الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شَرْخ

عبد الله خطوري

2022 / 8 / 18
الادب والفن


يتيهُ العقلُ صيفا بين كراسي المقهى الفارغة في ذلك الوقت من الزوال إِلا منه ومن عوالمه العجائبية.يظل جاثما هناك في المقعد الخلفي، في الداخل كسلطعون انحسر عنه المَدُّ، فبات يلعنُ الجَزْرَ والأقمار وأضواء قزح.يدخن لفافةً ثم أخرى وأخرى حتى يطير النخاعُ شظايا متفرقة يخبط بعضها بعضا دون أمل في العثور على مَنفذ خروج إِلى أجواء أكثر رحابةً واتساعاً..جَواثيمُ الرتابة تُنَمِّلُ الخياشيمَ فتنصهـرُ الروائحُ العَطِنَةُ لتشكل صورا هُلاَمية لأشخاص خرافـيِّين بأذناب وأنياب وسُحَنٍ مُخيفة، ومُقَلٍ ليست كالمُقَلِ،ونيران يتلظى جحيمُها في كهوف وأقبية لا قرارَ لها. ينظرُ الى السقف الشاحب..المَرَدَةُ هناك في صراع مرير حول شيء دقيق لا يُرَى، حاولَ أنْ يستوعبَ ملامحَهُ دون فائدة..عيناهُ تخدعانه.يفتحهما.يغلقهما.يفركهما، فلاَ يَرَى إِلاَّ ما رأى سابقا.. العمالقة وحدهم يتصارعون في كَرٍّ وفَرٍّ في إِقْبال و إِدبار.أرواحٌ شريرة تخرج من لا مكان لتصب حسيسَها في قنة رأسه..كانوا يتصارعون يجأرون بالصراخ يصخبون...

* * *
قال (شِـــين)..
_سيدي..إِنها لعبة قديمة معروفة..شيء بديهي..الكل يفقهها في هذا الوجود..أنا وأنتَ والشيطان..حتى إِلهُكَ..نعم..كائن غريب إِلهُكَ هذا..إِنه فنان..يصنع أشياءه الحميمة بإِتقان ومهارة ...

يحدق(شين)في السقف كأنه يتوجه الى السماء ويصيح:

_برافو برافو bravo..bravo!!...

وبحركة مسرحية مبالغ فيها بعض الشيء ينحني مُحَييا شخصا وهميا موجودا في مكان ما..ثم يتجه صوب"خاء".يُحَدِّجُهُ مليا الى درجة أحس فيها (خاء)بقلق واستفزاز..فصاح به متبرما:

_لا تنظرْ اليَّ هكذا

* * *

قال النادل:
_أتمنى أن لا أكون قد أزعجتكَ..فقط حضرتُ لأسألك..ماذا تشرب اليوم ؟

_ آه..أنتَ..كالعادة..قهوة سوداء

ينفظ رأسَهُ.يغطي وجهه بيديْه.يحك منابت الشعر بعنف.ينهض.يقصد دورة المياه.يدورُ تالفاً كَمَنْ يبحث عن شيء ما لم يجده.يقف.يُسَمِّرُ ناظريْه جهة المرآة أمامه.يُكشر عن أسنان لا تبتسم.يفتح الصنبور..ماء يخرج. يضع رأسه تحت زخاته المتدفقة بانسياب فاتر.يحس دغدغةً تداعب قفاه منسربةً على خط عموده الفقري لتستقر أسفله.يرنو الى المرآة مُجددا..الى عينيْه الحمراويْن الناعسنتيْن..ثمة شيء ما يحدث..ما هو؟ ليس يدري..كل ما يدركه الآن أن أيامه تتواثر مُحَنَّطَةً بقتامة من الرتابةوالقرف..ما السبب؟ليس يدري..مرة أخرى.. هذه الشياطين تَعِنُّ مُحملقةً فيه باستفزاز وتَشَفٍّ..تُراهَا ماذا تبحث عنده؟أحقا هي هنا أمامه تشزره بنظراتها السادية أم فقط هو وَهْم الدخان واللفائف المحشوة وغير المحشوة وسوائل القطران التي لا يكل عن تجرعها بنهم و إِصرار؟..تبا..!!..انه فقط وهج الصيف يفعل فعلته معي كما هي عادته.. فلأضربْ صفعا عن كل هذا ولأتركِ الأمورَ تجري على عواهنها سواء كانت أوهاما أم حقائق..فلا يجب إعطاؤها أكثر مما تستحق...
ينظر الى المرآة مرة أخرى..ابتسمْ..رَدّ الظلُّ المنعكسُ ابتسامتَه.ارتاح قليلا لهذه الاستجابة..كَشَّرَ عن أنيابه كشمبازي متوحش فاتحاً فاه بشكل أفقي وعمودي ثم طفق يحرك فَكَّهُ الأسفل حركات سريعة يمينا يسارا حتى أحس لهاته العملية بعض التعب فتوقف لاهثا باصقا ثم تجرع جرعات من الماء.تمضمض وبصق مرة أخرى ليعود في النهاية الى مقعهده ويجد القهوة السوداء نفسها في انتظاره كما هي عادتها في كل الأيام .. تَمَلاَّهَا لبعض اللحظات.تفحصها..هي هي..لم يتبدلْ فيها شيء....

* * *

_ لاَ تنظرْ إِلَيَّ هكذا ..!!...

فردَّ (شين ) ببرودة مصطنعة:

_..أووه..يا بنيَّ ..!!..

فاعترض خاء:

_لستُ ابنك

ألح شين :

_ بلا بلا .. si ..si ..

صمتَ لحظةً عاقدا يديْه وراء ظهره وهو يطوف في أنحاء الغرفة الواسعة التي هي في حقيقة الأمر ردهة فسيحة تتوسط قصراً كبيراً..كان يدير ظهره لِـ (خاء)ناظرا الى الجدران حيث مجموعة تماثيل وأيقونات مرصوصة ومتشابكة وبحركة مباغتة استدار اتجاهه وقال:

_ولنفترض جدلا أنكَ شخص آخر غير الذي أنتَ عليه في الحقيقة التي أنا أعرفها ومتيقن من كينونتها فيك..فما عساكَ تفعل أمام حالتنا هذه؟كل شيء ملعون محسوم سَلَفاً..والنتيجة معروفة من قبل أن أكون وتكون..اللعبة انتهت منذ زمان..وهذا العالم كله أرقام أرقام في جداول مبهمة لا يفقهها إِلا هو وحده.

يتوقف لحظةً.ينظر الى السقف.يضحك يصفق ثم بلهجة مسرحية يجأرُ :

_فنانٌ أصيلٌ صاحبكَ هذا..غيرَ أنه رغم كل ما قيل ويقال فهو ليس عادلا..يصنع كل شيء بمفرده..لا يشاورُ أحدا..كيف يعدل وهو الكل في الكل..لقد أعطى لنفسه جميع الصلاحيات حتى تلك التي تخص أدق تفاصيلنا.. أنسامنا حميميتنا حيواتنا الدقيقة الناعمة والخشنة..مسامنا..عَرقنا..عروقنا..حروفنا أصواتنا صمتنا نبسنا.. المرض،العافية،المصير، الحياة،الموت..كل شيء..ثم المراقبة والمحاسبة..ديكتاتور ياصديقي.. قانونه التحريم من أجل التحريم...كل الملذات.. كل الأهواء محرمة مُجَرَّمَـة..ابتداء من مناشدة الألوان والصُّوَرِ إِلى معاقرة الأعين الحَوَر..سادي بامتياز...

وبحركة مباغتة ينهض(خاء)من كرسيه الذي ظل جالسا عليه طيلة دخول الردهة ويتجه الى(شين) مقاطعا إِياهُ بانزعاج :

_ كفاك

فما كان من(شين)الا أن قال ساخرا :

_ أووه..لا..لا..اسمعني الى الأخير..لا تكنْ مثله...

فقال(خاء)بنبرة الغضب نفسها:

_وأنتَ مـا أنتَ..لا شيء..نكرة تقتات من فضلات الجِــيَفِ

فَــردَّ الآخرُ ببرودة مسرحية:

_ممكن أنْ أكونَ كما تقول..هذه وجهة نظر..بَيْدَ أني لستُ مثله..أنا لا أدعي العدالة..أنا واضح مع الجميع..أقدم في طابق من الورود الربيعية عالما حَيَّا وحيويا يسكن أحلامكم منذ الأزل..ألبي حاجاتكم في الوقت الذي يحرم فيه هو كل شيء...

* * *

أَعْلَمُ جيدا أنها ستقتلني يوما ما..لكن رغم ذلك أُدْمِنُهَا بالرغم مني..لا أستطيع منها فكاكا..هي عشقَتْنِي أم أنا العاشقُ؟مَنْ تُرانا كان المُبادر الأول في حكاية العشق هذه؟بالنسبة لي..فطبعي الخائر المتردد لا يسمح لي بالمبادرة..أكيد إِنها هي..وما كان مني الا الاستجابة..مجرد استجابة..رد فعل فقط..وها أناذا أجْنِـي نتائج ردود أفعالي..ما علينا..فهي جميلة على كل حال، خصوصا عندما تتوغل في أحشائي تتعرج هنا وهناك عبر الأمشاج، عبر الخلايا والحنايا،عبر الأعصاب مستقرة في النهاية في نُخاعي مُخلفةً آلاف النجوم بألوان الارتعاش والارتدادات المنكسرة كأنها تَرْقُصُ الجنون على نغمات متوترة صاخبة...لقد بدأتْ يداي ترتعدان وعيناي يرف جفناهما كالفَـراش يحوم حول الأنوار باحثا عن رُواء ليستقر في النهاية تحت ظلف حسيس لهب لا يرحم.. وهذه الرؤى..هي الأخرى تتناسلُ تتكاثر كالفواجع كملايين الجراد يَسُدُّ الأفقَ جَيْشُهَا الجرَّارُ في هجوم ماحق على الوهاد والسفوح والأجواء ...

* * *

وراء ظهره تتحرك التماثيلُ المنحوتة على اللوحة الرخامية العملاقة..يذوب الدهان في شكل أودية تسبح فيها جسوم ومسوخ تتعانق عارية في شبق حاد قُبَالةَ نظرات(خاء)المرتبكة..يلاحظ (شين)هول المفاجأة على وجه صاحبه فيتقدم نحوه يطوقه بذراعه الأيمن...

_اِهدأْ قليلا..هذا غيض من فيض يسكننا جميعا..لكننا لا نريد البوحَ به..كُنْ واضحاً منطقيا ولو مرة واحدة مع نفسك..لا تثقلْ كاهلك بأثقال لا مبررَ لحملها..ثم مَنْ قال لك احملها..هذه الدنيا أمامك بلون الفرح والشباب.. اقبلْ عليها..اِنْهَلْ من رحيق اللذة وانتش لا تفكر..التفكير مرض ومضيعة للوقت..عِـشْ حياتكَ كما ينبغي..لا يهمكَ شيء..دَعْ عنكَ تلك القيم المهترئة كسرابيل عجائز ما بعد المائة.. ستُفسدُ عقلَك والقلبَ..ستعَكِّرُ صفوَ الأحاسيس..انْدَفِعْ يا صاح.. لِتكف عن التردد والاحجام..اقبلْ..تقدمْ دوماً الى الأمام..عش تجربتك..لا تهتمْ..كُنْ مثلي...

_.. أنا لستُ مثلك

_وهذا يؤسفني حقا..إِنَّكَ تُحَرِّفُ مَساري وتَسْلك طريقاً غير التي رسمتُها لك منذ الأزل..يجب عليك أَنْ تعدل عن نهجك هذا..إِني أنصحك يا حبيبي..لاحظْ بأني أتَوَدَّدُ إِليك وأنتَ تُمعن في عقوقي ومفارقتي.. تتوغل في إِبعاد المسافات بيننا..تعقلْ أرجوك واسمعْ لي جيدا..طريقي هي الأصوب والأنجع دائما..يجب أنْ..

ينتفظُ (خاء) مقاطعا :

_بأي حق تخاطبني بهذه اللهجة الآمرة؟

فيرد(شين) ببرودة مُسْتفزة :

_ تأدبْ قليلا يا بني..

_أنا لستُ ابنك

_ومنْ تكون؟

_أَيَّ شيء..نكرة أنا الآخر..لكن نكرة سعيدة لأنها بعيدة عنك..لم يصبها وباؤك

_وباء ؟؟!!أتُسمي هِباتي وعطايايَ وسخائي وباءً؟!عجبا لكَ أيها العاق..أنا أضحي بنفسي من أجلك.. أشقى أتعبُ لترتاحَ وتطمئن قريرَ العين..فتجزيني بالنكران والجحود..ماذا فعلتُ لكَ لأستحقَّ كل هذه المعاملة؟؟

_..أرجوك.. دعني..ابتعدْ..

_لا تخاطبني بنبرتك هذه..يجب عليك احترامي..

_الاحترام؟الواجب؟..ماذا تعرف أنتَ عن هذه الكلمات وغيرها؟؟..القيم !؟..إِنكَ ترفضها مطلقا..تَطَـأُ عليها بقدميكَ الخشبيتيْن وتنفثُ فيها من سمومك المقيتة لتودي بها الى سعيرك المقرف.. تُحَول كل شيء.. تحرف.. تبدل..المسخ دَيْدَنُكَ دائما،فلا يحق لك بعد كل هذا التكلم عن الواجب والاحترام...

_ أنا لم أحرف شيئا..كل شيء يتغير بمزاجه،وما أنا الا ضابط ايقاع مهمته حُسن الاستماع الى رغباتكم وتنظيم أشيائكم الصغيرة كي لا يختلط حابلكم بنابلكم..إنكم جميعا دون استثناء تتسابقون الى عالمي،وعيتم ذلك أم لم تعوه..أتعلم لمَ؟؟لأنه العالم الوحيد المُمكن.أنا لا أقَدِّم المستحيل.لا أنشُدُ ما وراء السحاب باحثا عن سخافات لا جدوى منها..أنا هنا الآن وهذا هو الأهم.. أعيش لحظتي بكل ما فيها من منغصات وآلام وسعادة...

_ السعادة!؟..كلمة لا يعرفها أمثالك ..

_ لِــمَ تحتقرني ؟

_ أنا لا أحترقك..انها الحقيقة..السعادة شيء آخر غير الذي في ذهنك المريض ، اذا بحثتَ عنها من أجل الظفر بعينيها الدعجاويْن فانك لن تصل الى شيء ذي بال،أما اذا بحثتَ عن الواجب تفعله أتَتْكَ من تلقاء نفسها كعروس شهد تستدعيكَ كي تذوق من عسيلتها..

_ههه..اسمح لي أن أضحك قليلا من هذا الكلام الفضفاض..بْلاَ بْلاَ بْلاَ..انكَ يا عزيزي حساسٌ أكثر من اللازم.. أرجوك لا تحمل الأمور أكثر مما تستحق..العالم هو العالم..الانسان هوالانسان..والكون هو الكون وليس شيء آخر غير ما هو عليه..فلا داعي لتفخيم الأمور وتعقيدها أكثر مما هي معقدة..ان كلامكَ يصيبني بالغثيان.. ههه..السعادة مثل الفَرَاشِ مثل العناديل مثل القناديل..مثل كل شيء جميل يهرب بعيدا اذا رغبت فيه ويُقْبِلُ عليك من تلقاء نفسه اذا أعرضتَ عنه.. أف!!..أقوال مثل هذه تسبح في السحب تائهة يصيبها الإِعياء والدوار لتسقط يا حبيبي مغشيا عليها في قعر دوائر مفرغة محكمة الاغلاق..وفي نهاية المطاف،لاَ يصح الا الصحيح، وما يبقى في الوادي غير حجارته. الواقع أكبر من سفاسف الترهات التي تسكن مخيخك الصغير هذا والمسماة واجب،عطاء، سعادة احترام ووو...ان الواقع سيظل كما هو،كما تعرفه وأعرفه،كما يفرض نفسه عليك عليَّ وعلى الجميع،يسخر من أمثالك الذين يعانقون هذه اللفافات المُضَبَّبة محاولين تجسيدها بتمَـثُّلِها في حيواتهم والتشدق بها في كل مكان ومجمع،مما يجعلكم عرضة للسخرية..يا عزيزي،كل شيء من حولنا يتغير،ولا دخل لي أنا بهذا التغيير.هذا ناموسه السماوي.هذا قانونه.هو الذي يفعل ذلك بحنكة و دُربة فائقتيْن،فلا تَسِمْنِي بما ليس فِيَّ لا تنسبْ اليَّ ما ليس لي ولا عندي..ما أنا إِلا مُوَجِّهٌ كما قلتُ لكَ..يجب عليك أن تختار طريقا غير التي أنتَ غارقٌ فيها منذ زمن طويل..اُنْظُرْ الى نفسك..حالك..كل شيء فيك ينبئ بنتيجة اختيارك الفاشل..ان المتغيرات تضع أمثالك في خانة ذاك المخبول الأندلسي في الوقت الذي يحقق الآخرون العاقلون مآربهم في فترات قياسية..دَعْ عنك طواحيـن الهواء وعوالم الخرافات والجنيات العالقات في أطياف ضباب مخيلتك المهيضة،لتتقدمْ الى الأمام،الى الدنيا كما هي..اِغرفْ منها ماشئتَ انتشِ انسَ كل شيء ارمِ بالأدران وراء ظهرك..لا تفكر الا في أًنَاكَ وحدها، هي التي يجب أن تقودَ..أن تعيشَ..أن تصلَ الى القمم..أن تنظر للآخرين من فوق بازدراء..أن تحقق كل مآربها..فَكُنْ أنتَ أنت ولا تكنْ أنت سواك ...

* * *

لا..لا..أيتها القهوة الملعونة..ما أنا بالرجل المجنون..أنا فقط إِنسانٌ فقد ظله المارق، لأنه ببساطة غرق فيكِ وفي قطران اللفائف المحشوة قرفا وفي رتابة الأيام المترادفة..لم يعد هناك شيئ ذو بال فوق الرقبة وسط الجمجمة تحت الشعر الأغبر تحت الجلد والمسام والأغشية.لم تعد هناك تلك العلكة اللزجة المسماة: مخا.لم يعد هناك شيء البتة..نعم،أنا انسان فقد عقله،لكني لستُ مخبولاً..لا لستُ كذلك..الجو في الخارج..خارج مدارجك الحالكة يا ملعونة جو جميلٌ.. الشمس بيضاء في سماء صاف أديمها.البساط أخضر هناك وهنا،وفي كل هنهيهة يهتف النداء من الأجواء أن مرحبا بالحياة..والنساء والعذارى الفاتنات في كل مكان..بيد أن العقبان والغربان في كُورالها المشؤوم تغني ليلة انحسار الطموح واحتضار الأماني وانتحار الرغبات..أ هذه مجرد كلمات أم أن سُمَّكِ يا قاسية، يفعل فعله المشؤوم في خلاياي وسِراطك،يا ماسخة هو السبب هو العطبُ..لقد أَثْخَنْتِنِي بمَيْسَمك المقرف..وها أناذا، أنوءُ بحمل جثتي الواهنة غير مدرك ما يحيط بي ولا ما يعتمل داخل أجوائي من أحاسيس وهتافات...

* * *

كان(خاء)يفرك يديه بعصبية،ومن حين لآخر يطقطق أصابعه بانفعال واضح ، لكنه ظل صامتا كأن شيئا خفيا من حديث محاوره جعله ساهما لا ينبس ببنة شفة كَمَنْ نُوِّمَ تنويما مغناطيسيا ولما انتهى(شين)من كلامه المسهب، انتبه هو الى نفسه فقام منتفظا وهو يصرخ :

_ مَنْ أنتَ حتى تُغْدِقَ عليَّ كل هذا الكلام؟؟

_ أنَــا؟؟!!!

قالها(شين)بلهجة تصطنع التعجب ثم استرسل ببــرودة :

_ يا حبيبي، أنتَ هو أنا، كلانا حَلَلْنَا عَفَنَا..الكل في واحد هناك هنا..أنا !!؟؟ ..كل شيء في الوجود..هذه رؤيتي، وعليكَ أن تتخذ الرؤية نفسها وتهتف في وجه السماوات العُلَى والحيوات الدُّنَى: أنا هنا كل شيء في الخلائق في الكون والكائنات..نعم يا عزيزي،أنا وبعدي المَجاري وكل سخافات طوفان المستنقعات..لا يهم هذا العالم الخارج عن ذاتي..اتركْ كل شيء وراءك..هُراء.. كل القيم والفلسفات والمبادئ والأخلاق.. انها تحريف ممسوخ يقمع.!!.أَنَايَ..أما هُو..

يتوقف لحظة يضحك فيها بهستيرية مستهزئا يهز كتفيْه الى أعلى في حركة مسرحية غير مبالية ثم يسترسل:

_هُوَ موجود هناك وتلك هي المشكلة.. صامتٌُ مقرف في غيابه في حضوره وفي كل تجلياته..يدعي الرحمة ولايرحم أحدا..فليبق في عليائه وليترك لنا هذا العُباب هذا السراب هذا الغضب لنبقَ هنا أنا وأنتَ الآن..هذا هو الأهـــم...

تَقَدَّمَ(شين)الى(خاء).لمس كتفيه بحدب وحُنو فنفر(خاء)بعنف جائرا:

_ لا تلمسني

_ أوووه..يا حبيبي،انك منفعل

كان(خاء) يتراجع أمام وقع أقدام (شين) الواثقة الرصينة الثابتة :

_ تعالَ إِلَـــيَّ أرجوك

_ابتعدْ ..!!..

_لا تقلْ هذا..فأنا أحبك...

_الحب ؟!أنتَ لا تعرفه..لقد أنكرتَه...

_طبعا،ولا زلتُ أنكره..لكن أنتَ استثناء خاص..أو قلْ حُبي لكَ هو القاعدة..وهو رغم كل شيء،لا يشبه تلك العاطفة الرعناء التي تحضنها في حناياكَ..حبي شيئ آخر..حبي هو الأبقى..هو الأسمى.. هو كل شيء...

_ماذا تريد مني ؟؟

_ أريدك بجانبي

_ لماذا ؟؟؟

_أووه..مرة أخرى هذا السؤال السخيف..أنا أحتاجكَ جنبي وكفى

_تحتاجني أنا ؟؟

_ نعم

_أرجوك..كُـفَّ عن طرح الأسئلة واتبعني

_ مَنْ أنتَ ما تكون؟

_أوووف من أسئلتك التي لا تنتهي..أنا !؟!سَمِّنِـي ما شئتَ..ناديني:أبي..بكل بساطة..

_..أبـي؟!؟..هذا سخيف

_ليس أسخف من العالم الذي تعيش فيه..

_لماذا أتيتَ الآن ؟؟

_ لأني أحتاجك

_ أنا لا أنفعك

_ بَلاَ حبيبي

_ طريقُكَ غير طريقي

_ مَنْ قال ذلك ؟؟

_أنا أقولها و أعيدها..أنا لا أنفعك وأنت لا تنفعني.. كلانا كائنان لا يلتقيان...

صمت(شين)لحظة تاركا لِــ(خاء)فرصة التعبير عن رأيه بانفعلا واضح..ولما أنهى كلامه،تقدم نحوه وأمسكه من كتفيْه محدقا في مقلتيْه بثبات ثم بنبرة هادئة:

_لا تقلْ هذا الكلام..فقبل أن آتي اليك.. أو لنقل،قبل أن أستدعيك للقدوم عندي هنا في قصري المُنيف هذا،كنتُ أترقب أخبارك باستمرار وإِلحاح..كانت استطالة أذني كافية لالتقاط ما تنبس به من كلمات في سرك الدخيل.. كنتُ أسمع مناجاتك المديدة،قرفَك الذي لا ينتهي من ذاتك وعالمك والآخريـــــن..شعورك بلا جدوى الحياة.. برمك وسخطك على كل أشيائهم البغيضة..ورُؤاك..نعم رؤاك المتواترة..كنتُ أراها..لقد كنتُ معك طيلة وقتك القلق المنهار..أنينك لا أزال أسمعه..جؤارك في وجه العالمين..بغضك لعوالمهم الضيقة الخانقة..كل ذلك كان يسقط على قلبي بردا وسلاما..و.. فرحتُ..أخيرا..انَّ ابني يشبهني...

* * *

_ هذه القهوة اللعينة..تبا..!!..

يتوقف ماسكا الفنجان يتفحصه عن كثب يبحث عن مُستقبل مجهول.لا يرى شيئا غير انعكاسٍ لخيالات سوداء لرؤوس كالحة تلعك أوقاتها في قرف لا ينتهي بَرَمُهُ..اني أشبهكِ يا سادية..!!..أنا أنتِ وأنتِ أنا..كلانا هنا..لقد صدق الملاعين اذا..كل شيء هراء..وبحركة خاطفة،يرمي بالفنجان عرض ما صدفَ، فانكسر شظايا متفرقة وسال دمُهُ منسابا على الجدار كأفعى رقطاء الرأس والبدن تتعرج بين الأحراش في بحث جاد عن أول فريسة تصادفها في الطريق..لم يكن ثمة لا فريسة ولا صياد ولا طريق..كل شيء صفيق الآن وفي كل آن في عقله الضائع الذي يقبع متلكئا غارقا على كرسي من خشب...زَنَدَ رأس عودَ ثقاب..استعرتِ النارُ.اشتد وهيجُها في قنة رأسه.. لظاها سعارها يأكلانه..لا يهم..فليشعل لفافة أخرى وليغرق..فقد تعود الآن..لا وقت للانسحاب..سَوَّى جلسته..نادى النادل الذي كان يجمع الشتات المنكسر...

_ نعم سيدي

_ قهوة سوداء أخرى أرجوك

_حالاً سيدي...

_تمت


_إحالات:
الحوار بين الشخصيتين من وحي فيلم(محامي ااشيطان/The Devil s Advocate)عام 1997








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن