الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ورثة الملك وخبيئة الباشا

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2022 / 8 / 20
المجتمع المدني


ربما كان الباشا يطمع في إمبراطورية حديثة على الطريقة البريطانية والفرنسية والروسية آنذاك، من أنقاض خلافة عثمانية رجعية اشتهرت في ذلك الزمان بنعت ’رجل أوروبا المريض‘. كان يحلم بمصر أقوى وأكبر وأرحب من حدودها الطبيعية المرسومة، قائدة ومهيبة في محيطها الإقليمي والعالمي، ولو كان الثمن تشييع جثمان ’الرجل المريض‘ إلى مثواه الأخير!

انتهى الحلم بكابوس ربما أفقد الرجل رشده، ورجعت مصر أدراجها جريحة ومنكسرة إلى دارها- حدودها الطبيعية. ما كانت بريطانيا وفرنسا وروسيا تقبل بتأسيس امبراطورية شابة وحديثة فوق أنقاض أخرى طريحة الفراش والكل واقف ملتف حولها، متلهف لأخذ نصيبه من تقسيم التركة.

بطريقة أو بأخرى، ضَيَّعَ الباشا حلمه الإمبراطوري مرة واحدة وإلى الأبد ولم يتبقى له سوى حكم مصر كمملكة وراثية له ولأبنائه من بعده. ضاعت الإمبراطورية، لكن بقيت المملكة! وانقضت حقبة الباشا نفسه، ثم توالت حقب أبنائه.

في المحصلة، أدركت مصر بعد طول الزمن أن الباشا وإن أخفق في إنشاء إمبراطورية حديثة، إلا أنه نجح في وضع الأساس لدولة مصرية قادرة على محاكاة وتوطين المؤسسات الحديثة الفاعلة في الدول المتقدمة. وبفضل ذلك، حققت مصر نقلة حضارية عملاقة، من عصر شديد القدم والتخلف والبلادة والكسل إلى آخر متفجر بالجهد والطاقة والعمل والحيوية والتقدم. في الواقع، لم تصبح مصر عاصمة الإقليم سياسيًا وعسكريًا كما كان يحلم لها الباشا لكنها- نتيجة جهود الباشا الفاشلة ذاتها- وجدت نفسها منارة الإقليم كله وبوصلته ومركز ثقله ومحط أنظاره وفخره وكبريائه- عاصمة القلب والعقل والجمال.

بسحرها ودلالها، لا جبروتها وبطشها، وجدت مملكة الباشا نفسها ملكة القلب المتوجة على العالم بأسره وليس الإقليم فحسب. حتى الإمبراطوريتان الأعظم- بريطانيا وفرنسا- تزاحمتا لخطب ودها وطلب يدها. نزل فيها واستعمرها المغامرون والمستثمرون والباحثون عن الثراء والحلم والشهرة والمتعة من كل مكان. خلية تغلي بالطاقة والحيوية والنشاط المسعور على الصعد كافة، وفي اتجاهات متناقضة. ربما هناك خبيئة ما أخفاها الباشا في بر مصره التي أعاد بنائها على أنقاض دولة المماليك جعلت العالم أجمع يهرول إليها بحثًا ورائها؟!

مرة أخرى، يعجز المكان عن استيعاب وتصريف كل هذه الطاقة والحيوية والنشاط المتضارب، لينفجر في حريق ضخم التهم القاهرة- إحدى أنشط مدن العالم وأكثرها حيوية وفاعلية في ذلك الزمان. وقعت القاهرة ضحية لحيويتها وأنوثتها وفتنتها الزائدة عن الحد- وربما لخبيئة الباشا. وكان الحريق نذيرًا بأفول عصر وولادة جديدة!

ورث رجال يوليو مملكة الباشا، وغيروا اسمها إلى ’جمهورية‘. في الحقيقة، هم غيروا الكثير من مصر وليس الاسم فقط، لدرجة نقلتها من عصر لآخر مختلف كليًا، تمامًا كما نقلها الباشا من المملوكي إلى الحديث. ومع توالي رجال يوليو الواحد تلو الآخر، أخذت مصر تتغير شيئًا فشيئًا لينتهي بها الحال على طرف النقيض مما كانت عليه في زمن الباشا وأبنائه.

أطفأ رجال يوليو نيران الحرائق، وفرضوا الأمن والنظام، واستأصلوا شأفة الفوضى التي عمت القاهرة في ذلك الوقت. لكن مع الفوضى، ذهب أيضًا الابداع والجمال والفكر والنشاط والحيوية على جميع الصعد.

تحولت مصر من مكان جاذب للأشخاص والأموال من كل أنحاء العالم إلى مكان طارد- حتى لأبنائها أنفسهم. وبعدما كانت مصر تشتكي من ازدحام وتنافس الأجانب والأغراب عليها، أصبحت تتسولهم- وهم يتمنعون. أصبحت مصر دولة مستقلة، ذات سيادة، تملك جيشًا قويًا وحكومة ضخمة، تتمتع بالأمن والاستقرار. رغم ذلك لا يجد فيها العالم ما يغريه للمجيء إليها- ولو مؤقتًا- لغرض السياحة أو الاستثمار أو أي شيء آخر. ماذا فقدت مصر في عصر رجال يوليو وجعلها تنتكس إلى ما كانت عليه في عصر المماليك- بلد مهجور ليس فيه ما يثير لعاب أحد في العالم؟! هل خسرت مصر خبيئة الباشا حقًا؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفوض عام وكالة الأونروا يحذر من مجاعة بعد تردي الأوضاع في غز


.. موجز أخبار الواحدة ظهرًا - مفوض عام الأونروا يحذر من أن المج




.. اعتقال رئيسة وكالة مكافحة الفساد في الجبل الأسود بتهم تتعلق


.. لازاريني: المجاعة -تحكم قبضتها- على قطاع غزة • فرانس 24




.. مجازر وجرائم مستمرة وتفاقم الوضع الإنساني في غزة