الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيكولوجيا السفر بين المتعة وانزياح المشاعر

عزيز باكوش
إعلامي من المغرب

(Bakouch Azziz)

2022 / 8 / 14
الصحافة والاعلام


قد لا يقتصر السفر على الاكتشاف و المتعة النفسية فقط ،بل يتحدى ذلك إلى محاولة استرخاء محدودة الأجل بنفس جديد يتمدد ، وتعبئة مضاعفة للطاقة المتجددة ، بعد انفصال شبه كلي عن كوكب الروتين الذاتي اللئيم . لكنه في الوقت نفسه ،مغامرة محتملة العواقب كذلك . ومن المفيد جدا ،أن يغادر الفرد قوقعته من أجل تغيير الفضاءات والأمكنة الاعتيادية ،نحو أخرى لم يعتدها ، وإتاحة فرص كثيرة للتعرف على عوالم مغايرة ،وأسلوب حياة، وثقافة عيش لم يتسن رؤيتها من قبل . وحتما، هناك ما ينغص متعة السفر ، ثمة إكراهات الميزانية في ظل تعدد أفراد الأسرة الواحدة ،واختيار المكان ،وضغوط ذاتية وموضوعية ، ما يحتم على الفرد أن يعمل وفق منطق التراضي وابتكار التوازنات الاجتماعية ،بمزاج يتسع لكل الحساسيات والتباينات والفروق الاجتماعية ، لتكييفها ،وهضمها ، بلا أخطار جانبية .

يقول المفكر والأديب الراحل محمد الماغوط مخاطبا ضميره العربي " سافر دون تردد ،أنقذ ما تبقى من سنين عمركَ المهدور ،سافر ،و سترى شعوباً غيرنا ،و تفهم معنى الإنسانية و الحياة ،ستعرف أننا لسنا أحسن شعوب العالم و لا أعرقهم " لا أحد هناك يعرف شيئاً عن عنترة و شيبوب و الزير سالم و تأبط شراً و القعقاع و الصعصاع و بطولاتهم البلهاء الوهمية ،
ستكتشف كذبة ال 6000 آلاف سنة حضارة ، و ستكتشف أن بلادك صفراء و ليست خضراء كما كنتَ تحسبها ،ستعلم أننا لسنا خير أمة أُخرِجت للناس ، نحنُ فقط عبء على البشرية و على الحضارة الإنسانية و حتى على أنفسنا ،"

أما الشاعر العالمي بابلو نيرودا فقد كتب بعمق عن السفر قائلا " يموت ببطء ﻣﻦ ﻻ ﻳﺴﺎﻓﺮ ، ﻣﻦ ﻻ ﻳﻘﺮﺃ، ﻣﻦ ﻻ ﻳﺴﻤﻊ ﺍﻟﻤﻮﺳﻴﻘﻰ ، ﻣﻦ ﻻ ﻳﺠﻴﺪ ﺍﻻﻫﺘﺪﺍﺀ ﺑﻌﻴﻨﻴﻪ . ﻳﻤﻮﺕ ﺑﺒﻂﺀ . ﻣﻦ ﻳﺼﻴﺮ ﻋﺒﺪﺍً ﻟﻠﻌﺎﺩﺓ ﻣﻦ ﻳﺴﺘﻌﻤﻞ ﻛﻞّ ﻳﻮﻡ ﻧﻔﺲ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ . ﻣﻦ ﻻ ﻳﻐﻴﺮ ﺃﺑﺪﺍً عاداته. ﻣﻦ ﻻ ﻳُﺠﺎﺯﻑ ﺑﺘﻐﻴﻴﺮ ﻟﻮﻥ ﻣﻼﺑﺴﻪ . ﺃﻭ ﻣﻦ ﻻ ﻳﺘﺤﺪّﺙ ﺇﻟﻰ ﻣﺠﻬﻮﻝ .ﻣﻦ ﻻ ﻳﻐﻴّﺮ ﻭﺟﻬﺘﻪ ﺣﻴﻦ ﻳﺤﺲّ ﺍلفتور ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺃﻭ ﺍﻟﺤﺐ ﻣﻦ ﻻ ﻳﺮﻛﺐ ﺍﻟﻤﺨﺎﻃﺮ ﻟﻴﺤﻘّﻖ ﺍﻷﺣﻼﻡ . ﻣﻦ ﻟﻢ ﻳﺤﺎﻭﻝ ﻣﺮّﺓ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﺘﻤﺮّﺩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨّﺼﺎﺋﺢ ."

وتبرز الدكتورة بشرى اقليش أستاذة الفلسفة رئيسة منتدى الحضارات وحوار الديانات أهمية السفر بوصفه الباب الأكثر رحابة وجاذبية لاكتشاف سحر الاختلاف وبهاء الانتماء " فتقول : جميل هو السفر. وهذه السياحات التي نخوض بها غمار ملامسة سحر اختلاف الآخر. لكن الأجمل. هذا الحنين إلى الأمكنة الأصلية. وهذه الحميمية التي نعانق بها الإنتماء والهوية. جميل هو العالم والإنسان والغيرية.."

و في حديث آخر ، وارتباطا بأدبيات السفر ومتعته ، يحرص الكثير من مرتادي السياحة بأنواعها على تخليد رحلاتهم الشاطئية أو الجبلية أو غيرها على شكل صور جماعية ، يتم نشرها وتقاسمها على صفحاتهم وحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي . لكن هذا السلوك يستهجنه البعض ، ويعتبره البعض الآخر نفاقا اجتماعيا ، بل أحد أبرز اشكال الرياء المجتمعي . وينظرون بعيون ناقصة إلى صور اجتماعية تبرز أشخاصا بلباس البحر ، وهم متحلقين حول المائدة التي ازدحمت بما لذ وطاب ، من أصناف الطعام ،أسماك ومشاوي وأطباق متنوعة من المأكولات ، منها المبتكرة والمجلوبة، وأصناف مختلفة من المقبلات ، علاوة على اصطفاف كؤوس المشروبات والعصائر . ولعل المشهد حدث يراد له أن يعكس مظهرا اجتماعيا راقيا ، وأسلوب حياة عنوانه فصل من حياة مميزة وراقية ، لكن الحقيقة والواقع الاجتماعي لهؤلاء مختلف تماما.
إننا هنا ،لا نريد الدخول في منافسة ، لكننا سنحاول تسليط الأضواء على الخلفية . ذلك أن ارتباط ظاهرة التقاط الصور العائلية بالأكل وصنوف الغذاء ، في فضاءات مختلفة خلال فترات الاصطياف والاستجمام والعطل السنوية ، قد لا تكون ظاهرة اجتماعية تقتصر على شعب دون آخر ، لكن ثمة اختلاف جوهري . فهذا السلوك فضلا عن كونه يعكس مظهر اجتماعيا راقيا في بلد مشهود له بالتقدم والتنمية البشرية والسفر ثقافة وتربية اجتماعية مؤطرة اجتماعيا . فهي في بلد ينتمي للعالم الثالث كالمغرب ، تتخذ شكل رسائل مشفرة موجهة إلى من يهمه الأمر . رسائل يلعب فيها اختيار الفضاء، ونوعية طبق الأكل ،وطاقم الشلة المحيطة بمائدة الغذاء دور البطولة . إنه عنوان بارز لمظهر اجتماعي سيكون له ما له ،وعليه ما عليه بعد العودة إلى الديار . كما هو أيضا ،حالة نفسية على قدر كبير من الأهمية في الوسطين الاجتماعي والمهني ،وبروباغندا إعلانية مبتكرة وتعويضية عن الضنك العائلي. ذلك أن تخليد الأثر بالصورة في الزمان والمكان ، فعل جميل بالتأكيد ، ويرتقي للأجمل في حال تقاسمه بين أفراد الأسرة والعائلة الواحدة .

وإذا كانت الميزانية وخطة التموين رقما أساسيا في معادلة رحلات الاستجمام العائلية ، حيث الأكل والغذاء التقليدي مسألة مطلوبة ومرغوبة ، بل حيوية لكل رحلة خارج الديار ،لذلك نجد أن 60 بالمائة من أمتعة السفر لدى الأسر المغربية ،عبارة عن مأكولات مطبوخة ومخزنة جافة وطازجة . إلا أن ما يهمنا هنا هو التركيز على صنف من المأكولات، وتسويقها عبر الصفحات الشخصية لمواقع التواصل الاجتماعي ،مما يشجع على الاعتقاد بأن الأكل والوجبات ، أهم شيء في عطلة الاستجمام ، وهو أمر يدعو إلى الحيرة والتأمل حقا.

فلمن يوجه هؤلاء رسائلهم عبر سماوات الله المفتوحة ؟ هل لطبقة الفقراء الجياع من خصومهم الوهميين ؟ أم لفئة من الأعداء الرسميين و زملاء العمل؟ هل هي رسائل تشف ونكاية للجيران البسطاء القابعين تحت الصهد الساحق للأعصاب ؟ أم إعلان رسمي عن مرض استيهامي وتنفيس لابد منه لشيزوفرينيا حياة بئيسة . والسؤال الإشكالي هنا :
أين متعة البحر في أدبيات الحياة ؟ وأين شغف استكشاف عوالم وفضاءات مختلفة والتعرف على تضاريس وأقاليم ثقافية مغايرة وفهم أنماط حياة مغايرة ؟ أن تجليات الفضاء كتاريخ ؟ ولماذا تبخرت أحلام الزهو بحبات الرمال الذهبية ؟ ،وكيف حجبت مائدة الطعام وأصناف المأكولات جمال زرقة السماء التي تعكس بصفاء إلاهي، أديم المياه في هندسة كونية ساحرة للغاية؟
في سياق متصل ،يتداول نشطاء منصات التواصل الاجتماعي اليوم العديد من المقولات المؤثرة ذات الصلة ، منها ما تم انتقاؤه من الموروث الثقافي الشعبي الزاخر ، أو من منطوق المعيش اليومي. من هذه المقولات ، تلك التي ترفع من شأن الذين سافروا وأقاموا في أفخم الفنادق ،ولم يكتبوا على صفحاتهم أنهم متواجدون الآن فيها. ولا يترددون في تقديم الشكر لئولائك الذين صادفوا شخصيات شهيرة ، والتقوا بنجوم من عيار وازن سواء في الأدب والفن في السياسة والصحافة ،لكنهم كبحوا جماح رغبتهم ،ولم يجرؤوا على طلب تخليد أثر اللقاء بصورة فتوغرافية للذكرى قبل أن يحجموا عن نشرها .

بل هناك من يرفع من شأن شخص يحب زوجته ويغازلها يوميا في البيت، من دون أن يتقاسم هذه الرغبة الحميمية مع أصدقاء صفحته، ويعتبرون الرجل جدير و يستحق الشكر. ويضعونه في نفس مرتبة من يعمل موظفا في قطاع مرموق ،لكنه لم يتقاسم يوما جمالية مكتبه مراعاة لمشاعر أصدقائه العاطلين ."وبنفس الحماس، ينحنون إجلالا ، لمن يتناول جل الوجبات في المطاعم، خارج بيته، ولم ينشر صور المأكولات وأصناف الأطعمة على مواقع التواصل الاجتماعي ، مراعاة لظروف ومشاعر الآخرين . مثله مثل من يساهم يوميا في مساعدة الفقراء والمحتاجين ،دون أن يلتقط صورا بجانبهم أو يصورهم في حالتهم البئيسة ،ويوثق ذلك ليظهر أمام الناس فاعل خير مكشوف ." ويرون في ذلك حسن الأخلاق ومراعاة لمشاعر الناس .
أحد نشطاء التواصل الاجتماعي لم يتردد في إعلان موافقته المبدئية على رياء المظاهر ونفاق النفوس حيث علق قائلا : كما نعرف من تراثنا، لا تتكلم عن السعادة بحضور التعساء ،ولا عن النعيم أمام المحرومين ،ولا عن العمل أمام العاطلين... "
أما الناشط التواصلي "سعيد بوطبسيل " فيذهب بعيدا في تقليب "الوجه الآخر لما يطرحه السفر من إشكاليات لدى المغاربة ،حيث يرى أن انشغالهم الدائم بالصور التي سيضعونها على الفايس في مختلف الأوضاع. وإذا كان السفر تغييرا ليس فقط للأماكن بل وأيضا للوجوه والأجواء، فإن مثل هذا السلوك الشبقي يقول بوطبسيل " يفوت فرصة الاستمتاع الحقيقي بمزايا السفر" وختم رأيه قائلا "تحول السفر من حب الاكتشاف والعناية بالنفس إلى حب الظهور والتفاخر " قبل أن يضيف متسائلا "ما معنى أن تضع طول اليوم صورا لك أمام مختلف المعالم والفضاءات ، دونما البحث والتحري واستسقاء معلومات عنها وتقاسمها فتتحقق المتعة رديفا للفائدة.
وفيما ترى الناشطة مليكة قايدي في الأمر مجرد صراع طبقي افتراضي ،وعملية منافسة فئوية ،حيث تحاول " طبقة اجتماعية محددة اللحاق بطبقة أخرى "فإن مواطنتها بشرى صالح لا تتردد في وصف الحالة ب حالة نفسية استعلائية يبرز فيها " التفاخر والنفاق والرياء وتختم تعليقها " مصير هؤلاء مزبلة التاريخ"
وبوسعنا أن نتساءل : مالذي تغير في حياة صاحبنا ،لقد ظل طوال العام ،يقتعد بملل جارف كرسيا خلف مكتبه، وهاهو اليوم أمام الشاطئ يكتري نفس الكرسي البلاستيكي بنفس الكآبة بعيدا عن متلازمات المتعة الشاطئية ؟

من جانبه يعلق الباحث يوسف عبو "لقد أصبحت هذه المظاهر حالة مرضية،"بفتح الراء" تعكس سطحية وبلاهة أناس كثيرين. مشددا على الدور السلبي الذي يلعبه للحرمان من الشيء، في مثل هذه الظواهر، لأن الذي اعتاد على نوعية جيدة من الأطعمة، لن يفكر في نشرها للعموم، لأنها شيء عادي بالنسبة إليه. ثم إن التفاخر الاجتماعي وثقافة السطح لهما دور كبير كذلك في تفشي مثل تلك السلوكات الحمقاء." لكن الناشط التواصلي محمد الوزاني الشاهدي فيرى في المسالة مجرد تسويق وهمي للنفسية الهشة و المرتبكة. "
وفيما يوجه الناشط التواصلي عبد الإلاه ميري رسالة شكر عنوانها " هكذا يكون الإنسان" لكل من يقضي عطلته في أحسن مدينة ،و يقيم في أحسن فندق ،و يتناول أحسن الأطعمة، و يستحم في أحسن المسابح ،و يقتني أفخم المشتريات، و...و لا يخبر أحدا ! ولا ينشر صورا ! كي لا يخدش كرامة أحد!! يؤكد مواطنه عامر غنبور إنها ظاهرة متفشية عند المحرومين و" المشتاقين اللي عاد فاقو" أو ما يسميهم شخصيا ب " الفقراء القدامى" .
أما نادية زكريا فلها وجهة نظر مختلفة تماما إذ ترى أن الأعمار هي من يحدد نوع التقاسم ،ولكل واحد منا ضالته.وتقدم وجهة نظرها في المسألة قائلة : بعمري أنا أعشق أماكن وصوامع وخضرة وطبيعة وأشجار أولويات،وتكون الاحتياجات الطبيعية من المأكل والمشرب من الكماليات"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما هو بنك الأهداف الإيرانية التي قد تستهدفها إسرائيل في ردها


.. السيول تجتاح مطار دبي الدولي




.. قائد القوات البرية الإيرانية: نحن في ذروة الاستعداد وقد فرضن


.. قبل قضية حبيبة الشماع.. تفاصيل تعرض إعلامية مصرية للاختطاف ع




.. -العربية- ترصد شهادات عائلات تحاول التأقلم في ظل النزوح القس