المشروب منه عذبا مستساغا، وأما ناقوطه الذي يرشح في إناء خارجي فلا أطيب من طعمه لتخدير الشاي.
تذكّر الغريب كلَّ حُبّ في حياته، مما وممن ارتوى منه فراتيّا في بيتي جده، وفي بيوت أصدقائه، وعند الجيران، ومن النهر إلى ماء الحسيان الكريم في عمق الصحراء، تحت حفنتين من الرمل وبعض الحصى. وشاميّا من كل سبيل دمشقي، ومن خفة تدفق صنابير الفيجة، وعند ينابيع بردى وضفافه، وعلى مدرجات جامعته، وفي غرف وطوابق وقاعات واستوديوهات عمله في الإذاعة، وبلع ريقه مرّا من حبّ الليثيوم والأركونيل والأولانزابين، مع أن الكأس الذي ناولته إياه الممرضة بارد، وماء السويد مشهود له بمذاقه.
**** ****
على غير هدى سار شاردا في رحاب الأروقة والممرات، وتفحص خلسة وجوها لم يألفها، لاحقا سيصير لها أسماء وأرقام غرف وحكايات وذكريات. حدثته نفسه بمقاطع كما لو أنها مكررة على آلة تسجيل لا يستطيع لجمها. فلتت بجريان حمم اختلطت فيها صرخات المعذبين في الأزقة الأمنية مع أشباح وجوههم، أنّات لم تنفع سدادات الأذن التي جلبوها له في التخفيف من استغاثاتها، وجماجم لم تفارق ظله ولا بصره في النهار، ولا مناماته وكوابيسه في الليل، ولها أجساد تمشي معه في كل مكان، مشققة الثياب الداخلية، عارية الصدر، لا تتلفت يمنة ولا يسرى، ولا تمتد أياديها الموثقة للخلف إلى عصابات الأعين لتتبين مسيرها، بل لها عصي تتوكأ عليها هياكلها.
ومع انثيال تراب الموتى منهم على أنفاسه، تلبّسه شعور غامض جعله يرتاب بمن حوله في المشفى، ما دفعه إلى تجنب الاحتكاك بهم، والتأخر عن الآخرين في الطعام، من أجل الجلوس على طاولة منفردة، وانتقاء الوقت المناسب للتدخين من دون مشاركة أحد. و تساءل الغريب في سريرته: هل هؤلاء الذين يشك بهم عناصر مراقبة لا نزلاء؟ وإلى أين ذهبوا بذلك الشاب الإيراني الذي ملأ الغرفة صياحا وهو ينطح الجدران، بعدما أخرجوه منها مدمى؟ هل يا ترى هناك غرف منفردة للتعامل معه؟
**** ****
في اختلاط الأسئلة مع المشاعر يتدرج الجحيم من عدم الجدوى، إلى عدم الاهتمام، إلى اللامبالاة. غير أن الساعات المعلقة على جدران المشفى لا تتوقف عن الدوران، خلافا لمستنقع أجسام المعتقلين في أقبية الموت، والمتجددة جلودهم الآدمية فيه بانسلاخها.
وعلى ساعته المتخبطة في رملها تداعت سيول مواريث ظلت مخيلة الغريب نفورة منها: فالطفل ليس الجاهل. والناس غير الجهال في التضاد مع مدّعي العقل. والجاهلية لا تستقيم مع مجتمع المعلقات الشعرية المذهّبة على الكعبة.
وفوق كل إرث عصا: "فالعصا غصن من الجنة"، و" العصا لمن عصا"
و "اضرب المربوط كي يتربى المفلت". تداعيات ما عاشها مجتمعياً، ولا سلّمه أبوه إلى معلميه وقال لهم: " اللحم لكم، والعظم لنا"، مع أن العصا المنزلية حاضرة ومجهولة الأسباب غالبا. أما ما يفترض أن يستدعي ذلك في بلدة محافظة فتم الدفاع عنه. حين استوقف معلم الرياضة والده في الطريق وأخبره بأن ولديه يدخنان، قال له: أنا أجلب لهم علب الدخان، وهو لم يكن يعلم بأمرهما.
أما أمّه فكلما شمّت رائحة احتجاج على تدخين ولدها، استحضرت أغنية شعبية من زفاف عريس من بيت الصبابغة وهم مشهورون بالحياكة وصباغة البسط، وغنت له مع التصفيق والأمنيات بالهناء:
" طارت شرارة نار أحّا
وحرگت زبونو لي وحّا
ريت التتن هنيان أحّا
ع اليشربونو لي وحّا
ويمّا ويا يابا لي وحّا"
وفي فناء الحديقة وفيها أقسام مخصصة للتدخين جلس على معقد بانتظار علبة تبغ طلبها بثمنها من الممرضة، وحول ما دار بينهما كتب الغريب:
"أغضبت الممرضة
في جدل عقيم حول أهمية السجائر
الممرضة الغاضبة
هي ذاتها من أحضرت لي علبة سجائر
وودعتني بابتسامة
وفهمت منها أنها لا تدخن
أعطيتها الخمسين كرونة
وشكرتها بمئة "تاك" سويدية
وتعني شكراً كثيراً من كلّ قلبي بالعربية"
تماوج الدخان مع بخار الأنفاس حاملا تشكيلات غير متماثلة، مع كل شهقة تقطر منسابة إلى الرئتين، و كل زفرة ملتهبة من الشفتين.
وحده الباب الفاصل بين الحديقة وممرات المشفى يعرف سرّ دمعة الغريب وهو يطفئ سيجارته في منفضة أعقاب السجائر. وحده صار يكتوي أيضا ويغلق معه فم السؤال: أين يطفئونها.. ولماذا؟!
**** ****
*من كيسه في المشفى .. مقتطفات من نص بعنوان وجه الخير








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي