الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آراءٌ بسيطةٌ غيرَ مُلزمَة لأحَدْ ..(13)

زكريا كردي
باحث في الفلسفة

(Zakaria Kurdi)

2022 / 8 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


--------------------------
كثيرا ما أسألُ نفسي، عنْ مصير هذا اللغو الهائل، الذي باتتْ تغصُّ به جَنَبات وسائل الاتصال الاجتماعي،
وأتأمل مطولاً ، في جدوى ما تقذفهُ إلينا بحورها المُتلاطمة، من فرائس الجهل، وسراخس الغفلة , ومروجي الابتذال و دعاة الاسفاف ..
وأرقبُ عنْ كثب، حالةَ الفوضى المَشاعرية والقيمية، التي يحياها البشر حالياً ، من جرّاء الانفجار المعلوماتي الراهن،
وكيف تمضي بهم سياقاته الغامضة، بعيداً عنْ أيّ مألوف، و في دورة اتساع، لا سابقة لها ، ولا نظير...
حيث الانتقال الادراكي اللحظي، بين المنشورات المختلفة، والمعلومات المُتناقضة في محتواها..
وحيث اللهاث الأبله وراء الشهرة والأضواء على أشده ، و الهرولة العمياء ، وراء سيلان صرعات العبارات وتنازع مغزاها، و جريان الأخبار المتعاكسة تماماً في فحواها ومبتغاها..
فمن النعي إلى التهنئة ، ومنْ مُباركة النجاح إلى فاجعة الموت ، ومن هناءة الشراء ، إلى مَساءة الوباء ، و من ألم الفقد والحرب إلى وجْد الغياب و الشوق و لهيب الحب , ومن , و ..و الخ
وقد تقرأ شذرةً جادّة، فتدفعك للشرود والتأمّل، ثم يليها مباشرةً نثرة تافهة وحادّة ،فتسخط بسببها أشدّ السخط ،
و بعد قليل تلتقي مرة ثانية بنهفة هنا،
فترضى كل الرضى وتنفرج اساريرك ، ثم فجأة تصدمك نعوة عزيز أو رحيل ابن أو فراق حبيب هناك،
فتوجم وانت تُملي عزاءك للانسان، وتدعو بالترحم أو ترجو للفاقد الصبر و السلوان.. و. وهكذا دواليك .
كما أرى ، فإن كل هذا الذي سبق ،أنجز لدى كثير من الناس ، أنواعاً متعددة من البلادة في المشاعر الغريبة المُتنازعة، وأشهر اعتلالاً في مناحي الأنفس والأذهان المتصارعة، ودلّ على سقامةٍ داكنة ومتعاظمة في أنماط التفكير السائدة ..
الأمر الذي كرّس فيها - في زعمي - أنماطاً غريبة عجيبة من التفاهة غير المعهودة في التفاعل الانساني العام، وشجّع على الثرثرة ، و عدم الاكتراث بحضور أية قيمة إنسانية ، أو الاهتمام باستمرار قيمتها بين علاقات الناس الى حين،
و كذلك ساعد على إفراغ هيابة كثير من اللذات من نعمائها . والاستهانة بكل ما عرفنا عن رتب الإنسانية العليا، أو صفاء فضائها الانساني والأخلاقي السامي ..
حيث نلاحظ بوضوح، كيف قستْ القلوب، وهانت عظائم الخطوب، وتكاثرت الهمم نحو الوقاحة الممدوحة، و السذاجة المشروحة ، و تسيّد الاستهتار بمشاق الحياة، أو فهم منجزاتها ..
فأصبح كلّ شيء عادي، مهما بلغ هذا الشيء أو الحدث من الجمال شأواً ، أو نال من رذيل القبح سهواً ، أو قبض من الحق نسكاً و زهواً، أو حظيَّ من حضيض السوء دركاً وبهواً .
للأسف ، لقد فتحتْ وسائل الإتصال البوابات على مصراعيها ، فدخلت قوافل الأغبياء ، وأقيمت مجالس الأدعياء في كل شيء ، و نصبت سرادق عكاظ جديدة، للإمعات الأدبية والبلهاء ، يدلون بما يشتهون من ظلال الرأي وغبار الحقائق الميتة..
وصار كل من هبّ ودبّ جهينة اليقين، يتكلّم وكأنّه منْ أفصح الفصحاء وأعلم العلماء.
واضحت غالبية الأفهام المُتابعة ، ترضى عما لا تعرف وتُعجب بما لا ترى ..
فهذا يغلو في اكبار نفسه في شذرة منسوخة أو مقالة ممسوخة ، و ذاك يستعذب الاستسهال بالقص واللصق أو بالإنتحال ،
وهؤلاء في صفحة جماعية بعنوان رنان، يوزعون الشهادات على بعضهم البعض، ويمنحون الالقاب العلمية المجانية، على كلّ من وافق هوى أقنعتهم ، فيتداولون فيما بينهم، مجاجة الأجوبة المتماثلة، وسخافة الاحداث الحاصلة..
ويكررون - المرة تلو المرة - ذات التعجب ونفس السؤال حول كل القضايا المعرفية القديمة .
والعجب أنْ ترى بعضهم يُسيء الظنّ في العبارة المنشورة من قبل غيره، فقط لأنّها لم تصدرْ عنه، أو عمّن يعتقد أنه الصالح الصادق الأمين برأيه ..
ولهذا تجده يأخذ من الكلام ظاهره، دون الغوص في أغواره ومناسكه..
فتراه يُهاجم ويُخاصم و يرد بلسان غيره ، ويَعقل بفهم سواه ، وفي النهاية، لا تجد من حصاد الأمر بينهم ، سوى لغو يكاثرُ لغواً ..وهباء يناصرُ غباء .
والأعجب إنْ حصل وشارك أحد ما ، ذو نصيب في تعليم ما ، في دردشة ذات رزانة ، أو مشكلة فكرية معرفية ذات رصانة ،
أو دخل معهم - دون قصد - في حوار ذا مسحة جدية ، سواء في التعليق أو الرد والطرح،
فستجد أن جلّ الردود عليه شخصية لا فكرية ،
يحضر بها الإغفال والبيان، ويشحُّ فيها الاستدلال والبرهان..
فيتهافت الحديث بالأخذ والرد ، ويتدهور قطار النقاش بينهم بين هزل وجد ..
ليَتمَّ بعدَ ذلك، الانصراف التام الى الحَمدِ الكاذب، والثناء الرخيص الموارب ، أو الصمت الكظيم ، او الاكتفاء بملء فقر النفس بلذة الإعجابات الكاذبة ، والمجاملات المُملّة المُتقاربة ..
و بعد كل هذا الذي يحصل .. لا يبقى أمام الانسان الحصيف سوى الهرب بذاته، والنجاة بما تبقى له من ذهنٍ مشوش، يحمل على عواتقه
أثقالا مضاعفة من سوء الفهم والاحباط ، و التخبط بين الأسن والزلال، من فتات الأفكار والتصورات الهشة ، وأمشاج القيل والقال..
و وعياً ينوء تحت أحمالٍ لا تُطاق، من أكوام الهذر واللغو الفارغ ، وأحاديث الزقاق ..
ليكربُ بقية يومه أشد الكرب من غثاء التعليقات المنافقة ، أو رثاء المعلومات الساذجة ..النافقة ..
قصارى القول :
لله درّ التقنية الراهنة، كيف اختصرت كل هذه المسافات والأماد ، وكشفت لنا عن الفوارق الجمّة بين أفهام الناس والعباد ،
ولله درّها كيف تُعلمنا قسراً ، حقيقة أنّنا - كالموتى الأحياء - نتنفّس بين أمم شتى مُتراصفة مُتجاورة ، تعيش على ذات الكوكب، ولكن يفصل - للأسف - فيما بين أفهامها وأخلاقها ومعاشها أجيال وآباد ..
و كمْ وَدّ الذين طافوا بهذا الفضاء الافتراضي - وأنا أحدهم - لو توقفوا عنه ، وامتنعوا عن مُخالطة صفحاته الغرائبية ،
لكن يبدو أنّ سوط الفضول في النفس غالب ، وجذب الجهل للوعي الانساني شديد و ساحب ،
وذهن الانسان - كما نعلم - جوهر طبعه التناقض ،
ومحرك فهمه التوق الغامض ، الرابض عند حواف حب الظهور، وتأكيد الذات في كل حين و طور،
ومقتل طمأنينته هوى الاختلاف والمشاكلة ..
و علة إدراكه الدائمة ، تكمن في السعي الدؤوب الى الاجتماع مع الأضراب والنظراء والمساءلة ..
فويلٌ كل الويل ، لمنْ كان في هذا الفضاء الافتراضي، رقيق الحس، سريع التأثر ، منقوص الضبط في مشاعره القواصف،
أو بدا لهج اللسان عفوياً ، كثير الحماسة خفيف العواطف ..
أو كانت تنقصه مزيّة المُحاباة ،
فلا يُحسن التعامل مع مزيّة الابتذال، أو يجهل فنّ الصمت والإصغاء وفضيلة الاعتزال ..
و أظنُ أنّ الحصيف الناجي، في هذا الفضاء الافتراضي الغريب، هو من امتلك غبطة هادئة ، وابتهاجاً متواضعاً ، ونزعة رصينة متوازنة، تُحركه في الوقت المُناسب نحو التصفح والإقبال، أو تشد بعزيمته عند التهافت فراراً صوب النأي والإدبار ..
zakariakurdi








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصف إسرائيلي على مركز رادارات في سوريا قبيل الهجوم على مدينة


.. لماذا تحتل #أصفهان مكانة بارزة في الاستراتيجية العسكرية الإي




.. بعد -ضربة أصفهان-.. مطالب دولية بالتهدئة وأسلحة أميركية جديد


.. الدوحة تضيق بحماس.. هل تحزم الحركة حقائبها؟




.. قائد القوات الإيرانية في أصفهان: مستعدون للتصدي لأي محاولة ل