الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زَنَابِقُ آلْحَيَاةِ، بخصوص قصيدة-يا صبر أيوب-للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد

عبد الله خطوري

2022 / 8 / 21
الادب والفن


● أولا_قصيدة ياصبر أيوب :
قالوا وظَلَّ، ولم تشعر به الإبلُ
يمشي، وحاديه يحدو وهو يحتملُ
ومخرز الموت في جنبيه ينشتل
حتى أناخ بباب الدار إذْ وصلوا
وعندما أبصروا فيض الدما جفلوا
صبر العراق صبور أنت يا جَملُ
ما هدموا ما استفزوا من محارمه
ما أجرموا ما أبادوا فيه ما قتلوا
وطوقهم حوله يمشي مكابرة
ومخرز الطوق في أحشائه يغلُ
وصوت حاديه يحدوه على مضض
وجرحه هو أيضا نازف خضل
يا صبر أيوب، حتى صبره يصل
إلى حدود، وهذا الصبر لا يصل!
يا صبر أيوب، لا ثوب فنخلعه
إن ضاق عنا، ولا دار فننتقل
لكنه وطن، أدنى مكارمه
يا صبر أيوب، أنا فيه نكتمل
وأنه غرة الأوطان أجمعها
فأين عن غرة الأوطان نرتحل؟!
أم أنهم أزمعوا ألا يظللنا
في أرضنا نحن لا سفح، ولا جبل
إلا بيارق أمريكا وجحفلها
وهل لحر على أمثالها قبل؟
واضيعة الأرض إن ظلت شوامخها
تهوي، ويعلو عليها الدون والسفل!
كانوا ثلاثين جيشا، حولهم مدد
من معظم الأرض، حتى الجار والأهل
جميعهم حول أرض حجم أصغرهم
إلا مروءتها تندى لها المقل!
وكان ما كان يا أيوب ما فعلت
مسعورة في ديار الناس ما فعلوا
ما خربت يد أقسى المجرمين يدا
ما خربت واستباحت هذه الدول
هذي التي المثل العليا على فمها
وعند كل امتحان تبصق المثل!
يا صبر أيوب، ماذا أنت فاعله
إن كان خصمك لا خوف، ولا خجل؟
ولا حياء، ولا ماء، ولا سمة
في وجهه وهو لا يقضي، ولا يكل
أبعد هذا الذي قد خلفوه لنا
هذا الفناء وهذا الشاخص الجلل
هذا الخراب وهذا الضيق لقمتنا
صارت زعافا، وحتى ماؤنا وشل
هل بعده غير أن نبري أظافرنا
بري السكاكين إن ضاقت بنا الحِيَلُ؟!

يا صبر أيوب، إنا معشر صبر
نغضي إلى حد ثوب الصبر ينبزل
لكننا حين يستعدى على دمنا
وحين تقطع عن أطفالنا السبل
نضج، لا حي إلا الله يعلم ما
قد يفعل الغيض فينا حين يشتعلُ
يا سيدي، يا عراق الأرض، يا وطنا
تبقى بمرآه عين الله تكتحلُ
لم تشرق الشمس إلا من مشارقه
ولم تغب عنه إلا وهي تبتهلُ
يا أجمل الأرض، يا مَن في شواطئه
تغفو وتستيقظ الآباد والأزل
يا حافظا لمسار الأرض دورته
وآمرا كفة الميزان تعتدل
مذ كورت شعشعت فيها مسلته
ودار دولابه، والأحرف الرسل
حملن للكون مسرى أبجديته
وعنه كل الذين استكبروا نقلوا
يا سيدي، أنت من يلوون شعفته
ويخسؤون، فلا والله، لن يصلوا
يضاعفون أسانا قدر ما قدروا
وصبرنا، والأسى، كل له أجل
والعالم اليوم، هذا فوق خيبته
غاف، وهذا إلى أطماعه عجل
لكنهم، ما تمادوا في دناءتهم
وما لهم جوقة الأقزام تمتثل
لن يجرحوا منك يا بغداد أنملة
ما دام ثديك رضاعوه ما نذلوا
بغداد،أهلك رغم الجرح،صبرهمو
صبر الكريم،وإن جاعوا،وإن ثكلوا
قد يأكلون لفرط الجوع أنفسهم
لكنهم من قدور الغير ما أكلوا
شكرا لكل الذين استبدلوا دمنا
بلقمة الخبز، شكرا للذي بذلوا
شكرا لإحسانهم، شكرا لنخوتهم
شكرا لما تعبوا، شكرا لما انشغلوا
شكرا لهم أنهم بالزاد ما بخلوا
لو كان للزاد أكالون يا جمل
لكن أهلي العراقيين مغلقة
أفواههم بدماهم فرط ما خذلوا
دما يمجون إما استنطقوا، ودما
إذ يسكتون، بجوف الروح، ينهملُ
يا سيدي، أين أنت الآن خذ بيدي
إني إلى صبرك الجبار أبتهل
يا أيهذا العراقي الخصيب دما
وما يزال يلالي ملأه الأمل
قل لي، ومعذرة ، من أي مبهمة
أعصابك الصم قدت أيها الرجل؟!
ما زلت تؤمن أن الأرض دائرة
وأن فيها كراما بعد ما رحلوا
لقد نظرت إلى الدنيا، وكان دمي
يجري وبغداد ملء العين تشتعل
ما كان إلا دمي يجري وأكبر ما
سمعته صيحة باسمي وما وصلوا
وأنت يا سيدي ما زلت تومئ لي
أن الطريق بهذا الجب يتصل
إذن فباسمك أنت الآن أسألهم
إلى متى هذه الأرحام تقتتل؟
إلى متى تترع الأثداء في وطني
قيحا من الأهل للأطفال ينتقل؟
إلى متى يا بني عمي وثابتة
هذي الديار وما عن أهلها بدل؟
بلى، لقد وجد الأعراب منتسبا
وملة ملة في دينها دخلوا
وقايضوا أصلهم واستبدلوا دمهم
وسوي الأمر لا عتب، ولا زعلُ
الحمد لله، نحن الآن في شغل
وعندهم وبني أخوالهم شغل
أنا لنسأل هل كانت مصادفة
أن أشرعت بين بيتي أهلنا الأسل؟
أم أن بيتا تناهى في خيانته
لحد أن صار حتى الخوف يفتعل؟
وها هو الآن يستعدي شريكته
بألف عذر بلمح العين ترتجل
أما هنا يا بني عمي، فقد تعبت
مما تحن إلى أعشاشها الحجل
لقد غدا كل صوت في منازلنا
يبكي إذا لم يجد أهلا لهم يصل
يا أيها العالم المسعور، ألف دم
وألف طفل لنا في اليوم ينجدل
وأنت تحكم طوق الموت مبتهجا
من حول أعناقهم، والموت منذهل
أليس فيك أب أم يصيح بها
رضيعها طفلة تبكي أخ وجل؟
يصيح رعبا، فينزو من توجعه
هذا الضمير الذي أزرى به الشلل؟
يا أيها العالم المسعور، نحن هنا
بجرحنا، وعلى اسم الله نحتفل
لكي نعيد لهذي الأرض بهجتها
وأمنها بعدما ألوى به هبلُ
وأنت يا مرفأ الأوجاع أجمعها
ومعقل الصبر حين الصبر يعتقل
لأنك القلب مما نحن، والمقل
لأن بغيرك لا زهو، ولا أمل
لأنهم ما رأوا إلاك مسبعة
على الطريق إلينا حيثما دخلوا
لأنك الفارع العملاق يا رجل
لأن أصدق قول فيك:يا رجل
يقودني ألف حب، لا مناسبة
ولا احتفال، فهذي كلها علل
لكي أناجيك يا أعلى شوامخها
ولن أردد ما قالوا، وما سألوا
لكن سأستغفر التاريخ إن جرحت
أوجاعنا فيه جرحا ليس يندمل
وسوف أطوي لمن يأتون صفحته
هذي، لينشرها مستنفر بطل
إذا تلاها تلاها غير ناقصة
حرفا، وإذ ذاك يبدو وجهك الجذلُ
يا سيدي،يا عراق الأرض، يا وطني
وكلما قلتها تغرورق المقل
حتى أغص بصوتي، ثم تطلقه
هذي الأبوة في عينيك والنبل
يا منجم العمر، يا بدئي وخاتمتي
وخير ما في أني فيك أكتهل
أقول:ها شيب رأسي، هل تكرمني
فأنتهي وهو في شطيك منسدل
ويغتدي كل شعري فيك أجنحة
مرفرفات على الأنهار تغتسل
وتغتدي أحرفي فوق النخيل لها
صوت الحمائم إن دمع، وإن غزل
وحين أغفو، وهذي الأرض تغمرني
بطينها، وعظامي كلها بلل
ستورق الأرض من فوقي، وأسمعها
لها غناء على أشجارها ثمل
يصيح بي:أيها الغافي هنا أبدا
إن العراق مُعافَى أيها الجمَلُ

● ثانيا_ الشاعــــــــر :
ولد عبد الرزاق عبد الواحد في بغداد عام 1930.
_تخرج من قسم اللغة العربية بدار المعلمين العالية عام 1952 .
_عمل مدرسا، ومعاونا للعميد في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد .
_انتقل الى العمل بوزارة الثقافة والإعلام عام 1970.
صدرت له اثنتان وأربعون مجموعة شعرية من بينها:
لعنة الشيطان 1950
طيبــــــــــة 1956 ،
النشيد العظيم 1959
أوراق على رصيف الذاكــرة 1969
خيمة على مشارف الأربعين 1970
الخيمـــــــة الثانية 1975
سلاما ياميــــــــــــاه الأرض 1984
هـــــــو الــــــــــــذي رأى 1986
البشيــــــــــــــــــــــــر 1987
ياسيد المشرقين ياوطنــــي 1988
ياصبــــــــــر أيـــــــــــوب 1993
قصائد في الحــــــب والموت 1993

عاصر رواد شعر التفعيلة أو ما يسمى ب"الشعر الحر"مثل:بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وزامن شاعر البعث والاحياء"محمد مهدي الجواهري"، مما جعله يتأثر بالاتجاهين معا وكتب بالطريقتين، مع ميل واضح للطريقة التقليدية في النظم، كما هو واضح في هذه القصيدة..

● ثالثا_محاولة فهم :
لاميات(نسبة لروي اللام)المتعالقة ببحر البسيط في الشعر العربي دائما تجد لها رُواء ايقاعيا عذبا تستسيغه الأذن العربية لِمَا في أجزائه الموسيقية من توازيات وترديدات وترصيعات وتكرارات صوتية تضبط النغمات وتصبغ على القراءة والانشاد انسجاما واضحا حتى بالنسبة لمن لا يدرك طريقة بناء توليفة هذه الأجزاء الموسيقية..
إِنَّ تَوَاتُر:"مستفعلن فعلن مستفعلن..."بخبن"فاعلن/فعلن:حذف الثاني الساكن"أو تركها صحيحة وتعاقبها مع تفعيلة الرجز الأساسيسة"مستفعلن"مع ما يحدث فيها من خبن "مفتعلن"..كل ذلك وغيره مقبول سمعا، بل ومستحسن في هذا البحر المركب لما تحدثه هذه التغييرات من وقع حيوي حركي راقص كرقصات الفَراش بين تيجان الأزهار، وإنني لأجدُ شبها واضحا تلقطه الأذن لنغمة البسيط هذه حتى في بعض ايقاعاتنا الشعبية في المغرب التي تعتمد في توازنها الايقاعي على دقة طَبْلَيْن، الأول بنغمة واحدة متكررة تضبط الوزن الأساس، والثاني بتوزيع مختلف ينوع الايقاع ولا يشذ عنه، يسميه أصحابه(الزواقة)، مما يجعل منه نغمة مُسْتَأنسة في الأذن الشعبية، لا تحتاج لكبير دراية بالنظريات الموسيقية بقدر ما تحتاج للفطرة السليمة الطبيعية للإِنسان.. ولعل هذا الارتياح لنغمة البسيط هذه_والشيء نفسه يُقال بخصوص بحر المتدارك الصحيح والمخبون_قد تفسر ميل المغاربة وغيرهم من العرب قديما وحديثا الى النظم به، كما هو واضح في الكثير من الأشعار الدينية وغيرها مثل بُردة البوصيري ومعارضة شوقي لها...
ان الاحتفاء بهذا النغم المتواتر ببحر البسيط المخبون والقافية"المتراكبة"_أي وجود ثلاث حركات متراكبة بين ساكني القافية_واعتماد الروي الجهري المطلق بمجرى الضم..ولا أدرج هنا باقي حركات اللام التي تجيئ مجرى في هذا البحر_والصورة الحاضرة في النص أعلاه والتي تساير ايقاعيا المفتاح الذي وضعه العروضيون لضبط تفاعيل هذا البحر ..

إن البسيط لديه يُبسط الأمل
مستفعلن فعلن مستفعلن فَعِلُ

هذا الاحتفاء والاعتماد على هذه التركيبة الايقاعية، اذن شيء عادي موروث عن التراث الشعري العربي القديم منذ عصر"الجاهلية"مع أمثال"الأعشى ميمون"وغيره _في لاميته التي مطلعها :

ودع هريرة ان الركب مرتحلُ
وهل تطيق وداعا أيها الرجلُ

ومعارضة محمود سامي البارودي في لاميته المطولة التي مطلعها :

رد الصبا بعد شيب اللمة الغزَلُ
وراح بالجد ما يأتي به الهزلُ
وعاد ما كان من صبر الى جزع
بعد الاباء، و أيام الفتى دولُ

وغيرها من عيون الشعر العربي..كل هذه اللاميات من بحر البسيط احتفت بالطريقة نفسها، سواء على مستوى الايقاع"الخارجي"أو"الداخلي"المعتمد على مختلف التكرارات والتوازيات الصوتية كالترديد والترصيع ورد الصدور على الأعجاز مثل ما نقرأ في القصيدة أعلاه...

ما هدموا ما استفزوا من مَحارمهِ
ما أجرموا ما أبادوا فيه ما قتلوا

ولا حياءٌ، ولا ماءٌ، ولا سِمةٌ
في وجهه وهو لا يقضي، ولا يكِلُ
هذا الخرابُ وهذا الضيقُ لقمتُنا
صارت زُعافاً، وحتى ماؤنا وشِلُ
شكراً لكل الذين استبدلوا دمنا
بلقمة الخبز شكراً للذي بذلوا
شكراً لإحسانهم شكراً لنخوتهم
شكراً لما تعبوا شكراً لما انشغلوا

ومثْل هذه التوازيات الأفقية والعمودية والجزئية والكلية كثير في النص...

انها قصيدة وطنية تقليدية بمضمون يواكب الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عاشها ويعيشها العراق المعاصر، ولم يتخلَّ الشاعر فيها_رغم تمرده ورغم الأسى البادي على صوته من خلال أبياته هذه_عن التشبت بالمحافظة على الهوية الأصيلة للقصيدة العربية التراثية من خلال التجليات الصوتية السابقة ومن خلال تجليات أخرى بيانية ومعجمية وتركيبية بشكل يذكرنا فعلا بالجواهري،حتى إن رمزية"أيوب"هنا، لم تُوازِ في حضورها الدلالي الرمزي رمزية أيوب السياب مثلا، بل ظلت لقطة خارجية جمع فيها الشاعر ذاته بذوات العراقيين بصبر أيوب وصَبْر الجَمَل بما حملَ من أثقال وأدران وجنادل وحديد في صحارى تسيخ في مهامهها الرقاب قبل الكعاب...
بين البدء:
قالوا وظَلَّ..ولم تشعر به الإبلُ
يمشي،وحاديه يحدو وهو يحتملُ
والانتهاء:
يصيح بي:أيها الغافي هنا أبدًا
إن العراقَ مُعافَى أيها الجَمَلُ

إِصرار واضح على التشبت بالأمل رغم الإقبال والإدبار، رغم الجو الصاخب والاعصار، به تبتدئ لوعة الشاعر وبه تنتهي، عسى يولد نور نهار جديد تورق فيه أزهار الرافدين بزنابق فنيق الحياة...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا