الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمواج فصل من قصة

محمد علي سليمان
قاص وباحث من سوريا

2022 / 8 / 14
الادب والفن


من ينقذ حورية بحر تتحقق أمنيته
طول عمره عزيز يحب الخريف في مدينته الصغيرة التي تعانق البحر، وطول عمره يحب أن يتسكع في شوارع الخريف وحيداً، يتسكع بتثاقل ويحدق بالعمارات الحديثة والمحلات الأنيقة التي تضج بأنوار متقطعة رائعة الألوان، والشوارع التي تزدحم بأوراق أشجار الخريف التي تلعب بها رياح الخريف اللطيفة، وتزين بها الأرصفة والشوارع الإسفلتية. لكن وكما هربت الحياة من عزيز، هربت منه تلك المدينة البحرية الصغيرة، وأصبح يشعر بالغربة في شوارع الخريف. وطول عمره عزيز يعرف أن الرجل متى تحمل شياطينه لفترة طويلة سوف تتحكم به، وقد تجعله شيطاناً آخر. كما أن عزيز يعرف إنه طول عمره الذي كتب له على هذه الأرض سوف يقاوم تلك الشياطين التي لا تريد أن تغادره أبداً.
يخرج عزيز من غرفته الصغيرة في حارة البحر، تلك الغرفة التي تبدو مثل كهف، وقد كانت غرفة ضيقة ومظلمة ورطبة، الساعة السابعة والنصف صباحاً، في الساعة الثامنة إلا ربع يكون قدام مكتبة الشرق، يشتري جرائد اليوم، وفي تمام الساعة الثامنة يكون في مقهى البحر. يرمي عزيز الجرائد على الطاولة، ويجلس على الكرسي، ويحدق بأمواج البحر التي تتدحرج صوب الشاطئ حتى يحضر أبو عابد فنجان القهوة.
لا يتأخر أبو عابد عادة بإحضار فنجان القهوة السادة، فقد تخلى عزيز عن السكر من أجل صحته بعد أن أصبحت الشعيبيات بالجبنة التي تسبح بالقطر في صينية الحوراني، والتي يدور بها على عربته العتيقة في شوارع المدينة، تجعله يدوخ. يضع أبو عابد فنجان القهوة على الطاولة بصمت ويبتعد، ففي الصباح يحتل عزيز صمت غريب. يشعل عزيز سيكارة من علبة الحمرا القديمة، ويأخذ رشفة من فنجان القهوة سكر قليل، وكان يتناول في البداية جريدة السفير رغم أنها من يوم سابق، ثم استبدلها بعد أن طال غيابها منذ وقت غير بعيد بجريدة الأخبار وهي من يوم سابق أيضاً. ويبدأ عزيز قراءة الجريدة من أول صفحة، كان يقرأ الجريدة من الصفحة الثقافية، ثم يقلب الصفحات الأخرى ويختار مقالات حسب مزاجه وغالباً ما تكون فكرية، لكنه صار يبدأ من الأخبار السياسية ثم ينتقل إلى التحليل السياسي، وأخيراً كان ينتهي مع الصفحة الثقافية. لقد أصبح عزيز، منذ زمن ليس طويلاً، يقرأ في الجرائد الأخبار السياسية كلمة كلمة، بل إنه كان يبحث فيما خلف الكلمات وكأنه يقرأ أحلام شبابه التي كانت تزهر بعد أن كان قد أيقن أن تلك الأحلام جفت، لم يكن عزيز يتصور أن الأرض التي جفت يمكن أن تزهر بربيع آخر من خارج الزمن الراكد كمستنقع.
ينظر عزيز إلى وجوه أهل المقهى، وجوه رجال عجائز حزينة وتنبض بكآبة غريبة لها رائحة المتاهة، وجوه رجال عجائز أخرى تحدق بالبحر وكأنها تحدق بالعدم، وجوه رجال آخرين يقتلون وقتهم بلعب الورق وطاولة الزهر، كأنهم يزيحون غضباً يضج في داخلهم، غضباً أشبه بجبال تتراكم فوقها صواعق وأمطار وثلوج وغبار وبقايا أشجار وأحجار، جبال تحترق بأمواج من نار تتدحرج كما أمواج البحر. وهناك أيضاً وجوه شباب يدخنون الأراكيل ويشربون القهوة وكأنهم ينتظرون الذي سوف يأتي ولم يأت بعد، وربما لن يأتي أبداً. وجوه ابتلعها الصمت، لا يسمع عزيز في المقهى غير قرقرات الأراكيل ودقات أحجار الطاولة وتدحرجات الزهر. كان عزيز ينزعج من صخب المقهى أحياناً بمناسبة، وفي أحيان أخرى بدون مناسبة، صخب يضج بحيوية الحياة، لكن الصمت في ذلك الصباح الخريفي مثل صمت المقابر، وكان دخان الأراكيل ودخان السكاير يتموج في فضاء المقهى وكأنه الضباب يخيم في فضاء المدينة، رغم أن رجال المقهى لم يهجروا ألعابهم الصغيرة لكنهم رحلوا أكثر إلى دواخلهم وكأنهم في مأتم. ينظر عزيز إلى الصفحة الأولى من جريدة الأخبار، ثم يقلب الصفحات متجاوزاً الصفحات اللبنانية، ويتوقف عند عنوان في صفحة ثقافة وناس " أيها الكتاب العرب، قاطعوا مملكة الخوف ". يفكر عزيز أنه عاش حياته مع الخوف حتى أصبح الخوف هو الهوى الوحيد في حياته، وكأنه أصبح الخوف نفسه. يبعد عزيز عينيه عن الجريدة، لقد شبع من الخوف حتى الضجر. يفكر في نفسه: لماذا الخوف وقد أصبحت عجوزاً، وليس هناك ما أخسره غير حياتي التي أخذها الخوف مني منذ زمن بعيد. يقلب عزيز الصفحات مرة أخرى ويقرأ عن خريف " السنديانة الحمراء ". وعزيز كان ينزعج من ذبول جذور تلك السنديانة الحمراء، ومع الوقت أصبح يخاف أن تجف جذور تلك السنديانة، كما جف كل شيء آخر في هذه البلاد. يتمنى. يعود الخوف يحتل قلب عزيز، يشعر أن صراعه مع الخوف كان بلا جدوى، ويشعر إنه يكاد يتلاشى في المقهى، فالمقهى الذي كان يعطيه بعض الراحة أصبح مثل الجحيم، لكن لا مأوى في هذه المدينة الكئيبة غير المقهى. يهرب عزيز إلى البحر، يراقب الأمواج المضطربة وهي تتدحرج بتثاقل على الشاطئ، يراقب طيور البحر التي تحلق قرب الشاطئ، يراقب الزوارق وهي تغادر البور صوب أرواد، يرحل معها في طريقها صوب الجزيرة العتيقة. يفكر عزيز في نفسه: أرواد؟! يشعر عزيز بحنين غريب إلى أرواد. لا يعرف عزيز لماذا ظل غريباً عن جزيرة أرواد، ورغم أنه كان يرغب بزيارة تلك الجزيرة ولو من أجل أن يتمتع بالبحر من الزورق لكن الإرادة كانت تخونه دائماً. وكان يفكر في نفسه: إنها جزيرة عتيقة، وهي لم تتغير أبداً منذ تعرفت عليها أيام الولدنة، وحتى أيام الشباب وقت أزورها مع الأصحاب، لا شيء تغير، لا شيء يتغير. ولكن البحر، البحر، أن تركض على البحر. يبتسم عزيز بحزن، ثم يجد نفسه يتمسك بتفاؤل الإرادة، وينهض ويتجه صوب بور الزوارق. حين يصل إلى رصيف الزوارق يتحد مع طيور البحر التي تتموج قرب الرصيف وكأنها تراقب الراحلين إلى جزيرة أرواد هي الأخرى. يصعد إلى زورق، ويجلس تحت مظلة الزورق المصنوعة من النايلون الشفاف على المقعد الخشبي. يتسلى عزيز بمراقبة طيور البحر، وفي فضاء الزورق، طيور تمرق سريعة كأنها تلقي نظرة عليه. يشعر عزيز بالزورق يتأرجح، لقد قفز رجل من الرصيف إلى الزورق وجلس قرب عزيز. يداهم عزيز حزن: إنه الخوف من كل شيء غريب. لم ينظر صوب الرجل، لم يكن يريد أن يأخذه شكل الرجل، وكان يشك في كل شكل غريب، إنه سوف يأخذه إلى عالم من الرعب، ولكنه يسمع صوت الرجل يصرخ بمودة: عزيز؟!
يلتفت عزيز ويجد وجهه في وجه صديقه القديم كريم. يبتسم كريم ويردف: لن تهرب مني هذه المرة.
كثيراً ما كان كريم يلتقي بصديقه القديم عزيز في شوارع المدينة، لكن عزيز كان يتعمد أن يدفن وجهه في الأرض ويتابع طريقه. وقد حاول كريم أن يقتحم تلك الجدران التي سور عزيز نفسه بها بلا جدوى. يشعر عزيز أن حصونه انهارت، ومنذ وقت ليس طويلاً كان يقلب حياته خلف تلك الجدران ويراها وكأنها العدم. يردف كريم أيضاً: إنها صدفة طيبة أن نلتقي في زورق.
يتمتم عزيز: أخيراً ملكت الإرادة لزيارة أرواد.
ويقول كريم: ومتى تملك إرادة الحياة؟
يفكر عزيز أن جمود حياته أصبح عادة تملكته، ورغم محاولاته في بعض الأحيان أن يكسر تلك القيود، لكن كانت شياطينه تتغلب على ملائكته، وتبدو محاولاته للحياة كقبض الريح. يقول كريم: لقد أصبحنا عجائز حتى نجلس في داخل الزورق.
كان عزيز يحب أن يجلس في مقدمة الزورق، وخاصة عندما يغضب البحر، حيث فضاء البحر اللامتناهي ملكه، السماء الرمادية المزدحمة بالغيوم التي تبدو كوحوش، طيور البحر التي تحلق صوب الشاطئ، الشمس الغائبة خلف الغيوم، أرواد التي مثل سفينة عتيقة وكأنها غرقت منذ دهر، البواخر التي تتأرجح مع الرياح العاصفة، المدينة التي تبتعد بتثاقل وتغيب في رماد فضاء البحر، الأمواج الشامخة التي تركض صوب الشاطئ، والزورق الذي يتأرجح فوقها بقوة، ويكاد يضيع في موجة كهاوية، وعزيز كان فرحاً، وكأنه طفل يجلس في مرجيحة العيد. ويقول كريم: تعال نجلس في مقدمة الزورق.
ويجد عزيز نفسه ينهض، ويتبع كريم إلى مقدمة الزورق ويجلسان على طرف المظلة الخشبية. ينظر عزيز صوب المدينة، لا شيء تغير، رغم بعض الأبراج السكنية التي تطاول السماء لا شيء تغير، الجمر الذي يتوقد تحت الرماد ما يزال يتوقد تحت الرماد. يشعر عزيز أن ذلك الجمر كجمر بركان صامت، وأحياناً في داخله يخاف أن ينفجر البركان في هذه المدينة الصغيرة. يسمع عزيز صوت محرك الزورق. يتحرك الزورق ويخرج من البور، ويلتف غرباً صوب أرواد. لم يكن على الزورق غير كريم وعزيز ورجل عجوز انزوى داخل الزورق وكأنه غرق في النوم، وكان الزورق يقوده شاب، لكن عزيز يعرف أنه حتى أولاد أرواد خبروا تقلبات البحر، ويتذكر ذلك الولد الذي قاد زورقه من أرواد حتى المدينة في بحر عاصف، يتذكر عزيز الرعب الذي ظل يسيطر عليه طول الرحلة حيث كان يعذبه شعور أن الزورق سوف يغيب في أعماق البحر، ولقد ظل زمناً طويلاً يفكر بحزن أن الرعب جعله يضيع مغامرة أشبه بمغامرات السندباد البحري. ينظر عزيز إلى المدينة، تبدو شاحبة وباردة كعادتها، كأن تلك البرودة أصبحت عادة عندها أيضاً. يقول كريم: البحر غريب اليوم.
يفكر عزيز في نفسه: ومتى لم يكن البحر غريباً، أن البحر صمت من زمان، إنه الصمت نفسه الذي يسكن عزيز، والذي يمكن أن ينفجر في لحظة عابرة من الزمن. يقول كريم بحزن: لقد مرت حياة.
يتمتم عزيز: لقد مرت حياة، ولكنها حياة خاوية.
يقول كريم: لكنها حياتنا.
يقول عزيز: ربما حياتي كانت الخاوية، يبدو إنني كنت أبحث عن شيء لن أجده أبداً.
يقول كريم: وهل كنت تعرف ما تبحث عنه؟
يقول عزيز: سوف أعرفه وقت أجده.
يقول كريم: يعني أنك ما زلت تبحث عنه؟
يقول عزيز: ومتى توقفت عن البحث عنه.
يقول كريم: لو كنت تعرفه كنت خلقته، وربما كنت وجدت نفسك.
يقول عزيز: وهل وجدت نفسك؟
يقول كريم: أحياناً أعتقد أنني وجدت نفسي.
يقول عزيز: لن يجد الإنسان نفسه أبداً، هناك شيء لا يمكن القبض عليه، مثل السراب، ذلك الشيء هو ما يبحث عنه الإنسان في نفسه وفي الحياة، وهذا ما يعطي الوجود أحياناً طعم الفرح وأحياناً طعم الرعب.
يقول كريم: لم أعرفك يائساً؟
يفكر عزيز في نفسه: ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر. ثم يقول بحزن: إن خريفي أبدي، ولكن قدر الإنسان أن يعيش في قلب المتاهة، وقدره أيضاً أن يظل يأمل، ولو أن أمله يبدو قبض الريح. هل تعرف أنني أفكر كثيراً بالموت؟
يقول كريم: إنني لا أفكر بالموت، إنني أفكر بالعذاب الإنساني. الموت يجعلنا نخسر الحياة، لكن العذاب يجعلنا نخسر أنفسنا.
يقول عزيز: ليس حكيماً من لا يعرف الألم.
كان الزورق يتأرجح فوق أمواج البحر، وكان عزيز يتأرجح معه، وتتأرجح معهما المدينة، ترتفع المدينة وتنخفض وكأنها تتداعى في عيني عزيز، ويشعر عزيز بالرعب، لقد رأى كثيراً من المدن تتداعي، ويرى المدينة خراباً وينتفض بقوة. يقول كريم: ما بك؟
يقول عزيز: طول عمرها أحلامي تخيفني.
يقول كريم: وماذا تحلم؟
يقول عزيز: كأنني أرى رؤيا.
يقول كريم: وماذا ترى في الرؤيا؟
يقول عزيز: أرى مدينة تصبح رماداً، ولا أرى طائراً يخرج من ذلك الرماد. لقد تعودت على تلك الرؤيا، وأنا لا أصدق نفسي دائماً.
يقول كريم: وربما يكون هناك طائر.
يقول عزيز بحزن: وربما لا يكون.
أرواد تقترب، وتبدو وكأنها تتأرجح أيضاً مع تأرجح الزورق المتثاقل كبطة عجوز فوق أمواج البحر، كما تبدو شاحبة وباردة هي الأخرى، ولكنها تسطع تحت أشعة الشمس التي كانت أشعتها تخترق الغيوم الكثيفة أحياناً وتنتشر على البحر. ينظر عزيز إلى أعماق البحر ولا يرى شيئاً، لكنه في زمن الطفولة كان عزيز ينظر إلى أعماق البحر، وكانت الرمال تبدو ناعمة كجسد امرأة، ولم يكن عزيز يرى أسماكاً، لم يكن يرى غير بقايا أغراض مختلفة من مخلفات الزوارق في رحلاتها اليومية، حتى أنه لم يكن يرى أحجاراً أو صخوراً، لا شيء سوى الرمال. ينظر عزيز إلى السماء، يراقب الغيوم الرمادية، في أقصى الغرب تتموج غيوم حالكة، كأنها تحمل عاصفة. يراقب عزيز طريق الزورق صوب أرواد، لم يكن يواجه الأمواج، كان الزورق يركب الموجة حتى تنكسر، ثم ينعطف وقت يجد طريقاً صوب أرواد، كان الشاب الذي يقود الزورق يتصارع مع البحر، كأنه صراع القط والفأر. ثم حين حجبت أرواد صخب البحر، أخذ القارب راحته، واسترخى الشاب، وتابع الزورق رحلته يتهادى صوب الجزيرة العتيقة. يقول كريم: لا شيء يتغير.
يصمت عزيز ويتابع الزورق حتى يتوقف على الرصيف في جزيرة أرواد. يقفز الشاب إلى الرصيف ويربط الزورق بالحبل في إحدى حلقات الرصيف الحديدية. يقفز كريم إلى الرصيف، ثم يتبعه عزيز. يحرك عزيز جسده الذي أصبح كلوح الخشب. في الجنوب يواجه عزيز ورشة الزوارق، كان العمال منهمكون في صنع زورق، وكانوا يصقلون الخشب، كان هناك أيضاً صياد عجوز يصلح شبكة عتيقة. في الشمال تواجه عزيز المطاعم، الطاولات والكراسي التي تنتظر زوار الجزيرة، والذين يرغبون بالسمكة الحرة. وفي الغرب كانت هناك الدكاكين المزدحمة بالهدايا البحرية المصنعة في الجزيرة وتلك التي أحضرت من قبرص واليونان. وكما هي العادة، يتجه عزيز صوب الدكاكين، وكان كريم طول عمره يحترم عادات عزيز، ويمشي خلفه بصمت صوب الدكاكين. يتوقف عزيز قرب أول بسطة على الرصيف قدام دكان الكرامة، يتأمل أغراض البحر، إنها نفس الأغراض التي كان يراها في الزيارات السابقة، عقود وأساور مختلفة من أصداف البحر المختلفة الأحجام والأشكال والألوان، الزوارق الصغيرة المصنوعة من الخشب، وتلك الكبيرة أيضاً المشغولة بخبرة أهل البحر، أصداف من أحجام مختلفة، وخاصة تلك التي تبوح لك بأسرار البحر، والتي تأخذك أعماقه المجهولة. كما هناك أيضاً الإسفنج، وأشكاله الغريبة. كالعادة يبحث عزيز بين العقود والأساور عن شيء يليق بملكة، وهو يريد الابتعاد عن البسطة يلفت كريم انتباهه إلى عقد كان يبدو وكأنه يهرب من المشترين. يتناول عزيز العقد ويقلبه بين يديه بإعجاب، عقد مصنوع من أصداف البحر التي بلون أبيض وبني، وفي وسطه حجر بلون أعماق البحر، وكان يلمع وكأنه من عالم غريب. ينظر عزيز إلى كريم ويبتسم ابتسامة ود، إنها هدية تليق حقاً بملكة. يشتري عزيز العقد. يختار كريم صدفة كبيرة، يضعها على أذنه وتأخذه للحظات على عوالم ساحرة. ينتقل كريم إلى بسطة دكان آخر، يقلب الزوارق، يشتري زورقاً يبدو وكأنه يتأرجح فوق أمواج بحر هائج، إنه يغري بالرحيل في البحر والمغامرة. يقترب عزيز من البسطة، يقف قرب كريم، ويقول وقت يرى الزورق: ما زلت تحلم بالبحر؟
يقول كريم: إنه الحلم الذي لم يتلاش من أحلامي.
ثم يردف: وأنت لم تهجر شراء الهدايا؟
يقول عزيز: إنها من أجل المرأة التي أحلم أن تلتقي بي.
يقول كريم: امرأة الحلم؟
يقول عزيز: حوريتي.
يقول كريم: لا بد أن بيتك أصبح متحفاً؟
يقول عزيز: إنه متحف.
يقول كريم: ولكنك لا تملك الحورية.
يقول عزيز: تريحني فكرة أنني سوف أجدها، أو سوف تجدني في شارع ما في مدينة ما.
يقول كريم: ولكنك لا ترحل؟
يقول عزيز: لكن المدن ترحل، وقد تأتي مدينة جامحة بتلك الحورية إلى هذه المدينة الغارقة في الصمت.
يقول كريم: تعرف، أحياناً أشعر إنك تكره النساء.
يقول عزيز بحزن: ولماذا أكره النساء؟
يقول كريم: ولماذا لم تتزوج؟
يقول عزيز بحزن: ولماذا لم تتزوج أيضاً؟
يقول كريم: طيب، لنترك الزواج. أنا أعرف أكثر من امرأة حاولت اصطيادك وأنت هربت.
يقول عزيز: أكره المرأة الصيادة.
يقول كريم: وما الذي تحبه؟
يقول عزيز: لا شيء.
يقول كريم: كاره للجنس البشري.
يبتسم عزيز بأسى، ويردف كريم: أنت ربما أردت المطلق، ورفضت النسبي، حلمت بالمرأة وهربت من كل امرأة دخلت حياتك. كنت تطرد الآخرين من حياتك، لقد كنا أفضل صديقين، ثم طردتني من جنتك.
يقول عزيز: لو طردتك من جنتي لما كنت برفقتي في أرواد.
يقول كريم: أعترف لك أنني أحياناً لم أكن أفهمك.
يقول عزيز: أحياناً لم أكن أفهم نفسي.
يقول كريم: كل إنسان يمكن أن يغترب أحياناً عن نفسه بين وقت وآخر، لكن أنت كنت دائماً غريباً عن نفسك وعن الآخرين.
لم يحب عزيز أن يغوص في أعماق نفسه، وهرب إلى بسطة أخرى تعرض ملابس نسائية، ولا يعرف كيف وجد نفسه يقلب تلك الألبسة المستوردة، وأدهشته تلك الثياب الداخلية الناعمة والشفافة ذات الألوان المثيرة، وتصور حوريته تعرض تلك الثياب له وحده في غرفة من غرف ألف ليلة وليلة. يسحب كريم عزيز، وهو يقول: لن تشتري الثياب النسائية.
ثم يردف: لا بد أنك جائع.
يقول عزيز: إنني جائع.
يتجه الصديقان بصمت صوب المطعم البحري. يختار كريم طاولة قرب رصيف موقف الزوارق. يجلس عزيز وينظر إلى البحر، كانت المياه راكدة، ومزدحمة ببقايا الأطعمة الراقدة على سطح البحر، ويرى طيور البحر المحلقة تدور في دوائر ثم تنقض على سمكة تطلب طعاماً ثم تعود وتحلق. ثم يرى ولداً صغيراً يقفز إلى البحر، وتتموج المياه الراكدة، كان الخريف بارداً، لكن الولد لم يكن يهتم سوى بالسباحة في البحر، وكان يغوص إلى الأعماق ويخرج على آخر نفس. يقول كريم: ما زلت تحب النبيذ البيض المز؟
يبتسم عزيز، ويقول: وما زلت تريد أن تسكرني؟
يقول كريم وهو يبتسم أيضاً: سوف أظل أحاول، من يعرف قد أنجح ذات يوم.
يقول عزيز: ولماذا تريد أن تسكرني؟
يقول عزيز: حتى أعرف ماذا تخفي في داخلك.
يقول عزيز: في داخلي، كما في داخل كل إنسان، ملائكة وشياطين.
يقول كريم: أود لو عرفت أحد شياطينك.
يقول عزيز: ما في الداخل عليه أن يبقى في الداخل.
يبتسم عزيز بحزن ويردف: لكن تعرف، ربما أنا بحاجة إلى كأس من النبيذ الأبيض المز.
يقول كريم: أنت لا تعرف أنني أصبحت من مدمني النبيذ الأبيض المز.
يقول عزيز: لم تكن تحبه.
يقول كريم: لم أحبه وقتها، ثم تعودت عليه حتى الإدمان.
يقول عزيز: منذ زمن طويل تركت شرب الخمر.
يقول كريم: سوف تشرب احتفالاً بهذه المناسبة، من زمان لم نلتق.
يقول عزيز: سوف أشرب، لكن لن أدعك تفجر شياطيني.
يقول كريم: لو تكتمل الشلة.
يقول عزيز: أنت ترى أن أحجار الماضي تنهار.
يقول كريم: إنها تنهار، ولكن ألن يعاد البناء من جديد؟
يقول عزيز: قد تكون نفس الأحجار، ولكن البناء سوف يكون مختلفاً.
يقول كريم: ألن تشارك في البناء؟
يقول عزيز: نحن لن نعيد بناء الماضي، من عليه البناء هو الجيل الذي هدم تلك الأحجار، هو وحده يعرف كيف يشكلها من جديد.
يقول كريم: لكن الجيل بلا رؤية؟
يقول عزيز: لقد اكتسب الرؤية في خضم معركة الهدم، على الأقل أصبح يعرف ما لا يريد.
يقول كريم: أعرف أنك اعتزلت الحياة من زمان.
يقول عزيز: الحياة هي التي اعتزلتني.
كانت أطباق الطعام قد بدأت توضع على الطاولة، وكان عامل المطعم يحضر الغداء طبقاً بعد الآخر: صحن السمك المشوي، صحن الحمص الناعم، صحن الباذنجان المتبل، صحن البطاطا المقلية، صحن متبل الفليفلة الحمراء الحرة، صحن الصلاطة الكبير المزدحم بأنواع مختلفة من الخضار، كل نوع من الخضار لوحده، الخيار والبندورة والملفوف والخس والهندباء البرية. ثم أحضرت زجاجة النبيذ الأبيض المز والكؤوس الكروية الشكل، والمزينة بأوراق البنفسج. يقول عزيز بحزن: تعرف، أعتقد إنني نسيت متع الحياة.
يقول كريم: سوف تعود متع الحياة.
وكأن جوع العالم كان يسكن داخل عزيز، وكان الطعام طيباً حقاً، لا يذكر عزيز أنه أكل طعاماً يجعل الشهية متفجرة منذ زمن طويل. والنبيذ الأبيض المز جعل عزيز يبدو وكأنه يسترجع الحياة، حياة الشلة في الجامعة. لكن عزيز أجبر نفسه على مغادرة الماضي، طول عمره عزيز يحاول أن يهرب من الماضي، لكن كريم من ذلك الماضي، وللحظة يداهمه حزن وغضب من نفسه. ولكنه يتمتم: من ترى من الأصحاب؟
يقول كريم: إنني أرى حليم، وأحياناً أرى وديعة.
يقول عزيز: وكيف هي وديعة؟
يقول كريم: ما تزال كما عرفتها، وديعة.
يقول عزيز: بقيت لوقت طويل أتابع أخبارها، ثم وقت تزوجت أجبرت نفسي على النسيان.
يقول كريم: ولم تنس؟
يقول عزيز: أعترف لك، لم أنس.
يقول كريم: يمكن أن نزورها.
يقول عزيز: لا أعرف. أعتقد أنه سوف يكون قاسياً أن نفتح الجروح القديمة.
يقول كريم: الزمن يشفي الجروح القديمة.
يقول عزيز بحزن: إنه يفتح الجروح القديمة.
يقول كريم: وظلت وديعة المرأة الحلم؟
يقول عزيز: لا، لم تعد امرأة الحلم. إنه شيء غريب لا أعرف كيف أفسره، لعلها لعنة الحب الأول التي تلاحقك كعيد رغم أنك هجرت الأعياد.
يقول كريم: أعتقد أنني أفهمك.
ثم يضحك ويردف: إنني أعرف لعنة الحب الأول. وربما لا تعرف أن حبي الأول كان ابنة الجيران. إنه حب المراهق الذي عندما تتفتح عواطفه يرى ابنة الجيران في وجهه ويحبها الحب الكبير. ورغم أن ابنة الجيران التي أحببتها، وأعتقد أنها لم تعرف بحبي، فقد كنت أحبها من بعيد وكأنها نجمة رغم أنها لم تكن جميلة. في الشارع كنت أنتظرها وأراقبها وهي راجعة من المدرسة وأرافقها حتى البيت. لكنها ما تزال ترافقني أيضاً كعيد، وأحياناً أجد نفسي وقت تقتحم فكري في أوقات متباعدة أعيش حالة من الكآبة.
يقول عزيز: من الأشياء التي لا تنسى أبداً الحب الأول.
كان النبيذ الأبيض المز قد أحتل عقل كريم، وبدأت أعصابه تتراخى، وتحرر من كل القيود التي فرضها على نفسه، ويجد نفسه يقول: هناك صديقة، امرأة تعرفت عليها، وهي امرأة مطلقة، موظفة، لطيفة جداً وجميلة جداً.
يقول عزيز: هذه امرأة جديرة بالزواج؟
يقول كريم: أعتقد، ولكنها ترفض الزواج. وأعتقد أيضاً إنها في غاية الرضى عن نفسها.
يقول عزيز بحزن: شيء طيب أن يكون الإنسان في غاية الرضى عن نفسه.
ثم يردف: وهل أنت الوحيد في حياتها؟
يقول كريم بحزن: نحن أصدقاء، وأعتقد أن هناك أصدقاء آخرين في حياتها لأنها ترفض استقبالي بلا موعد. لكنني أرغب جداً أن أكون الوحيد في حياتها، حتى إنني حاولت أن أغير رأيها بالزواج بلا جدوى.
يقول عزيز: طلبت منها الزواج؟
يقول كريم: أخاف أن أتكلم عن زواجنا، لكننا نتكلم عن الزواج أحياناً.
يقول كريم: هل كان زوجها شيطاناً؟
يقول كريم: لم تشك أبداً من زوجها، ولم تتكلم أبداً عن حياتها الزوجية.
يصمت كريم ثم يردف: في ليل تركتني وحدي في غرفة النوم ودخلت إلى الحمام. لم أعرف ماذا أفعل في انتظارها، ورحت أبحث عن مجلة أتسلى بها، وعلى الطاولة وجدت مفكرة. أخيراً تغلب الفضول وتناولت المفكرة وكانت يوميات. وحين خرجت من الحمام وجدتني أقرأ اليوميات، لم تغضب، ولم تتكلم، أخذت المفكرة ووضعتها في درج الطاولة وأقفلت عليها.
يقول عزيز: كانت تكتب حياتها؟
يقول كريم: الذي عرفته من اليوميات أنها لم تعد ترغب بالحياة الزوجية لأنها أصبحت مثل كابوس دائم. لقد كانت فتاة حالمة وقت تزوجت، وكان زوجها رجلاً جميلاً عطوفاً وكريماً ويتكلم عن حرية المرأة وحقوق الإنسان والمستقبل والحب، كانت أفكاره تتدفق كنبع، وكان يجلو أية فكرة غامضة، وفي الحب قرأ لها يوماً عشرين قصيدة حب وأغنية يائسة، لقد كان يأخذها إلى عوالم تحلم بالرحيل إليها. لكنه بعد الزواج جفت عواطفه وأفكاره ولم يعد يقرأ حتى بيتاً واحداً من الشعر في قصيدة حب، ولم يبق غير الأغنية اليائسة. ثم ظهرت الضفة الأخرى المظلمة، وظهر أنه رجل كلمات، لكنها لم تهتم فقد فتح لها عالماً آخر أدهشها، عالم الجنس. كان في عطش دائم للجنس، ولكن ليس بالجنس وحده يعيش الإنسان. ثم أصبحت تتألم، وأصبحت باردة، وتحول الحب إلى اغتصاب يومي، وكان لا بد من الافتراق.
يقول عزيز: أنت لا تفكر، هذه المرأة تحبك، وهي تركتك مع يومياتها حتى تعرف أنها تبحث عن إنسان.
يقول كريم: لا أعرف.
يقول عزيز: لقد عرفت.
يقول كريم: إنها مرتاحة في حياتها. وأقول لك، إن علاقتنا أصبحت وطيدة، وكثيراً في أوقات حزنها تطلب أن أحضر مع زجاجة نبيذ أحمر، إنها ليست سهرات عذاب وألم وشكوى، إنها سهرات صمت، نقرأ الكتب، وأصبحت أهديها الكتب، نتفرج على فيلم يقتبس رواية اعجبت بها في التلفزيون أو في الفيديو، ونقلب المحطات الفضائية أكثر الأحيان بحثاً عن برامج غريبة، وخاصة الرحلات التي تشبه رحلات السندباد.
يقول عزيز: الحياة تغيرت، ولكن الإنسان لم يتغير، ربما هي خائفة أن يكون الرجال كلهم مجرد كلمات زائفة، وعليك ألا تتركها تضيع منك.
يقول كريم: لا أعرف. وأقول لك الحق، إنني خائف من الزواج. ألن تخرج شياطيني إذا تزوجت منها، سوف تدمرني الشكوك وسوف تدمرها أيضاً.
يقول عزيز: أنت سعيد بحياتك؟
يقول كريم: السعادة كلمة كبيرة، ولكنني لست تعيساً.
يقول عزيز: تعرف، أحياناً ألوم نفسي على أشياء جميلة في الحياة حرمت نفسي منها ويمكن أن تكسبني السعادة، ومنها الأكل في المطاعم. تصور من أحلامي أن أجلس في مطعم وأتناول الطعام كما يحدث اليوم.
يقول كريم: ما زلت وحليم نعيش حياة العادة.
يقول عزيز: أشعر إننا كبرت على الحياة.
يقول كريم: لا أحد يكبر على الحياة.
يقول عزيز: لقد طلبت حياة على هامش مدينة كهذه المدينة البحرية دون أن يداهمني الرعب في كل زقاق وشارع ومقهى.
يقول كريم: كيف وجدت نفسك في المتاهة؟
يقول عزيز: إنها حكاية طويلة وأليمة.
يقول كريم: ما زال الوقت قدامك، ويمكن أن تعيش الحياة التي تستحق أن تعاش.
يقول عزيز: كنا نتحدث كثيراً عن المستقبل.
يقول كريم: وما زال المستقبل هو ما يحركنا.
يقول عزيز: لا أريد أن أرجعك إلى التاريخ، لكن وكأن لا شيء في الأعماق يتغير، ما يتغير هو الأشكال لكن الجوهر يبقى هو نفسه. انظر لقد استيقظ أهل الكهف أخيراً وهدموا الكهف، لكن ماذا جرى ولقد تم بناء كهف آخر أكثر ظلمة.
ويقول كريم: لا أعتقد أنه علينا أن نجعل من تلك الحياة الراكدة التي توارثناها جيلاً بعد جيل والتي فرضت علينا، والتي تفرض علينا قدراً، وأعتقد أيضاً أن تلك القوة التي في انفجرت في داخلنا كما ينفجر البركان لن تخمد نارها أبداً.
ويقول كريم أيضاً: لقد خلقنا الإرادة، كما خلقنا الأمل، ومن يملك الإرادة والأمل يفتح أبواب المستقبل.
وكما هي عادته حين يجد عزيز نفسه يبتعد عن الجدار يلجأ إلى الصمت. يفكر في نفسه أن كريم ما يزال أسير الشعارات. ويحاول أن ينشغل بالطعام، من زمان لم يرغب بالطعام كما يرغب به في مطعم في أرواد، كأنها الحياة تسري في جسده وروحه. وقت ينتهي عزيز من الطعام، ينتقلان إلى طاولة أخرى. طاولة قرب صياد عجوز يصلح شبكة عتيقة. يرى عزيز أكثر من شبكة، شبكة تتداخل في شبكة، كومة من الشباك، ويرى أماكن متفرقة من الشبكة العتيقة التي في حضن الصياد العجوز ممزقة، وكان الصياد العجوز يعيد نسج الخيوط بصبر عنكبوت عجوز. يرى عزيز امرأة شابة ممتلئة الجسم تبحث عن طاولة، كانت برفقة رجل عجوز، وكان الرجل العجوز يتبعها أينما توجهت. يرعى عزيز جسد المرأة التي كانت تضاريسه تكاد تتفجر في الثياب الضيقة، كان بنطلون الجينز الضيق يضغط مؤخرتها، وكان الحزام العريض يحيط بها يبدو وكأنه حزام عفة، وكانت تجهد في سحب كنزتها القطنية حتى تغطي ما يظهر من بطنها الذي يندلق فوق حزام العفة. وترى المرأة عزيز يحدق بذلك الشيء الذي يريد أن ينطلق من حزام العفة. تبتسم المرأة، وكانت قسمات وجهها لطيفة وكأنها قسمات وجه طفلة كبرت في غفلة من الزمن، ثم تجلس على الكرسي بعد أن تعطي عزيز مؤخرتها الضخمة، ووجهها صوب البحر. وكانت المرأة بين وقت وآخر تلتفت صوب عزيز وعلى وجهها ابتسامة لطيفة مثل وجهها ويرتج الثديان، ويبدو عزيز مثل مراهق وهو يحدق بالثديين وكأنها موجتين. يفكر عزيز في نفسه لا بد أنها تقضي وقتاً طويلاً قدام المرآة حتى تبرز مفاتنها المتفجرة. يحضر عامل المطعم فنجاني قهوة. تطلب المرأة سمكة حارة. يهرب عزيز من ذلك الجسد حتى لا ينفجر جسده. يتابع زورقاً يتجه إلى البور، كان الزورق مزدحماً بالركاب. يقول كريم: ماذا تعمل هذه الأيام؟
يقول عزيز: لا شيء، إلا إذا كنت تعتقد أن الجلوس في المقهى ومراقبة البحر عملاً. ومن زمان عرفت إنه لا جدوى من الكلام، وعرفت أكثر إنه لا جدوى من العمل.
يقول كريم: علينا أن نعمل وخاصة أن ساعة الحقيقة دقت.
يقول عزيز: أعتقد أن الساعة توقفت.
يقول كريم: كأنك تعيش في عالم آخر.
يقول عزيز: يبدو إنني امتلكت طاقة الإخفاء، إنها ما يجعل حياتي تمضي بلا عواصف.
يقول كريم: وهل تعتقد أن الخوف لم يتملكني، ربما تملكني أكثر مما تملكك، لكن الزمن لا يتوقف عند خوفك وخوفي. أنت تعرف إننا من جيل ظل طول عمره يحلم بالحرية، ثم تجده وقت أزهرت تلك الحرية يهرب منها، ولقد وجدت نفسي صغيراً أمام هؤلاء الذين خرجوا من العدم وتخطوا خوفهم.
ويرى كريم حزناً في عيني عزيز الرماديتين، وتهرب نظراته إلى البحر، ويفكر عزيز أنه في صمته كان من هؤلاء الذي أرعبتهم حلمهم الذي يزهر في الشوارع. يبتسم كريم ويردف: لست أقصدك، لا أقصدك، وأنا لست أفضل منك. أنت تعرف عمن أتكلم.
وفجأة تشق فضاء البحر أصوات رعب، وينظر عزيز صوب الأصوات التي غلفها الرعب ويرى الزورق يغرق، كانت مقدمة الزورق تغوص في البحر، وكان الركاب يتدافعون صوب مؤخرة الزورق بانتظار زورق يقوده صياد عجوز. وكان هناك صيادون شباب قد رموا أنفسهم في البحر صوب بعض الركاب الذين هربوا إلى البحر، وحاول بعض منهم أيضاً مساعدة النساء والأطفال للصعود إلى الزورق الآخر.
يقول كريم بأسى وغضب: إنه زورق عتيق، كيف سمحوا له بالعمل؟
يقول عزيز: من يعرف.
ويسمع عزيز صوت المرأة: حرام.
ويلتهم عزيز وجه المرأة الذي يشبه وجه طفلة، وكان وجهاً حزيناً وكانت عيناها تزدحمان بالدموع وكأن المرأة كانت تبكي بصمت. وكان الرجل الذي برفقتها يتفرج ببرود على الزورق الذي يغيب بتثاقل في البحر. يقول كريم: من حسن حظهم أن الزورق لم يغرق في قلب البحر.
يقول عزيز: علينا أن نرجع.
وينهض عن الكرسي، ويبحث بعينيه الرماديتين عن عامل المطعم. يقول كريم: الحساب واصل.
يقول عزيز: كيف؟
يقول كريم وهو يبتسم: وأنت لن تهرب من دعوتي لغداء آخر؟
يقول عزيز: أنت تعرف أنني لن أهرب.
يتجه عزيز صوب رصيف الزوارق. يقلب بعينيه الرماديتين الزوارق: هذا صغير، هذا عتيق، هذا مهترئ. يبتسم كريم ويقول: أنت خائف؟
يقول عزيز: ولماذا لا أخاف؟
ويشير إلى الزورق أرعب عزيز الغارق، ويقول: وهذا الزورق؟
يقول الولد الصغير: كان بالصيانة.
يقول كريم: لا شيء يخيف، أنت تعرف السباحة وأنا كذلك، ولقد سبحنا كثيراً مع أولاد حارة البحر من الشاطئ حتى أرواد.
يقول عزيز: ولكن، أنت رأيت الزورق يغرق؟
يقول كريم: لن يغرق كل زورق.
يصعد عزيز إلى الزورق ويجلس تحت المظلة الخشبية. يجلس كريم قربه، وينظر إلى البحر. طيور البحر كانت تتموج في فضاء رمادي وشاحب. ويبدو أنه بعد حادثة غرق الزورق لم يعد أحد يرغب بمغادرة الجزيرة، وكما جاء عزيز وكريم وحدهما على زورق إلى الجزيرة غادراها وحدهما أيضاً على زورق آخر. ولكن عزيز لم يجلس في مقدمة الزورق، كان تحت الشمسية الخشبية يفكر في نفسه أنه عاش الحياة ليس كحلم رغم أنه لم يكف أبداً عن الأحلام. لقد كان يملك أحلام صديقه الفارس الحزين ولكنه لم يكن يملك إرادته في مجابهة العالم. وكان يتكلم كثيراً عن " قوى خفية " تدفعه حتى يصبح روحاً تائهة، وما يزعجه أن تلك " القوى الخفية " أصبحت في داخله مع الوقت. لقد أصبح عزيز يسخر من نفسه وقت يستخدم مفاهيم غامضة مثل " قوى خفية "، كأن الشياطين لا عمل لها إلا تحطيمه. ورغم أن عزيز لم يقدر أن يملك إرادة الفارس الحزين، لكنه وجد نفسه على مفترق الطرق " أن يكون أو لا يكون "، وأنه حان الوقت أخيراً حتى يكون، ولكن لا جدوى، لا جدوى. ينظر عزيز إلى البحر، كان يركض مبتعداً عن الزورق، وكانت الرياح قد بدأت تعصف، والأمواج صارت تهدر، وكان القارب يتأرجح على الأمواج في طريقه صوب الشاطئ. كريم كان يتفرج أيضاً على البحر، لا شيء يظهر من أعماق البحر، كانت مثل هذه المغامرة في البحر تسعده دائماً وكأنه يعيش حكاية من حكايات السندباد البحري، تلك الحكايات التي أسعدته أيام الطفولة. لقد كان عزيز في أيام الشتاء العاصفة، وقت يركب الزورق إلى أرواد، يمتحن العيش معلقاً بين الموت والحياة، تلك الحالة الغريبة كان البحر الهائج يجعله يعيشها، مرة يداهمه الموت ومرة أخرى تداهمه الحياة. عزيز كان يفكر بالزورق وهل سيصمد في مواجهة البحر الهائج حتى الشاطئ.
لم يسبق أن تحققت أمنية من أمنيات عزيز، وحين يسال عزيز نفسه عن أمنيته لا يجد غير الحياة العادية كحياة أي إنسان عادي، لكنه لا يعرف كيف يحصل على تلك الحياة العادية. يعتقد عزيز إن العطب في داخله، أن مصير أمنيته في تلك الحياة العادية ليست عند الآخرين، عليه أن يقاتل من أجل نفسه. والزورق يتأرجح فوق أمواج البحر، موجة الموت وموجة الحياة، ويتمنى عزيز، وهو يتقلب بين الموجتين، أن تدخل حياته امرأة مثل امرأة صديقة كريم. وكريم كان يقلب مشاعره حول صديقته، ويتساءل في نفسه: هل تحبه حقاً. ولكنه يسال نفسه: هل أحبها حقاً، هل أقدر أن أتزوجها حقاً. إنه وقت يكاد الشوق يقتله إلى روحها وجسدها لا يجد غير الزواج طريقاً إلى العيش في بيت واحد. ما يزعج كريم إنه لم يعد يرى للحياة معنى وهو بعيد عنها، لم يعد يقدر أن يعيش في دوامة أنه عابر في حياتها، لكنه أيضاً، في أعماقه، لن يتحمل أن تكون زوجته. يقول عزيز: ما بك؟
يقول كريم: ماذا؟
يقول عزيز: وقفت وكأن جنياً ركبك؟
يقول كريم: أفكاري تؤلمني.
يقول عزيز: لا تفكر.
يقول كريم: ما أفكر فيه يحطمني.
يقول عزيز: بماذا تفكر؟
يقول كريم: لا شيء.
يقول عزيز: كلنا نفكر بلا شيء ما، وربما هنا تكمن مأساتنا.
يقول كريم: كأنني على مفترق طريق، إنني أعرف كل الطرقات، ولكنني لا أقدر أن أختار طريقي.
يقول عزيز: أعرف مأساتك لأنها بشكل ما مأساتي.
يقول كريم: وسوف نبقى على مفترق الطرق؟
يقول عزيز: يبدو ذلك.
يقول كريم: وهل أنت مرتاح في مفترق طرقك؟
يقول عزيز: أعتقد أنني لن أرتاح أبداً، وحتى لو وجدت طريقي فأعتقد أنني لن أرتاح أيضاً.
يقول كريم: والحيرة جحيم أيضاً.
يقول عزيز: لكل منا مأساته الخاصة، كأننا ندور حول كومتي القش.
يقول كريم: لكن الآخرين اختاروا طريقهم؟
يقول عزيز: إنهم جيل آخر، جيل يؤمن أنه في البدء كان العمل، ونحن جيل نؤمن أنه في البدء كانت الكلمة. مأساتنا الحقيقية أننا لا نقدر أن نعمل، ووجدنا أنفسنا لا نقدر حتى على الكلمة.
يصمت كريم، يتنهد بأسى ثم يقول: أقدر أن أخلق مدناً فاضلة بالأفكار، لكني أعجز عن القيام بعمل فاضل.
يقول عزيز: ما هو العمل الفاضل الذي يعذبك؟
يقول كريم: الزواج.
يقول عزيز: أنت تحبها؟
يقول كريم: أحبها.
يقول عزيز: لا أعرف ماذا أقول، إن الخراب في داخلي، وأعتقد إنني حيثما رحلت سوف أجد ذلك الخراب ينتظرني. لكنك يمكن أن تعيش حياة أخرى في مكان آخر.
ويفكر كريم في نفسه: أعتقد أنني لم أعد أعرف نفسي أنا أيضاً، لكل منا جحيمه، وما يزعجني أن الجحيم في داخلي أنا أيضاً، وفي داخلي الخلاص أيضاً.
كان الزورق يتأرجح فوق الأمواج، وكان يلف حتى يدخل البور. تهادى الزورق حتى رصيف الزوارق. غادر كريم الزورق إلى الرصيف، ولحقه عزيز. كان كل منهما يشعر بوجع في ظهره، كان ظهر عزيز يؤلمه، إنه الديسك. يقول كريم: أين تذهب؟
يقول عزيز: إلى البيت.
يقول كريم: وماذا ينتظرك في البيت؟
يقول عزيز: لا شيء، عادات مهترئة تحطم الأعصاب.
يقول كريم: في البيت أقتل الوقت، وعلى التلفزيون أتابع الأخبار، وأعتقد أن ذلك الانهيار المتتابع معركة جعلت شريعة الغابة تتحكم في الدولة والمجتمع. ثم أصبحت منذ زمن قصير أبحث في المجلات العتيقة والكتب التي تراكم فوقها الغبار عن ذلك التاريخ الذي صنع بالدين والدولة، وأخيراً لم أعد أقدر على القراءة.
يقول عزيز: ما يزعجني إنني لم أعد أقدر على شراء الكتب الحديثة.
ثم يردف: ما أخبار صديقنا عمران، لم أره منذ سنوات طويلة، ولا أعرف لماذا ابتعد عني.
يقول كريم: كنت أراه وقت يحضر إلى المدينة، ولكنه هجر المدينة من زمان.
يقول عزيز: وكيف أحواله؟
يقول كريم: يعيش.
يقول عزيز: أليس الأفضل أن يغادر تلك المدينة العتيقة المحاصرة؟
يقول كريم: يقول إنه سوف يبقى في منزله في تلك المدينة العتيقة، وما يحصل لها يحصل له.
ينظر عزيز إلى مقهى البحر، كان المقهى كعادته مزدحماً بسكانه، وظهرت حلقات الدخان تتموج مثل الغيوم. يقول كريم: ما رأيك أن نزور وديعة؟
يقول عزيز: لا أعرف.
ثم يردف: هل من الصواب زيارتها؟
يقول كريم: أعتقد إنها وزوجها اجتازا عقبات كثيرة وأصبحا يعيشان في توافق. وأقول لك أنه كان يشك أن هناك علاقة غرامية خاصة في حياتها، وأخذه الشك صوبي، كان يعتقد أنه تربطني علاقة غرامية بوديعة قبل الزواج، وكان يبدو منزعجاً وقت أزورها، وكنت أزورها بعد صراع معها فلم أكن أرغب أن أعقد حياتها، ولكنها عرفت كيف تروض الوحش.
يقول عزيز: وهل زوجها وحش؟
يبتسم كريم ويقول: إنه في النهاية رجل شرقي، رجل شرقي مثلنا.
يقول عزيز: لا أعرف.
يقول كريم: ربما حان وقت العمل.
يقول عزيز: أليس الأفضل أن نأخذ رأيها؟
يقول كريم: طيب.
يتناول كريم هاتفه الخليوي من بيته الجلدي. يبحث عن رقم وديعة، يتصل ويستمع إلى أغنية فيروز " سوا ربينا "، ثم يبتعد خطوات عن عزيز. يتكلم كريم بصوت خافت، وكأنه لا يريد أن يسمع عزيز ما يقول. ثم وقت تنتهي المكالمة يقترب من عزيز ويقول: إنها تنتظرنا.
يقول عزيز: أعرف أنك بارع في تركيب المقالب.
يقول كريم: لا مجال للمزاح في هذه الأمور.
يقول عزيز: حقاً، ليس مقلباً؟
يقول كريم: حقاً، لست أمزح. ولقد تخليت عن تلك العادات، فقد وضعتني في مواقف غريبة محرجة في أحيان كثيرة.
يقول عزيز: لا أصدق أنك تغيرت، ما زلت ذلك الذي يبتلع شياطينه ويمضي.
يقول عزيز: ما زلت أبتلع شياطيني وأمضي، وأريدك أن تعرف إن عادتي تلك أنقذتني من متاهات غريبة.
مشى كريم، تبعه عزيز على طلعة الطاحونة القديمة. كانت الطاحونة التي جددت من سنوات قليلة قد تآكلت مرة أخرى، وكانت تبدو وكأن الفارس الحزين هاجمها هي الأخرى. في الطريق كان يطرق سمع عزيز كلام التجار قدام محلاتهم عن ندرة المواد، والطرقات المقطوعة، وغلاء المواد المهربة. وكانت صور الشهداء تزدحم على حيطان تلك المحلات، وأحياناً كانا يمران بمحل في داخله رجل مسمر على التلفزيون. لكن كل شيء كان هادئاً في تلك المدينة الصغيرة، وكانت السيارات مزدحمة في الطرقات. ينعطف كريم إلى محل لبيع الخمور، من مظهره كان يبدو من عمر المدينة وكانت الرفوف مزدحمة بأنواع مختلفة من الخمور. يدخل عزيز إلى محل الخمور ويقلب الخمور بعينيه الرماديتين. يشتري كريم زجاجة نبيذ أحمر معتقة، ويقول: تحب النبيذ الأحمر.
يقول عزيز: والزوج؟
يقول كريم: أيضاً يحب النبيذ الأحمر.
ثم يردف: وماذا سوف نشرب؟
يقول عزيز: القهوة.
يتجه كريم صوب بيت وديعة، ينظر عزيز في الطريق إلى المحلات التي ترتدي ثياباً جميلة، تواجهه لوحة محلات بكداش للبوظة. يبتسم، ويرى كريم ابتسامته، ويقول: لماذا تبتسم؟
يقول عزيز: تذكرت تناولنا البوظة في محلات بكداش في الحميدية، كنت دائماً تخرج بملعقة صغيرة مختلفة حتى أصبحت الغرفة متحفاً للملاعق الصغيرة.
يقول كريم: أنت لم تعرف لماذا توقفت. لقد كان يعرف بعادتي تلك، وذات يوم لم أسرق ملعقة لأنني لم أجد ملعقة لها شكل مختلف، ولكنه تبعني حتى الباب وناولني ملعقة وهو يقول لقد نسيت ملعقتك.
ثم يردف: هل تعرف أنني ما زلت أحتفظ بتلك الملاعق؟
يقول عزيز: ذكريات؟
ويفكر عزيز في نفسه أنه أصبح يرتعب من الذكريات، لقد حاول كثيراً أن يحطم ذاكرته بلا جدوى، فالذكريات لم تتوقف أبداً عن نهش عقله كحيوان بري. يقول كريم: إنها رائعة.
ينظر عزيز ويرى امرأة رائعة حقاً، جسد يظهر تضاريسه بفرح، يردف كريم: سعيد الحظ من يحتل قلبها.
يقول عزيز: كن أنت.
يبتسم كريم ويقول: انظر إليها، إنها فرس برية، وتحتاج إلى ترويض.
يقول عزيز: ولكنك كنت تقتحم النار.
يقول كريم: تلك الأيام مضت.
ويتابع الصديقان طريقهما إلى بيت بديعة بصمت. كان البيت في حي القصور، وقدام باب البيت يقف كريم ويضغط على الجرس الكهربائي. يفتح الباب ويطل وجه وديعة. تفسح وديعة طريقاً لكريم، وتلتهم وديعة وجه عزيز. تظهر ابتسامة مريحة على وجه وديعة المتعب: كان هذا الوجه جزءاً من حياتها ذات يوم. لكن الأيام والأحوال باعدت بينهما، وغرق عزيز في وحدة قاتلة. تفتح وديعة النوافذ وهي تفكر في نفسها: كم أنها انتظرت هذه اللحظة، وتشعر إنها لحظة غريبة. تقول وديعة: أعرف أنك قليل الأصل، هل هانت عليك عشرة الماضي حتى تعاملني كغريبة؟
يقول عزيز: كنت غريباً حتى عن نفسي.
تقول وديعة: ووجدت نفسك؟
يقول عزيز: لا أعتقد.
يقول كريم: إنه يحاول.
تقول وديعة: كأنه سيزيف؟
يقول كريم ضاحكاً: سوف يحاول أن يصبح دون كيشوت.
تقول وديعة: إنني تعبة، وكأنه كريب.
كانت وديعة ترتدي ثياب البيت، جلابية بلون السماء مزدحمة بالأزهار، ألوان مختلفة ومشبعة بالنور. تفتح وديعة الستائر، وتغمر أشعة الشمس الصالون، وفي فضاء النافذة يرى عزيز شجرة تتأرجح أوراقها من موجات الرياح. كانت أوراق الشجرة كثيفة ونظيفة من الأمطار، وكانت غيوم رمادية تسبح في السماء. يجلس عزيز على ديفون جديد، ويفكر في نفسه: كأنها جددت البيت. يجلس كريم قربه على الديفون. وديعة صامتة، في داخلها شعور داهمها وأزعجها، كانت قد بدأت تعتاد حياتها، ولكن وجود عزيز جعلها قلقة: إنها لعنة الحب الأول. تذهب وديعة إلى ستريو في زاوية الصالون، ثم بعد وقت قصير بدأت فيروز تغني: ما زالت تحب فيروز. عزيز أصبح من زمن طويل يرتاح للأغاني العراقية، حزنها يتآلف مع حزنه. تقول وديعة: ربما يريحني كأس من النبيذ. هل ما زلت تحب النبيذ الأبيض المز؟
يقول عزيز: أحاول ألا أشرب.
تقول وديعة: لماذا؟
يقول عزيز: أخاف أن أفقد السيطرة على نفسي.
ثم يردف بحزن: في أعماقي جحيم.
