الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خرافة نار جهنم في الفكر الديني

باسم عبدالله
كاتب، صحفي ومترجم

(Basim Abdulla)

2022 / 8 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الوثنية تاريخ حافل في جذور المعتقدات الخرافية، هي الإيمان بأن الطبيعة المادية هي الإله، كذلك اتسعت الوثنية في الإيمان بأكثر من إله، فهذه الأشكال تجسدت من خلال عبادة الأصنام وتحويل المعتقدات الى الطقوس حتى صاغت بحسب انتشارها الديانات المحلية، ومن خلال التطور العقلي للمعتقدات الخرافية، تراجعت الوثنية فصارت تخلفاً بحسب الديانات الإبراهيمية، فتحولت العبادة الصنمية في تاريخ والوثنية الى عبادة الإله غير المرئي، قتم نبذ السجود للأصنام، في الاسلام والمسيحية اليهودية، لكن لم تتخلص الاديان الإبراهيمية بشكل قاطع ما اورثه المعتقد الوثني في عقيدة النار، اذ بقيت هذه العقيدة جزءاً هاماً منذ العصر الحجري القديم، هي التاريخ الاقدم في المعتقدات التي ورثها الفكر الديني الى يومنا هذا. امتدت عقيدة النار في تاريخ الشعوب الدينية لفترة باكرة امتدت لعشرات الآلاف من السنين، فلقد كان العقل الخرافي قد روّج الى عقيدة النار فصارت اساس المعتقد الغيبي، اي ان عقيدة النار ترسخت في العقل الغيبي رغم تخلصه من معتقدات الوثنية.
النار تجسد حقيقة المعتقد الخرافي للغيب، ولسلطة الإله وظهوره في الشجرة المحترقة، وعمود النار، فكانت في العقائد الباكرة تقدم التضحية بالحيوان بالمحرقة، فلقد كان ذلك التقليد الديني بمثابة التقرب الى الله والخوف من سلطانه. في الإسلام لم ترتبط عقيدة النار بالطقوس الدينية فلقد كانت ومازالت اداة للترهيب من اجل جعل العلاقة مؤسسة على الخوف من الإله، بهدف استمرار العبادة، وصف القرآن الشيطان انه مخلوق ناري، وقد رفضت افعال الشيطان وصار مصدرا للشر، ذلك ان الشيطان انطلق من تصور ان النار تتفوق على الطين، وهذا كان سبب في حسم الجدل بين الإله والشيطان، وتركه الجنة واغوائه آدم. ان الإستناج يعني ان الشيطان كان ومازال الموروث الرابط بين عقيدة النار في العصر الحجري القديم والاديان الإبراهيمية التي حولت طبيعة الشيطان بما يخالف الطبيعة البشرية، النار صنعت الشيطان والطين صنع منه الله آدم.
النار من اهم العقائد المثيولوجية، هي جزء من معتقدات الإنسان الأساسية عبر التاريخ، وكانت تمارس لدى العديد من الشعوب، وكان حرق الموتى من اهم التقاليد الوثنية التي تعني ازالة الجسد عن الوجود، وقد تم استخدام تطور المعنى العملي للنار في تاريخ المعتقدات الدينية وتحويلها للعالم الغيبي كجزء اساسي للتعذيب الجسدي للخارجين عن القانون وغير المؤمنين. في الفكر الديني انطلق مصطلح ” النار الأبدية ” او النار الخالدة، وقد ذكرت النار بمختلف الكلمات التي تدل على ذات المعنى كنار السعير، نار جهنم، الهاوية. تاريخياً تم ذكر وادي هنوم، او وادي ابناء هنوم، المكان الذي كانت تقدم فيه الذبائح البشرية من الاطفال قرباناً للآلهة الكنعانية بعل، كانت تلك القرابين على صفيح نار ساخن وبسبب جرائم الكنعانيين حكم الله عليهم بالفناء وانتقم من شعب يهوذا بالسبي الى بابل. تحولت تلك القرابين بحرقهم في النار، الى ذات المكان الذي سينتهي به الاشرار. عند البحث عن كلمة ” جهنم ” وجدناها اسم لوادي هنوم خارج الاسوار القديمة لمدينة اورشليم، كانت