الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العدد 55 من «كراسات ملف»: « المسألة اليهودية ونشوء الصهيونية»

الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

2023 / 10 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


■ صدر عن المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»، العدد 55 من سلسلة «كراسات ملف»(20/8/2022)، وهو بعنوان مزدوج «في المسألة اليهودية ... الصهيونية الرسمية»، ويتضمن دراستين:
1 ـــ في «المسألة اليهودية» ونشوء الصهيونية:
تكشف هذه الدراسة بالدلائل زيف الحديث عن «قومية يهودية أزلية أي قديمة وملازمة لطبيعة «الشعب» اليهودي منذ البداية، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من جوهره غير الخاضع لتأثير التحولات التي تمر بها المجتمعات البشرية»، وتبين أن هذا الكلام ليس سوى إغراق في الفكر الأسطوري لتسويق المشروع الصهيوني بين صفوف اليهود وتجنيدهم في خدمة أهدافه.
2 ـ الصهيونية الرسمية:
وتوضح هذه الدراسة أن الصهيونية هي الحركة السياسية للبورجوازية الصغيرة والوسطى، والتي لا تعبر عن كيان قومي أزلي مزعوم لليهود، بل نشأت في نفس مناخ نشوء القوميات الأوروبية مع تطور الرأسمالية، وأن الصهيونية شكلت جزءاً من الهجوم الإمبريالي العام على منطقتنا وأداة من أدواته، واستعملت في السيطرة على بلادنا أساليب متميزة في قسوتها وإيذائها لشعبنا، وهذه الأساليب نابعة من الطبيعة العنصرية للصهيونية والمشروع الصهيوني ذاته.
• أعد الدراستين المناضل والباحث الراحل سليمان الرياشي(سعيد عبد الهادي)، الذي كرس حياته للنضال من أجل تجسيد الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، من موقعه الفكري والسياسي كباحث أكاديمي وعضو في المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
وعلى الرغم من مرور نحو أربعة عقود على إعداد هاتين الدراستين، إلا أنهما تشكلان حتى اليوم بوصلة لفهم طبيعة الحركة الصهيونية كحركة عنصرية استعمارية إحلاليه■

المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات
«ملف»

المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات
«ملف»


الحالة الإسرائيلية ــ 5


■ في «المسألة اليهودية»
■ «الصهيونية الرسمية»


سليمان الرياشي ( سعيد عبد الهادي)








سلسلة «كراسات ملف»
العدد الخامس والخمسون ــ 20 آب (أغسطس) 2022



















المحتويات

■ مقدمة
■ في «المسألة اليهودية» ونشوء الصهيونية
■ «الصهيونية الرسمية»
















مقدمة
■ يتضمن هذا الكراس دراستين :
1 ـــ في «المسألة اليهودية» ونشوء الصهيونية:
تكشف هذه الدراسة بالدلائل زيف الحديث عن «قومية يهودية أزلية أي قديمة وملازمة لطبيعة «الشعب» اليهودي منذ البداية، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من جوهره غير الخاضع لتأثير التحولات التي تمر بها المجتمعات البشرية»، وتبين أن هذا الكلام ليس سوى إغراق في الفكر الأسطوري لتسويق المشروع الصهيوني بين صفوف اليهود وتجنيدهم في خدمة أهدافه.
2 ـ الصهيونية الرسمية:
وتوضح هذه الدراسة أن الصهيونية هي الحركة السياسية للبورجوازية الصغيرة والوسطى، والتي لا تعبر عن كيان قومي أزلي مزعوم لليهود، بل نشأت في نفس مناخ نشوء القوميات الأوروبية مع تطور الرأسمالية، وأن الصهيونية شكلت جزءاً من الهجوم الإمبريالي العام على منطقتنا وأداة من أدواته، واستعملت في السيطرة على بلادنا أساليب متميزة في قسوتها وإيذائها لشعبنا، وهذه الأساليب نابعة من الطبيعة العنصرية للصهيونية والمشروع الصهيوني ذاته.
• أعد الدراستين المناضل والباحث الراحل سليمان الرياشي(سعيد عبد الهادي)، الذي كرس حياته للنضال من أجل تجسيد الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، من موقعه الفكري والسياسي كباحث أكاديمي وعضو في المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. وعلى الرغم من مرور نحو أربعة عقود على إعداد هاتين الدراستين، إلا أنهما تشكلان حتى اليوم بوصلة لفهم طبيعة الحركة الصهيونية كحركة عنصرية إستعمارية إحلالية■

المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات
«ملف»






في «المسألة اليهودية» ونشوء الصهيونية

(1)
لمحة عن تاريخ اليهود
1-■ التوراة ليست كتاب تاريخ وعدد من رواياتها ذو مدلول رمزي أو بعد أخلاقي أو وظيفة توجيهية، وهي لا تعكس بالضرورة أحداثاً تاريخية وقعت بالمعنى التاريخي المحدد، أو الصارم للكلمة .. وما يقود خطابنا في هذا السياق ليس المحاججة الأكاديمية بشأن تاريخية التوراة أو عدم تاريخيتها، أوصحة هذا الحدث أو ذاك تاريخياً، بل المهم هو أن الرواية التوراتية تحوَّلت، كما هي، وبالنسبة لملايين الناس، إلى « وعي» معيوش كما لو كان الحقيقة التاريخية بعينها، وهي الرواية التي تمَّ توظيفها أيديولوجياً وسياسياً في ظروف المد الإمبريالي واستكمال تقاسم العالم، في صنع مأساة الشعب الفلسطيني. إن مواكبتنا لهذه الرواية (مع بعض التصويبات)( ) يعني التعامل مع التجليات العملية لهذا «الوعي».
■ من هذا المنطلق نقول: إذا سلمنا بما تقوله التوراة عن نسب اليهود لإبراهيم، وبما يقال عن كونه الجد المشترك لهم وللمسلمين العرب، فإننا أمام هجرة يتفق المؤرخون أن إبراهيم الخليل سلك خلالها طريق الفرات الأيمن في رحلته من أور (جنوب العراق) إلى حرّان الواقعة على منابع البليخ (أحد روافد الفرات الأوسط). وفي الطريق إلى حرّان مرَّ بمدينة ماري العمورية عبر طريق القوافل، فبعد أن مرَّ بأبي كمال والميادين ودير الزور عبر الفرات عند الرقة، ثم صعد شمالاً مع نهر البليخ إلى حرّان، توجه منها إلى دمشق عبر تدمر ثم إلى نابلس فبئر السبع، قاطعاً مسافة ألف كيلو متر، وكان ذلك حوالي 1850 قبل الميلاد (ق. م).
ويروى أن إبراهيم رزق بولده إسماعيل في فلسطين نحو 1794 ق. م، وبعد مولده بأربع عشرة سنة رزق إبراهيم من زوجته الأولى سارة بولده الثاني إسحق والد يعقوب، الذي نزح مع أولاده إلى مصر نحو 1656 ق.م، بسبب القحط الذي نزل بفلسطين.
■ وبخلاف ما يرد في المراجع الدينية عن أحفاد إبراهيم في مصر، فإن كتب التاريخ والحفريات لا تلقي أضواء جدية على حياة هؤلاء المهاجرين، ولا كيف عاشوا واندمجوا في المجتمع الجديد، أي أن تاريخية القصص الدينية غير مؤكدة، وبخلاف هذه القصص لا شيء يثبت صلة موسى بالمهاجرين القادمين من فلسطين.
ويُرجح أن النبي موسى أثناء وجوده في مصر، كان على صلة بعقيدة التوحيد التي اعتنقها أخناتون (عقيدة أخناتون)، فقد حاول هذا الفرعون أن يفرض ديانة التوحيد فرضاً، وناوئ الآلهة الأخرى، وركز عداءه على الإله «أمين» إله طيبة، وهجر المدينة وابتنى عاصمة جديدة في تل العمارنة، وبعد موته تم اضطهاد أتباعه بشدة، وثمة من يتبنى الرأي القائل أن موسى هو أحد أتباع هذه الديانة، وأن هجرته إلى فلسطين كانت تحت وطأة الاضطهاد، وإعادة آلهة مصر السابقة في ظل الفرعون الجديد رمسيس الثاني، الذي تولى عرش مصر بين 1300-1222 ق. م، ويقدر المؤرخون خروج موسى وأتباعه من مصر حوالي 1290 ق. م، وقدر بعض الباحثين أن عدد المهاجرين آنذاك حوالي ستة آلاف دون إبداء أي أساس لتبرير هذا الرقم( ).
2-■ سلك الموسويون في خروجهم الضفة اليمنى للبحر الأحمر باتجاه الجنوب، وعبروا البحر وأكملوا سيرهم جنوباً على ضفته اليسرى، وعند مناطق مناجم النحاس على خليج السويس، انعطفوا شرقاً ومن ثم شمالاً شرقاً بمحاذاة خليج العقبة، ومن العقبة أكملت الحملة سيرها شمالاً ثم شرقاً، حيث دخلت «كنعان الشرقية»، أي الضفة الشرقية لنهر الأردن، ومن شمال البحر الميت تم غزو فلسطين والسيطرة على أجزاء واسعة منها، بدءاً باحتلال أريحا على يد يوشع بن نون.
وتقول التوراة بأن الحملة إستغرقت 40 عاماً، لأن الرب شاء أن يموت الجيل القديم، ولكن الثابت أن صراعاً عنيفاً كان يدور في فلسطين بين أكبر إمبراطوريتين في ذلك الوقت، وهما: الآشورية والمصرية، كما أن الموسويين ترددوا كثيراً في الصحراء، نتيجة قوة الفلسطينيين الوافدين حديثاً إلى أرض كنعان. تشهد بذلك نصوص التوراة نفسها عن التحضيرات الطويلة للغزو، وعمليات الاستطلاع المكررة التي قاموا بها، مما يعني أن المهاجرين أو قادتهم كانوا ملمين بالشؤون العسكرية.
3-■ بعد دخول الموسويين إلى فلسطين ساد بينهم ما عُرف بـ «حكم القضاة»، الذين كان أبرزهم يشوع بن نون نفسه قائد الحملة وصموئيل، ولكنهم لم يتمكنوا من السيطرة على عموم فلسطين، وبقي العديد من المدن تحت السيطرة الكنعانية، في حين استقر الفلسطينيون الذي كانوا قد قدموا من البحر (جزيرة كريت) على الساحل الممتد من غزة جنوباً إلى شمال حيفا، وحوالي 1020 ق. م نصَّبت القبائل اليهودية شاوول ملكاً عليها، فتابع القتال ضد الفلسطينيين وقُتل على أيديهم، فخلفه الملك داوود حوالي 1000 ق. م وأدخل أساليب عسكرية مستوحاة من الآشوريين والمصريين وأهمها المركبات الحربية، وتمكن من السيطرة على فلسطين وقسم من شرقي الأردن.
■ تجدر الإشارة إلى أن الملك داوود لم يتمكن من السيطرة على الساحل الفلسطيني الممتد من غزة إلى شمال حيفا، وقد جعل من الخليل عاصمة مملكته في البداية، ثم انتقل إلى القدس بعد السيطرة عليها.
وقد خلف داوود ابنه سليمان، وعرف عهده بالازدهار التجاري والعمراني، وفي عهده بني معبد سليمان الشهير بمساعدة الملك أحيرام الفينيقي، وإثر موت الملك سليمان 926 ق. م إنقسمت مملكته إلى مملكتين: واحدة في الشمال وتدعى «إسرائيل» وعاصمتها السامرة، وأخرى في الجنوب وتدعى «اليهودية» («يهودا») وعاصمتها القدس، وبعضهم رجَّحَ أن لفظة اليهود ترد للمرة الأولى نسبة إلى يهوذا الحاكم الأول لمملكة الجنوب.
4-■ مع نشوء المملكتين بدأت فترة إضطرابات وصراعات داخلية في كل منهما، بالإضافة إلى الصراعات فيما بينهما، والناجمة عن كونهما كانتا عملياً واجهتين أماميتين للصراع بين القوتين المتنافستين مصر وآشور.
وفي 722 ق. م تم تدمير مملكة «إسرائيل» على يد القائد الآشوري سرجون الثاني، وتم تهجير نخبة أهل المملكة إلى العراق عملاً بالعرف السائد آنذاك. وأما مملكة الجنوب فقد دمرها القائد الكلداني نبوخذ نصّر، وسحب جزءاً من أهلها إلى بابل- 586 ق. م.
سيطر الآشوريون على فلسطين حتى 539 ق. م، حيث سقطت مملكتهم بيد الفرس (على يد قورش)، الذين أعادوا جزءاً من يهود بابل إلى فلسطين، حيث تمكن هؤلاء من إعادة إحياء المؤسسات الدينية، ووضعوا القوانين الفعلية للديانة اليهودية. وقد وضع الإسكندر المقدوني حداً للسيطرة الفارسية على فلسطين- 332 ق. م وبدأت السيطرة اليونانية، وعند انقسام الإمبراطورية إثر موت الإسكندر كانت فلسطين من تابعية السلوقيين.
■ في عصر السلوقيين نشبت صراعات دينية حادة بين اليهود أنفسهم، حيث تشيع قسم منهم لمعتقدات اليونانيين الوثنيين، ونمط حياتهم، وبقي قسم آخر متشبثاً بتقاليده ومعتقداته الدينية. ونتيجة الضغط اليوناني نشبت 167 ق. م ثورة عرفت بالثورة المكابية، ودامت حالة التمرد هذه فترة طويلة، حيث تمكن المكابيون ما بين 102 - 76 ق. م من فرض سيطرتهم على مناطق غير محددة من فلسطين، ومارسوا سياسة قمعية وعنيفة، وفرضوا الديانة اليهودية بالقوة على سكان مناطق عديدة أبرزها الجليل، مما يشرح السهولة النسبية لانتشار المسيحية لاحقاً في هذه المنطقة كردة فعل على التهويد القسري.
■ بدأت السيطرة الرومانية في 63 ق. م، وحاول الرومان في البداية منح إمتيازات خاصة لليهود، فأعفوهم من عبادة الإمبراطور، وأبقوا لهم محاكمهم الخاصة، ولكن السياسة الضرائبية الثقيلة كانت في أساس إنتفاضة يهودية، قمعها الحاكم الروماني طيطس بقسوة- 70م، وما لبثت الانتفاضة أن تجددت على يد متدين يهودي يدعى بركوكا فقمعها الإمبراطور الروماني أدريان- 135م، وهَدَم الهيكل، وكان هذا الحدث تاريخ آخر محاولة جدية لقيام كيان يهودي متميز على أرض فلسطين حتى ق 20.
■ بعد قمع أدريان لهذه الانتفاضة، تكثفت الهجرة اليهودية إلى خارج فلسطين، واتخذت الاتجاهات الأساسية التالية: 1- جنوب وشمال البحر المتوسط، أي شمال إفريقيا وجنوب أوروبا. 2- إتجاه الجزيرة العربية. 3- إتجاه البلدان المحاذية لفلسطين. 4- وإحدى الموجات المهاجرة وصلت إلى وادي الدون في قلب روسيا.
وفي أواسط القرن الثامن الميلادي، إعتنق بولان ملك الخزر في هذه المنطقة الديانة اليهودية، التي أضحت دين الدولة، وبالتالي دين شعب المملكة، ومن الممكن القول إن يهود أوروبا الشرقية والغربية وأمريكا لا علاقة تاريخية لهم بفلسطين■


(2)
المسألة اليهودية
1-■ تدعي الحركة الصهيونية في معرض تبريرها لنفسها «كحركة تحرر للشعب اليهودي»، بأن المسألة اليهودية نشأت مع الهجرة القسرية التي تلت أحداث 135م، حيث شتت اليهود في أنحاء العالم المعروف آنذاك (دياسبورا)، ولم يندمجوا بالأغيار (غوييم)، بل حافظوا على خصوصيتهم في ظاهرة شديدة الفرادة، وأنهم رغم قسوة التاريخ وجوره، وكافة محاولات الاضطهاد، حافظوا على وجودهم المستقل المميز، وأنهم في الحالات التي حاولوا فيها الاندماج، رفضتهم الشعوب الأخرى. وأن اليهود لكونهم يهوداً لقوا كل صنوف العذاب والتنكيل، لذا فإن الحل المنطقي والصحيح هو «عودة» اليهود إلى فلسطين «موطن آبائهم وأجدادهم»، وبذلك تستقيم الأمور بمعنى يسقط الحيف التاريخي عن «الشعب اليهودي»، وتجد هذه «المأساة» حلاً لها في مجتمع ودولة كالمجتمعات والدول الأخرى. كما تلحّ الصهيونية على أن اليهود حاولوا دوماً «العودة» إلى فلسطين، ولكنهم تمكنوا من ذلك فقط مع نهايات ق 19 وبدايات ق 20.
■ إن في هذه التأكيدات التبسيطية والبريئة ظاهرياً جملة من المغالطات، شكلت نسيج الأيديولوجية الصهيونية، أي الأفكار نفسها التي تسوقها لتبرير سيطرتها الاستعمارية على فلسطين، والتنكيل بالشعب الفلسطيني وتشريده، وتهديد أرض ووجود الشعوب العربية. فالكلام عن هجرة مأسوية وعذاب تاريخي خاص باليهود، وإصرار عنيد للمحافظة على الشخصية المميزة؛ إنما هو إغراق في التفكير الخيالي يصل حد اللغو، ويهدف إلى نسج أسطورة تزيد من تماسك الجاليات اليهودية في العالم، وتماسك الجاليات اليهودية المتنوعة الثقافة والتكوين والأصول الإثنية على أرض فلسطين. ولذا فإن كشف زيف هذه الادعاءات مسألة مهمة، ليس لتصليب قناعتنا بقضيتنا، ولتأصيل روايتنا التاريخية، بل لأن هذه الأساطير على قاعدة دعم إمبريالي كثيف ووجود عسكري متفوق تشكل عنصر تماسك لهذا المجتمع العنصري المسؤول عن تشريد الشعب الفلسطيني وحرمانه من حقوقه الوطنية.
■ من هنا، فنحن معنيون أولياً بتوضيح التالي:
أ) إن ما تورده التوراة عن وعد قطعه الرب لبني إسرائيل بإعطائهم فلسطين، مسألة غير علمية وساذجة، والقول بأنه كانت هناك دائماً إرادة يهودية مشدودة باتجاه فلسطين، قول لا يدعمه العلم ولا تدعمه الدراسات التاريخية الجدية ولا المكتشفات الأثرية، وليس هناك ما يثبت أن وراء إنتقال إبراهيم من جنوب العراق إلى جنوب فلسطين يكمن شيء آخر غير الأسباب المألوفة لهجرات القبائل المثبتة في التاريخ. كما أن هجرة أبناء إبراهيم لمصر ليست ذات صلة بخروج موسى من مصر، هذا الخروج الذي حصل بعد مئات السنين وبظروف سبق الكلام عنها. أي أن الكلام عن جماعة بشرية هاجرت من العراق بدافع إلهي إلى فلسطين، وطردت منها إلى مصر، وبنفس الأمر الإلهي عادت إلى فلسطين ... إن هذا الكلام أسطورة لا علاقة له بالتاريخ والعلم، كما أن صلة يهود العالم اليوم بفلسطين هي أسطورة يراد بها تدعيم حق مزعوم بالسيطرة على فلسطين.
ب) إن هجرة اليهود القسرية بعد 135م، سبقتها هجرات يهودية ذات دوافع إقتصادية، وتشكلت جاليات يهودية كبيرة نسبياً على سواحل المتوسط، هذه الهجرات شبيهة بهجرات الفينيقيين وسواهم، ولا تحمل طابع المأساة التي يراد تكريسها في الذهن، والدفع للاستنتاج بأن هناك عذاباً تاريخياً يطارد اليهود منذ فجر التاريخ، وأنه من باب الإنصاف وإحقاق الحق، إعطاء فلسطين لهم ! ...
ج) إن وجود وبقاء طائفة يهودية عبر مئات السنين، لا يشكل ظاهرة فريدة أو مستعصية على العلم والفهم، والسبب الرئيسي والأساسي لبقاء هذه الطائفة لا يكمن في رغبتها الذاتية أو طاقة إستثنائية كامنة فيها، بل في التطور الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات التي عاش فيها اليهود، وفي الحقبات التاريخية المعنية. والكلام عن قومية يهودية أزلية أي قديمة وملازمة لطبيعة «الشعب» اليهودي منذ البداية، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من جوهره غير الخاضع لتأثير التحولات التي تمر بها المجتمعات البشرية، إن هذا الكلام يشكل إغراقاً في الفكر الأسطوري.
2-■ إن التخلف الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات ما قبل الرأسمالية، وعدم المركزة الاقتصادية والسياسية، وحالة الركود الطويلة التي عاشتها هذه المجتمعات، والتي امتدت في بلادنا مثلاً إلى فترات حديثة، إن هذه الأوضاع سمحت للعديد من الأقليات الدينية، أو الإثنية، أو القومية بالبقاء. ولا يشكل اليهود ظاهرة فريدة، أو تتميز كثيراً عن ظاهرة بقاء الكلدان والآشوريين والسريان، وسواهم في بلدان المشرق العربي.
وأما في أوروبا التي شكلت تحديداً رحم المسألة اليهودية، وقابلة الحركة الصهيونية لاحقاً، فقد استمر اليهود كطائفة أو طوائف خاصة شديدة التنوع ليس لأنهم خارج التاريخ، بل لأنهم لعبوا دوراً محدداً في التاريخ، بما هو تاريخ صراع الطبقات. وكما يقول ماركس «نحن لن نبحث عن سر اليهودي في دينه، بل سنبحث عن سر هذا الدين في اليهودي الواقعي»، وهذا الكلام ينطبق بدقة على أوروبا في مرحلة ما قبل الرأسمالية.
■ لقد تعاطى اليهود التجارة أسوة بالعديد من الشعوب القديمة الأخرى المهاجرة، وكانت التجارة تنظم عملية التبادل بين المجتمعات الزراعية، وتراكم بذلك «رأسمالاً بضاعياً» يتولد عن استغلال طرفي أو أطراف التبادل، عبر استغلال «الفوارق في أسعار الإنتاج السائدة في كل منها، والاستيلاء بذلك على جزء مهم من فائض القيمة عن طريق التعامل مع المالكين الرئيسيين لفائض الإنتاج مثل البلاطات الملكية أو الأسياد الإقطاعيين أو مالكي العبيد»( ).
إن هذه الوظيفة الاجتماعية وظيفة هامشية بحد ذاتها، لأن الرأسمال البضاعي في الوقت الذي يستغل المجتمع، لا يساهم ولا يهتم أصلاً بتطوير قوى الإنتاج فيه. وهذه الوظيفة هشة أيضاً وسريعة العطب، ولن يكون بإمكانها الصمود أمام تطوير الرأسمال التجاري البورجوازي لاحقاً، المستجيب «لحاجة الإنتاج الصناعي المتوسع في المدن، لبيع سلعه ومنتجاته وبخاصة عن طريق تصديرها»( )، وسوف يحسم هذا الصراع لصالح البورجوازية التجارية الصاعدة لاحقاً، وسوف يتولد عنه مساس جوهري بوضع القيّمين اليهود على هذه الوظيفة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.
■ إلى جانب التجارة مارس اليهود في القرون الوسطى الربا، ويقول ماركس بهذا الصدد «إن الرأسمال الربوي هو الأخ التوأم للرأسمال البضاعي»( )، ويلعب الرأسمال الربوي دوراً مكملاً للرأسمال البضاعي، ومتداخلاً معه في المجتمع الإقطاعي، وهو يستجيب لحاجة الإقطاعيين ومالكي الأرض من ناحية، والحرفيين والفلاحين من ناحية ثانية، ويمارس الاستغلال لكلا القطبين الاجتماعيين، ويمتلك الرأسمال الربوي سمات شديدة الشبه بالرأسمال البضاعي، من حيث هو وظيفة هامشية تلبي حاجات الاستهلاك ولا تسهم في تطور قوى الإنتاج ووظيفته هشة لن تصمد أمام تطور الرأسمال التجاري ومؤسسات التسليف المتطورة كالبنوك...
■ إن الوظيفة في رأس المال البضاعي والربوي التي مارسها اليهود، فرزت ظاهرة مزدوجة، فمن جهة كان التاجر والمرابي اليهوديان (وبالتالي اليهود) في حالة عداء وتوتر مع كافة عناصر المجتمع الرئيسية، حيث كان المرابي مثلاً «لا يكتفي بابتزاز فائض العمل من ضحيته، بل كان يستولي تدريجياً حتى على شروط عملها من عقار وسكن ... الخ، أي كان منهمكاً باستمرار بنزع ملكيتها»( ). ومن جهة ثانية كان التاجر والمرابي اليهوديان ضروريان للمجتمع الإقطاعي ككل، وبفعل هذه الخصوصية إستمر اليهود كطائفة، بينما إنهارت شعوب قديمة تجارية عديدة مع إنهيار الإمبراطورية الرومانية. لقد كان اليهودي ضرورياً لتجارة المجتمعات الزراعية ما قبل الرأسمالية فيما بينها، وكان ضرورياً في المجتمع الإقطاعي الواحد، ولذا تمت المحافظة عليه.
■ ومن الطبيعي أن يتبادر إلى الذهن تساؤل محق، هل كان كل اليهود تجاراً ومرابين؟ والجواب بالنفي طبعاً. «إن هؤلاء كانوا يشكلون أقلية، ولكن إلى جانب التجار الكبار والمرابين ومالكي السفن، وتجار الرقيق وصياغ الذهب والفضة، كانت هناك أغلبية من الحرفيين الصغار والباعة المتجولين، والتجار الصغار ومالكي مشاغل الصناعات اليدوية»( )، أي أن الأغلبية الساحقة من اليهود كانت تتعاطى مهناً ترتبط أساساً بالتجارة، وتقف في الوسط بين قطبي المجتمع الإقطاعي، أي بين الإقطاعيين والفلاحين.
وقد استمرت هذه الوظيفة الوسيطة بدون منافسة جدية من الفئات المحلية قروناً طويلة، أي منذ ما قبل الميلاد حتى القرن الـ 11 في بلدان أوروبا الغربية، وحتى القرن الـ 18 في بلدان أوروبا الشرقية، نتيجة تأخر تطور الرأسمالية فيها.
وإذا كان لنا أن نجمل، فنحن أمام طائفة و طوائف كان لها بمجملها موقف وسيط بين قطبي المجتمع ما قبل الرأسمالي وكانت شريحة عليا من هذه الطوائف تمسك بأعنة الرأسمالين البضاعي والربوي الضروريين للأرستقراطية. وبسبب من هذه الوظيفة، كانت الشرائح اليهودية العليا تلقى الحظوة عند الأمراء والملوك والأسياد الإقطاعيين( )، وتمتد هذه الحظوة لتتحول إلى حماية تشمل عموم اليهود في المملكة أو الإمارة، ولا تمس خصوصيتهم، بل تحافظ عليها.
3-■ في الوقت نفسه، كانت هذه المهن الطفيلية بغالبيتها تستثير مشاعر العداء والكراهية لدى جموع الفلاحين، وكان الإقطاع يغذي هذه المشاعر لتشويه وعي الجماهير الفلاحية وحرف أنظارها عن عدوها الحقيقي. وكذلك كانت الكنيسة الكاثوليكية تفعل، لأنها بدورها كانت إقطاعية، وكانت ديماغوجية الإقطاع والكنيسة تغذي المشاعر المتحفزة ضد اليهود، دون أن يؤدي ذلك إلى اختراق سقف المحافظة عليهم كطائفة ضرورية. [ سوف نرى لاحقاً أنه مع تطور الرأسمالية وانتفاء الضرورة لليهود، أن هذا المجتمع اليهودي سوف يتصدع بشكل خطير تحت ثقل الهجرة الواسعة باتجاه البلدان الأقل تطوراً وخاصة أوروبا الشرقية، ومحاولة تجديد نفس نمط الحياة متكئاً على كون هذه البلدان تعيش مرحلة ما قبل الرأسمالية. كما سوف تنفلت موجات العداء للسامية من عقالها في العديد من بلدان أوروبا الغربية.]
■ وبغض النظر عن الحدود التي رسمتها الأرستقراطية والكنيسة، لانفلات المشاعر الشعبية، فقد ساهمت الكراهية المتقدة ضد اليهود، طيلة قرون، في المحافظة على تماسك التجمعات اليهودية، والتفافها حول شرائحها العليا التي تشكل صلة الوصل بينها وبين مصدر الحماية، ولذا فإن محافظة اليهود على وضع مميز ليس مرده الأساسي إلى الدين، ولا إلى نزعة مثالية ما باتجاه البقاء، رغماً عن الظروف المحيطة، بل تمّ الحفاظ على اليهود وخصوصيتهم، وتغذية هذه الخصوصية عبر قرون بفعل الظروف المادية المحيطة نفسها.
أما التجمعات اليهودية التي كانت تتماثل في ظروفها المعيشية مع محيطها، فقد تلاشت مندمجة مع هذا المحيط على مرّ السنين( )، وهذا ما حصل مثلاً للفلاحين اليهود في الجليل، حيث اندمجوا في المجتمع الفلسطيني ديناً وعادات ووجوداً جسدياً، وهذا ما حصل كذلك مع يهود دلتا النيل، الذين كانوا يتعاطون الزراعة.
■ مع أفول مرحلة ما قبل الرأسمالية، إنتهت مرحلة «الثراء الفاحش لليهود»( )، وبدأت مرحلة تاريخية طويلة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مَسَّت فيمن مَسَّت ملايين اليهود.
لقد تطورت البورجوازيات المحلية في أوروبا الغربية وأخذت تحل تدريجياً، ولكن بتسارع محل اليهود في التجارة الدولية، ولم تكن هذه العملية مجرد إستبدال فئة من التجار بفئة أخرى، فقد طرأ تغير جوهري على طبيعة الحركة التجارية. لقد بدأ الرأسمال البضاعي ينهزم أمام الرأسمال التجاري، فقد نمت البورجوازية التجارية المسيحية (داخل رحم مجتمع الإقطاع) إستجابة لحاجة الإنتاج الصناعي المتوسع في المدن لبيع سلعه ومنتجاته، وبخاصة عن طريق تصديرها. إن ارتباط البورجوازية المسيحية بالإنتاج المحلي وتوسعه، وتحسين أدوات إنتاجه، واعتمادها عليه في عملها وجني أرباحها، يميزها بصورة جذرية عن الرأسمال البضاعي والربوي ومن ضمنه اليهودي...
■ لم تتمكن البورجوازية التجارية من إزاحة الرأسمال البضاعي من طريقها دون صراع عنيف إتخذ أشكالاً دموية ضد اليهود... لقد كان جوهر الصراع يكمن في الانتقال من نمط إنتاج طبيعي (إنتاج القيم الاستعمالية) إلى نمط إنتاج جديد قائم على إنتاج السلع التبادلية. وبطبيعة الحال لم يمس هذا التطور الاقتصادي أوروبا الغربية كلها دفعة واحدة، أو بالتساوي، أو بفترة زمنية قصيرة وفجائية، فقد مسّ بداية بعض المدن المهمة مثل البندقية وبيزا وجنوى في إيطاليا وبروج وغاند وأنڤرس وبروكسل في بلجيكا وليل وڤالانسيان في فرنسا...الخ، وبالتالي «إستمر النظام الإقطاعي بالازدهار... ولم تختف سبل الثراء عن اليهود، إذ لا زالت أملاك الأسياد (الإقطاعيين) تتيح لهم مجالاً عملياً واسعاً»( )، و«بالتالي تحول الرأسمال البضاعي اليهودي بمعظمه إلى رأسمال ربوي مستجيب لحاجة هؤلاء الأسياد».
■ وكما رأينا، فقد مارس اليهود الربا سابقاً، الذي كان على صلة مع الرأسمال التجاري، ويلعب دوراً مكملاً له وبالأساس داخل كل مملكة وإمارة، ولكن إبعاد اليهود عن التجارة أدى إلى تمركزهم في إحدى الحرف (الربا) التي كانوا قد مارسوها سابقاً، كما يؤكد أبراهام ليون. إن هذا الكلام لا ينفي بالطبع تحول العديد من المتمولين اليهود إلى النمط التجاري الجديد، ولكنهم كانوا قلة ضئيلة. لقد كانوا الاستثناء الذي يثبت القاعدة. وإذا كان كلامنا يؤكد على مجرى عام للتطور، فهو لا ينفي أيضاً أن العديد من المسيحيين مارسوا أو حاولوا ممارسة الربا مباشرة أو بواسطة اليهود، وتاريخ أوروبا يعج بالأمثلة على هذا الصعيد في هذه المرحلة.
إن القاعدة هنا هي تخصص طائفة بنشاط اقتصادي محدد، تمليه ظروف محددة في كل مرحلة، وأن هذا التخصص الرئيسي وبغض النظر عن كونه لا يمس إلا شريحة، بالنهاية ضئيلة وعليا من الطائفة، فهو يحدد ويملي شروط حياة الأغلبية الساحقة من الطائفة، إن لم يكن الطائفة بأكملها.
■ لقد حصل تطور في وظيفة المرابي نفسه تحت ضغط التطورات الاقتصادية، فلم يعد المرابي مجرد دائن لقاء رهن مساكن، أو عقارات، أو محاصيل... وتطورت هذه العملية البسيطة من شكلها البدائي إلى نظام دائني ذي وظيفة تشبه وظيفة البنوك، حيث كان التاجر يقوم بإيداع مبلغ (وديعة) عند المرابي ويأخذ لقاء ذلك إفادة، وعندما يشتري التاجر بضاعة ما يعطي للتاجر الثاني إفادة قابلة للتداول، أي بإمكان التاجر الثاني أن يشتري بها بضاعة، أو يتم تحصيلها نقداً من عند المرابي الذي أعطى الإفادة الأولى. وتصبح الإفادات صكوك ورقية على المرابي نفسه، الذي أصبح بذلك مستودعاً للودائع المغطاة، أي مستودعاً للنقود(2). كان ذلك سلوك المرابين الذي تطور وبإتجاه المؤسسات الرأسمالية الحديثة، وأما الأغلبية فميدان نشاطها الرئيس لم يكن التعامل مع التجار، بل النبلاء والأسياد من ناحية، والمزارعين الحرفيين من ناحية أخرى.
«كان المرابي يقرض الإقطاعيين والملوك لرفاهيتهم، ولمصاريف الحرب، ويقرض المزارعين والحرفيين ليتمكنوا من تسديد الرسومات والمدفوعات المستحقة عليهم»(3). وكما انهزم التاجر اليهودي أمام التاجر المحلي، لحقت الهزيمة بالمرابي اليهودي على يد الصيرفي، الذي «لا يساهم مباشرة في إنتاج فائض القيمة»(4)، عبر تمويل المشاريع التجارية والصناعية الكبيرة.
4-■ لم تقتصر النتيجة على فقدان الدور الاقتصادي البارز في أوروبا الغربية. لقد تمت هذه العملية عبر إحتكاك متوتر بالنبلاء، بسبب مصادرة أجزاء واسعة من أملاكهم المرهونة للمرابين، وكذلك عبر إستغلال فظ للفلاحين والحرفيين، ولذا بالإضافة إلى خسارة موقعهم المتميز، عانى اليهود من موجات إضطهادية عنيفة ودموية في هذه الحقبة(5). ورغم بشاعته لم يكن الاضطهاد هو المميز الأبرز في حياة اليهود في هذه الحقبة. لقد جرت عملية هجرة واسعة باتجاه أوروبا الوسطى والشرقية، وبشكل خاص بولندا وليتوانيا، كما شملت هذه الهجرة تركيا وبلدان إسلامية أخرى، ومست ملايين اليهود الغربيين. إن هذه الهجرة الكثيفة باتجاه البلدان الأكثر تخلفاً، تعبر عن إرادة تجديد الوظيفة التجارية والربوية في بلدان لم يكن قد أصبح نمط الإنتاج الرأسمالي هو النمط السائد فيها، وسوف يجعل من أوروبا الشرقية والوسطى لاحقاً رحم الحركة الصهيونية.
[هذه الهجرة اتخذت في معظم الأحيان الطابع القسري أي الطرد، كما حصل في إسبانيا والبرتغال بين 1492 و1497، وفي ألمانيا بين 1424 و 1519 وفي إيطاليا بين 1492 و 1550. عام 1492 مست الهجرة في إسبانيا 300 ألف من اليهود، استقرت أغلبيتهم في أوروبا الشرقية وتركيا وبلدان إسلامية أخرى- «المفهوم المادي للمسألة اليهودية» (ص118 - 119).]
■ شكل الحرفيون جزءاً هاماً من جيش الهجرة الواسع باتجاه البلدان سالفة الذكر، إذ إن اليهود لم يكونوا فقط ضحية تخصص شرائحهم العليا بالتجارة ما قبل الرأسمالية والربا، بل كانوا أيضاً ضحية تمركزهم الشديد في الحِرَف على اختلافها، وقد أدى التطور الرأسمالي إلى تصدع خطير في مواقعهم، ودفع أغلبية ساحقة منهم إلى الهجرة، خوفاً من البلترة، وعندما تكررت نفس الظاهرة في أوروبا الشرقية والوسطى مع تسارع نمو الرأسمالية، كان وضع هذه الفئة الواسعة من الحرفيين أكثر مأسوية، لأن التطور السريع باتجاه التمركز الرأسمالي والاحتكارات، هدّد مواقعها بشكل حاسم ومتسارع.
وما يمكن إضافته أن هذه التطورات الاقتصادية الكبيرة، قادت كذلك (بالإضافة إلى التمركز في الربا، وضرب الحرفيين وصغار التجار وحركة الهجرة الواسعة...الخ) إلى إنصهار فئات من اليهود في المجتمعات الغربية، وإن كان من الصعب التقدير الدقيق لحجم هذا الجسم الاجتماعي المنصهر، فإنه كان بالغ الأهمية من زاوية كونه مسَّ شرائح مهمة من البورجوازية الكبيرة التي إندمجت في محيطها البورجوازي. وقد إتخذ هذا الاندماج مظاهره العديدة على الأصعدة «الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية»( ).
إن حركة الاندماج هذه بلغت مداها مع إنتصار الثورة البورجوازية الفرنسية، وتشريع حقوق الملكية الفردية واعتبار المواطنين متساوين أمام القانون. وسوف يكون لحركة الاندماج هذه، والمأخوذة بمعناها الشمولي، دوراً بارزاً في دفع المشروع الصهيوني باتجاه التحقق، حيث سوف تستعمل البورجوازية اليهودية الكبيرة نفوذها لمنع الجموع اليهودية المهاجرة من أوروبا الشرقية من الاستقرار في أوروبا الغربية، وتدفعها للهجرة باتجاه الأمريكيتين، أو باتجاه فلسطين.
5-■ في حين كانت تتكثف عملية الاندماج في أوروبا الغربية، أو حل «المسألة اليهودية»، كانت الأمور تسوء في أوروبا الشرقية، وتتطور باتجاه إعادة إثارة المسألة وتعقيدها. فمنذ أوائل ق 19 كانت قد أخذت تسوء أوضاع اليهود، بسبب تفسخ المجتمع الإقطاعي والتطور المتسارع للرأسمالية، وفي آلية شديدة الشبه بما حصل في أوروبا الغربية سابقاً. لقد شعر اليهود الذين ألفوا، خلال قرون طويلة، الاقتصاد الطبيعي، الأرض تميد تحت أقدامهم. فقد استأثروا طويلاً بعمليات التبادل، ولكن مع بداية رسملة روسيا وبولندا .. «إنهارت مواقعهم، ولم تجد سوى أقلية من اليهود الأغنياء مجالاً مناسباً للعمل... »( ). هذا ما يقوله أبراهام ليون عن روسيا وبولندا.
■ أما د. صادق جلال العظم المثال التالي عن رومانيا: «حين وقعت روسيا معاهدة أدريانوبل- 1829، فتح باب التجارة فجأة على مصراعيه بين رومانيا (التي كانت تتألف من مقاطعتي مولداڤيا و ڤالاشيا) وأوروبا الغربية، علماً بأن التبادل التجاري بينهما كان شبه معدوم قبل ذلك. وربما أن طبقة التجار والحرفيين والصناع المسيحيين في رومانيا كانت صغيرة الحجم وضعيفة، لم تكن في وضع يسمح لها باستغلال الفرص الضخمة للتجارة والإثراء التي ولدها الوضع السياسي الجديد للبلد. وبطبيعة الحال كان اليهود يشكلون الفئة الاجتماعية الوحيدة المؤهلة لاستغلال هذه الفرص والاستفادة منها، بسبب أوضاعهم التاريخية السابقة، وبسبب خبرتهم المالية والتجارية المكتسبة قبلاً، ولذا فقد إندفعت البورجوازية اليهودية لملء الفراغ الاقتصادي والتجاري الناتج عن توقيع المعاهدة، وظلت السوق التجارية محتكرة من قبلهم وبدون أية منافسة تذكر من البورجوازية المحلية الضعيفة لمدة ثلاثين سنة تقريباً. مع نمو الطبقة الوسطى المحلية، وتكوين الدولة القومية الرومانية (من المقاطعتين الإقطاعيتين السابقتين) تحركت البورجوازية المسيحية لتنافس البورجوازية اليهودية بضراوة، بغية الاستيلاء على مواقعها ونزع زمام المبادرة منها. كانت نتيجة هذا التنافس المر والمزاحمة التي لا ترحم حركة العداء السامية في رومانيا»( )، كما أن حركة العداء هذه عبرت عن نفسها بمظاهر عنيفة عديدة في روسيا القيصرية ذاتها، على امتداد ق 19، وخاصة في النصف الثاني منه.
6-■ لقد دخلت التجمعات اليهودية برمتها في خضم أزمة كبرى، فتصدعت مصالح البورجوازية التجارية اليهودية بفعل تطور ومنافسة البورجوازيات المحلية، وانهارت مواقع الحرفيين أمام تطور الآلة الرأسمالية ومنافسة الحرفيين المحليين المهاجرين من الريف، خاصة، بعد أن حررت إصلاحات- 1863 وإلغاء القنانة في الإمبراطورية القيصرية الروسية ملايين الفلاحين، وألقت بهم في سوق العمل.
عبر آلية شديدة الشبه بما كان قد حصل سابقاً في أوروبا الغربية، تكثفت حملات الاضطهاد، وتسارعت على مرِّ ق 19 عملية الهجرة الداخلية، ومن ثم الخارجية خاصة. وكان ما يحصل في أوروبا الشرقية أكثر تعقيداً، لأنه كان يتم في ظل ظاهرة متناقضة، وهي ظاهرة تطور الرأسمالية ودخولها في أزمة مع تطور الرأسمالية إلى إمبريالية.
لقد دخل اليهود في أوروبا الشرقية في أزمة شاملة، مَسَّت جميع فئاتهم الاجتماعية البورجوازية، والشرائح الواسعة من البورجوازية الصغيرة والوسطى، وكذلك الفئات «العمالية» كما سوف نرى لاحقاً. وشكلت هذه الأزمة مرجلاً شديد الغليان لعب الدور الأساسي في تطور الحركة الصهيونية وتحقق المشروع الصهيوني، حيث شكل اليهود في أوروبا الشرقية رأس الحربة في إنجاز المشروع ميدانياً■


(3)
الصهيونية
1-■ إذا أخذنا المعنى الحرفي للكلمة فهي تعني العودة إلى صهيون (هضبة في جوار القدس)، وكان اليهود منذ قرون طويلة يتبادلون في عيد الفصح عبارة: «العام القادم في القدس»، وكان للعبارة معنى دينياً. وقد تواجدت في فلسطين وبشكل دائم جاليات يهودية صغيرة حول المراكز الدينية التقليدية في القدس والخليل وصفد وسبسطية، وتشكلت هذه الجاليات غالباً من المسنين الوافدين لقضاء أيامهم الأخيرة قرب أماكن العبادة، وإذا كانت لهذه التجمعات خصوصيات ما، فإنها لم تكن ترقى لمستوى المجتمع المتكامل، وباستثناء حقوقها الدينية فلم تكن هذه الجاليات تتميز عن محيطها بأكثر مما يسمح به مجتمع ما قبل رأسمالي يتسم بالعجز عن صهر التجمعات الدينية أو الإثنية ودمجها في مجتمع موحد.
■ وإذا كانت هذه الجاليات قد استقرت في أحياء خاصة بها في المدن والمراكز الفلسطينية، فإنها لم تتمكن، ولا هي حاولت إنشاء كيان موحد لها في مختلف المدن، ولم تتطور الأمور باتجاه إكتسابها سمات جالية موحدة أو شبه موحدة. إنها جزر للتعبد والخدمات تلبية لحاجة الحجاج الوافدين من مختلف بلدان التواجد اليهودي، وبالتالي فإن «الحنين الدائم» لفلسطين، وبالإضافة لكونه لا يعطي حقوقاً سياسية، فإنه لم يعبر عن نفسه سياسياً إلا في منتصف ق 19 ومطلع ق 20، أي في ظروف محددة، هذا إذا استثنينا محاولة نابليون الفاشلة، ودعوات أخرى مماثلة، كذلك مثلها وبعدها. لقد فشلت هذه الدعوات لأن الظروف لم تكن قد نضجت بعد.
[■ الاستثناء الوحيد المدون تاريخياً يشكله الإقطاعي اليهودي البرتغالي المتنصر جوزف ناسي، الذي حصل من السلطان العثماني في ق 16- 1565 على حقوق ملكية طبريا وضواحيها، وأنشأ فيها مانيفاكتورة للنسيج، ودعا الحرفيين والعمال اليهود للقدوم إليها، وقد فشلت المؤسسة وفشل جوزف ناسي في أن يعلن نفسه ملكاً على اليهود... عن«الصهيونية ضد إسرائيل»، تأليف ناتان وينشتوك، (ص 43) دار ماسبرو، بالفرنسية.
في 4/1799 دعا نابليون بونابرت اليهود «الورثة الشرعيين لفلسطين... للتعاون مع فرنسا من أجل إنشاء دولة لليهود في فلسطين». راجع نص النداء في كتاب «البدء كانت الممانعة» - سهيل القش - دار الحداثة/ بيروت. - بالنسبة للمحاولات البريطانية والأمريكية - راجع «الصهيونية والصراع الطبقي» ( ص53 - 59).]
2-■ أما الصهيونية بمعناها السياسي؛ فهي الحركة السياسية التي نشأت في صفوف البورجوازية اليهودية، تحت ستار إنقاذ اليهود من «عذابهم التاريخي»، مقدمة بذلك حلاً زائفاً وعنصرياً لمشكلة اليهود والأوروبيين الشرقيين منهم بصورة أساسية، حيث كانت تجري منذ بدايات ق 19 تغييرات إقتصادية وإجتماعية طاحنة، مسّت طبقات وفئات إجتماعية بكاملها لجهة تبدل موقعها في السلّم الطبقي والاجتماعي. إنها ردة فعل البورجوازية الوسطى والصغيرة على التطور الرأسمالي المتأخر في أوروبا الشرقية والوسطى، ونمو بورجوازيات وسطى وصغيرة في هذه البلدان، ومحاولة لتشكيل سوق قومية خاصة بالبورجوازية اليهودية، سوق بعيد عن منافسة البورجوازيات المحلية في بلدان أوروبا الشرقية والوسطى.
■ كان الوجود اليهودي مركزاً بشكل أساسي في المدن، ولأسباب تاريخية عديدة ومركبة -مرَّ ذكرها- كانت الأغلبية الساحقة منهم تتعاطى التجارة والصرافة والحرف والمهن الحرة، وبالتالي برزت هذه الفئات منافساً ميدانياً للبورجوازية المحلية الناشئة بفعل تفسخ الإقطاع وتطور الرأسمالية، التي دفعت بملايين الفلاحين إلى المدن في المصانع والحرف والمدارس والوظائف ...
وكان من «الطبيعي» أن تلجأ هذه البورجوازية الناشئة والمكافحة ضد بقايا أشكال الإقتصاد ما قبل الرأسمالي، (والمكافحة أيضاً ضد البورجوازيات الأوروبية التي سبقتها في التطور)، لاستعمال مختلف الأساليب والأسلحة ضد منافستها في الداخل والتي كان أبرزها تسعير مشاعر العداء للسامية، هذه المشاعر التي تجد جذورها العميقة في «الوعي» الجماعي المزيف للجماهير، هذا الوعي الذي تشكل عبر مئات السنين ضد «المرابي اليهودي» المتحكم بأعناق الناس وأرزاقهم، عبر الرهونات ومصادرة المساكن والأرض والغلال ...
■ إن هذا النسق من «الأفكار» كان يتغذى كذلك من الإرث الأيديولوجي للمجتمع الإقطاعي، حيث كان الدين المسيحي يشكل الأيديولوجيا الرسمية لقرون طويلة، وتحمل هذا الدين مؤسسة كنسية ضخمة (كانت واقعياً جزءاً مهماً من نسيج المجتمع الإقطاعي). ولذا، فإن استثارة العوام ضد «صالبي المسيح، مصاصي دماء الشعب، ممارسي الطقوس الدموية...»، كانت تترجم في العقل الباطني الجماعي إلى دعوة للعنف، وكانت هذه الدعوة تلقى «تبريرها» في الواقع اليومي المعاشي، في القلق العميق لمجتمع يعيش تحولات تمس الملايين، وتقذف بهم خارج نسق حياتهم المعتادة فريسة الخوف من المستقبل، فريسة العوز والبؤس الحقيقي، وكانت الشرائح الدنيا للبورجوازية الصغيرة والبروليتاريا الرثة في هذه البلدان تشكل جيشاً جاهزاً للاقتصاص من اليهود.
[■ ليس المقصود بالطبع تحميل التحريض «الديني» المسؤولية الأساسية في حملات الاضطهاد، فلولا الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحددة، لما تحول التحريض إلى قوة مادية. لقد مارست الكنيسة الربا بدورها طيلة قرون، ولكن دون أن يكون ذلك نشاطها الأساسي أو نشاطاً بني عليه وجودها. وكذلك مارس المجتمع الإسلامي الربا بطرق ملتوية رغم المنع الديني الجازم له... حتى أن أحد المذاهب الإسلامية الرئيسية (المذهب الحنفي) إجتهد باتجاه تحليل بعض أشكال الربا على قاعدة أن «الضرورات تبيح المحظورات»، وأما المذاهب الأخرى فقد اتخذت موقفاً مرناً عملياً، بينما تشددت في تحريم الربا نظرياً - راجع «الإسلام والرأسمالية» لمكسيم رودنسون - ترجمة نزيه الحكيم - دار الطليعة/ بيروت 1965.
إن الفارق الأساسي يبقى أن الرأسمال الربوي لم يكن عماد المؤسسة الكنسية، فهي مالك إقطاعي طيلة القرون الوسطى، وكذلك فإن الربا لم يكن جوهر تنظيم الحياة الاقتصادية في المجتمعات الإسلامية.]
■ إن التطورات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى وحملات الإرهاب والتنكيل المعادية لليهود التي رافقتها على خلفية تطور الرأسمالية إلى إمبريالية، دفعت نحو الحركة الصهيونية، أي الحركة القومية للبورجوازية الصغيرة والوسطى التي تفتش عن سوقها المستقل خارج حدود بلدان أوروبا الشرقية والغربية. وولدت كذلك حركة هجرة يهودية لم يسبق لها مثيل باتجاه الأمريكيتين وأوروبا الغربية، وقليلاً جداً باتجاه فلسطين حتى ثلاثينيات ق 20؛ فبين 1880 و1929 -أي خلال 50 سنة- هاجر من روسيا إلى الأمريكيتين 1.930.000 يهودياً، بينما هاجر إلى فلسطين 45 يهودياً فقط(!).
3-■ فيما سبق أشرنا إلى الاتجاهات العامة للتمايز الاجتماعي في صفوف المجتمع اليهودي في أوروبا الشرقية، ومن الضروري للابتعاد عن التبسيط المشوه، أن نقرر بأن التطورات الاقتصادية والاجتماعية فرزت تمايزاً أكثر تعقيداً بصفوف الجاليات اليهودية، وكذلك كانت أكثر تعقيداً ردة الفعل على هذه التطورات. لقد حصل في ق 19 تمايزاً إجتماعياً بارزاً داخل صفوف اليهود الشرقيين، فمن جراء المنافسة غير المتكافئة مع البورجوازيات المحلية، حصلت عملية تحول بروليتاري (بلترة) لشرائح هامة من البورجوازية الوسطى والصغيرة اليهوديتين. إن الإحصاءات الروسية- 1897، تظهر التوزع المهني التالي لليهود مقارنة مع غير اليهود في روسيا القيصرية( ):

قطــاع يهــود مجموع السكان
زراعة 2,5 % 53 %
صناعات 36,2 % 14,6 %
تجارة ونقل 34,6 % 7,4 %
خدمات شخصية 11,9 % 11,8 %
مهن حرة ووظائف دولة 7,2 % 8,2 %
مهن غير منتجة وغير محددة 7,6 % 5,2 %
المجموع 100 % 100 %


■ الملفت للنظر في هذه الإحصائية هو حجم العمال اليهود في الصناعات منسوباً إلى حجم العمال بعموم السكان. ولكن الملاحظة تبقى ناقصة إذا لم نتمكن من التدقيق بطبيعة هذه الصناعة وبالتركيب الداخلي للفئات العمالية. ولما كانت تنقصنا التصنيفات الدقيقة للفترة الفترة الزمنية نفسها وفي البلد نفسه، فيمكننا الاستعانة بإحصائية أخرى مقارنة في بولندا لعام 1931، منطلقين من تشابه وضع اليهود في كلا البلدين(2):





نمط المؤسسة يهود غير يهود
مؤسسة صغيرة 82 % 37 %
مؤسسة متوسطة 15 % 20 %
مؤسسة ثقيلة 3 % 42 %
المجموع 100 % 99 %






■ من هذه اللوحة نستخلص أن بنية الطبقة العاملة اليهودية تختلف عن بنية الطبقات العاملة بشكل عام في البلدان المعنية، وأن غالبية الأجراء اليهود هم حرفيون في مشاغل أرباب العمل اليهود أو في مصانعهم الصغيرة، وبالتالي ممكن أن نستخلص مع الكاتب «جاكوب ليستنسكي» أن بلترة البورجوازيات اليهودية الوسطى، التي كانت تنحدر طبقياً بقيت ظاهرة هامشية، لأن «عملية تحول التاجر اليهودي ما قبل الرأسمالي إلى عامل حرفي، تقاطعت مع عملية أخرى، وهي إزاحة العامل اليهودي بواسطة الآلة، وأصبح محكوماً على الجماهير اليهودية المطرودة من المدن الصغيرة والعاجزة عن التبلتر بالهجرة». وإذا كنا نعيد التطرق للهجرة بنتائجها وانعكاساتها، فإن ما يهمنا الآن هو التأكيد على الاستنتاجات التالية:
أولاً- إن أول ما يلفت النظر هو هشاشة التكوين العمالي اليهودي، وهو أقرب إلى الشرائح الدنيا من البورجوازية الصغيرة، وإن هذا التركيب سينعكس على برامج وسياسة الأحزاب «العمالية» اليهودية، التي ستتميز بالتذبذب وشدة التأرجح بين السلوك الطبقي الثوري وبين الصهيونية، لتنجرف بالمحصلة نهائياً باتجاه الصهيونية.
ثانياً- إن هذا التركيب الهش بفعل التحولات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة في صفوف اليهود، وفي سياق تطور الرأسمالية إلى إمبريالية، والتفتيش عن أسواق خارجية بتبريرات أيديولوجية قومية، رمى بشرائح واسعة من الجماهير اليهودية في أحضان البورجوازية الصغيرة وأيديولوجيتها الصهيونية، خاصة وأن هذه التحولات ترافقت مع عداء مستحكم من المحيط، عبّر عن نفسه بموجات عنيفة من العداء للسامية، كانت تتخذ من حين لآخر شكل إنفجارات دموية، إما عفوية أو منظمة من قبل السلطات الحاكمة.
ثالثاً- إن هذا التركيب الطبقي ذاته، سوف يعبر عن نفسه بولادة تيارات صهيونية متعددة، شديدة التلون وبأحزاب ومنظمات صهيونية متعددة، يمينية وذات تلاوين يسارية، تفصلها حدود هلامية فيما بينها، وأن هذه التنظيمات ستلعب دوراً سياسياً تعبوياً هاماً، وسوف يكون لها تأثيراتها على الأحزاب الصهيونية التي سالصهيونية الرسمية.. الإطار العام والتطبيقات

(1)
خامساً - الصهيونية الرسمية والإطار العام لحركتها
1-■ يمكن الكلام عن بداية تاريخ الصهيونية الرسمية مع صدور كتاب تيودور هرتسل «دولة اليهود»- 1896، وبدء مساعي المؤلف التنظيمية من أجل عقد المؤتمر الصهيوني الأول للحركة، ومساعيه السياسية في السنة نفسها مع الإمبراطوريات التركية والألمانية والبريطانية، من أجل إيجاد سند إستعماري يضفي على الحركة الصهيونية صفة «الشرعية»، ويوفر لها سبل النجاح عبر إعطائها مرتكزاً مادياً، لا يمكن أن تحصل عليه إلا ضمن الاندراج في سياق نشاط إحدى الإمبراطوريات التي ترى في الصهيونية عاملاً مؤازراً في تثبيت هيمنتها على المشرق العربي عبر السيطرة على فلسطين.
■ عندما كتب هرتسل مؤلفه «دولة اليهود» لم يكن يحرث في أرض بكر، فقد سبقه كتاب صهاينة عديدون منذ النصف الثاني من ق 19، وعبروا بدرجات متفاوتة الوضوح عن ضرورة تجميع اليهود في دولة قومية. ففي 1862 وضع الحاخام زئيف هيرش كاليشر كتاباً بعنوان «السعي إلى صهيون»، وقال «إن خلاص اليهود لا يكون على يد مسيح منتظر، وإنما عن طريق الجهد البشري اليهودي لتخصيص (اليهود) أنفسهم بالمبادرة إلى بناء مجتمع يعتمد على إرتباط اليهودي بأرض يزرعها، تكون بمثابة وطن قومي له، ولا يتم إلا في فلسطين»( ).
وقد طالب كاليشر المتمولين اليهود بالمساهمة في تكوين جمعية هدفها إستعمار فلسطين، وإقامة مدارس زراعية لتدريب المهاجرين اليهود على الأعمال الزراعية، وضرورة تكوين حرس من الشباب اليهودي لحماية المستوطنات اليهودية(2). وقد أسس كاليشر «جمعية إستعمار فلسطين»- 1864، وبالتعاون الوثيق مع «الأليانس الإسرائيلي العالمي»، تم إنشاء أول مدرسة زراعية يهودية في فلسطين عند مدخل مدينة يافا- 1870.
■ كذلك، أصدر موسى هس كتابه «روما والقدس»- 1862، دعا فيه إلى «إيجاد قومية يهودية تحرر القدس، وتكون بداية عهد الانبثاق الجديد على غرار (المدينة الخالدة روما)، وطالب فرنسا بإقامة مستوطنات يهودية تمتد من السويس إلى القدس، ومن الأردن إلى البحر المتوسط، مع إحتلال شبه جزيرة سيناء».. ونادى هس بأن «الجنس اليهودي من أقدم وأعرق الأجناس البشرية، وإليه ترجع وحدة اليهود، لأن الجنس اليهودي حفظ صفاءه عبر مئات السنين، وعلى ذلك يجب أن يكون اليهود أحراراً، ولا يتحقق ذلك إلا في فلسطين الأرض الموعودة»(3).
■ في 1875 عرض بيريتز سمولنسكن آراء صهيونية في كتابه «فلنبحث عن الطريق»، حيث عاب على اليهود عدم شعورهم بقوميتهم، ثم دعا إلى الهجرة الجماعية إلى أرض إسرائيل، وقال «إن فكـرة استيطان اليهود في أرض- إسرائيل، ينبغي أن تكون منذ الآن الموضوع الرئيسي للجدل والحوار بين الذين يحبون شعبهم..»، وهاجم سمولنسكن التيارات الداعية لاندماج اليهود بمجتمعاتهم، وخاصة حركة «التنوير- هاسكله»، التي قال فيها أنها «تقوم على فكرة شريرة فاسدة، هدفها ليس مجرد بعث المعرفة، بل هدفها الأساسي هو إجتثاث اليهودية»( ).
■ في 1882 وضع ليو بنسكر كتاب «التحرر الذاتي» على شكل نداء من يهودي روسي إلى بني قومه، يدعو فيها إلى حل قومي «للمشكلة اليهودية عن طريق خروج اليهود من البلاد التي يعيشون فيها مضطهدين إلى أي بلد (دون أن يحدد فلسطين بالذات)، على أن يكون بلداً يهودياً مستقلاً، يعيش فيه اليهود بعيدين عن الاضطهاد، وأن يكونوا أمة واحدة تجمع بينهم لغة وعادات مشتركة»..
وقال بنسكر «إن اليهود أينما وجدوا ينظر إليهم على أنهم غرباء، ومن أجل ذلك كانوا يحتقرون، وأن التحرر الحقيقي هو في خلق قومية يهودية للشعب اليهودي ليعيش هذا الشعب على أرض موحدة ومحددة، يجب أن يكون لهم مأوى إن لم يكن بلد خاص بهم».
وكي يضع بنسكر أفكاره في مجال التطبيق العملي طالب «بعقد مؤتمر صهيوني هدفه شراء أرض تستوعب إستيطان عدة ملايين من اليهود»(2)، ونظراً لأهمية كراس «التحرر الذاتي»، إعترف هرتسل بأنه لو اطلع عليه قبل كتابة «دولة اليهود»، لما وجد مبرراً لإعادة نشر آراء مشابهة(3).
لقد تزعم بنسكر فيما بعد حركة «أحباء صهيون» التي نشطت في استيطان فلسطين، وبتأييد منه تأسست في روسيا «جمعية تأييد المزارعين وأصحاب الحرف اليدوية اليهود في كل من سوريا وفلسطين»- 1878، وهي اللجنة المعروفة بلجنة أوديسا.
2-■ نحن، الآن، لسنا بصدد تفنيد الادعاءات حول القومية اليهودية والشعب اليهودي، ولسنا بحاجة لدحض مقولة «حق العودة» المتهافت أو السجال مع هذه الأفكار من زاوية تاريخية وحقوقية، ولكننا نكرر الإشارة إلى أن هذه الأفكار نشأت مع تطور الفكر القومي في أوروبا وتبلوره على الأرض في وحدات قومية محددة الأطر الدستورية. وفي سياق هذا التطور جاء الفكر الصهيوني شديد التشابه مع تلاوين الفكر القومي، كما تجلَّت بالتحديد في وسط وشرق أوروبا.
وعندما بدأ هرتسل نشاطه الصهيوني الفكري والعملي، فهو كان يستوحي تراثاً صهيونياً موجوداً، وكان يستوحي أفكار القوميين الأوروبيين، محاولاً تطبيقها على الواقع اليهودي شديد التأزم في أواخر ق 19. وإن كان هرتسل قد شكل البداية الفعلية للحركة الصهيونية الرسمية، فلأن نشاطه لم يقتصر على الإنتاج الفكري، ولا هو اكتفى بالنشاطات المجزوءة والمتقطعة، بل لأنه إكتشف ومارس بلا مواربة، بأن المشروع الصهيوني مشروع استعماري، وهو بحاجة كي يتحقق إلى دعم إحدى القوى الاستعمارية الأوروبية الرئيسية في عصر تحول الرأسمالية إلى إمبريالية، وما عناه ذلك من تقاسم للعالم، ومن صراع دبلوماسي وسياسي وعسكري لإعادة تقاسم تركة الرجل المريض أي الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأدنى.
3-■ عقدت في حياة هرتسل ستة مؤتمرات صهيونية (آخرها في 1903) متفاوتة في أهميتها، ولكنها أرست على مستوى التوجهات العامة والتنظيمية المحددة الأساس السياسي والمادي لحركة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين من جهة، وأكدت على ربط نجاح هذا المشروع بتبني قوة إستعمارية له، تجعله قابلاً للتنفيذ. وعلى الصعيد الصهيوني التنظيمي كانت المحطات البارزة هي التالية:
أ) في المؤتمر الصهيوني الأول، تم تأسيس «المنظمة الصهيونية العالمية»، وانتخاب لجنة تنفيذية للمنظمة أصبح هرتسل رئيسها، وركزّ هرتسل في المؤتمر على مسألتين: 1- ضرورة تصليب أوضاع المنظمة بدورية المؤتمرات وتقوية الأجهزة التابعة لها. 2- مقابلة زعماء وحكام العصر، أي الاتصال بالقوى الإمبريالية لاكتساب التبني للمشروع الصهيوني.
ب) بعد المؤتمر الأول إعتبر هرتسل أن المؤتمر هو «الجمعية اليهودية» ويبقى عليه تأسيس الشركة اليهودية، وقدم المشروع فعلاً إلى المؤتمر الثاني عند تأسيس بنك باسم «بنك الاستيطان الصهيوني»، فتمت الموافقة عليه وطرحت أسهمه للبيع فيما بعد. وكذلك إقترح في نفس المؤتمر تشكيل المؤسسة الصهيونية الثالثة بعد المنظمة والبنك، وهي «شركة كيرين كايميت ليسرائيل»، أو «الصندوق القومي اليهودي»، ومهمتها إستملاك الأراضي في فلسطين. وقد أقر المؤتمر الصهيوني الرابع- 1900 الفكرة من حيث المبدأ، وأصبح القرار نهائياً في المؤتمر الخامس.
وقد باشر الصندوق القومي نشاطه في فلسطين- 1905 وسجل الصندوق كشركة مساهمة في بريطانيا في 1907، وأعلنت المادة الأولى من عقد التأسيس أن الهدف هو «العمل على استملاك الأراضي أو أية حقوق فيها، في المنطقة التي تضم فلسطين وسوريا، وأية أجزاء من تركيا الآسيوية وشبه جزيرة سيناء أو أي جزء منها، وذلك بغية توطين اليهود في تلك الأراضي».
■ تميَّزت هذه المؤتمرات بالصراع الحاد الذي دار بين تيارين: تيار «العمليين» وتيار «السياسيين»، وجوهر الموضوع أن «العمليين» وهم من حيث الأساس الذين أسميناهم بالتيارات الصهيونية «العمالية» كانوا يعطون الأولوية للنشاط الاستيطاني، ويعتقدون بنجاح المشروع الصهيوني عبر فرض الوقائع على الأرض، بينما كان «السياسيون» وعلى رأسهم هرتسل ووايزمن وماكس نورداو يعتقدون بالأهمية الحاسمة للعمل السياسي الدبلوماسي، أي بإيجاد قوة إمبريالية تتبنى المشروع الصهيوني، فتعطيه فرص التحقيق.
إن جزءاً من الصراع كان مفتعلاً فوجها النشاط يكملان بعضهما، ولكن التجربة التاريخية حسمت بأن هرتسل وتياره كانا على حق، فلولا تبني بريطانيا لمشروع الدولة الصهيونية، لانتهى المشروع بغض النظر عن بعض نجاحات الاستيطان هنا وهناك.
وقد فشلت المساعي التي قام بها هرتسل باتجاه الإمبراطوريات العثمانية والألمانية والبريطانية، بالحصول على تبني رسمي للمشروع الصهيوني( )، ولكن الغزوة الصهيونية على أرض الواقع، كانت تستفيد كثيراً من تقاليد الفساد في الإدارة العثمانية لجهة الالتفاف على القوانين والقرارات السلطانية أو الحكومية المعلنة باتجاه منع اليهود من استيطان فلسطين، أكان ذلك من ناحية منع الهجرة أو التضييق الجدي عليها، أو من ناحية منع اليهود من تملك الأراضي في فلسطين( ).
[■ إستعمل هرتسل في مساعيه مع الدول المعنية مبررات مختلفة، فقد وعد الأتراك بتصفية الدين العام للإمبراطورية، والألمان والبريطانيين، بأن الدولة العبرية ستكون مخفراً أوروبياً متقدماً في وجه بربرية آسيا. وإذا أردنا أن نلخص بكلمات سبب فشل هرتسل في تلك الفترة فيمكن القول: إن تركيا كانت تنظر بعين القلق لأي تغلغل أوروبي يهدد وحدة الإمبراطوية. كان الأتراك يخشون تكرار النموذج اللبناني، حيث فرضت الامتيازات للدول الأوروبية، وتقلصت صلاحيات العثمانيين. أما الألمان فكانوا شديدي الحذر من كل ما يمكن أن يثير حساسية الأتراك. وأما البريطانيون فقد أبلغوا هرتسل موافقتهم رسمياً على مشروع الاستيطان في أوغندا، بعد فشل فكرة سيناء وقبرص، ولكن فكرة «أوغندا» لقيت معارضة قوية في صفوف المعمرين البريطانيين فيها، وكذلك معارضة من الصهاينة أنفسهم، ولذلك فبعد أن أقر المؤتمر السادس الصهيوني مشروع أوغندا أعيد النظر فيه، وتم إلغاؤه في المؤتمر السابع.]
■ بعد وفاة هرتسل وفشل مشروع أوغندا تابعت الحركة الصهيونية في مؤتمراتها وعبر اللجان المنبثقة عن المؤتمرات، العمل على محورين: متابعة فرض الوقائع على الأرض الفلسطينية من خلال محاولات تكثيف الهجرة وبناء المستوطنات؛ ومن ناحية أخرى، مواصلة محاولات هرتسل باتجاه الدول الاستعمارية للحصول على شرعية ودعم هذه الدول أو إحداها، للوجود الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، إلى أن حصلت الحركة الصهيونية من بريطانيا على وعد بلفور في 2/11/1917■
(2)
وعد بلفور، أو التبني البريطاني الإمبريالي الرسمي للصهيونية
1-■ أربكت الحرب العالمية الأولى عند نشوبها «المنظمة الصهيونية العالمية»، لقد كان مركز نشاطها الأساسي في ألمانيا التي دخلت في حرب مع روسيا القيصرية، حيث تعيش غالبية اليهود، ومع بريطانيا التي تشكل مركزاً آخر للنشاط الصهيوني الرسمي، فنقلت المنظمة الصهيونية بهدوء مقرها إلى كوبنهاجن عاصمة الدانمارك المحايدة، ومن أجل عدم إستفزاز روسيا أمرت المنظمة بحل «إتحاد المنظمات اليهودية في ألمانيا من أجل المحافظة على حقوق يهود الشرق»، وتابعت ضغوطها باتجاه ألمانيا مصورة لها المزايا السياسية الإيجابية التي يمكن أن تحصل عليها من جراء دعم المشروع الصهيوني في فلسطين.
■ وكانت الحركة الصهيونية تمارس النشاط نفسه باتجاه الإمبريالية البريطانية، ولم تسفر المساعي باتجاه ألمانيا عن نتائج ملموسة تتجاوز التعبير عن المشاعر الإيجابية. فالموقف الألماني كان بالمحصلة، مرتهناً لموقف الحليف التركي. ولم تُجْدِ كافة الضغوط التي مارستها ألمانيا، وتحديداً هيئة أركان الحرب الألمانية على تركيا التي كانت بدورها تخشى ردة الفعل العربية على استجابتها للمشروع الصهيوني، خاصة وأن تركيا لم تكن تجهل الاتصالات البريطانية العربية، ولا المفاوضات الجارية بين الشريف حسين في مكة والسير هنرى مكماهون المفوض البريطاني في مصر بين 7/1914-3/1916، رغم ذلك لن تتوقف الضغوط الصهيونية باتجاه ألمانيا طيلة فترة الحرب، وفي الوقت نفسه كان مركز الثقل في النشاط الصهيوني ينتقل تدريجياً باتجاه الحلفاء (بريطانيا، الولايات المتحدة، فرنسا، وبدرجة ما إيطاليا)، كما شملت هذه الاتصالات كذلك دولة الڤاتيكان.
■ إحتلت بريطانيا المركز الأول في إهتمامات المنظمة الصهيونية. وفي تعاطيها مع المشروع الصهيوني كانت الإمبريالية البريطانية تنطلق من نظرتها إلى مصالحها الشاملة في المنطقة، واتخذ إهتمامها بالمشروع بالتدريج منحى إيجابياً. فقبل الحرب ومنذ 1882، كانت قد بسطت هيمنتها على مصر، محتفظة للدولة العثمانية بموقع شكلي فيها، كما كانت بريطانيا تراقب عن قرب نشاط الدول الغربية الأخرى، وتنامي نفوذها في القسم الشرقي من الإمبراطورية العثمانية، وعلى قاعدة أنها أمَّنت عبر إحتلال مصر طريقها إلى الهند، فقد كان مطلوباً عدم تنامي نفوذ أية دولة أوروبية لحد يهدد مواصلاتها ونفوذها وبالتالي سياستها. ومع نشوب الحرب أصبحت تركيا عدواً وكذلك ألمانيا، وأما فرنسا وإن بقيت معنية بعملية التنافس الإمبريالي مع بريطانيا، فقد أصبحت حليفاً في حرب شاملة.
2-■ من هذه الخلفية إنطلقت بريطانيا للتعاطي مع المطالب الصهيونية، ففي مفاوضات سايكس- بيكو قبلت بريطانيا بمساومة مع فرنسا، جوهرها إخضاع القسم الشمالي من فلسطين وخط القدس (غزة جنوباً) لإدارة دولية، مقابل إخضاع مينائي حيفا وعكا للسيطرة البريطانية المباشرة، لقاء تخلي الأخيرة عن المطالبة بفلسطين. وأما روسيا القيصرية فقد إكتفت بالحصول على تعهد بالمحافظة على الحقوق الدينية للطائفة الأرثوذكسية في فلسطين، بالإضافة لحصولها على مكاسب في تركيا نفسها.
■ وقد لعب الوزير البريطاني الصهيوني هربرت صموئيل دوراً نشطاً، فمنذ 1915 تقدم بمذكرة لرئيس وزراء بريطانيا أتبعها بمذكرة أخرى وزعت على الوزراء، وتقترح إقامة محمية بريطانية في فلسطين، يسمح لليهود بالهجرة إليها، لإقامة مركز ثقافي وروحي لليهودية، مما ستكون له نتائج حميدة على موقف اليهود في العالم من بريطانيا، كما اقترح صموئيل أيضاً أن يمنح اليهود الوافدون إلى فلسطين حكماً محلياً قد يتطور مع الزمن إلى دولة تكون موالية لبريطانيا( ).
3-■ في مجرى الحرب، وضمن منطق التنافس الاستعماري، كانت بريطانيا تحاول التملص من تعهداتها لحلفائها (وخاصة فرنسا)، كي تصبح فلسطين تحت سيطرتها المباشرة بعد الحرب. ولذلك عندما وصل لويد جورج لرئاسة الحكومة وبلفور إلى وزارة الخارجية في 1916، جرت سلسلة من المفاوضات الرسمية أبدى فيها البريطانيون «تفهماً» أكبر للمشروع الصهيوني، ونصحوا الصهاينة ببحث القضية مع الحكومة الفرنسية، وبدء مفاوضات طويلة ومتقطعة مع الفرنسيين ونصائح فرنسية للصهاينة، للاتصال بالإيطاليين. وبعد إتصال هؤلاء بإيطاليا والبابا، إستحصل الصهيوني سوكولوڤ على رسالة من كيون السكرتير الأول في وزارة الخارجية الفرنسية في 4/6/1917 شكلت أول تعهد خطي يحصل عليه الصهاينة من إحدى دول الحلفاء.
■ وقد نصَّت الرسالة على التالي:«إذا كانت الظروف مناسبة، وإذا أصبح بالإمكان تحرير الأماكن المقدسة، سيكون من العدل أن تؤيد دول الحلفاء بعث الشعب اليهودي في البلد، الذي نفي منه منذ مئات السنين. إن الحكومة الفرنسية التي دخلت هذه الحرب، لتدافع عن شعب هوجم ظلماً، وهي مستمرة فيها لتأمين إنتصار العدل على القوة، لا تستطيع إلا أن تشعر بالعطف على طلباتكم، التي يتوقف نجاحها على إنتصار الحلفاء، ويسعدني أنه باستطاعتي تقديم تأكيد على ذلك»( ).
■ في 3/9/1917 إجتمعت الحكومة البريطانية وبحثت الطلبات الصهيونية، وبلورت مشروعها الذي سوف يعرف بوعد بلفور، وأبلغت الصهاينة إقتراحها بإصدار تصريح يتبنى طلباتهم.
وفي 4/9/1917 إتصل البريطانيون بالرئيس الأمريكي ولسون لاستطلاع رأيه، وكان ذلك على شكل مذكرة تتضمن نص المشروع البريطاني، وأعطى ولسون موافقته في 13/10/1917، كما أعلن في بيان للشعب الأمريكي عن موافقته على إرساء «أسس كومنولث يهودي في فلسطين».
وفي 31/10/1917 إجتمعت الحكومة البريطانية لتقر موقفها النهائي من المطالب الصهيونية، وفي 2/11/1917 أصدرت على لسان وزير خارجيتها اللورد بلفور رسالة موجهة إلى اللورد روتشيلد( ):
«وزارة الخارجية – 2 نوڤمبر (تشرين الثاني) 1917
عزيزي اللورد روتشيلد
إنه من دواعي سروري الكبير أن أنقل إليكم باسم حكومة صاحب الجلالة الإعلان التالي عن التعاطف مع الأماني اليهودية والصهيونية الذي تم عرضه وإقراره بواسطة مجلس الوزراء. ونصه كما يلي:
إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بالعطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين. وسوف تبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف. ومن المفهوم أن هذا الإعلان لا يجحف بالحقوق المدنية والدينية لطوائف غير يهودية موجودة في فلسطين. كما أنه لا يؤثر على الأوضاع القانونية أو السياسية التي يتمتع بها اليهود في البلاد الأخرى. وسأكون شاكراً لكم إذا تفضلتم وأبلغتم هذا الإعلان لعلم الإتحاد الصهيوني.
المخلص
آرثر بلفور»
وبذلك تثبت بريطانيا بشكل رسمي المشروع الصهيوني، وسوف تعمل كل جهدها على تحقيقه بما يتلاءم مع مصالحها، ضاربة بعرض الحائط المصالح البديهية للشعب الفلسطيني.
4–■ اذا كنا قد تعرضنا بإيجاز شديد للملابسات التاريخية والدبلوماسية التي مهدت لصدور هذه الوثيقة، فكيف نفهم كوطنيين فلسطينيين هذه الوثيقة المشؤومة:
أولاً- ليست لهذه الوثيقة أية قيمة من وجهة نظر القانون الدولي، ففلسطين ليست بريطانية ولا تحت السيطرة البريطانية إستعماراً أو إنتداباً. والوثيقة موجهة من دولة إلى شخص لا يمثل أية هيئة رسمية قانونية، والوثيقة بالتالي تتصرف بما لا تملك عليه حق التصرف أو الوصاية، وجوهر الموضوع ليس إنتفاء القاعدة الحقوقية لهذه الوثيقة، بل جوهرها الاستعماري بما هي تعبير عن إعادة تقسيم واستكمال تقسيم العالم الذي تم بين ضواري الإمبريالية في الحرب العالمية الأولى، وأن هذه الوثيقة أعطت شرعية واقعية، قاعدتها النفوذ البريطاني، وحفرت مجرى شرعياً للنشاط البريطاني الصهيوني المشترك الموجه ضد أماني وطموحات وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة.
ثانياً- إن وعد بلفور لم يكن وعداً بريطانياً وحسب، فقد حرص البريطانيون أشد الحرص في مجرى الحرب، على الحصول على ضمانات فرنسية وأمريكية وإيطالية، وبالتالي ضمنوا تأييد حلفائهم السياسي والمعنوي، وبالحدود الدنيا عدم معارضتهم، وتحول الوعد بذلك إلى وثيقة ملزمة للحلفاء، مما وفر لبريطانيا فرصة الاندفاع باتجاه الصهاينة دون حرج مع الحلفاء، ووفر للصهاينة ظروف عمل شرعي واسع في بريطانيا والبلدان الحليفة من أجل تكثيف عمليات الهجرة والدعم المادي، والدعاية السياسية الواسعة لمشروعهم.
ثالثاً- إن هذا الإجماع الحليف على وعد بلفور، الذي شكل «عملياً» ملحقاً لاتفاقية سايكس- بيكو، شأنه شأن الاتفاقية المذكورة لم ينفِ الصراعات بين الحلفاء قبل الحرب أو بعدها، ولكن الملفت للنظر أن الاتفاقات، رغم الصراع طبقت على الأرض، وبشكل عام كما هو مرسوم وتحديداً في منطقتنا، وبالتالي فإن قضية الشعب الفلسطيني الوطنية كانت ضحية تآمر إمبريالي عام في عصر الإمبريالية، عصر إستكمال تقاسم البلدان والنفوذ.
رابعاً- إذا كان وعد بلفور قد شكل بالنسبة للإمبريالية أداة هيمنة ملموسة للتصرف بفلسطين والسيطرة عليها، فقد كان يجسد مضموناً طبقياً شديد الوضوح والملموسية على الصعيد اليهودي. فالبروليتاريا اليهودية الواعية والمنظمة قاومته في أحزابها الاشتراكية الديمقراطية، ومن ثم الشيوعية لاحقاً؛ والبورجوازية اليهودية الكبيرة عارضته كمشروع لإقامة دولة يهودية، فهي كانت في طور الاندماج في مجتمعاتها وخاصة الغربية المتطورة، وكانت تخشى أن تلحق هذه الدولة المساس بمصالحها الاقتصادية والسياسية لجهة بعث «المسألة اليهودية» في هذه البلدان، بما يضع مكاسبها على بساط البحث من جديد.
خامساً- لذلك نرى ممثلين مرموقين للبورجوازية اليهودية الكبيرة في بريطانيا، يعلنون تحفظهم على مشروع إقامة دولة يهودية في فلسطين: فإدوين مونتاغو حاكم الهند وعضو مجلس الحرب البريطاني، يعلن معارضته الشديدة للمطالب الصهيونية قائلاً إنه «قد قضى حياته كلها في السعي للخروج من الغيتو»، ولا يريد العودة إليه ثانية.
كما أن داڤيد الكسندر رئيس لجنة المبعوثين اليهودية الإنكليزية وكلود مونتيفيوري رئيس الجمعية اليهودية الإنكليزية أصدرا بياناً في 5/1917، يعارضان فيه المطالب الصهيونية حول نقطتين: أ) لا يجوز إضفاء طابع قومي- سياسي على اليهود في فلسطين، وخلق قومية يهودية علمانية، لأن اليهود ليسوا إلا طائفة دينية. ب) لا يجوز منح الشركة الاستيطانية التي قد يؤسسها الصهاينة، إمتيازات سياسية وإقتصادية، لأن هذا يضر بمبدأ المساواة، وقد يؤثر على الحقوق المدنية والسياسية التي اكتسبها اليهود في البلدان التي حررتهم( ).
3-■ إذا كانت الضغوطات البورجوازية اليهودية الكبيرة لم تثنِ الحكومة البريطانية عن عزمها باتجاه إنجاز ما، يتلاءم مع مصالحها في فلسطين، فقد أثمرت هذه الضغوطات باتجاه إدخال تعديلات على مطالب الحركة الصهيونية(2)، بمثال إدخال فقرة على الوثيقة المتمثلة بوعد بلفور تنصّ على عدم المساس بالحقوق والأوضاع السياسية، التي يتمتع بها اليهود في أية بلاد أخرى.
وفي الواقع إمتاز سلوك البورجوازية اليهودية الكبيرة في بريطانيا وسواها من البلدان الأوروبية المتطورة وخاصة فرنسا، تجاه «المسألة اليهودية» بازدواجية ظاهرة، فمن ناحية كانت الرأسمالية اليهودية تدعم المستعمرات اليهودية في فلسطين، بالمشاركة مع الرأسمالية الأم المحلية (فرنسية-بريطانية...الخ)؛ ومن ناحية ثانية وقفت موقف المعارض من المشروع الصهيوني منذ البداية. ولم تكن هذه الازدواجية متناقضة، من حيث الجوهر، بل كان لها جذر طبقي شديد الوضوح..
■ لقد واجهت البورجوازية الكبيرة مشكلة جدية مع سيل الهجرة اليهودية المتدفق من أوروبا الوسطى، وخاصة الشرقية منذ الثلث الأخير للقرن الـ 19، فدعمها للمستعمرات اليهودية كان من ناحية دعماً للغزو الرأسمالي الأم، الذي كانت البورجوازية اليهودية جزءاً لا يتجزأ منه، ووجها من أوجه التصارع على النفوذ بين الدول الاستعمارية في المنطقة. ومن ناحية أخرى، تعبير عن إرادة عدم رؤية اليهود المهاجرين يستقرون في أوروبا الغربية، بما يحيي المسألة اليهودية من جديد.
وفي السياق نفسه يندرج الدعم الكبير الذي قدمته البورجوازية لتسهيل هجرة اليهود إلى الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية. فالمهم بالنسبة لها أن يبتعد اليهود عن أوروبا، عن مجال عملها الحيوي، حيث بدأت عملية إندماجها الواسعة، وبدأت تبهت «يهوديتها». وضمن نفس النظرة الطبقية للأمر، خشيت البورجوازية أن تلحق الدولة اليهودية ضرراً بمصالحها لجهة المساس بالمساواة التي حصلت عليها عبر إندماجها، وذلك من جراء إعادة طرح «المسألة اليهودية»، وتذكير البورجوازيات المحلية والفئات الشعبية الأخرى بـ «يهوديتها»■
(3)
الصهيونية في فلسطين
1-■ يصعب التحديد الدقيق لبداية الهجرة اليهودية الحديثة إلى فلسطين، فقد كانت تتواجد دائماً جاليات يهودية قليلة العدد حول الأماكن المقدسة اليهودية في القدس وصفد والخليل. أما الهجرة الاستيطانية ذات الأهداف السياسية، فيمكن أن يبدأ تاريخها 1882 مع قدوم الطلائع الأولى من جمعية «أحباء صهيون»، التي تأسست وشكلت فروعاً لها في الإمبراطورية القيصرية (الروسية) ورومانيا، وأنشأت ما أسمته «جمعية مساعدة المزارعين والحرفيين اليهود في فلسطين وسوريا». (بتشجيع من الإدارة الفرنسية في عهد نابليون الثالث، كانت قد تأسست في فلسطين مدرسة زراعية بواسطة الأليانس اليهودي العالمي، وبمساعدة وإشراف الحاخام زئيف هيرش كاليشر).
■ واجه المهاجرون الجدد مصاعب كبيرة وصلت حدود الإفلاس لطموحاتهم الاستيطانية، فوجهوا نداء لطلب المعونة اليهودية الخارجية، ووجدوا في البارون روتشيلد الرأسمالي اليهودي الفرنسي الاستجابة الفورية، فأدخل غالبية المعمرين اليهود تحت وصايته بدءاً من 1882-1883. واستمرت مرحلة وصاية روتشيلد على هؤلاء المهاجرين الذين وفدوا لاحقاً حتى عام 1899، وكانت حصيلة هذه المرحلة إنشاء 19 مستعمرة يهودية يسكنها 360 عائلة وجالية، وصل تعدادها إلى 4.983 نسمة تحتل مساحة 275 ألف هكتاراً.
في مطلع هذا القرن تخلى روتشيلد عن هذه الأملاك المدارة لصالح «شركة الاستعمار اليهودية» التي كان يديرها البارون موريس دوهيرش. ومنذ 1900 وحتى 1914 إستمر الاستيطان الصهيوني تحت الأشكال الثلاثة التالية: 1- غرس المستعمرات الجديدة وتوجيهها نحو إنتاج الحبوب بتمويل مباشر من شركة الاستعمار اليهودية. 2- بداية بناء المستعمرات الخاضعة مباشرة للمنظمة الصهيونية العالمية. 3- تطوير البيارات وإنتاج الحمضيات بواسطة الرأسمال اليهودي الخاص.
■ إذا أردنا تصنيف هذه المرحلة لجهة تحديد نمط الاستيطان الصهيوني السائد، فيمكن تسميتها بمرحلة الاستعمار الصهيوني التقليدي، أو مرحلة روتشيلد. صحيح أنها مرحلة إستقدام مهاجرين، ولكنها مفتوحة على إستغلال جهد المواطنين الفلسطينيين، والمرحلة التي كان مسموحاً فيها للقوانين الرأسمالية (الربح، العرض والطلب...) أن تسير وفق آليتها الخاصة. لقد كان الرأسمال المعد للاستيطان يهودياً والمعمرون يهود كذلك، ولكنهم قلة ضئيلة ولا خبرة سابقة لأغلبيتهم الساحقة بالزراعة، وكانت كلفة إستقدام العائلة الواحدة وتوطينها تصل إلى عدة آلاف من الفرنكات الذهبية، وكان المعمرون مواطنين أوروبيين ينتمون أساساً لأوساط البورجوازية الصغيرة والمثقفة ويتمتعون بالتالي بمستوى معيشي أعلى من مستوى معيشة السكان الفلسطينيين، وبالتالي لا يرتضون بمستوى مخصصات البؤس التي كان مجبراً عليها الفلاح الفلسطيني.
وقد إرتسمت على الأرض بسرعة نسبية لوحة تقليدية حيث تحول المعمرون اليهود إلى مدراء وناظرين وأرباب عمل يستغلون (أسوة بغيرهم من المعمرين الإنكليز والفرنسيين والبرتغاليون...الخ) جهد وعرق الفلاحين الفلسطينيين. فقد سجل أحد الصهاينة (أحاد عام) الذي زار المزارع اليهودية عام 1900، أنه شاهد في إحداها 32 معمراً يهودياً يستغلون عرق خمسين عائلة فلاحية عربية( ).
2-■ إضطُرت إدارة مستعمرات روتشيلد لاستقدام عمال مصريين بالمئات من أجل تجفيف مستنقعات الخضيرة، وحاولت أن تحل مشكلة العمال من منظور وتيرة الاستغلال الرأسمالي، دون أن تضطر لتشغيل المزيد من العمالة الفلسطينية، فبدأت باستقدام مهاجرين يهود يمنيين، ووصل عددهم في 1914 إلى 1.500 مهاجراً، وكان المهاجرون اليمنيون يوفرون للمستعمرات ميزة مزدوجة، فهم من ناحية أيدي عاملة رخيصة، ومن ناحية أخرى يهود. و«يهودية هؤلاء المهاجرين كانت تمتاز بأهمية خاصة في إطار تلك المرحلة، لأن استقدامهم عدا عن كونه يدخل في إطار تشجيع الهجرة اليهودية»، فقد كان وسيلة للالتفاف على التناقضات التي بدأت تبرز بحدة في مستعمرات روتشيلد بين الإدارة والعمال واليهود، بسبب تشغيل العمال العرب في هذه المزارع، فلم يكن ممكناً تحويل جميع المهاجرين من اليهود الأوروبيين إلى أرباب عمل ومدراء وناظرين، إذ كانت قد تخصصت أقلية مهمة منهم بهذه الوظائف، فإنه كان على غالبية المهاجرين أن يتحولوا إلى عمال زراعيين.
■ على هذا الصعيد كان من الأجدى للرأسمال اليهودي إستخدام العمال الزراعيين المحليين، فهم أبناء هذه الأرض، وبالتالي الأقدر على تحمل قسوة ظروفها الطبيعية، وهم فلاحون عريقون، وبالتالي الأكثر دراية في أعمال الزراعة، فضلاً عن كونهم أقل تطلباً من العامل الزراعي الأوروبي.
قادت آلية الاستغلال الرأسمالي إلى «عدم حماس أرباب العمل اليهود لتشغيل العمال اليهود، وتفضيل العمال العرب عليهم، وقد ترك أحد المهاجرين الصهاينة وصفاً لما كانت عليه الأمور في السنوات العشر الأولى من هذا القرن: «في الساحة العامة كان يتجمع مئات العمال العرب، وكذلك العمال العرب الدائمون الذين كانوا يسكنون مزرعة المعمر، ويتوجهون مباشرة إلى البيارات. معاً كانوا ما يقارب 1.500 عاملاً، وأما نحن وقد كنا بضع عشرات من العمال اليهود، فكنا نبقى غالباً بدون عمل، وهكذا كنت ترى رب العمل واحداً من أبناء شعبك، يركب بغلة شبعاناً ومنشرحاً، يمسك بيده سوطاً، مرتدياً الأبيض، ويتكلم بفظاظة»( ).
■ تطور التوتر متصاعداً بين المعمرين اليهود، فقد أعلن أرباب العمل في بتاح تكفا مثلاً- 1906 المقاطعة العامة للعمال اليهود، ولو قدر لهذه الظاهرة أن تستمر وتتكثف لكان منطقياً أن ينتج عنها مسألتان:1- تطور الأوضاع في فلسطين باتجاه إستعماري تقليدي، يرتكز على إستغلال جهد السكان المحليين. 2-بقاء المشروع الاستيطاني الصهيوني حلماً غير قابل للتحقيق.
3-■ لكن تطور الأمور بهذا الاتجاه كان يتعارض جذرياً مع سياسة المنظمة الصهيونية، فالاستعمار على طريقة روتشيلد يستغل السكان، ولم يكن يهمها إستغلال السكان بقدر ما كان يهمها طردهم من مواقع العمل، وبالتالي عملياً من البلاد. ولذا طرحت الحركة الصهيونية بدءاً من 1904، ومع قدوم الموجة الثانية من الهجرة اليهودية شعار «العمل العبري»، ومن ثم شعار «الإنتاج العبري»، وكان الشعاران متكاملين ويعنيان بوضوح مقاطعة اليد العاملة العربية والإنتاج العربي، وخلق دائرة مغلقة لسوق العمل اليهودي والتأسيس للسوق المستقلة حلم البورجوازية الصغيرة والوسطى اليهودية.
إن الأسباب الاقتصادية لهذين الشعارين كانت واضحة، وملخصها أن المهاجر اليهودي لا يمكن أن يكون منافساً على مستوى المردود الاقتصادي للعامل العربي، إذا تركت قوانين العرض والطلب تفعل فعلها الاعتيادي. الكلام نفسه ينطبق على الإنتاج، فأغلبية المهاجرين كانوا ينتمون إلى البورجوازية الصغيرة المتعلمة. وهذا الكلام ينطبق على موجة الهجرة الأولى والثانية، وكذلك الموجات التي تلتها.
إن إحصاء جرى عام 1927 للعمال في صفوف المهاجرين اليهود، تبين منه أن 44% منهم درسوا في الجامعات، أو المدارس الثانوية، أو الفنية الأوروبية، وأن هذه النسبة ترتفع إلى 57% في صفوف العاملين بالزراعة.
■ وجد هذا الشعار العنصري (العمل العبري ولاحقاً الإنتاج العبري) من يبرره على صعيدين، فعلى الصعيد الصهيوني الداخلي، لعبت الصهيونية «العمالية»، وتحديداً كتابات بوروخوڤ وداڤيد غوردون، وأتباعهما دور التضليل الأيديولوجي حول «إحتلال العمل.. ودين العمل». وعلى الصعيد الخارجي لعب الشعار دوراً تضليلياً في صفوف الرأي العام العالمي، وتحديداً أوساط الاشتراكية الديمقراطية، التي ساهمت بطرح مبتذل مضمونه أن الصهيونية التي لا تمارس إستغلال العمال العرب الفلسطينيين، تشكل نقيضاً للرأسمالية التي تقوم على استغلال الإنسان للإنسان.
وبالتلازم مع هذا الغطاء الأيديولوجي المضلل والضروري للصهيونية، بدأت المنظمة الصهيونية بتشغيل مؤسساتها، معطية لهذه المؤسسة صلاحيات محددة في خدمة الشعار المركزي للحركة الصهيونية. فالصندوق القومي اليهودي (الذي تأسس كما مرَّ معنا في المؤتمر الخامس للمنظمة الصهيونية) أسس بدوره «بنك الاستعمار اليهودي»، وأخذ الصندوق على عاتقه تغطية الفارق بين المردود الفعلي للعامل اليهودي في فلسطين، وبين ما يسمح له بمستوى حياة يقترب إلى مستوى حياته السابقة في أوروبا، ولعب هذا الإجراء دوراً هاماً في تثبيت المهاجرين.
■ كما نَصَّت تشريعات الصندوق على أن المعمرين يستغلون الأراضي بعقود توارثية، والأرض التي يتم شراؤها من قبل الصندوق تبقى ملكية له، ولا يمكن أن تكون موضوع بيع وشراء. ونصت المادة الرابعة من القانون الأساس للصندوق على منع تشغيل العمال العرب على الأرض التي يمتلكها، وبدءاً من 1907-1908 تعاون الصندوق مع مؤسسات صهيونية أخرى بنفس الاتجاه ولنفس الأغراض (مثل البنك البريطاني- الفلسطيني، شركة تطوير الأرض الفلسطينية، صندوق إعادة الإعمار... الخ).
إن كلامنا لا يعني إنتفاء الصيغة السابقة في إستغلال الأرض، فلم تتم تصفية تركة روتشيلد المجسمة بالفرع الفلسطيني لشركة الاستعمار اليهودية إلا عام 1957، عندما سيطر الصندوق القومي على الشركة نهائياً، ولكننا نتكلم عن مرحلتين مختلفتين جذرياً، مارست الصهيونية إبانهما سلوكاً رئيساً واضحاً: ففي مرحلة روتشيلد كان الاستعمار الصهيوني يقوم بشراء الأرض، واستغلال العمال الفلسطينيين... أما في مرحلة شعار العمل العبري، فالاستعمار يقوم بشراء الأرض وحرمان العمال من حق العمل.
■■■
■ إن هذه التطورات التي حصلت في العقد الأول من القرن العشرين، سوف تأخذ منحى تصاعدياً ثابتاً، وسوف يكون من نتائجها إرساء الأسس الفعلية للاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وسوف تلعب دوراً مهماً وبتزايد في تهميش المنتجين العرب، وتدفع قسماً متعاظماً منهم إلى الهجرة من الريف والتجمع في المدن وضواحيها في مهن هامشية وطفيلية، وسوف يلعب تشكيل السوق اليهودي ونموه دوراً سلبياً مهماً في شل فعالية بعض الأشكال النضالية الجماعية (الإضرابات مثلاً)، التي أثبت التاريخ فعاليتها، كما سوف تعمل من مشكلتي الهجرة الصهيونية والأرض حجر الزاوية في تطور الحركة الوطنية الفلسطينية وبلورة أهدافها. وفي العمل من أجل إقتناص الأرض سوف تفيد الحركة الصهيونية من وضع كبار الملاكين الفلسطينيين والعرب (اللبنانيين بشكل أساسي)، ومن فساد الإدارة العثمانية للإحتيال على القوانين، كما سوف تفيد إبان الانتداب البريطاني، من تواطؤ الإدارة البريطانية وتسهيلاتها. وأما بعد تأسيس دولة إسرائيل، فقد لجأ العدو إلى ترسانة من القوانين الاحتيالية المرتكزة إلى قوة الدولة لمصادرة المزيد من أرض فلسطين■
(4)
إستعادة سريعة
■ لقد توخينا من هذه الدراسة التوكيد على القضايا التالية:
1- رغم الالتباسات بين التاريخ والأساطير الدينية، ورغم الفجوات في التوثيق التي امتدت أحياناً لمئات السنين، فإن اليهود كغيرهم من الجماعات البشرية، كانوا من التاريخ القديم لهذه المنطقة ولم يكونوا خارج التاريخ، لم يكونوا إستثناء سلبياً أو إيجابياً إلا بقدر ما يشكل تاريخ أي تجمع بشري خصائص إستثنائية بارزة بهذا القدر أو ذاك.
2- إذا كانت هناك مسألة يهودية، ولهذه المسألة خصوصيتها، فإن هذه الخصوصية تنبع من الموقع الخاص، وتحديداً الدور الاقتصادي الذي لعبته التجمعات اليهودية في مرحلة ما قبل الرأسمالية الطويلة. وإذا كانت هذه التجمعات لم تندمج في مجتمعاتها، فلأن الوظيفة الاقتصادية التي كانت تشغلها كانت تعزز عدم الاندماج. وكذلك لأن التجمعات ما قبل الرأسمالية، والتي كانت تفتقر للمركزة الاقتصادية وما نتج عنها على الصعيد الاجتماعي والسياسي والقانوني، سمحت لليهود والعديد من الأقليات الإثنية والدينية، بالاستمرار داخل مسام المجتمع الإقطاعي، تقوم بوظائفها المحددة في جزر شبه منعزلة، تربطها بباقي أطراف المجتمع وظيفتها المحددة. كما أنه في كل مجتمع من المجتمعات، كانت الطائفة اليهودية تختلف عنها في مجتمع آخر، وبالتالي فالكلام عن قومية يهودية أزلية يشكل إغراقاً في المثالية، والأسطرة.
3- الصهيونية هي الحركة السياسية للبورجوازية الصغيرة والوسطى، وهي لا تعبر عن كيان قومي أزلي مزعوم لليهود، بل نشأت في نفس مناخ نشوء القوميات الأوروبية مع تطور الرأسمالية، وأتت نشأة القومية الصهيونية متأخرة، وفي سياق اليقظة القومية في أوروبا الوسطى والشرقية، وكردة فعل عليها في آن واحد.
4- في عصر تحول الرأسمالية إلى إمبريالية، والصراع على اقتسام العالم، كانت الصهيونية جزءاً من الهجوم الإمبريالي العام على منطقتنا وأداة من أدواته، واستعملت في السيطرة على بلادنا أساليب متميزة في قسوتها وإيذائها لشعبنا، نابعة من الطبيعة العنصرية للصهيونية والمشروع الصهيوني ذاته.
5- تميز التيار «العمالي» في الحركة الصهيونية بنشاطية خاصة نظرية وعملية، أي أنه قام وبكفاءة عالية بوظيفة التضليل الأيديولوجي في صفوف التجمعات اليهودية خارج فلسطين وداخلها، ومارس دوراً تخريبياً وتضليلياً واضحاً على المستوى الأممي، وخاصة داخل التيارات الاشتراكية الديمقراطية الواسعة، مما استدعى إدانات متعددة ومكررة للصهيونية من قبل الأممية الشيوعية مشفوعة بمواقف مساندة لنضال الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. وعلى المستوى العملي شكل التيار العمالي رأس الحربة في عملية الاستيطان، ولعب دوراً متكاملاً مع الصهيونية السياسية، التي ركزت نشاطها على التساوق مع قوة إمبريالية أو أكثر، تعطي للمشروع فرص التحقيق على الأرض.
إن خصوصية الاستعمار الصهيوني، بما هو إستعمار استيطاني متعايش ومتسق مع الاستعمار البريطاني على أرض فلسطين، جعل من مهمات التحرر الوطني للشعب الفلسطيني مهمات مركبة ومعقدة شديدة القسوة. وقد فاقم الوضع الطبيعة المساومة للقيادة الإقطاعية البورجوازية الفلسطينية، والتي بلغت في العديد من المنعطفات حد التواطؤ بضغط من الرجعيات العربية، وبتنسيق معها■

1985







وف تتشكل في فلسطين، أي سوف تترك في هذه الأحزاب العديد من سماتها. وسوف نتعرض الآن لأبرز التيارات المسماة «عمالية» أو يسارية دون غيرها، والتي تغلغلت في أوساط جماهيرية واسعة، شكلت عماد عملية الاستيطان ورأس الحربة فيه وفي إقامة دولة اسرائيل■
1985








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسلتنا: مقتل شخص في غارة استهدفت سيارة بمنطقة أبو الأسود ج


.. مشاهد جديدة من مكان الغارة التي استهدفت سيارة بمنطقة أبو الأ




.. صحفي إسرائيلي يدعو إلى مذبحة في غزة بسبب استمتاع سكانها على


.. هجوم واسع لحزب الله على قاعدة عين زيتيم بالجليل وصفارات الإن




.. شمس الكويتية تسب سياسيي العراق بسبب إشاعة زواجها من أحدهم