الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق وفقدان الهوية الدولية

باسم عبدالله
كاتب، صحفي ومترجم

(Basim Abdulla)

2022 / 8 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



على مدى تاريخ العراق منذ تأسيسه كدولة وطنية في العام 1921 الى انهياره كدولة خلال فترة الغزو الامريكي عام 2003 عانى العراق تراجعاً شديداً في الخدمات والبنية التحتية، وتحول من دولة ذات منظور ديمقراطي متدرج في صعوده للمدنية الى كيان تتصارع فيه الايديولوجيات الدينية وتتوالى فوق ارضه مصالح النخب الدينية المتعاقبة، حتى صار العراق شكلا شاذاً لا علاقة له بالدولة ولا بكيان مستقل، فهناك اطار عام اسمه انفصال الوطنية العراقية عن ايديولوجية الدولة، هذا الانفصال علامة من علامات انهيار الدولة عندما لا تأتمر الناس بأمر الدولة، بدأ الأنفصال من خلال حجم المعارك التي خاضها الجيش العراقي وتحول من جيش يدافع عن الحدود الوطنية للدولة الى جيش يجسد التوسع الإقليمي وفرض منطق الهيمنة، فلم يكن هناك ميل للجيش العراقي للقتال ذلك ان اسباب النزاع المسلح لم تكن بمبرراتها كافية لجعل جسر الثقة المتبادلة بين الجيش والدولة قائماً، فلقد بدأ النزاع على اساس المياه بين العراق وايران، ثم انتقل باتجاه توسع الاتهامات المتبادلة وقيام النخبة الدينية في ايران بالإستيلاء على نظام الحكم، فصارت المصالح والخوف من انهيار نظام الحكم بين الطرفين، مما ادى الى زج الجيش في اتون المعارك التي سقط فيها العديد من كلا الطرفين، ولّد هذا شرخ في الوطنية اي في حب المواطن للوطن ولإيديولوجيا الدولة كجهاز حكم.
لقد فرض الشكل السياسي في نظام الحكم طبيعة الجيش العراقي وقام بتحويله الى جيش حرفي بسبب متطلبات الحروب، فصار النظام ذو الحزب الواحد سلطة ونظام حكم اي شكل من اشكال الحكومة، وصارت حكومة التقنية او حكومة الكفائات تتشكل من الطبقة العلمية الفنية المثقفة متخصصة في الاقتصاد والصناعة والتجارة، لا تهتم بالفكر الحزبي والحوار السياسي، كوّنت الطبقة الاساس في مؤسسة الدولة ثم أتت بعدها قوى الايولوجية وهي اقل اهمية. كانت الدولة قبل الحرب تضع بعض المكانة لتلك الطبقات، لكن امر الحزب قام بإزالة دور الطبقة المثقفة وبتهميش الكفاءات العلمية والتقنية وجعلها في خدمة الاهداف العسكرية مما غيّر مسار الدولة الى الدولة الحزبية واخدت تبتعد كل يوم عن مسار الدولة المدنية وتتركز السلطة بيد القطب الواحد. لم يقف الامر عند هذا الحد، بل تعداه الى تهميش دور الدولة العالمي وتراجع دورها الإقليمي خلال سنوات الحرب مع ايران. صار الصراع ليس فقط الإستيلاء على مصادر الملاحة الدولية في شط العرب، الخليج العربي، والبحر العربي، بل انتج من خلال الصراع البذرة الطائفية، فعزف على اوتارها لعقود بعد انتهاء تلك الحرب، انتهت حرب العسكر وبقيت حرب الطائفية قائمة الى يومنا هذا. قام الفعل الطائفي العدواني بتفتيت اجزاء الدولة وتقطيع اوصالها فتحولت الى شكل عشائري بغيض، مما جعل المجتمع الدولي يرفض ربط العراق كدولة ذو قانون تفاعلي في المجتمع الدولي.
ان الأمر الأكثر خطورة ان حزب البعث الحزب الحاكم استخدم كوادر اجنبية بجوازات سفر عراقية للعمل الفني في العراق عندما يكون عدو مشترك، يسهل التعامل مع تلك الطبقات العلمية لكن عندما لا يكون هناك عدو مشترك تبدأ الخلافات، فمثلا عقيدة تنظيم القاعدة يرى انه يمثل الاسلام ولا يوجد غيره من يقوم بهذا الدور. القتال يكون هدف بحد ذاته بدل ان يكون وسيلة العسكري في الجيش يدافع عن عقيدة وطن بينما يرى رجل القاعدة انه يجب قتل الكافر لانه يمس السيادة الاسلامية، هذا صراع بين قوى المؤسسات وقوى الايولوجية والقوى القبلية والقاعدة بدأت تنمو بالتدريج وادت الى نقطة الافتراق فظهرت الصحوات. ادى ذلك الى تمزق اجزاء الدولة، ذلك ان الدولة الحديثة تقوم على مرتكزات جديدة، لم تعد نظام الخلافة والامارة القديمة، الدولة الحديثة لها حاليا عدة وزارات تصل الى عشرين وزارة، اول وزارة ظهرت في التاريخ الاسلامي نشأت اواخر القرن التاسع عشر، ثم نشأت وزارة الدفاع بعدها نشأت وزارة العدل، كانت متركزة في شخ، الان وزارة الصحة، التعليم، الداخلية، شق الطرق، اي تنوعت وظائف الدولة. يجب ان نميز بين الدولة كنظام للحكم والدولة كمنظم لحياة الامة، الحكومة تتغير بينما الدولة باقية. عندما نتعامل من خلال منطلقات الدولة، في الشرق تملك الحكومة الدولة لانها دولة ريعية، اي هي نمط اقتصادي يعتمد على الموارد الاقتصادية دون الحاجة الى الاهتمام بتطويرها كموارد المعادن والمياه والنفط والغاز اي تعتمد على توفر الايرادات من بيع الثروة الريعية. ان الثروة الوطنية بهذا الشكل لا تجسد الحالة الإقتصادية للدولة، لانها تعكس طبيعة مجتمع استهلاكي مرتبط بالاستيراد، لا يهتم بالزراعة والصناعة التحويلية، اي انها دولة تكرر نفسها في آليات ادواتها التقليدية، لهذا فالدولة عندما لا تعتمد على تفويض الناس تلجأ الى القمع وتستند على نظام القرابة. استخدام نظام القرابة يجعل توزيع الثروة يختلف، توزيع السلطة السياسية يختلف، وهذا يؤدي الى تصدع الدولة ونشوء الطائفية والمذهبية الدينية، وهذا الذي وقع في العراق. الى اي حد تشبه الدولة الحديثة الشكل الافتراضي للدولة العراقية في المرحلة التي تحولت فيها الى دولة او كيان طائفي؟ ليس هناك تشابه لا في المعيار العلمي ولا الاقتصادي للدولة. المجتمع المدني قادر على محاسبة الدولة وتقديم نخبها الى النظام العدلي، لكنها في الدولة الدينية لا تقدر على وضع معيار العدل لان قيم الدولة طائفية، ذلك ان الطائفية اهداف مالية خارج حقوق المجتمع المدنية، ان الدولة الحديثة تتعامل مع المجتمع المدني على اساس عوائد المال العام والاسلوب التجاري في الموارد بين ميزان الاستيراد والتصدير، لكن الدولة الدينية تتحكم بموارد مستقلة عن المجتمع بمعنى انها تلغي كذلك طريقة التفكير الوطنية اذ ان النخبة تصبح لوحدها من يمسك بكل شيء. صار الفكر الديني الطائفي هو الجهاز القمعي الذي يسيطر على الدولة فهو الذي يفرض الوصاية على اموال النفط ويسيطر من خلالها على المجتمع بشكل يلغي قطعياً دور المواطن في معرفة قدرات الدولة المالية، بل وثبت عجزه من خلال عدم قدرته في التمييز بين فقه الدين وفقه الدولة، فصارت النخبة تتخبط في رؤى وعوالم لا علاقة لها بأعراف الدولة. فتحولت الدولة العراقية في بدء ظهورها كدولة جديدة بعد سقوط النظام عام 2003 خلال الغزو الأمريكي للعراق، ان اتخذ الإسلام السياسي كظاهرة ظرفية وصار رجل الدين يتميز عن غيره واصبح هو الاساس في تقييم المستوى الفكري والديني عند العموم. ادى هذا النوع من الرقابة الدينية الى انهيار الثقافة الحديثة فحلت محلها الثقافة المثيولوجية، فتحولت علمانية المجتمع العراقي الى تأملات فكرية عقائدية كقرب ظهور الأثمة وعودة المهدي، وانحسر الإيمان بروحانية خوارق الأئمة على نسق الطراز الإيراني في احياء الفكر التشيعي وفرض الهيمنة على الدولة العراقية. انتقل الفكر الديني من الفقة الإسلامي المعتدل الى الفكر الحوزي في النجف، وانتشرت لها جذور تسمى الحسينيات وقد وفرت البنية التحتية للعمل الديني المتطرف وصار لها مكاتب واتباع. يقودنا الحديث على سبيل المثال الى حركة محمد صادق الصدر واتجاهاته الضاربة في عمق الدولة العراقية فصار يقرر في مصير الزعامات السياسية ثم في طريقة تنصيب وتوجيه عناصر الحكومة العراقية.
سياسة الايديولوجية الحزبية شكلاً رمزياً فحسب، صار نصيب الطبقة السنية يحتسب على نزاع الحسابات الدينية في الفكر التشيعي خارج حدود الدولة العراقية حسابات لها علاقة في النصاب البرلماني، هكذا تخبطت الزعامات الدينية بين الولاء لإيران ومحاولة فرز نوع استقلالي ظاهري للدولة العراقية، لكن بقيت الدولة اسيرة في قبضة الفكر الديني التشيعي، لهذا عند مقارنة الدولة الدينية بالمدنية نرى ان الأمم ظهرت في عصر الصناعة والرأسمالية وقد قامت بجعل السوق العالمي اساس التعامل بسوق موحد فتأسست شبكات الإتصال من جامعات ووسائل نقل وشبكة معلومات وتقنيات وصحف وانتشر الوعي العلمي، فصاغ كارل ماركس النظرية العلمية للإشتراكية بجعلها صمام امان وان تتدرج الرأسمالية وصولاً لفكر اشتراكي عالمي يوحد الشعوب ويبعد عنهم الخوف من الفقر والحرمان، فتم تأسيس الدول على هذا الشكل بعيدا عن المؤسسات الدينية، ذلك ان الدين يفهم برمجة الدولة على اساس غيبي وليس على اساس صناعي علمي اشتراكي مرتبط بالأسواق العالمية وحقوق المواطن وتأمين المال العام. في كل التجارب الدولية يقف الدين مشكلة حقيقية امام تطور المجتمعات ونيل حقوقهم الفردية، لذلك عند دخول الدين في محاربة السياسة الأيولوجية وتنظيرها بفقه الفكر الديني انما يخرّب قيمها ومنجزاتها ويعرّض المال العام الى السرقة والتعسف في حقوق المواطن. لقد نشأت في الدولة العلمانية السياسة الإيديولوجية والقضايا السياسية كالحريات المدنية وحقوق المرأة، ورعاية الطفولة، لكن عند سقوط النظام العلماني العسكري في العراق عام 2003 ادى الى زوال السياسة الأيديولوجية فحل محلها الإسلام السياسي، وصارت الهوية المذهبية اساس التعامل الوطني اي تمييز المواطن على اساس اتجاهه المذهبي وليس حقوقه الوطنية، انتقل انهيار الدولة من البعد المذهبي الى البعد الطائفي الأضيق ليتحول الى صراع دموي مستديم. في العام 2005 تحولت الكتل النيابية الى 3 كتل تتصارع فيما بينها السلطة وسلطة الدولة الدينية تتركز ليس في عبادة الله وتقديس الأئمة بل في موارد الدولة من هو الأقوى في الحصول على النصيب الأكبر، ثم تحول الصراع الى كتل عديدة ادى الى المزيد من تصدّع الدولة فزاد الإنشقاق الداخلي وصار الدين في مواجهة اقطاب الدين اي صراع حزب الدعوة والسستاني، الحكيم والصدر، وكتل الأكراد التي تنتظر مزيدا من التمزق الوطني لتنال مزيدا من حقوقها القومية. ” يمكن للفاتح ان يعتقد انه مدين لثروته بسيفه ... وقائد الشعب مدين في نفوذه لدعوته التاريخية ومن المستحسن ان يفكروا هكذا لان هذه الثقة تؤجج حماسهم وتحميهم من التهور ولكنهم في الحقيقة ليسوا سوى اداة لفكرة تجد فيهم المناسبة لتطوير قدرتها ” (1) لكن رجل الدين لا ينطلق من خلال النظرية الذاتية بل ينطلق من النظرية الإلهية التي يرى فيها نفسه احق من الجميع في جعل الدولة تركن للغيب المجهول مع بقاء حرصه زعزعة امن الدولة ومواردها والغاء دورها الدولي بانتظار الغيب الذي سيمن على شعبه بالرخاء. رجل الدين يرى نفسه السند الحقيقي للدولة ” ... هذا السند سيكون تأسيس الدولة المعتبرة كمركز وحيد للقدرة العامة ففي الدولة تصبح السلطة مؤسسة، يمعنى انها تنتقل من اشخاص الحكام الذين لم يعودوا يملكون منها سوى الممارسة الى الدولة التي تصبح من الآن فصاعدا الملكة الوحيدة للسلطة (2) “لكنها عند رجل الدين تصبح الدولة مؤسسة دينية ذات خصوصيات اعتقادية، ولا علاقة لها بأدوات الحياة المدنية. لا وجود للعراق كدولة مدنية ولا وجود لها كدولة دينية ذلك ان القائمين على امر العراق مليشيات مسلحة تأتمر بأمر الحاكم الديني ذو التيار المذهبي، الأكثر قدرة على فرض وجوده في الساحة الدينية.
” ليست الجماعة الشيعية كتلة متراصّة ومتجانسة والانتلجنسيا الشيعية بتبع ذلك ليسوا نخبة متجانسة وموحدة فالشيعة بوصفها جماعة عراقية انثروبولوجية مثل سائر الجماعات منقسمة من الناحية الإقتصادية والمكانة الإجتماعية الى فئات ارستقراطية تعتمد على رأس المال واخرى وسطى ودنيا. وتنشطر هذه الجماعة الى تكوينات حضرية وريفية وبدوية. كذلك تنقسم انتماءات هذه الجماعة الشيعية الى احزاب سياسية وتوجهات دينية مختلفة، كما ان بعد 2003 شهد انقسام هذه الجماعة الى داخل وخارج من حيث معيار التواجد في العراق قبل سقوط النظام الدكتاتوري ببغداد، وكل هذه الفئات تتشطى الى مصالح لا تنتهي ” (3) هذا الأمر لم يجعل للعراق كيان سياسي يمكن تصنيفه كدولة في المحافل الدولية، ربما في الكيان الجغرافي لكنه في الكيان الأقتصادي والسياسي في العراق لا مكان لوجوده كدولة، فهذا التقسيم المذهبي والولاء بين جغرافية العراق في الداخل واجندة رجال الدين في الخارج، جعل العراق يفقد هويته الدولية، سيبقى العراق ردحاً من الزمن يعاني فقدان وجوده الدولي، غياب تراثه وانفلات حقوق مواطنيه وانفلات ثرواته الوطنية الى يوم ينتقل فيه العراق بوجوده السياسي للدولة المدنية.

مصادر البحث:
1 – فلسفة الدولة، ص 21، د. برهان زريق. طبعة اولى 2016، وزراة الاعلام. سوريا.
2 – المصدر نفسه، ص 25.
3 - الدولة والأمة في مخيال الانتلجنسيا الشيعية في العراق. د. علي طاهر الحمود. ص 8، مؤسسة فريدريش، مكتب عمان. الاردن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد