الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التبرع بالأعضاء الجسمية… متبرع واحد ينقذ ثمانية أرواح

ثائر البياتي

2022 / 8 / 22
الطب , والعلوم


كان جالساً في ركن من أركان صالة أستقبال المستشفى، رجل في الأربعين من عمره بين يديه ألة الكمان، وأصابعه تلاعب الأوتار وتبعث أحلى الألحان. ولسروري لعزفه الجميل الذي ملأ فضاء الصالة فرحاً وبهجةً، جلستُ على مقربة منه لأستمتع بألحانه الرخيمة وأنا في إنتظار مجيء دوري لإجراء الفحص الطبي الروتيني. مرتْ الدقائق والثواني وكأنني جالس في دار أوبرا، وأعيش في حلم جميل وددته يطول لأستمتع بتفاصيله، لكن الوقت انتهى بسرعة إنتهاء المعزوفة. وأنا أراقب حركاته بدقة، شاهدته يضع الكمان جانباً ويوجه نظره نحوي، ويبادرني بالسلام بحركة خفيفة، وكأنه دعاني للإقتراب منه، فتحولتُ لأجلس بجنبه، عرَّفته بنفسي، وعرّفَني بنفسه، قائلاً: أسمي مارك توماس، فبادرته بالشكر لأدائه الموسيقي الرائع، وبدوره شكرني، ولكنه طلب مني أن أشكر روبرت جان.
فقلت له: ومن سيكون روبرت جان؟ قال ليّ والدموع تنهمر من عينه: إنّه الشخص الذي أنقذ حياتي ووهبني عمراً جديداً، بتبرعه بجسده بعد موته، فأصبح قلبه من نصيبي ليحل محل قلبي الذي كان عليلاً . ومنذ نجاح عملية زرع قلبه في صدري، هنا في مستشفى مايو كلينك، الأفضل في الولايات المتحدة الأمريكة في زراعة الأعضاء الجسمية، قررتُ أن أعزفَ مرة في الأسبوع، بما أسميه "لحن الحياة" في صالة المستشفى، لأقدم شكري لكادرها الصحي وللذي أنقذ حياتي: روبرت جان. قلت: شكراً يا روبرت جان لما فعلت.
ولفضولي المعرفي، سألته: وهل تقوم بعملك بشكل طبيعي بعد زرع القلب؟ قال: نعم، وعلى أتم وجه. قلتُ له: وماذا تعمل؟ قال: باحثاً في تقنية الطباعة الحيوية. ولعدم معرفتي بتخصصه، وددتُ أن أسمع منه المزيد، غير أنَّ إقتراب دوري في مراجعة الطبيب جعلني أعتذر وأقطع حديثي معه. ولكن قبل مغادرتي، بينتُ له أهتمامي بمسألة التبرع بالأعضاء الجسمية ورغبتي بالمزيد من المعرفة عن الطباعة الحيوية. تبادلنا أرقام هواتفنا واتفقنا أن نلتقي بأقرب فرصة. وتابعتُ خطوات مراجعتي الطبية.
وفي اليوم الثاني من لقائي مع مارك، قررتُ مخابرته، ولكنني لم أحصل على جواب، فتركتُ له رسالة صوتية، تضمنتْ دعوتي له لشرب القهوة في مكان يختاره هو. وبعد ساعة من مكالمتي، رنَّ هاتفي، وكان المتكلم مارك شاكراً دعوتي له، ومقترحاً أن كنتُ راغباً في حضور محاضرة ثقافية سيقدمها حول موضوع التبرع. رحبتُ بدعوته، وبعد دقائق أرسل لي المعلومات عن مكان وزمان المحاضرة التي ستكون في الساعة السادسة من مساء يوم الأربعاء 3 آب 20022 وفي القاعة رقم 1 في جامعة ولاية اريزونا.
وصلتُ الى قاعة المحاضرة في الساعة الخامسة والنصف، وبدأ الناس يتوافدون ويأخذون مواقعهم في القاعة المدرجة التي تتسع لعدد كبير من المستمعين. وبحلول الساعة السادسة أمتلئت القاعة بالحاضرين وظهر مارك توماس على شاشة كبيرة نُصبتْ في مقدمة القاعة أمام الحاضرين، وبين يديه الكمان وهو يعزف معزوفته: "لحن الخلود". وساد الصمتُ والهدوء في أرجاء القاعة لدقائق حتى أنتهتْ المعزوفة بتعالي تصفيق الحاضرين. وبعدها تقدم مسؤول جمعية دعم التبرع بالأعضاء الجسمية في ولاية أريزونا ليرحب بالحاضرين ويقدم الدكتور مارك توماس، مبيناً أنه حصل على شهادة الدكتوراه في تقنية طبع الأعضاء الجسمية( الطباعة الحيوية) من جامعة كاليفورنيا في ساند ييغو عام 2019 ، ويعمل الأن باحثاً علمياً في جامعة أريزونا وتمتْ زراعة القلب له حين كان عمره ثلاثين عاماً. وبعدها بدأ الدكتور توماس محاضرته، التي شملتْ المحاور التالية: مفهوم التبرع وكيفية إتمامه، إحصائيات أمريكية بخصوص التبرع لعام 2022، الأسباب التي تحبط الناس من التبرع، وباب الأسئلة. واليكم خلاصة ما جاء في المحاضرة:

مفهوم التبرع يعني أنَّ المؤسسات الصحية ستراقب حالة المتبرع الصحية، وما أن تكون حالته ميؤوسة، وخاصة عند الموت الدماغي أو عند حصول الحوادث المرورية وغيرها، يأتي كادر صحي متخصص لأخذ الجثة وفصل الأعضاء المطلوبة، وحفظها في حالة صحية لعدد من ساعات كافية للتنقل وإجراء عملية الزرع للمتلقين. ولتوضيح الموضوع لابد من عرض ومناقشة بعض الأحصائيات في الولايات المتحدة بخصوص التبرع.

وبحسب الإحصائيات الأمريكية لعام 2022، هناك أكثر من مئة ألف مريض ينتظرون زراعة أحد الأعضاء، وأنّ نصف هذا العدد أعمارهم بين 50-65 سنة. كما وإنَّ حاجة المرضى للأعضاء تختلف، فمنهم 80% بحاجة الى الكلية و10% بحاجة الى الكبد و 3% بحاجة الى القلب و 1%--$-- بحاجة الى الرئة وأنَّ اقل من 1% بحاجة الى البنكرياس وهكذا. وتختلف فترة إنتظار المريض لكل عضو في كل ولاية، إعتماداً على عدد النفوس والصحة العامة في الولاية. فمثلاً، في ولاية كاليفورنيا وعدد نفوسها نحو 39 مليون نسمة، تكون فترة الأنتظار من 8-10 سنوات للكلية، فيما يكون الأنتظار في ولاية أريزونا وعدد سكانها نحو سبعة ملايين نسمة أربع سنوات وهكذا. ولقلة عدد المتبرعين، يموت نحو 20 مريضاً يومياً بسبب عدم الحصول على عضو. ورغم أنَّ 90% من الناس في أمريكا ودول العالم المتقدم متفقون على أهمية التبرع بأعضاء الجسم بعد الموت، الا أن نصف هذا العدد مُسجَّل في التبرع فقط. وهناك أسباب مختلفة لعدم إقبال الناس على التبرع، منها معقتقدات دينية، ومنها جهل الناس في الناحية الصحية وأمور أخرى.

تعتبر معتقدات بعض الأديان من الأسباب المحبطة للكثير من الناس في التسجيل للتبرع باعضائهم الجسمية بعد الموت. وسبب ذلك عدم وجود نصوص دينية واضحة بذلك الخصوص واختلاف المراجع الدينية في تفاسيرها، والإعتقاد بقدسية الجسد واهمية المحافظة عليه بعد الموت. وللأسباب السالفة، ترك بعض رجال الدين الكاثوليك مثلاً موضوع التبرع لقرارات فردية. ورغم أنَّ البعض من رجال الدين أجاز التبرع بالأعضاء لدوافع إنسانية، لكنهم لم يتفقوا على تعريف الموت الدماغي، وهي حالة ميؤوسة بالرغم من استمرار القلب في نبضه لفترة لاحقة، وهذا ما يقلل الإستفادة من أعضاء المتبرع. وعلى أي حال، أنَّ الجهات الصحية تلتزم بالمحافظة على شكل جثة المتبرع، ولا تترك عليه تشوهات خارجية بعد أخذ الأعضاء المطلوبة، وبالإمكان إستعادة الجثة وإجراء المراسيم الدينية عليها ودفنها بالطريقة المناسبة في كل دين. ولا تتحدد المعوقات للتسجيل في التبرع على المعتقدات الدينية، بل تتعدى لأمور أخرى.

تبين الدراسات أنَّه كلما قلتْ الثقة بالكادر الطبي، كلما كان عدد المتبرعين قليلاً، حيث يعتقد البعض واهماً، أنَّه إذا عرف الطبيب أنَّ مريضه قد تبرع بأعضائه سيقلل الأهتمام بمعالجته. كما وأنَّ عدم فهم الموت الدماغي عند بعض الناس، يجعلهم يتأملون شفاء مريضهم طالما أنَّ قلبه ينبض. أضف الى أنَّه هناك الكثير من الناس لا يشعرون بالراحة النفسية لمجرد الكلام عن الموت وبذلك لا يرغبون في التسجيل بالتبرع. وبعد الإنتهاء من المحاضرة، شكر الدكتور توماس الحاضرين. وكانت فترة الأسئلة والأجوبة، واليكم أهمها:

سؤال من أحد الحاضرين: هل ان عمر المتبرع أو المتلقي يشكل عائقاً أمام عملية زرع الأعضاء؟
الجواب: كلا ، لا يشكل عائقاً. تؤكد المعلومات الصحية، أنَّ جودة أعضاء المتبرع لا يحددها عمر المتبرع بل صحته، وكذلك زرع العضو لا يقرره عمر المتلقي بل صحته. وهناك مرضى تجاوزت أعمارهم الثمانين عاماً، لكنهم تلقوا أعضاءً زُرعتْ لهم بنجاح.

سؤال من طالبة علوم الحياة في جامعة أريزونا: هل يمكن شراء الأعضاء الجسمية في الولايات المتحدة؟ الجواب: كلا. تمنع القوانين الفيدرالية الأمريكية المتاجرة بالأعضاء البشرية منعاً باتاً.

سؤال من أحد الحاضرين: ولكن نسمع عن تجارة السوق السوداء بالأعضاء البشرية في الكثير من دول العالم، فما حقيقة ذلك؟
الجواب: نعم هذه التجارة موجودة. وبحسب تقرير منظمة النزاهة المالية العالمية تصل هذه التجارة من 500 ألف الى 1.2 بليون دولار سنوياً وهذه الأرقام في تزايد مستمر.
ورغم أنَّ قوانين معظم دول العالم تمنع المتاجرة بالأعضاء الجسمية، ولكن تزدهر هذه التجارة في السوق السوداء في الكثير من دول العالم كالهند والصين والباكستان وايران ومصر وغيرها بسبب الطلب المتزايد على الأعضاء من جهة وعدم توفرها من جهة أخرى، وبوجود الفساد الأداري الذي يسمح بالتحايل على القوانين. ففي بعض هذه الدول يكون، مثلاً سعرالكلية الرسمي 2000 دولار، ولكن سعرها في السوق السوداء يصل أحياناً الى حد 160 ألف دولار، ويسطو على معظم المبالغ وسطاء والمانح لا يحصل أكثر من 5000 دولار، أضف الى ذلك خطورة عملية الزرع بسبب البعد عن رقابة الدولة.

سؤال من أحدى الحاضرات: وكم مريضاً يمكن أن ينقذ متبرع واحد بجسده؟
الجواب: تبين المعلومات الى أن متبرعاً واحداً بجسده يمكنه أن ينقذ حياة ثمانية مرضى بحاجة الى أعضاء مختلفة، كالكلية والكبد والقلب والرئة والبنكرياس …الخ. والموضوع لا يتحدد بالمتبرعين بعد الموت، بل هناك أحياء يتبرعون ببعض من أعضاء جسمهم، أو بجزء منها، كالتبرع بكلية واحدة أو التبرع بجزء من الكبد أو أجزاء أخرى من الجسم بحيث يتم إنقاذ حياة مريض، بما لا يؤثر على صحة المتبرع.

سؤال من مراسلة صحيفة ولاية أريزونا المحلية: نسمع عن الطباعة الحيوية ثلاثية الأبعاد، أي طباعة الأعضاء الجسمية، وهو تخصصك. كيف تطورتْ هذه التقنية والى أي حد ستخدم المجال الطبي؟

الجواب: بدأت تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد في عام 1984 بعد تطور الحاسبات الأليكترونية وأصبح لها تطبيقات مختلفة في صناعة الأشكال المجسمة كالمجوهرات والتحفيات وأجزاء السيارات والطائرات وغيرها من أمور، وتكون موادها الأولية أنواع من السبائك والخزف والبلاستك وما شابه. ومع بداية التسعينيات بدأت مؤسسات التجهيزات الطبية، وبأستخدام التقنية، تنتج الأعضاء الجسمية الأصطناعية، ومع نهاية التسعينيات وبفضل تطور البحوث الطبية، بدأ إستخدام مواد حيوية( خلايا من أعضاء المريض) في صناعة أعضاء الجسم باستخدام تقنية الطباعة الحيوية. وتمتْ طباعة أول مثانة بشرية بنجاح في عام 1999 ، وزرعتْ بنجاح في مريض ومن دون مضاعفات حتى بعد عشرة سنوات. ويمكنكم مشاهدة الفديو الوثائقي بذلك الخصوص، ورابطه الأليكتروني:

https://www.youtube.com/watch?v=bX3C201O4MA

ومن ثم تمتْ طباعة كلية مصغرة تعمل بكامل طاقتها في عام 2002 للأغراض البحثية، وبعد عام 2010 تمَّ إنتاج أعضاء مختلفة كالكبد وصمامات القلب وأنسجة جسمية أخرى. والبحوث جارية في هذا المجال للتغلب على بعض الصعوبات، ونتوقع أن تكون التقنية جاهزة للأنتاج الواسع في السنوات العشر القادمة، وبكلفة أقل بكثير من كلفة زرع الأعضاء حالياً. وبذلك الخصوص، أزودكم بفديو يوضح كيفية عمل تقنية الطباعة الحيوية.

https://www.youtube.com/watch?v=7SfRgg9botI

ولحين توفر طباعة الأعضاء الجسمية بشكل كافي، أدعوكم الى التسجيل للتبرع لتغطية حاجة المرضى الذين ينتظرون زراعة عضو من أعضاء أجسامهم وهذا يتطلب جهداً جماعياً. ومثلما يحتاج الأخرون أن نتبرع بأعضائنا، فكذلك نحن نحتاج من الأخرين أن يتبرعوا بأعضائهم. وربما سنكون أو يكون أحد أحبتنا يوماً بحاجة الى متبرع لينقذ حياته. وستكون الحياة أكثر جمالاً إذا أنقذنا مريضاً من الموت كما أنقذ روبرت جان حياتي، فأنا مدين له وشكراً له ولكم مرة أخرى لحسن أستماعكم.

وبدوري انا كاتب السطور، أشكر مارك توماس، عازف "لحن الحياة"، لمحاضرته، ومرة أخرى أشكر روبرت جان الذي أنقذ حياة مارك توماس، لأنهما كانا سبباً في جعل الحياة أجمل، وسبباً في تسجيلي بالتبرع بأعضائي الجسدية بعد موتي. وأخيراً أوصي أصدقائي واحبتي ومن يقرأ هذا المقال بالتفكير في التبرع بأعضائهم الجسدية بعد موتهم، لإنقاذ حياة أخرين، وللحد من تجارة السوق السوداء في عملية بيع الأعضاء. وشكراً للجميع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بظل شح المساعدات.. مبادرة لتوفير مياه الشرب في رفح


.. تعمير - خالد محمود يوضح كيف سيتم الربط بين المنطقة الصناعية




.. غارة إسرائيلية في محيط منطقة الصناعية بمدينة غزة تخلف شهداء


.. سخرية كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي بعد الردّ الإسرائيلي




.. أنفلونزا الطيور لدى البشر.. خطر جائحة مُميتة يُقلق منظمة الص