الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عظمة نهر النيل في السنة النبوية والتراث العربي

صبري فوزي أبوحسين

2022 / 8 / 28
الادب والفن


إعداد الدكتور/صبري فوزي أبوحسين
أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات
نهر النيل جاذب منذ كان، وساحر مُذ وُجد، و ليس تقديس الفراعين الأولين إياه، بتنصيبه إلهًا للخير والسعادة، وتسميته "حابي"، وليست مقالة المؤرخ اليوناني الشهير (هيرودوت) قبل أربعة وعشرين قرنًا منصرمة: "إن مصر هبة النيل" هما الدالان فقط على عظمة نهرنا! فقد أشير إليه في القرآن الكريم إشارات عديدة متنوعة، كما ذُكِر معظَّمًا في السنة النبوية الشريفة. وإن القارئ في مدونات التراث العربي، عبر أعصاره الكثيرة، يتضح له ذلكم الحضور المُبهر لنهر النيل في كتابات الجغرافيين والمؤرخين والرحالة، وكذا في إبداع الشعراء، وبيان ذلك وأدلته على النحو الآتي:
إن اسم نهر النيل لفظة عربية على الأرجح، ؛ إذ يشير الإمام الفارابي(ت350هـ) في معجمه ديوان الأدب، والإمام الأَزْهَرِيُّ(ت370هـ) في معجمه تهذيب اللغة( (، إلى ذلك الأصل العربي للفظ (النيل) في أثناء حديثهم عن الجذر اللغوي [ن/و/ل]. وقد جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي(ت626هـ) أن النيل " تعريب نيلوس من الرومية( (، وذكر بعض المحدثين أن أصل النيل من اللغة اليونانية((Neilos)، وقيل: من اللغة النوبية، وأنها تعود إلى كلمة "ني" التي مازال يستخدمها أهل النوبة في وصف النهر، والتي تعني "أشرب"، وعادة ما يقول النوبيون: "نيلا تون نيلوس"، وهي عبارة تعني: "شربت من مكان الشرب". ويعد الإمام الأصمعي (ت216هـ) من أوائل اللغويين ذكرًا لنهر النيل بقوله :" النيل نهر مصر، حماها الله وصانها( (". ومن أبلغ العبارات المعجمية في وصف النيل قول الإمام للجوهري(ت393هـ) في معجمه( تاج اللغة وصحاح العربية): "فيض مصر( (". وما الفيض إلا خير وزيادة وبركة، إن شاء الله تعالى، فالنيل مصدر كل خضرة ونضرة، وينبوع الحياة والأحياء. وهذه العبارة (فيض مصر) تذكرنا بعبارة (هبة النيل)، المبالغة في مكانة نهرنا الخالد بإذن الله تعالى .
ومما يدل على عظمة نهر النيل وبركته وسموه أنه النهر الوحيد من أنهار الكون منذ وجد إلى أن تقوم الساعة، المذكور في قرآننا المجيد، وما يذكر في القرآن محفوظ بالحفظ الإلهي للقرآن، إن شاء الله؛ فقد رد ذكر نهر النيل في القرآن الكريم في عدة مواضع إما تصريحًا أو تلميحًا، و لم يُسَمَّ في القرآن نهر سواه: بلفظ (الماء) مرةا، وبلفظ (اليم) مرة ثانية وبلفظ(الأنهار) مرة ثالثة، ولفظ (البحر) مرة رابعة،، وليس في الأرض نهرٌ يُسمَّى بحرًا غيره، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( (}. وقد أجمع المفسرون على أن المراد باليم هنا النيل بمصر؛ فسماه يمًّا وهو البحر؛ فقد خصه الله -سبحانه وتعالى- بلفظة (اليم)، التي تُطلَق أيضًا على البحار. وقد جاءت لفظة (اليم) ستَّ مراتٍ في القرآن الكريم، وقفًا على نهر النيل دون غيره من الأنهار.
ويزداد نهر النيل عظمة مقام وسمو مكانة بذكر سيدنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم إياه في أحاديث الشريفة وسيرته العطرة، ففي السنة النبوية الشريفة أن نهر النيل من أنهار الجنة أو كأنهارها؛ فقد روي عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «النيل وسيحان وجيحان والفرات، كلٌّ من أنهار الجنة( (» . ورُويَ في إسرائه -صلوات الله وسلامه عليه- أنه قال: "رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلت: يا جبريل، ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الباطنان: فنهران في الجنة وأما الظاهران: فالنيل والفرات( (". ولعل المراد من كون هذه الأنهار من الجنة أن أصلها منها كما أن أصل الإنسان من الجنة، فلا ينافي الحديث ما هو معلوم مشاهد من أن هذه الأنهار تنبع من منابعها المعروفة في الأرض، فإذا لم يكن هذا هو المعنى أو ما يشبهه، فالحديث من أمور الغيب التي يجب الإيمان بها، والتسليم للمخبر عنها. وقال الإمام القاري: إنما جعل الأنهار الأربعة من أنهار الجنة، لما فيها من العذوبة والهضم، ولتضمنها البركة الإلهية، وتشرفها بورود الأنبياء إليها وشربهم منها.
وفي تاريخ التدوين العربي نجد توجد تآليف عربية عتيقة خاصة بنهر النيل مثل (سجع الهديل في أخبار النيل) للتيفاشي(ت615هـ)، و(أخبار نيل مصر) للأقفهسي(ت808هـ)، و(الفيض المديد في أخبار النيل السعيد)لشهاب الدين المنوفي(ت957هـ)، ومنظومة في مائة وعشرين بيتًا في النيل وفضائله ومزاياه وشرح أحواله لشمس الدين الجوجري من علماء القرن التاسع الهجري... وغير ذلك من التآاليف الدالة على اهتمام العلماء العرب الأسلاف لنهر النيل. كما كثرت التآليف الخاصة بنهر النيل عند المؤرخين والجغرافيين المحدثين والمعاصرين، مثل كتاب (النيل في عصر المماليك) لأستاذ الأدب والنقد الأزهري الدكتور محمود رزق سليم رحمه الله، و(النيل في الأدب الشعبي) للدكتورة نعمات أحمد فؤاد رحمها الله، و(النيل والمجتمع المصري في عصر سلاطين) المماليك للدكتور قاسم عبده قاسم، الذي يعالج العديد من المواضيع التي تخص نهر النيل وعلاقته بالمجتمع المصري فتحدث مؤلفه عن فيضان النيل وأهميته بالنسبة للأراضي الزراعية ومواعيده ومناسيبه، كما تحدث عن نظم الري والزراعة, وعلاقة النهر بالمجاعات والأوبئة في عصر السلاطين المماليك, وعن أهمية نهر النيل كطريق للتجارة والمواصلات بين أنحاء البلاد المصرية. وكتاب(النيل في عهد الفراعنة والعرب) للكاتب أنطون ذكري الذي يتحدث فيه عن النيل ومزاياه وتوقف حياة البلاد عليه، التي تكاد أن تكون في حُكم المعلومات الفطرية، والتي تنبعث الأذهان بطبيعتها إلى حب الاطلاع على كل ما يتعلق بنهر النيل من المباحث التاريخية، والمعلومات الفنية التي جاد بها المؤرخون وذكرتها الأبحاث في قرون ماضية، ولا زلنا نقتفي آثارها في الارتشاف من مناهلها، والحرص على الاستفادة من كل جديدٍ مفيد. فوضح المؤلف حالة النيل في عصر الفراعنة، وفيما تلاه من عصور حكم، إلى عصر الفتح الإسلامي وما يليه، وقد عُني المؤلف عناية دائمة بتقرير المحافظة على فوائد النيل من كل دولة كان لها حق السيطرة على بلادنا. يقول المؤلف :"قد رأيت في هذا المؤلَّف اجتنابَ الإطالة في التمهيدات والمقدمات اكتفاء بأن الموضوع المقصود بالبحث والبيان هو النيل، والنيل ذو أهمية بذاته لا تحتاج معالجة لإثارة الأشواق واستفزاز الفِطَن". ومن الكتب الاستشراقية عن نهر النيل -والمحفوظة في مكتبة الفنان المصري الراحل حسن كامي- كتاب "بروس عن نهر النيل"، والمكون من خمسة أجزاء، وهى موسوعة كُتبت في القرن الـ18، و تعد من أروع الكتب التي كتبت عن نهر النيل؛ لاحتوائها على أسرار مجهولة وخطيرة عن نهر النيل...على النحو الذي وصفت به الموسوعة من قبل الصحفيين المطلعين عليها، والتي عرضوها في مواقع إلكترونية بالشبكة العالمية للمعلومات... وغير ذلك من المدونات العلمية الدالة على اهتمام العقل العربي قديمًا وحديثًا ومعاصرًا بنهر النيل تاريخًيًّا وجغرافيًّا واقتصاديًّا وأدبيًّا وحضاريًّا.
هذا إضافة إلى كلام كبار الجغرافيين؛ فهذا ياقوت الحموي(ت626هـ) في كتابه معجم البلدان يتحدث حديثًا مفصلاً عن النيل، فكان مما قاله عن طريف تأثيره في أرضنا:" ومن عجائب مصر النيل جعله الله لها سقيًا يُزرَع عليه ويُستغَنى به عن مياه المطر في أيام القيظ، إذا نضبت المياه من سائر الأنهار، فيبعث الله في أيام المد الريح الشمال فيغلب عليه البحر الملح فيصير كالسكر له حتى يربو ويم الربى والعوالي ويجري في الخلج والمساقي، فإذا بلغ الحد الذي هو تمام الري وحضر زمان الحرث والزراعة بعث الله الريح الجنوب فكبسته وأجرته إلى البحر الملح، وانتفع الناس بالزراعة مما يروي من الأرض"، ثم ذكر ياقوت مكانته الجغرافية العالمية بقوله: "وأجمع أهل العلم أنه ليس في الدنيا نهر أطول من النيل؛ لأن مسيرته شهر في الإسلام، وشهران في بلاد النوبة، وأربعة أشهر في الخراب حيث لا عمارة فيها، إلى أن يخرج في بلاد القمر خلف خطّ الاستواء. وليس في الدنيا نهر يصبّ من الجنوب إلى الشمال إلا هو؛ تبعًا لميل الأرض. ونيل مصر يفضل أنهار الأرض عذوبةَ مذاقٍ واتساعَ قُطْرٍ وعِظَمَ منفعةٍ، والمدن والقرى بضفتيه مُنتَظِمةٌ، ليس في المعمور مثلُها ولا يُعلَم نهرٌ يُزْدَرَعُ عليه ما يُزْدَرعُ على النيل( (".
وفي رحلة الشتاء والصيف للأديب محمد المولوي(ت1070هـ) حديث ماتع عن نهر النيل، ذكر فيه طرفا من الأشعار المبينة عن مكانة نهر النيل، جاء منها لشاعر يسمى البدر البشتكي:
عاتبتُ هذا النيلَ في ترك الوفا فأجابني حالاً بغيرِ توقفِ:
سأفي وإن خانوا وأُصلحُ بينهم ما كدتُ أفسده ومثليَ مَنْ يفي
وما أحسن ما قيل:
رأيت النيل ذا عقل ولب لما يبدو لعين الناس منهُ
فيأتي عند حاجتهم إليه ويذهبُ حين يستغنون عنهُ
وللناس، في مقياس النيل، الأشعار الرائقة، والمقاطيع الفائقة، فمن ذلك:
إن مصرا لأحسن الأرض طرًّا ليس في حسنِها البديعِ اِلتباسُ
كلُّ مَن قاسَها بأرضٍ سواها كان بيني وبينه المقياسُ
وقال آخر:
اشرب على مقياسِ مصر وغنِّ لي من روضه المعشوقِ في عشاقِ
وافخر بمصرَ على البلادِ فنيلُها يعلو على الأوصافِ باستغراقِ( (
هذ، ومعظم كتب التاريخ والجغرافيا والرحلات عند العرب الأسلاف تأتي من النصوص الدينية والأدبية التي من شأنها أن تقرر لدى المتلقين أن نهر النيل عطاء الله عز وجل، يجري بأمر الله وقدره وتقديره تعالى، وأنه لا يمكن لبشر أن يتحكم فيه أو يمنع أو يمانع جريانه، وأن النيل سيد الأنهار، وقد سخر الله له كل نهر من المشرق إلى المغرب، وفجر الله له الأرض عيونًا؛ ليحول مصرنا الحبيبة إلى أجمل واحة طبيعية على سطح الكرة الأرضية، فتزخر بحضارة زراعية عريقة في كل عصر ومصر، في جيلنا كما في الأجيال الماضية، وفي الأجيال القادمة بإذن الله تعالى. حفظ الله مصرنا ونيلنا وبارك فيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل


.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج




.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما