الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطيور الملونة وهرم خوفو

شريف حتاتة

2022 / 8 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


----------------------------------------------
عندما كنت طفلا عشت لمدة خمس سنوات فى حى من أحياء لندن . كان أغلب سكان هذا الحى ينتمون إلى الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى . لم يكونوا من الفقراء ، ولكن كان دخلهم محدودا . عندما أمشى ناحية الشمال كنت أجد نفسى سائرا بين بيوت الأثرياء ، وسط حداق يلعب فيها أبناؤهم وبناتهم . تعرفت على بعضهم ، ولكن بعد قليل أصبحت أتفادى الاختلاط بهم . كانوا يتعاملون معى بإستعلاء لأننى أفقر منهم ، ولأن أبى ليس إنجليزيا ، وإنما رجل جاء من تلك البلاد تسمى بالمستعمرات البريطانية .
كنت أفضل اجتياز حدود الحر فى اتجاه الشرق . فالصبية والبنات فى هذا الحى المجاور لنا كانوا ينتمون إلى أسر فقيرة نسبيا . وكان هذا يشعرنى بنوع من التميز . كما كانوا يتصرفون معى بتلقائية قد تصل إلى حد الخشونة . ولكننى كنت أفضل هذه المعاملة عن الاحتقار البارد ، والأدب المتعالى اللذين تجيدها الأسر الإنجليزية الثرية . وكانوا يخترعون ألعابا فيها جرأة واقتحام ، اكتشفت معها أن الحياة فيها مغامرات ، وأشياء مثيرة ، وأن عالما جديدا يتفتح أمام عينى .
كانت أمى تحذرنى من الاختلاط بهم ، وتشجعنى على التعلق بأبناء وبنات الأسر التى تقيم فى الجهة الشمالية. فتعودت أن أخفى عنها اتجاهى عندما أذهب لللعب مع الأطفال الآخرين . أخرج من الباب الحديدى المنخفض للحديقة المحيطة ببيتنا ، وعيناها تتبعانى من نافذة حجرة نومنا فى الدور الثانى إلى أن ينحنى الطريق ، وأختفى خلف الأشجار. هكذا تتيقن أننى لم أغير إتجاهي ناحية الشرق لألحق بالأطفال هناك.
كان يوجد في هذه المنطقة ، جدول يشق المساحات الخضراء وتسبح فيها الأسماك ، وغابه تطير فيها فراشات ، وطيور من مختلف الأنواع. ومن بين الأطفال الذين كنت ألقاهم هناك كان يوجد صبى طويل القامة ، قوى البنية يكبرنا بعدة سنوات دأب على اختراع ألعابا غريبة، مثيرة لنا نحن الأطفال ، ولاتخلو من القسوة في بعض الاحيان. ومن فرط انبهارنا بجرأته وخياله الخصب ، أسلمنا له قيادنا دون صراع.
كان اسمه شارلي. وكان شارلي هذا يجيد الصيد ، ونصب الفخاخ يصطاد فيها أنواعا من الطيور المنتشرة في الغابة ، فإذا نجح في اصطياد عدد من الطيور المنتمية الى نفس النوع، يختار من بينها أكبرهم حجما، ويربطه في معصمه ثم يقوم بصبغ جناحيه، ورأسه، وصدره بالألوان الزاهية . يحوله الى شيء يشبه صحبة من الزهور البرية الجميلة المختلفة الألوان . وبعد أن ينتهى من اللمسات الأخيرة يقودنا إلى عمق الغابة حيث تزداد كثافة الأشجار، ويخرج الطير من القفص الذي حبسه فيه، ويضعه بين يدى أحد الصبية، ويطلب منه ألا يدعه يطير.
أحيانا يقع الدور علىّ لأقوم بما يريده . وعندئذ يطلب منى أن أضغط على صدر الطير الملون بضغطات رقيقة تجعله يزقزق ويصوصو بأعلى صوته. فتنجذب الى نداءاته عشرات الطيور المشابهة وتبدأ في التحليق، والدوران المتوتر فوق المكان الذي نقف فيه. فيضاعف الطير الحبيس بين يدي من حدة الأصوات التي يطلقها ، كأنه يطلب منها أن تنقذه . أحس بقلبه الصغير يدق بعنف في الصدر الدافيء المزخرف بالألوان الزاهية.
عندما يتجمع عدد كاف من الطيور في بقعة السماء المطلة علينا ، يشير إلیّ شارلي بإطلاق سراحه من بين يدى ، فينطلق فرحا مسرورا بالحرية عادت إليه . ألمحة صاعدا فوق الأشجار كالسهم الملون، يشبه قطعة من قوس قزح فوق السماء تغطيها السحب الرمادية ، ليلقي بنفسه داخل سرب الطيور البنية اللون . لمدة لحظات يصيب الطيور المحلقة حوله ، حالة من الاضطراب كأنها لا تدرك ما الذي يمكن أن تفعله بهذا الوافد الغريب. أما الطير الملون فهو يظهر مرة أخرى ، عند الأطراف الخارجية للسرب ليطير ذهابا وإيابا بين مقدمته ونهايته ، كأنه يحاول أن يقنع هذه الطيور المتشابهة أنه منهم ، وأن له مكانا بينهم ، أنه ينتمي إليهم ويتوقع منهم أن يستقبلوه في صفوفهم . لكن رغم كل الجهود التي يبذلها للاندماج معهم ، كانوا يستمرون في التحليق حوله، كأنه سقط عليهم من كوكب آخر، أو كأنه بهرهم بألوانه القويةالجميلة ، إلى درجة اضطريت عندهم القدرة على الرؤية ، فأحسوا أنه لا ينتمى الى النوع الذي ينتمون إليه .
بالتدريج كانوا يبدأون في زحزحته بعيدا عنهم ، رغم محاولاته المستميتة للاقتراب، وإقناعهم بأنه منهم، ويجب أن يتقبلوه في صفوفهم . أما نحن فكنا نتتبع ما يحدث فوق رؤوسنا . نشاهد كيف أن الطيور كانت تنفصل عن السرب الواحد بعد الآخر لينقض كل منهم على زميلهم الملون ، ويغرس فيه منقاره ، وأظافره الحادة . وبعد قليل كان يضعف ، ويفقد قدرته على الطيران بقوة ليهبط بين الأشجار، ويختفي عن عيوننا. فنبحث عنه لنجده وقد فارق الحياة ، وأصبح جثة صغيرة منكمشة ترقد على الأرض.
خواطر حول هرم خوفو
...........................
ذهبت منذ أيام مع الأسرة لتناول وجبة من السمك في " مطعم خريستو". كان الجو صافيا، والشمس ساطعة فمددت جسمى على المقعد لأمتص دفئها. كلما رفعت رأسي لمحت الهرم الأكبر يطل علىّ . وبعد قليل سرحت . تذكرت أنني لم أره منذ سنوات ، وأنني في كل مرة اقتربت منه كنت أنبـهـر به ، وأتطلع اليه كصرح تاریخی صخم يدل على عظمة الفراعنة .
تأملنه طويلا وأنا جالس على بعد قليل منه . عادت إلىّ قصة قرأتها في مكان ما، أو ربما تخيلتها ، ففي تلك اللحظة انزلقت الى شبه نومة اختلطت فيها الأمورمع شكل الهرم الأكبر. القمة العالية تطل من أعلى، ليس فيها سوى حجر واحد دون غيره . والقاعدة العريضة يربض عليها بكل ثقله الضخم. وهذه المراتب المتتالية تفصل بين القاعدة والقمة. ترى منْ الذي دفع الفرعون ، الى بناء هذه الكتلة الصماء الضخمة . أشعر وكأنني أرقد تحتها وتبث فيّ الرهبة . أسرح مع الخيال كأنني في حلم. أرى الملك خوفو ساعة صعوده إلى العرش ، شابا مليئا بالنيات الطيبة يعبر الى المقربين اليه ، عن رغبته في أن يدفن بعد موته في قبر عادي تحت سطح الأرض ، ألا يقام له أي مبنى يرتفع فوق القبر. فسرى الاضطراب في صفوفهم وتهامسوا فيما بينهم ، حول أثر هذا القرار الذي فاجأهم به على سريان أمور الحكم ، وانعكاساته على أحوالهم. تداولوا فيما بينهم طويلا ثم عقدوا اجتماعا مغلقاً دام عدة أيام حضره خبير الفلك ، والوزراء المقربون للفرعون، وأكبر مستشاريه سنا ، وكـبـيـر الكهنة ، الذي كان في الوقت نفسه رئيس المهندسين المعماريين فى القطر .
بعد أن انتهى الاجتماع طلبوا مقابلة" الملك خوفو " ، فاستقبلهم جالسا على العرش. وقفوا صامتين بين يديه الى أن قال لهم تكلموا فإني سامعكم .
تقدم كبير الكهنة خطوتين الى الأمام. صمت لحظة ثم قال : " يا جلالة الملك ، يا أعظم العظماء إن فكرة بناء الأهرامات ، لا تستهدف أساسا إقامة مقبرة تنتقل فيها جلالتكم الى الحياة الأخرى لتعيش فيها أبد الدهر. إنهاولدت لأهداف أخـرى أهم منها. ارتبطت بالأزمات التي واجـهـهـا أسلافك العظماء من قبل. ببداية حركة العقول الحرة المتمردة على سلطان الفراعنة التي هددت بتغيير الأوضاع القائمة اذ ذاك، وكان لابد من مـواجـهـة تحركاتها بأنخراط سكان البلاد جميعا في نشاط يستوعب كل طاقاتهم، ولا يترك لهم الفرصة للإفلات من النظام المفروض عليهم ، أو محاولة تغييره . فكلما كان هذا النشاط قادرا على استنفاد جهود كل الناس، ومنعهم من الانشغال بسواه من أمور الملك، وكلما زاد ثقله وقهره عليهم، واستنفذت فيه أجسامهم، وعقولهم، وطاقاتهم، كلما أمتصت حياتهم، ودماءهم، ودمرت قدراتهم ، وكلما أحنوا رؤوسهم تحت أعبائها ، كلما استتب الأستقرار ، والأمن وشاع الهدوء في القطر..... ان الوسيلة لمواجهة العقول التي لا تتوقف عن التفكير في أمورها ، هو تعبئة كل قوى الأمة في مشروع ضخم، هو إقامة هرم باسمك يفوق في ضخامته كل الأهرامات التي أقيمت من قبل ، بحيث تستطيع جلالتكم فرض كل النظم، والإجراءات التي تريدها ، فلا يجرؤ أحد على الوقوف ضد ارادتك ، وكلما كانت فائدته للناس أقل، كلما كانت مكاسبه للدولة ، وأجهزتها أكبر، وأعم ، وأصبح ضمانا لاستتباب نظام الحكم ".
ولما وجد الكاهن الأكبر قبولا لكلامه لدى الملك خوفو ، استرسل في سرد الحجج لإقناعه حتى لا يتردد مرة أخرى ويعيد قراره . قال له : " أن الهرم الأكبر سيضمن الأبدية لحكمه، ولمنْ يأتي من بعده من أحفاده . فكلما اعتلى العرش فرعون جديد سيقيم لنفسه بناءا مشابها حتى يستقر الحكم ، ويواجه أعداءه . هكذا يجمع هذا الهرم بين الضرورات الآنية للنظام، وبين إضفاء الاستمرار والخلود للقائمين عليه ".
علا صوته وهو يردد : " أن الهرم الأكبر الذي ستقيمه هو القهر ، والقوة ، والمال. أنه إضعاف، وإرهاق ، واستنزاف لإرادة الشعب ، وحماية للنظام الذي تتربعون على قمته . أنه نموذج سيتوارثه الجالسون على العرش. إنه الثقل الإداري الذي يستطيع أن يخضع من يرقدون عنـد قاعـدتـه. وهو سيستمر جيلا بعد جيل ليخلد ذكراك. وبالقدر الذي تزيد ضخامته بنفس القدر سيشعر الناس بضالتهم أمامه " .
أحس الكاهن الأكبر بالحماس يتدفق منه ، رغم سنه الكبير ، ورغم الجهد الذي بذله. لكن كان إحساسه أنه لا يدافع عن مصالح الفرعون فحسب ، ولكن عن مصالحه هو أيضا، وعن مصلحة كل اللذين يعتمد عليهم الفرعون في حماية نظامه. كذلك بدا له كأن شبابه وقواه تعود إليه . إنه وضع يده على سر مهم ، وأن الفرعون لن ينسى له هذا الجميل طوال حياته. فختم کلامه مرددا : " كلما علا الهرم الذي سنبنيه لجلالتكم ، كلما بدأ المواطن صغيرا وتافها عندما يقف أمامه ، فعظم شأنكم ، ودام الحكم لأسرتكم ، وللمخلصين من بعد ".
برقت عينا الفرعون، وتحركت شفتاه بابتسامة ، فيها رضي عن معاني الكلمات تتردد في أذنيه كالموسيقى.
جاءتی صوت ابنتي " مُنى " ، كأنها تخاطبني من مكان بعيد: " السمك وصل . يالله یا شرف انت نمت ولا إيه؟ ". فالتفت حول المكان باحثا بعيني، كأنني عائد من كابوس قديم يجثم على حياتنا.
-----------------------------------------------------------
من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
---------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسلحون يستهدفون قواعد أميركية من داخل العراق وبغداد تصفهم با


.. الجيش الإسرائيلي يعلن حشد لواءين احتياطيين -للقيام بمهام دفا




.. مخاوف من تصعيد كبير في الجنوب اللبناني على وقع ارتفاع حدة ال


.. لماذا| ما أسباب الخلاف بين إيلون ماسك ورئيس الوزراء الأسترال




.. مظاهرة لعائلات المحتجزين الإسرائيليين أمام وزارة الدفاع