الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظاهرة دافيد رجل الكهف

محمد علي عبد الجليل

2022 / 8 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


دافيد رَجُل الكَهف ظاهرة ثقافية فريدة في العالم العربي لِكَونِهِ استطاع أن يُحَوّلَ أَلَـمَه الشديد إلى طاقة معرفية عظيمة ومؤثرة في عدد كبير من الشباب العرب مستفيداً من موقع اليوتيوب لنشر مضاميَن فلسفيةٍ وسيكولوجية واجتماعية عميقة بطريقة مبسَّطة.

دافيد رَجُل الكهف [ديفيد رجل الكَهف] (واسمه الأصلي: محمد يمان الصواف [أبو داني]) هو باحث (كما يُعَرِّف نفسَه) ومفكر ومثقَّف موسوعي وتنويري ويوتيوبر سوري لاديني [ملحد إيجابي] لامنتمٍ، إذ يَعتبر «الإنسانَ الـمنتميَ لا محالة كاذباً» (ما المثقف، ص 142).

وُلِدَ دافيد رجل الكهف في دمشق بتاريخ 11 (أو 16) يوليو/تموز 1986، وتُـوفِّـي في استوكهولم (السويد) إِثرَ نوبةٍ قلبية يوم الخميس 17 مارس/آذار 2022.

نشأَ في أسرة دمشقية تقليدية متوسِّطة متدينة (من حي العمارة الدمشقي) فحَفِظَ نِصفَ القرآن أو يزيدُ عن ظَهر قلبٍ، وتربَّى على الإسلام السُّـنِّـيِّ مُنذُ نعومةِ أظفاره. دَرَسَ الاقتصادَ في جامعة تشرين في اللاذقية. كان كثير التفكير، كثيرَ الأسئلة منذ طفولته. وأدركَ منذ مراهقته سطحيةَ التعليم الديني وضحالتَه.

وقد زرعَ أحدُ أساتذتِه الذي لَم يَذكُرِ اسمَه (أستاذ للإنكليزية ربوبي أو لاديني يُدَرِّس عِلمَ الصوتيات) الشكَّ العِلمي في نفس دافيد ليبدأ مرحلةَ البحث بطرح أسئلة لم يَلقَ لها جواباً. وكان أستاذ الإنكليزية قد ذكر اسم كتاب نقدي عن حياة النبي محمد فتلقّف دافيد الاسم ليبحث عنه ويُـحَـمِّـلَه من الإنترنت ويقرأه بشغف فيصدمه فيأتي في الدرس التالي ليُقنِع الأستاذ بخطأ أفكار الكِتاب مردداً ما لقّنوه في المساجد. فيجيبه أستاذُه بأنَّ رأيَه هذا قد زرعوه فيه. فبدأ دافيد برحلةِ بحثٍ عن مَصدر رأيه وعن الإجابات على كَمّ هائل من الأسئلة الوجودية والدينية الّتي كانت تُوَرِّق مَضجَعه وذلك قبل أن يبلغ العشرين من العمر. فكان دافيد المزدحم دماغه بالأسئلة محاطاً بإجابات سطحية بل غبية.

ثم دفعه شكُّه إلى إعادة قراءة القرآن مجرداً من القدسية وبعين نقدية باستخدام ورقة وقلم. وقرأ الإنجيلَ مستغرباً كيف يأخذه الناس بجدية.

أعلن خروجه عن القطيع والتقاليد وانعزالَه (ولهذا سمّى نفسَه: «رَجُل الكَهف»)، ولكنه لم يهاجمِ الأديانَ، بل انتقد تُـراثَه الإسلامي باحترافية وعلمية وحيادية.

ثم أخذ دافيد يطرح أفكاره ويناقشها في «منتدى اللادينيين العرب» و«شبكة الملحدين العرب» بأسماء مستعارة ومنها «دافيد».

تركَ دمشق عام 2005. وعاش في دُبي. ثم سافر إلى ماليزيا ليحطَّ رحالَه أخيراً في السويد عام 2015 ويختار لنفسه رسمياً اسم «دافيد» وكنية «رَجُل الكهف». وحصل على ماستر في الفلسفة من جامعة لينشوبينغ Linköpings universitet في السويد.

على الصعيد الشخصي، تزوَّجَ دافيد رجل الكهف من صديقة المراهقة وأنجب طفلاً واحداً اسمُه داني؛ وهذا هو الاسم الذي اختاره المؤلف لإحدى شخصيات كتابه «ما المثقف» الذي جعلَ إهداءه لـ«داني» الذي من أجلِهِ تـمَّت محاورةُ الكِتاب. كما أهدى الكِتابَ للشباب العرب ولـ«لوسيل» التي بفضل صوتها تَـحمَّلَ الآلامَ. ثمَّ انفصل عن زوجته. وهذه التجربةُ جعلتْه يؤمن بفشل مؤسسة الزواج الرسمية ويؤمن باللاإنجابية بل باللاجنسية كخيار شخصي. ثم أقلعَ عن التدخين وتـحوَّل إلى النباتية ثم إلى الـخُضَرية مدافعاً عن خياراته بطريقة علمية.

وقد دفعَتْه آلامه الشديدة إلى محاولة الانتحار دون أن يشجّع أحداً على ذلك. وقد كانت وفاته بسبب نوبة قلبية وهو لم يتجاوز سنَّ السادسة والثلاثين. ومن المستبعد جداً انتحاره إذ كان طافحاً بحب الحياة والأمل وأعلن حبه للحياة أكثر من مرة حـتَّى إنه تـمنَّى أن يرى إمكانية التنقل بحرية بين الدول العربية في حياته. ومن روَّجَ لفرضية انتحاره رجالُ دِينٍ استغلّوا موتَـه ليقولوا إن الإلحاد يؤدي إلى الانتحار؛ فقد ظهرَت إثر وفاة دافيد عشراتُ المقالات ومقاطع الفيديو التي تشمت بوفاة دافيد كنهاية مأساوية لرجل ملحد.

عُرف ديفيد بغزارة معلوماته التي اجتذبت حتى من لا يوافقونه وبتبسيطها. كان إنساناً محبوباً، راقياً متواضعاً وعنده فكر عميق وتحليل علمي حيادي عميق للأمور. كان عقلانياً جداً رغم مرضه النفسي (ثنائي القطب واكتئاب) والجسدي. افتتح قناته على يوتيوب لنشر الفلسفة وخاصة علم الأخلاق وعلم النفس. وألَّف كُتباً فلسفية بالعربية والإنكليزية. وله مُحِبُّـون وتلاميذُ في أكثرَ مِن دَولٍة. ورغم حياته القصيرة (36 سنة) كان له تأثير كبير في جيل كامل من طلاب الفلسفة والعلوم العرب. ويَـعتبره مُحِـبُّـوه أهمَّ فيلسوف عربي في العصر الحديث ويسميه البعض : «روسو العرب» و«كانط العرب» و«ديكارت العرب».

ما ميّزَ منهجَ دافيد هو مقاربته الموضوعية الـمُبَسَّطة الواضحة الغنية للمسائل الاجتماعية والفلسفية والدينية التي تشغل الشباب العربي وقدرته الهائلة على إيصال المعلومة بوضوح وتعامله الراقي والهادئ والصادق مع الآخرين حتى الـمخالفين له دون أن يؤثِّـرَ مرضُـه النفسي على علاقته بالآخر. ولَم يَكُنْ منهجُه الفكري "الإلحادي" (بمعنى: "الرافض للصورة الإبراهيمية التوحيدية للإله") ردَّ فعلٍ على الـمنهج الديني.

اكتشف رَجُل الكهف بعد وصوله إلى السويد أنَّ مرضه هو اضطراب ثنائي القطب الذي يكون من أعراضه التأرجح بين نوبات اكتئاب شديد وبين حماسة هَوَسيّة. كما أدرك أنه مصاب باضطراب الشخصية الوسواسية القهرية.

ما فعله دافيد هو أنه استغلَّ نوبة الطاقة الهوسية في القراءة فكان قارئاً نهماً يسعى إلى الكمال. وعندما كان يصاب بنوبة الاكتئاب كان لشدتها يُنقل إلى المستشفى ليقضي فيها أياماً أو أشهراً.

ونتيجة قراءاته الغزيرة وتفكيره العميق تشكَّلَ لدى دافيد رَجل الكهف زاداً معرفياً هائلاً وضعَ بعضَه في متناول الجميع على قناته على اليوتيوب، حيث قدَّم فيها دروساً عن مبادئ الفلسفة والأخلاق والسعادة والإبستمولوجيا وفلسفة اللغة وتاريخ الفلسفة العربية ونظرية التطور ومنطق البحث العلمي والنباتية والإيكولوجيا ونقد الفكر الديني والأمراض النفسية (نوبات الهَوَس وثنائي القطب).

وقد جَمعَ بعضَ حلقاته في كتابه «ما المثقف» الذي أصدره عام 2018، ثم في في كتابه «اضطرابات الشخصية» ضمن سلسلة «حوارات مع رجل الكهف».

فلسفة دافيد رجل الكهف:
عمل دافيد على تبسيط الفلسفة وعلى مقاربة القضايا الاجتماعية والسياسية مقاربةً حيادية. ودرس ماهية الثقافة (حيث شرح انتقالية الوحدات الثقافية [الميمات mèmes، الـمُوَرِّثات الثقافية اللامادية]). وطرحَ فكرةَ «ثالوث القَمع» (الاقتصاد والسياسة والدين) وفكرة «بُرج الـمعارف الإنسانية» مُقَسماً الـمعارف إلى ثلاثة أقسام رئيسية: 1)-الأديان والعادات والفنون، 2)-والعلوم الطبيعية، 3)-والعلوم الاجتماعية.

انتقدَ الأديانَ بأنها أدواتٌ لتخدير الشعوب ودُورَ العبادة بأنها مصانعُ للأحلام والأوهام. حيث يرى دافيد أن دماغ الـمتديِّـن يسهل خداعَه من خلال المقاربة الخاطئة لشيء اعتباطي كرؤية دماغ المسلم لاسم الله على بطيخة أو بيضة دجاج ورؤية دماغ المسيحي للعذراء في غيمة وللمسيح على رغيف خبز.

كما انتقد الأنظمة القمعية وأهمها النظام السوري. وانتقد الرأسمالية ووسائل قمعها من نظام تعليمي تلقيني وتنافسي وصحافة متحيزة وكنيسة. ولم يُفتن بالغرب. وحاول إظهار ضآلة الإنسان وتبيان وضعه الطبيعي بين حيوانات الأرض.

استشهد بِـكَمّ هائل من أقوال الفلاسفة في كتابه «ما المثقف» الذي استند فيه إلى حوالي مئةٍ وعشرةِ مراجعَ فلسفيةِ وعلمية. بحيث يمكن اعتبار الكِتابِ مرجعاً فلسفياً مبسّطاً وعظيماً. وقد بنى رَجلُ الكهفِ هذا الكِتابَ على شكل حِوار أو مُحاوَرة على غرار محاورات أفلاطون ومحاورات صادق جلال العظم الفلسفية في المادية والتاريخ، وذلك ليكونَ الكِتابُ قريباً من القارئ المبتدئ. وقد زاد عليه أسلوباً رِوائياً وابتدأه بتنويهات (نوع من النصائح) قبل القراءة، وأفردَ الباب الثاني عشر للمراجع، وخصَّصَ باباً لنقده الذاتي للمحاورة. كما جعلَ الصفحتَين الأخيرتَين فارِغتَين وعنونَهما: «نقد القارئ للكِتاب» ليُشرِكَ القارئَ في نقدِه للمحاورة.

وكان غرضُ الكتاب هو الإجابة على السؤال: «ما المعرفة؟» أو «دراسة في منهجية المعرفة». وقد كان رَجلُ الكهف ينوي إصدارَ سلسلة من الكتب ولذلك وضعَ عِبارةَ «الـمُحاورة الأولى» عنواناً فرعياً لكِتابه «حِوار مع رجل الكهف في: «ما الـمُثَقَّف"». وقد اتّبعَ فيه أسلوباً علمياً بسرد رِوائي حيث عَرضَ الإشكالية (ثالوث القمع، أهلية الدماغ لإصدار الأحكام، برمجة الدماغ، مفاتيح التفكير النقدي…) ثم ناقشها بالتفصيل.

بـيَّـنَ أقسامَ الدماغ الرئيسية [لسهولة الدراسة] (وهي: قسم الغرائز وقسم الذاكرة وقسم الـمعالجة). وشرح حدودَه (بدائي يعمل لغاية بقاء الكائن) وكيفيةَ خِداعِه. ودرسَ برمجة الدماغ وقدَّم مفاتيحَ لتحرير الدماغ. وأوضح أن الانتقاء الطبيعي يُـفَـضِّل الأوهامَ الإيجابية وهذا أحد أسباب انتشار الدين.

ودرسَ آليةَ عمل الدماغ البشري (الرجوع للذاكرة، والـمقارنة، والتشابه، والـمقاربة مع الصور الموجودة في الدماغ، والتصنيف، والترشيح، والتعميم، ووضع افتراضات واعتبارها يقينيات، وإصدار أحكام، وقلق الدماغ من الجديد كمصدر خطر، وميل الدماغ البدائي إلى الكسل والتأثر بالتكرار، وبحث الدماغ عن أدلة أكثر للأشياء التي يريد قبولها بسهولة [انحياز تأكيدي]). كما قدّمَ دافيد مُقاربةً عِلمية لـمرض ثنائي القطب مستندة إلى تجربة شخصية ومعاناة.

مؤلفاته:
1- «حوار مع رجل الكهف في: ما المثقف؟»، المحاورة الأولى، دافيد رجل الكهف، 2017.
2- «حوار مع رجل الكهف في: اضطرابات الشخصية»، المحاورة الثانية، دافيد رجل الكهف، 2020.
3- Essays On Ethics, David Rajulkahf, 2020.
4- I will disconnect my brain, David Rajulkah, 2020.

رحل دافيد عن هذا العالم باكراً جداً بتاريخ 17 مارس/آذار 2022 وهو مفعم بالرغبة والإرادة لتغيير ديموقراطي حقيقي في بلده الأم سورية وفي المشرق والعالَم العربي ولرفع سوية التعليم والوعي لدى أبناء بلده.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحة وقمر - القرصان أكلة شعبية سعودية بطريقة الإيطالية مع قمر


.. صنّاع الشهرة - لا وجود للمؤثرين بعد الآن.. ما القصة؟ ?? | ال




.. ليبيا: لماذا استقال المبعوث الأممي باتيلي من منصبه؟


.. موريتانيا: ما مضمون رسالة رئيس المجلس العسكري المالي بعد الت




.. تساؤلات بشأن تداعيات التصعيد الإسرائيلي الإيراني على مسار ال