تقول وديعة: لن يخرج جحيمك كأس صغير.
يقول كريم: ولا كأس كبير، لكنه الخوف، الخوف أن يخرج ما بداخله.
تقول وديعة: أعرف أنك كنت تحترق.
يقول عزيز: ما زالت حياتي.
تحضر كريمة كؤوس النبيذ. يصب كريم النبيذ في الكؤوس. يتناول عزيز كأساً ويشرب رشفة. تقول وديعة: ما زلت لا تعرف أن تجد راحتك؟
يقول عزيز: أجل.
تقول وديعة: لماذا لم ترتم في حضن الدين، كثيرون يجدون فيه راحتهم.
يقول عزيز: لم أبتعد عن الدين أبداً، أنت تعرفين أنني كنت أصلي في صغري.
ويفكر عزيز في نفسه: كانت وديعة تروي أحياناً حكايات من حياتها وحكايات الآخرين، لكنها في أكثر الأحيان كانت تحكي حكاياتها من الكتب. حكايات جعلت وديعة، وهي التي كانت كتب الجامعة تجعلها تتثاءب، تبدو وكأنها مكتبة متنقلة. يقول عزيز بحزن: هل هجرت الكتب؟
تقول وديعة: حليم يملك مكتبة محترمة.
يقول عزيز: ما حكايته؟
تقول وديعة: إنه مغرم بتاريخ هذه المدينة، ويحاول أن يكتب رواية عن المدينة بطلها صياد عجوز.
في غرفة المكتبة يغرق عزيز في بحر من الكتب، يفكر عزيز في نفسه لا بد أن حليم مغرم حقاً بالكتب. يقلب صفحات كتاب " خفايا ما بعد الحداثة ". يحدق عزيز في صورة حليم مع وديعة على جدار بارد، إنه رجل عادي لا شيء يميزه سوى لحية قصيرة لا تكاد ترى. يفكر عزيز أن عقل وديعة انفتح على الحياة بعد أن انفتح على الكتب، لكن عقله لم يتجاوز الكتب بعد. إنه صامت، ربما هو صمت البحر، صمت بركان لا يعرف غير الله متى ينفجر. يفكر عزيز في نفسه إنه يتعذب، إنه يحب وديعة ولكنه يتعذب، وربما هي تعذبه من حيث لا تدري. ويفكر عزيز في نفسه: هل يعذبه جسده أيضاً. كلنا يعذبنا الجسد، كما تعذبنا الروح، كما يعذبنا القلب، وكما تعذبنا الإرادة. إن وديعة تبدو وكأنها خلقت من جديد، لكن مأساة حليم، وكل رجل متزوج، ألا تدور زوجته في فلكه. في البدء كان الجسد، ومع الجسد كان الجنس. وينتفض عزيز ويهدر في داخله: آه، بماذا أفكر؟!
ثم يردف: كيف الوالد؟
تقول وديعة: توفي منذ حوالي السنة.
يداهم عزيز حزن عميق، ويقول: كيف؟
تقول وديعة: كان مريضاً، ثم جاءت أمراض الشيخوخة.
ثم تردف: كان يسأل عنك دائماً.
يفكر عزيز في نفسه أنه كان من أنبل الأرواح التي يمكن أن يصادفها إنسان. رجل كأنه الكرم، لا تفارق الابتسامة وجهه الممتلئ بالمحبة والرحمة، حتى يمكن أن تقول وجه ملاك، إنه قديس. ويقول عزيز: وأكثر ما أسرني فيه هو تسامحه، ورغم تدينه لم يكن متعصباً، ولم يكن يتخذ موقفاً دون أن يفهم الشخص الآخر. إنه يحترم الرأي الآخر ولو كان مخالفاً لرأيه.
يقول كريم: مثل فولتير؟
يقول عزيز: لا ليس مثل فولتير، لن يموت من أجل رأيك ولن يدافع عنه ولكنك لن تصبح عدوه.
يقول كريم: لماذا ابتعدنا عن بعضنا، هل تذكر لماذا؟
يقول عزيز: كانت راحتي في الوحدة.
تقول وديعة: لنترك القبور مغلقة.
ثم تسأل عزيز: ماذا تعمل هذه الأيام؟
يقول عزيز: لقد تقاعدت مبكراً، وأحاول أن أكتب أفكاراً عن الحياة التي عشتها.
يقول كريم وهو يضحك: وهل عشت حياة؟
تقول وديعة منزعجة: أحياناً أنت لا تطاق.
ثم تسأل عزيز: هل الحب من تلك الأفكار؟
يقول عزيز: لا بد أن تقبض عليه فكرة.
تقول وديعة: عليك أن تقبض عليه أنت.
ينظر عزيز إلى وجه وديعة، لرؤية لحظة واحدة من وجه وديعة، كان عزيز يحب كثيراً حزن وديعة الذي يشبه حزن البحار الموحشة، كان عزيز يأمل أن يجد في عيني وديعة الرماديتين الصغيرتين ذلك الحزن وينزعج وقت لا يجد حزناً، لا شيء في العينين الرماديتين سوى طيور بحر تتموج بلطف. في وجه وديعة يرى عزيز شحوباً، ويبدو أنفها أحمر من استخدام المناديل الورقية. يبتسم عزيز بحزن ويهرب إلى جدار غرفة المكتبة المزدحم باللوحات: لون البحر، لوحات بانورامية عن البحر، زورق يتجه صوب أرواد، صياد عجوز يرمي جاروفة قرب الشاطئ، باخرة تتأرجح على أمواج رقيقة، وديعة تقف في البحر بين أمواج تتدحرج بتثاقل صوب الشاطئ، أحجار البحر المختلفة الأشكال والألوان، كانت عادته أيضاً أن يجمع أحجار البحر. يرى عزيز ضحكة وديعة الوديعة. ثم لوحة لأرواد من الشاطئ وكأنها تتكئ على الشمس التي تتكئ على البحر قرب السماء. يقول كريم: أين شردت؟
يقول عزيز: لا شيء.
تقول وديعة: إنها لوحات حليم.
يقول كريم: أين الاستاذ حليم؟
تقول كريمة: لقد تعرف على صياد عجوز يملك ذاكرة عجيبة، وكل يوم يأخذ بطحة عرق ويذهب إليه ويستمع إلى حكاياته عن البحر والمدينة.
تعطس وديعة ويرتج جسدها، تتمتم وهي تمسح أنفها: حتى الأمراض تغيرت، لقد أصبحنا نخاف من الكريب.
يقول كريم: لأن الحياة تطورت، وأصبحت معقدة أكثر، كل شيء أصبح معلباً حتى الأمراض.
يحزن عزيز، في داخله لم تتغير الحياة أبداً، ويداهمه شعور أن وديعة يمكن أن تجعل حياته الموحشة حياة. عزيز لم يحب في حياته غير وديعة، ظلت تسكن في أعماق قلبه رغم وحشة تلك الأعماق، ويفكر في نفسه أنه عليه ألا يترك ذلك الحب يهجر أعماق قلبه أبداً، إنه حبه وحده، حب لراحته، وهو الشيء الوحيد الذي كان يفرح قلبه، رغم أنه أحياناً في الليالي الموحشة، كان يزيد أعماق قلبه الموحشة وحشة. تعطس وديعة مرة أخرى، ويرتج جسدها أيضاً. ويرى عزيز أن المرض يجعلها حزينة، وأن زيارته تجعلها متوترة رغم ما تظهر، ولا بد أنها منزعجة من الماضي التي اعتقدت أنه انتهى، وها هو يعود، وربما تخاف أن تصبح من الحاضر. ينظر عزيز إلى كريم، ويهز رأسه بأسى، ويقول كريم: علينا أن نذهب.
وينهض كريم، وينهض عزيز أيضاً. تقول وديعة: لن يتأخر حليم.
يقول كريم: سوف نعود في يوم آخر.
يتأخر عزيز عن كريم حتى يبتعد عن الباب، وهو يودع وديعة يقول بحزن: هل أنت سعيدة؟
تبتسم وديعة بحزن وتقول: السعادة؟!
وتفكر في نفسها: إنني أملك حياة، وسوف أتمسك بها حتى النهاية. وتعطس بقوة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج