الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تدجين الزمن

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 8 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


منذ البدايات الأولى للبشرية على وجه الأرض، وما أن بدأ الإنسان يقف ويسير على قدميه واجهته مشكلة غريبة، لم تكن في حساب الآلهة ولا الطبيعة، مشكلة "الفراغ"، ماذا يفعل الإنسان بكل هذه الدقائق والثواني التي تملأ أيامه ولياليه وتجعله ضحية لهذه الظاهرة المزعجة، ظاهرة "الضجر". فكان في الأيام الأولى ينطرح طوال اليوم في الشمس أو في ظل شجرة، حسب الفصول وأحوال الطقس، ومن حين لآخر حينما يقرصه الجوع في معدته، يمد يده بتراخ وكسل ليقطف تفاحة يقضمها بدون حتى أن يفتح عينيه، ثم يعاود شخيره. وبعد أن قضى عدة قرون مسترخيا في الشمس، شعر ذات يوم بالملل من أكل الأعشاب والجذور وثمار الأشجار وأوراقها، فقرر أن يجري وراء الأرانب والغزلان ويطارد لحم الخروف. وكان ذلك يأخذ جزءا لا بأس به من وقته اليومي، حيث يخرج منذ شروق الشمس ولا يعود أحيانا إلا بعد غروبها. وفي نفس الوقت بدأ في تقليب الأرض ونبشها ليدفن فيها بقايا تفاحته وينتظر أن تنمو الشجرة ليقطف ثمارها، وفي الإنتظار زرع القمح والشعير والذرة والبطاطا والطماطم وما شابه ذلك لينوع مائدة عشائه. غير أن المشكلة ما تزال باقية، وإن أصبح الفراغ نسبيا، والضجر ينتابه عادة قبل غروب الشمس بقليل، فبدأ في تأليف القصص والحكايات والأشعار والأساطير، فاخترع المخلوقات الإلهية والأشباح والحيوانات الغريبة وتخيل قصة تكوين الأرض والسماء وبداية الإنسان على ظهر البسيطة، قصص وحكايات تتناقل من قرية لقرية ومن جيل لجيل طوال سنوات عديدة، وكل ذلك من أجل قتل الوقت. ثم اكتشف ذات يوم أن قتل بقية الناس يمكن أن يكون بدوره وسيلة لقتل الوقت، يجعله يتجاوز ضجره المميت وينسى الفراغ الوجودي الذي ينخر أيامه ولياليه. فبعد أن ينتهي من تقليب الأرض وزراعة الشعير وشوي خروفه وحكاية قصة الطوفان، ينقض على جيرانه في كهفهم الآمن، يقتل بعضهم ويجرجر ما تبقى من الأسرى لقريته ليحرثوا الأرض بدلا منه. غير أن قصص الآلهة والجن والشياطين وكل الطقوس المتعلقة بها، والحروب العديدة والإستعدادات التي تتطلبها، كل ذلك لا يشكل نشاطا يوميا متواصلا وبلا إنقطاع، فهناك فترات السلام النسبي والهدن واإتفاقيات الصلح وعدم الإعتداء .. إلخ، أضف إلى ذلك أن إعلان الحرب على جيرانه مكنه من الحصول على القمح والخرفان وبقية الغنائم دون أن يبذل أي مجهود يذكر، وهكذا يطل الفراغ من جديد بوجهه البشع من وراء النافذة ويحيل الحياة إلى كابوس لا يحتمل. غير أن الإنسان لم ييأس ولم يفقد الأمل، فواصل البحث والتنقيب عن كل ما يمكن أن يقتل به هذه الأيام والليالي التي تتمطط إلى ما لا نهاية. فبعد إكتشافه للنار والزراعة وتدجين وتربية الحيوانات وإختراع اللغة والدين والفن والعجلة، بدأ جديا هذه المرة مواجهة عدوه العنيد، فاخترع الأدوات الزراعية وبدأ في الصناعات الأولية مستخدما الحديد والنحاس، ثم شرع في بناء المدن والقلاع وشيد الأسوار والطرق والجسور والسدود، وغير مجرى الأنهار واجتاز البحار والمحيطات في قوارب وسفن تزداد حجما وسرعة في كل يوم، أنشا الحضارات الصناعية واستعمر الأرض حتى لم يبقى فيها شبر واحد لم يستكشفه ويرسم خرائطه على الورق بكل التفاصيل الدقيقة، وانتهى به الأمر مسافرا في الفضاء يبحث عن الذهب في السماء، ومع كل ذلك لم يستطع أن يقتلع الداء الذي يؤرقه من جذوره. حقا أن الفن والشعر والأدب والسينما والمسرح والدين والسياسة والصناعة والعلم وممارسة الحب وطقوس الأكل والتفسح بعد العشاء على ضوء القمر وأشياء عديدة أخرى أعطته حلا جزئيا، وإن كان البعض يراه وهميا ومؤقتا، لمشكلة الضجر. فالإنسان لا يكتفي بالحلول الجزئية، إنه يبحث عن الحلول الجذرية، عن المطلق، حياة مليئة حتى الحافة، حتى تطفح وتفيض بالنشاط والحركة والفعل. لا يريد ولا يحتمل ذرة واحدة من الفراغ تندس في ثنايا نشاطه اليومي طوال الحياة. وربما هذا النوع من التطرف "الخلاق" هو الذي مكن هذه الحضارة الصناعية من التقدم والرقي والوصول إلى أقصى درجات الإبداع البشري، من الكوكا كولا والجينز والماكدونالدز والآيباد، إلى الأسلحة النووية والحروب الوقائية والحروب من أجل الحرية والديموقراطية. هذا النوع الجديد من البشر الذين يصطادون الزمن، يجرون بخوذاتهم ودروعهم وراء كل دقيقة وكل ثانية، بسهامهم الإلكترونية يثقبون جلودها ويلاشونها مثل فقاعة من الصابون. هؤلاء هم عباقرة الإنسانية والحضارة المعاصرة، ورواد مستعمرات الزمن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل