الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البعد الثوري المعرفي للمسألة التنظيمية

غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني

2022 / 8 / 27
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



الثورة هي علم، ولهذا العلم قوانينه وتجاربه ودروسه، ولا ريب في أنه من دون استيعاب هذه القوانين والتجارب والدروس تصبح "النيات" وحدها هي البوصلة العاجزة التي تعرّض المسيرة للخطأ والارتباك إن لم نجزم للتعب والانحراف. حيث لا يقتصر الواقع التنظيمي لحزب ما على ما يتعلق بقواعد عامة وترداد شعارات تنظيمية معينة، بل يشبه ذلك التركيب المعقد والمتداخل لحركة النمو داخل شجرة عملاقة. في نموها وتطورها وإثمارها وتجذرها.

لقد أكدت التجارب بما لا يدع مجالاً للشك على أن المسألة التنظيمية في الثورة تحتل مكاناً محورياً، تستند إليه وتنبع منه كافة المحاور الأخرى، وتزداد هذه الأهمية المفصلية في ظروف كالتي تعيشها قضيتنا الفلسطينية، حيث تصبح مهمة هذه الآلة التنظيمية ليست مواجهة العدو القومي والطبقي ودحره فحسب، بل أيضاً عليها أن تكون في الوقت ذاته حصينة ضد سيول من أمراض المجتمع ونقائصه، ومنيعة ضد تمكن هذه الأمراض الضاربة جذورها عميقا في المجتمع، من التسلل إلى تركيبها ونخر أسسه وقواعد عمله وقنواته. فالمسألة التنظيمية من حيث الأساس هي انعكاس للبعد الثوري للحزب اليساري الماركسي، فلا يمكن أن يتصف بالثورية حزب يعتمد في بناه وأهدافه وآليات عمله أبعاد غير علمية تستند للارتجال والعشوائية والتجريب أو لا تضع في برامجها المسألة المعرفية حتى في أدق الأمور، فالنظرية والممارسة مسألتان غير منفصلتان وإنما هما طرفان متصلان يؤثر كلٌ منهما بالآخر في عملية جدلية مستمرة تحكم الحركة وتطورها من شكل إلى آخر في إطار مدروس مستند إلى المعرفة المسبقة التي استفادت من العلوم والتجارب التي سبقتها.

وشكلت المسألة التنظيمية على الدوام نقطة الضعف القاتلة في المسيرة النضالية العربية والفلسطينية، فحتى التنظيمات التي جاهرت بأيديولوجيا تقدمية، أو حتى بالنسبة إلى التجمعات التي وصلت في مسيرتها أحياناً إلى حمل السلاح ضد العدو الصهيوني والإمبريالي، كانت رخاوة البنية التنظيمية تتيح دائماً للقيادات أن تنحرف بالثورة أو تجهضها أو تساوم في شأنها أو على الأقل عدم إنجازها لأهدافها في التحرر أو التغيير، حيث لا تشكل المسألة التنظيمية في كل ثورة وكأنها مسألة تكنيكية لا علاقة لها بالالتزام الأيديولوجي ولا بالممارسة العملية، فعلى العكس تماماً فإن البنية التنظيمية يجب أن تكون انعكاسا للالتزام العقائدي كذلك فإنها تعكس مدي ثورية هذا الحزب أو ذاك، وأيضاً يجب أن تتيح من خلال تكوينها ذلك الاتصال المستمر بين النظرية والممارسة. ففي ذلك التفاعل الجدلي تستطيع الثورة تصحيح وتصويب مسارها من خلال حزبها الطليعي الذي يستند إلى النظرية الثورية في بناه ورؤيته ومنهجه بحيث يشكل ذلك الحزب ذلك المعمل المعرفي الذي تتلاقى به كل عناصر التفاعل لتنتج عملية التغيير المطلوبة في سياق عملية ثورية مبنية على الوعي والمعرفة ومتصادمة مع العناصر الهدامة التي يتم إزالتها باستمرار.

نحن أمام ضرورات لا يمكننا تجاوزها أو القفز عنها أو تجاهلها، فالمعرفة المستندة إلى المنهج العلمي الماركسي (المادي الجدلي) هي في حد ذاتها القاعدة الراسخة التي تجعلنا أكثر وثوقاً بحتمية انتصارنا بل وتتيح لنا تملك أدوات التغيير حتى في أبسط الأمور حيث لا يمكن فصل الجزئيات فصلاً تعسفياً عن الكليات، ولا نستطيع رؤية المستقبل واتخاذ القرار المناسب إلا إذا كنا نتسلح بالمعرفة بالجزئيات وعلاقاتها بالعموميات.

تشكل عملية المعرفة ضرورة لنمو الوعي فالمسألة الفكرية ليست مسألة جانبية غير مهمة وإنما هي صلب الوعي، حيث تصاغ العقول من ناحية والمسألة الأخلاقية التي تحدد السلوك من ناحية أخرى، فالثوري بدون أخلاق لا جدوى من ثوريته ولا معنى، والثوري الذي يجهل بأمور قضيته فلا جدوى أيضاً ولا معنى لثوريته، وعندما يبنى الوعي على أساس نظرية ثورية فإنه يبتعد أيضاً عن العشوائية والارتجالية والتجريبية، وعندما نقول أن معركتنا كبيرة وطويلة ومعقدة فإن الإمساك بأطرافها والإلمام بمحتواها هو تقريب ليوم الانتصار، لأن ذلك ينعكس مباشرة في الأداء وآليات العمل، وبالتالي في الإنجاز والتطور.

تستند متانة الحزب وقوته ومدى فاعليته، وقدرته في الوصول لأهدافه، على المسألة التنظيمية، التي تعني فيما تعنيه ليس فقط الآليات والطرائق التي ينفذ بها أعماله، بالإضافة إلى طبيعة النسيج الداخلي وعلاقة مفاصله ومراتبه ببعضها، وكلمة تنظيم بحد ذاتها تعني ترتيب الأمور بشكل محكم وفق قوانين تسري على الجميع بدون استثناء، بحيث ينتظم العمل بشكل واضح ويلتزم بها الجميع التزاماً صارماً، يضمن وحدة العمل التي تؤدي غرضها بوحدة الإرادة، التي تجعل العمل ناجزاً ومثمراً وذاهباً إلى مراميه بخطى حثيثة ثابتة قصرت هذه الخطى أم طالت.

إن كلمة تنظيم في حد ذاتها هي اشتقاق من كلمة نظام، وأي نظام يتكون من مدخلات ثم عمليات تؤدي إلى مخرجات، والمدخلات هنا هي الأعضاء والفكر السياسي والنظرية والإمكانيات الذاتية والموضوعية، والعمليات هي الحزب بما يحتويه من الآليات والطرائق والأسس والمبادئ التي يوظف بها المدخلات لتحقيق المخرجات المرجوة وفق الأهداف التي يتم رصدها على المستوى التكتيكي والمستوى الإستراتيجي. والحزب يعتمد في إنجازه لمهامه على التراكم فيما يحرزه من نجاحات منظمة، ينجزها أعضاءه على المستوى الفردي، وتنجزها منظماته كجماعات، تصب في إنجاز جماعي لعموم الحزب، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن التراكم التاريخي لمجموع هذه النجاحات هو الذي يوصل إلى الأهداف التي يرصدها الحزب في سياق كفاحه المتواصل، الذي يعترضه الكثير من العقبات والمعيقات المتنوعة التي تحملها كل مرحلة موضوعياً وذاتياً، حيث لا تسير التطورات والتغيرات في خط مستقيم، فثمة مهمات لكل مرحلة تتناسب مع واقعها وتنبثق منها، ولكن تظل البوصلة متجهة نحو الأهداف الأساسية التي انطلق وتشكل من أجلها هذا الحزب. فإذا لم يمتلك الحزب أسس وثوابت تنظيمية ذات رسوخ إلى حد ما مبنية على أسس معرفية، فإنه سيفقد البوصلة، ويتحول إلى مجرد منتدى هش البنية وضعيف الأداء.

إن رسوخ الأسس والثوابت التنظيمية ليس رسوخاً أبدياً، وإنما هي تتغير وفق إرادة المجموع لتواكب التطورات الجارية في الحزب كمسألة ذاتية، والتطورات الجارية في الموضوع والبيئة المحيطة. كعلاقة الشكل بالمضمون، وتأثيراتهما المتبادلة ببعضهما، حيث تؤثر مجموعة العلاقات والتطورات والتغيرات في المضمون (الأعضاء والمنظمات) على شكل الحزب وأدائه، والعكس صحيح، فمثلاً إذا تضاعفت عضوية الحزب عدة مرات ألا يحتاج ذلك تغييراً في هيكلية الحزب ليستوعب هذا التوسع. وفي حالة سيطرة العدو على مفاصل الدولة وانتشار أدواته وقواته مكانياً، ألا يفترض ذلك انتقالاً من العلني أو شبه العلنية إلى السرية التامة، وخلق صلات وآليات جديدة تتناسب مع الحالة الجديدة، وبشكل عام فإن الشكل بطيء الاستجابة للمضمون، لأن الأخير يحتوي الكثير من العناصر التي لا تتطور ولا تتفاعل بنفس الدرجة والسرعة، وبالتالي يظل الشكل ثابتً نسبياً لفترة طويلة، ولكن هذا لا يعني الجمود، وإنما تجري التغيرات المنظورة والغير منظورة، حتى تتراكم وتؤدي إلى التغير الكبير النوعي، الذي يحدث نتيجة التغيرات والتحولات التاريخية الكبرى.

وهنا لا بد من الإشارة إلى المسألة التنظيمية بوصفها الأداة التي تربط الحزب بالأهداف، وتتحكم في آليات التطوير والتغيير بشكل مبرمج، لأنها أيضاً تنظم عملية التغيير في الشكل حسب ما هو مطلوب في السياق التاريخي وفق التغيرات الجارية في الذات وفي الموضوع، ولا بد هنا من التأكيد أيضاً أنها تحمي الحزب من العشوائية والارتجالية، فالعمل المنظم تستطيع التحكم بمخرجاته ونتائجه، وعندما نتحدث عن الأحزاب الثورية، فإنه من الضروري أن يرافقها تغيرات جذرية في الشكل وفي المضمون، مرتبطة بالبعد الثوري من ناحية والبعد المعرفي من ناحية أخرى حيث مطلوب من هذا الحزب أو ذاك أن يمارس كافة أشكال النضال بديناميكية عالية، فتصبح الركيزة التنظيمية الدقيقة والصلبة هي العامود الفقري الذي تستند إليه كافة أشكال النضال من أبسطها إلى أعقدها، كعملية شاملة تستهدف التحرير الشامل للأرض والإنسان في سياق التطور الضروري للبشرية، فهي تتشابك تارة وتتقاطع تارة وتتفاعل وتتصارع تارة أخرى، فمناحي الحياة الحزبية تتطور وتتغير ولكن وفق سياق منتظم ومدروس، بما يمكّن الحزب من ضبط الإيقاع وتأدية المهام على أكمل وجه، في صيرورة التفاعل المستمر بين النظرية والتطبيق عبر المسألة التنظيمية في خلقها الأفضل والأكثر ملائمة لكل مرحلة من المراحل بعيداً عن التقديس الزائف، وإنما بهدف خلق النظام الذي يسري على الجميع، كحالة شاملة تسود الحزب في كل مواقعه ومراتبه ونشاطاته، فالحزب الثوري الماركسي من حيث ماهيته يجب أن يمثل نمطاً من التنظيم أعلى من أي حزب برجوازي أو عمالي انتهازي، ولعل هذه الحقيقة هي شرح للمبدأ ال لينين ي القائل "باستحالة فصل المسائل السياسية ميكانيكياً عن مسائل التنظيم"، بحيث يتحول كل اتجاه أو خلاف في الرأي فوراً إلى مسألة تنظيمية إذا كان لا يريد أن يظل مجرد نظرية، وإذا كان يريد حقاً أن يجد طريق تحققه.

وبنظرة سريعة في تاريخ المسيرة العربية، وخصوصاً في الأحزاب والتجمعات السياسية الفلسطينية فقد تعرضت لميوعة لا حد لها، وشهدت أشكالاً لا حصر لها من الانتهازية، فقد تجلت حيناً بصورة الانضباط الفاشي، وغالباً بهيمنة البيروقراطية المستفيدة من شكل التنظيم والمتحكمة فيه، كما أنها شهدت إمكان التحول إلى الشللية والبيروقراطية المركزية بذريعة الأمن الداخلي. وانتهى الأمر بكثير من التنظيمات نتيجة الجمود إلى التشرذم، ولكن في مرات قليلة تكاد تحصى استطاعت سلامة الواقع التنظيمي لحزب من الأحزاب – نسبياً- أن تؤدي إلى تعبير حقيقي عن واقع احتدام الجدل داخله، وتطور هذا الاحتدام نحو صيغ أرقى على صعيد المخطط السياسي، أو على طريق الالتزام الأيديولوجي.

إن التحديات التي تواجهها قضيتنا الفلسطينية تتطلب ممارسة النضال بكل أشكاله السياسية والشعبية والكفاحية، وبالتالي تصبح الحاجة إلى التركيز المضاعف على أهمية المسألة التنظيمية، كجانب أساسي من جوانب جدلية التنظيم والجماهير، الأمر الذي يفرض التركيز المضاعف على المسألة التنظيمية لكي تصبح مهمة ملحة يتوقف عليها جزء كبير وأساسي من مستقبل النضال.

ففي مجابهة العدو الامبريالي الصهيوني، من جهة، وفي نضالنا من أجل انهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية التعددية لتوفير عوامل الصمود والمقاومة بكل أشكالها، إلى جانب مجابهة الصراع الطبقي والاجتماعي ضد كل مظاهر الاستغلال والاستبداد من جهة ثانية، يتجلى العمل المنظم من خلال الحزب الطليعي الثوري القادر على توعية وقيادة الجماهير الشعبية، كسلاح فعال في التصدي وتحقيق الانتصار.

إن المسألة التنظيمية هنا هي مسألة علاقات وحركة هذه العلاقات وتأثيراتها المتبادلة:

علاقات بين النظرية والممارسة، بحيث لا ينفصم طرف من هذه الجدلية عن طرفها الآخر فيسقط العمل في الثرثرة أو يسقط في المغامرة.
علاقات بين أفراد التنظيم للتعبير عن إرادتهم المشتركة.
علاقات بين أفراد هذا التنظيم وقياداته وكوادره.
علاقات بين التنظيم والجماهير.
ثم علاقات من نوع معاكس:

علاقات الجماهير بالمعركة وبالعدو، من حيث تصعيد حدة التناقض بينهما وحسمها لمصلحة الثورة.
علاقات التنظيم بالتراث المتخلف ثقافياً واجتماعيا وسياسياً والذي يرزح المجتمع تحت وطأته، ويتعرض لتأثيراته اليومية وهل يعكس التنظيم فعلياً ممارسة أكثر تقدماً.
تطرح هذه العلاقات في وقت واحد مسائل أيديولوجية وتكنيكية وتثقيفية على صعيدي الإستراتيجيا والتكتيك، وهي مسائل يجري حسمها بهدى من الالتزام الأيديولوجي، أي بواسطة السلوك العلمي البعيد عن الارتجال والبتر والتجريبية، وذلك على وجه التحديد ما يجعل المسألة التنظيمية وثيقة العلاقة بمسألة الالتزام الأيديولوجي.

التنظيم في العمل الثوري، إذاً، ليس عملية ترتيب تقنية فحسب، بل هو انعكاس للموقف النظري الماركسي أو الأيديولوجي، وإذا هو مضى يشق طريقه من دون ذلك، فسينتهي إلى صيغة تآمرية، لا إلى صيغة ثورية، وفي أحسن الأحوال إلى صيغة عصبوية، فالتنظيم هو وسيلة النظرية إلى التنفيذ. والذي لا غنى عنه للعبور من ضفة القرار إلى ضفة الممارسة.

فحين يقول الفكر السياسي إن المعركة هي معركة الجماهير بتعبئتها وتوعيتها وحشدها فمن غير المنطقي أن يكون الحزب –بعد ذلك- غير جماهيري.
وحين يقر الفكر السياسي بأن المعركة هي معركة الطبقات الفقيرة المستغلة، فمن غير المنطقي أن ينسج الحزب بعد ذلك من قماشة برجوازية أو أن يخضع لقيادة هذه البرجوازية.
وعندما يقر الفكر السياسي بأن العلاقة بين الفكر والعمل هي علاقة جدلية وبأنه لا يوجد فكر مجرد أو منفرد بعيداً عن الحوار الجمعي بين الأعضاء، ثم يرتد إليها بالإغناء، فإنه من غير المنطقي ألا يضع الحزب بعد ذلك مسألة الديمقراطية في صلب بنيانه.
وحين يرى الفكر السياسي أن مرحلة المعركة وتوترها يستدعيان اتخاذ القرارات السريعة والمرنة، فإنه من غير المنطقي –بعد ذلك- ألا ينعكس ذلك الحزب باعتماد مبدأ المركزية الديمقراطية.
وعندما تقر النظرية الثورية ارتباط المسألة الطبقية والمسألة القومية، فإن الحزب لا يستطيع – بعد ذلك- إلا أن يضع امتداداته العمالية في سلم أولوياته من نشاطه، وأن يمضي في هذه الامتدادات على مستوى الأمة.
وحين تستطيع النظرية الثورية، بحكم كونها دليل عمل بالدرجة الأولى، التقاط طبيعة المرحلة وسمة الفترة التي يجتازها الجهد النضالي، فإن هذا الالتقاط إنما ينبغي له أن يعكس نفسه فوراً على طبيعة التنظيم وعلى أولويات مهامه وعلى أسلوب عمله.
وحين تقر النظرية الثورية مسألة التغيير والتطوير في أساليب العمل فمن غير المنطقي –بعد ذلك- ألا يضع الحزب مسألة النقد والنقد الذاتي نظرية وممارسة فعلية في برامجه ومحطاته.
من الممكن أن نمضي في تعداد جوانب هذه العلاقة الجدلية بين النظرية وانعكاساتها التنظيمية إلى ما لا نهاية، ولكن ما يهمنا على وجه التحديد هي المقاربة بين واقع الطموح والحالة الراهنة في الثورة الفلسطينية وأحزابها وما آلت إليها الأمور. حيث تصبح المهمات الملقاة على عاتق الحزب الطليعي المعبر عن مصالح العمال والفلاحين الفقراء تفترض وجود أرقى الأشكال التنظيمية وأكثرها إحكاماً الى جانب الارتقاء بالديمقراطية الداخلية واعتمادها منهجا رئيسيا قبل المركزية.

وفي هذا المجال تبرز ثلاث نقاط جديرة بالتركيز وإعادة صياغتها من جديد في كل فترة من الفترات:

الأولى هي العلاقة بين الجهاز السياسي التنظيمي والجهاز أو الإطار الجماهيري من حوله.
الثانية هي نمو واتساع عملية التثقيف أيديولوجياً وسياسياً داخل الحزب وفي الأجواء والحركات الجماهيرية المحيطة به.
الثالثة توفر فرص التصحيح والمراقبة الديمقراطية.
وفي إمكان قواعد تنظيمية مُثلى، على غرار المركزية الديمقراطية والقيادة الجماعية والنقد والنقد الذاتي والخط الجماهيري، أن تتحول إلى أصنام بلا محتويات في حالة إهمال التركيز على آلية حدوثها وكيفية انتقالها إلى الواقع، حيث إدراك -نتيجة دروس الواقع- الأهمية المتزايدة للعمل التنظيمي، وإدراك أن إهمال الجانب التنظيمي في العمل الوطني مع غياب الديمقراطية الداخلية هو أحد الأسباب الأساسية التي تحدث الهوة الهائلة بين النظرية والممارسة وتؤدي في كثير من الأحيان إلى هز الثقة لا بين الحزب والجماهير فحسب، بل بين قيادات تنظيم معين وجمهرة أعضائه أيضاً.

إن مختلف التجارب قد أثبتت أن على فصائل واحزاب اليسار العربي إعادة النظر في كيفية تطبيق مفهوم المركزية الديمقراطية، ليس بمعنى نفيه، بل بتمحيصه، واخضاعه لروح وجوهر الديمقراطية والياتها التطبيقية ومن ثم إعطائه معنى أشمل مما كان عليه خلال العقود الماضية، بما يجعل من هذا المفهوم عبر الحوار والاختلاف الموضوعي أداة لتطور وتجدد الحزب بعيداً عن كل أشكال البيروقراطية والتفرد والجمود والتخلف التنظيمي من ناحية، وبعيداً عن كل الممارسات التوفيقية أو المجاملة أو الحلول الوسط أو الشللية ومراكز القوى من ناحية ثانية.

هذه الأهمية الفائقة لدور العامل الذاتي في البلدان المتخلفة، تصبح أهمية استثنائية بالنسبة إلينا في كل اقطار وطننا العربي الذي لا يواجه مشكلة التخلف والتبعية فحسب بل يواجه أيضا مشكلة تحرره الوطني والديمقراطي الطبقي ومشكلة وحدته القومية.

إن التفعيل الحقيقي أو الثورة الحقيقية للحزب، لا تحددها قناعته الفكرية أو أيديولوجيته فقط، فلكي تتمتع الأفكار بقوة تحويليه، من الضروري أن يكون التنظيم عاليا عبر وحدته وقوته الداخلية لدعم قوة الأفكار بقوة التنظيم، وبقوة ووضوح الموقف السياسي، والقضايا المطلبية الديمقراطية من المنظور الطبقي، ضماناً لانتصار الثورة الاشتراكية، من خلال الالتزام الجدلي بالأسس التي يقوم عليها الحب الماركسي الثوري وهي:

1- الأساس التنظيمي: ويتشكل أساسا من العناصر الأكثر وعيا من الطبقة العاملة، ومن حلفائها الطبقيين كالفلاحين الفقراء، والمثقفين الثوريين، والشرائح المتضررة من البورجوازية الصغرى، والعاطلين وأشباه العاطلين.

أما المبادئ الأساسية للحزب الماركسي الثوري: فهي تتحدد- وفق انظمته وقوانينه والياته الداخلية - وتأخذ أسسها من المقولات التالية التي يتوجب ان تنطلق اساسا من الالتزام الواعي بمفهوم الديمقراطية وتطبيقاته: 1) النقد والنقد الذاتي. 2) المحاسبة الفردية والجماعية. 3) خضوع الأقلية لرأي الأغلبية في إطار الحوار الديمقراطي. 4) القيادة الجماعية التي يتوجب انتخابها لمدة يجب أن لا تزيد عن أربع سنوات لضمان عملية التجدد والتطور الديمقراطي.

2- الأساس الأيديولوجي أو الفكري: نظرية الحزب الثوري باعتباره حزبا للطبقة العاملة لا يمكن أن تكون إلا النظرية الماركسية أو الاشتراكية العلمية بشقيها : المادية الدياليكتيكية، والمادية التاريخية في تطبيقاتها- عبر المنهج المادي الجدلي - على واقعنا الوطني والقومي العربي، والمناضل المنتمي إلى الحزب الثوري لا بد له من التسلح بهذه النظرية ومنهجها، ويحرص على مواكبة مسارها التطوري المتجدد حتى لا تتحول الى مقدس او عقيدة جامدة، والرفيق الذي لا يتسلح بالماركسية يبقى عرضة للأخطار والمنزلقات الفكرية، وخاصة منها ذات الطبيعة الإصلاحية الليبرالية أو اليسارية العدمية والانتهازية.

3- الأساس السياسي: وهو مدخل الرفاق للارتباط بالجماهير عبر فهم واستيعاب مضمون مبادئ وبرامج الحزب، وبالتالي فإن فهم الرفاق لهذا الاساس السياسي هو تجسيد لممارساتهم على الصعيد الوطني التحرري وعلى الصعيد الديمقراطي المطلبي وفق المنظور الطبقي الذي يمس كافة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والقانونية وقضايا المرأة والشباب والنقابات والعمل الجماهيري عموماً، التي تشكل في مجملها منظومة من الحقول التي يصعب الفصل بينها، والتي تتحدد في إطار برنامج الحزب السياسي المرحلي، والاستراتيجي.

ولذلك فالحزب الثوري يبلور مواقف سياسية مرحلية تتناسب والشروط الموضوعية المتغيرة، كما تتناسب وحاجات وطموحات الجماهير الشعبية الكادحة، بحيث لا تمر مناسبة دون أن يحدد الحزب الثوري موقفه منها، انطلاقا من البرنامج العام، والذي يشرح الوضعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية محددا موقف الحزب منها، وطارحا البديل الذي يعمل المناضلون الحزبيون على تحقيقه من خلال عملهم في مختلف المنظمات الحزبية والجماهيرية.

ففي ظروف الانحطاط العربي، أقول إن أحزاب وفصائل اليسار العربي أمام خيارين لا ثالث لهما، إما استلهام ووعي المسار التطوري المتجدد للماركسية أو دخول هذه الأحزاب مرحلة التفكك والاندثار في انتظار الجديد، الذي سيولد حتماً من بين صفوفها أو من خارجها.

ولذلك أقول لكل من يعتبر أن الماركسية قد كفت عن كونها نظرية ثورية، انت مخطئ كل الخطأ، وكذلك الأمر بالنسبة لكل من يحكم على مستقبل الاشتراكية على ضوء حاضرها المأزوم، فلا زالت شعوب ما يسمى بالعالم الثالث تعاني من: السيطرة الامبريالية والتبعية والتخلف، والتفاوت الطبقي, والاستغلال والقهر الطبقي, ولم يحدث في تاريخ البشرية أن بلغ استغلال فائض القيمة للشعوب الفقيرة والتابعة، والقهر الاجتماعي والإفقار، المستوى الذي وصل إليه اليوم، إلى جانب كل أشكال العدوان والحروب التي تمارس لحماية مصالح النظام الرأسمالي كما هو الحال في بلادنا. ما يعني أن الاشتراكية اليوم باتت ضرورة حتمية كتتويج للديمقراطية والحداثة وتخليص مجتمعاتنا من كل مظاهر التخلف والتبعية والاستغلال والاستبداد، إذ ليس ثمة خيار آخر –خاصة لبلداننا العربية والعالم الثالث- فإما الاشتراكية أو مزيد من التبعية والتخلف والاستغلال والاستبداد.

أرى أنه ليس من المغالاة في شيء، إذا قلنا بأن ما يسمى بأزمة الماركسية في بلادنا، هي انعكاس –بهذا القدر أو ذاك- لأزمة وتخلف المجتمع والفكر السياسي العربي ارتباطاً بالمسار التطوري التاريخي المشوه.

إضافة إلى كل ما تقدم، نستطيع الكشف عن مظهرين آخرين من مظاهر أزمة الماركسية في البلدان العربية ، أولهما: عدم استخدامها كفلسفة نقدية في تشخيص ودراسة خصوصية التطور الاجتماعي الاقتصادي العربي، وانماطه وثقافته المختلفة كلياً عن الانماط التي سادت في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، والثاني: عدم تمحورها على المستقبل، بسبب عدم توجيهها صوب فكرة الثورة الديمقراطية والتقدم بوصفها عملية تَخَطِّ وتجاوز مستمرة، ليس لأنظمة التخلف والمشيخات القبلية الشبه إقطاعية فحسب ، بل أيضاً لما كان يسمى بأنظمة "البرجوازية الوطنية ".

وكما نتفق جميعا بأن الدرس الذي يمكن استخلاصه بالنسبة إلى كفاح الشعب عموما وجماهير العمال والفلاحين الفقراء خصوصا، هو أن الرجعية تكتسب في ظل تفشي الورم الانتهازي القدرة على دق إسفين في خاصرة الحركة الثورية، وبالتالي قطع الطريق امام الثورة.

فالانتهازية تزرع الأوهام بين الجماهير لكي تحرفها عن النضال الفعلي ، لكي يتعزز النظام الاستبدادي الكومبرادوري الرجعي الحاكم، ولكي تجني الطغم الحاكمة مزيداً من الأرباح ومراكمة الثروات المنهوبة ، وبالتأكيد فان الانتهازية لا تفعل ذلك دون مقابل فهي تزيد من وراء إداء تلك الخدمات التموقع في السلطة وبالتالي الفوز بنصيبها من الثروات المنهوبة ، لذلك فان القوى الثورية بحاجة إلى جهد متعاظم لمحاربة تأثير الانتهازية وفضح رموزها والقضاء نهائيا عليها بما يمكن الثوريين من استكمال مهماتهم النضالية ضد انظمة التبعية والاستغلال والانتصار عليها معلنة بداية عهد جديد تسوده الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية.

أيها الرفاق أن تكونوا ماركسيين اليوم، معناها أن تقاوموا هذه الحركة الصهيونية، وليدة النظام الرأسمالي وربيبته، وأن تقاوموا نظام العولمة البشع ، لا أن تستهلكوا بضاعته الفكرية الرخيصة من الواقعية الى الليبرالية ، أن تكونوا ماركسيين ، يعني أن تكونوا حاضنة دافئة للجماهير العفوية، تحترمون كل تراثها ومعتقداتها وتتعلموا منها ، فأن تكون ماركسياً، يعني أن تنظر إلى الدين على أنه وعي اجتماعي وجزء هام ورئيسي من الوعي الإنساني، استطاع أن يلعب دوراً في تحرير الإنسان من الاستغلال عندما أحسن التعاطي مع أفكاره وجوهره عموما وفي بداياته الاولى خصوصا.

وأخيراً أن تكون ماركسياً، هو أن يتكامل وعيك أيها الرفيق، فتنهل من النظرية وتدرك منهجها ادراكا ذاتيا، وتؤسس لك أرضية صلبة تنطلق منها للعمل النضالي والديمقراطي، الوطني والقومي والإنساني، لا أن تأخذ السياسة على حساب الفلسفة، فالجزء يكمل الكل، ولا تنفصل النظرية الماركسية ومنهجها بالنسبة لنا وفي كل الظروف عن العمل السياسي، فإذا ضاع الجزء، ضاع الكل، وضاعت معه هوية أحزابنا الفكرية.

أن تكون ماركسياً هو أن تعمل على أن يكون وطننا العربي كله، وطن لأبنائه، وطناً مستقلاً حراً موحداً تسوده الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، يبنيه ويحميه أبناءه من الفقراء والكادحين بإرادتهم الجماعية الحرة، وبقيادة أحزابنا اليسارية الماركسية العربية.

أخيراً لا بد من التأكيد على الحقيقة الموضوعية التالية: ان الحزب او الفصيل الماركسي هو اتحاد اختياري طوعي، من لا يقبل بشروطه وأهدافه وأفكاره يجب أن يخرج، لأن الحزب يتفسخ حتماً أول الأمر فكرياً (إذا سادت حالة من التراجع والارتداد عن الماركسية ومنهجها)، ثم يتفسخ مادياً إذا لم يطهر صفوفه من الأعضاء الذين يروجون المواقف والآراء الانتهازية السلبية والارتخاء وضعف الحيوية والدافعية الذاتية.. ولذلك فإن ضمان قوة الحزب الثوري تتجلى حصراً في قوة وعمق الوعي بالماركسية من جهة وعمق الوعي بمكونات الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي المعاش في هذا المجتمع أو ذاك، إلى جانب قوة التنظيم وعلاقاته الديمقراطية الداخلية المحكومة بالأخلاق والمحبة الرفاقية الدافئة... وفي كل الأحوال فإن الحزب يقوى بتطهير نفسه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصريح عمر باعزيز و تقديم ربيعة مرباح عضوي المكتب السياسي لحز


.. طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز




.. يوم الأرض بين الاحتفال بالإنجازات ومخاوف تغير المناخ


.. في يوم الأرض.. ما المخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي على ا




.. الجزائر: هل ستنضمّ جبهة البوليساريو للتكتل المغاربي الجديد؟