تلقى فيه جثث الموتى من المجرمين، من هنا انطلقت الفكرة المثيولوجية ان تكون النار الفكرة الإلهية في الانتقام من المجرمين والكفار، الزناة في العالم الأخروي. لقد استمرت العقيدة الروحانية وتطورت دلالاتها في الاديان الإيراهيمية حتى باتت جزءا اساسيا من عقائدها الغيبية ومازالت، فلم يطرأ تغيير على المحتوى العقائدي للنار كما تم ذكرها في سفر يشوع، وقد تم ذكرها في القرآن كذلك. صارت عقيدة الكتاب المقدس والقرآن تعني العذاب ما بعد الموت. كان محمد يجهل اللغة العبرية فاعتقد ان النار اسمها جهنم، كما هي الحال عندما ادخل كلمات عبرية للغة القرآن كجبرائيل، عزرائيل، ميكائيل، فظن ان ادخال كلمات يجهلها العرب سيزيد القرآن قدسية كما التوراة عند اليهود. يفترض ان الله لا يصف واقعاً تاريخياً على اعتبار ان من اخبر عنه الوحي الإلهي، ذلك ان جهنم تصف وادي هنوم في القدس، فكيف يصف النار للعرب وهم لم يروا الوادي سابقاً واراد اخبارهم عنها حيث يفترض انها في العالم الآخر بينما هي واقع تاريخي وجغرافي؟ هذا كله يستدل ان النص القرآني عن نار جهنم لا علاقة له بالوحي الإلهي. عبادة النار تاريخ حافل بالمعتقدات الأسطورية، وقد انتشرت اخبارها وتاريخها الخرافي عبر الامم الغابرة، كالأساطير الافريقية، المصرية، الهندوسية، اليابانية، البابلية، المنغولية، الاوربية، الرومانية، اليونانية، البوذية.
” ترتبط جهنم بالنار كوسيلة العذاب فبها وفيها يلقى بالجسد والنفس معا ... وقد اصبح وادي بن هنوم الاسم المميز لمكان العقاب النهائي ... ذلك الوادي كان مركز لعبادة الوثن ” مولك ” الذي كانوا يقدمون اولادهم طعاماً للنار محرقات له ” (1) الوصف القرآني حافل بالعديد من الآيات القرآنية التي تركز على عقيدة النار واعتبرتها من اساسيات العقائد الغيبية والتي بدونها ينهار الدين، اذ بهدم تلك العقيدة ينهار الدين بأكمله كمصدر روحاني للغيب. فالخلود في النار معتقد راسخ في الأديان الإبراهيمية مع توسع دلالاتها في الإسلام، وقد استغرق خيال النص القرآني فيها الى مدى غير مسبوق عن بقية الأديان.
ذلك من اشرك بالله وكفر وخرج عن اعراف الملة من الزناة والمجرمين، يخلدون في النار ” إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ” (2) تتوعد الكثير من السور القرآنية الاغنياء دخولهم النار ” وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ . الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ . يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ . كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ . نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ . الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ . إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ . فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ ” (3) لم يقتصر الأمر على عذاب النار، بل هناك في الجحيم اشجار جهنم، في وصفها الرهيب، اذ بحسب النص القرآني ”... ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ(4) ” شجرة الزقزم كريهة المظهر والطعم والمضمون، فهي ذات طعمٍ مر شديد المرارة، ذكر ابن عباس عن محمد أنها أشد مرارة لدرجة أنه إذا قُطّرت قطرة من ثمار الزقوم لمررت عيشة أهل الأرض بأكملها، فهذا حال اهل النار، يعانون الجوع فلا يجدون ما يطعمهم سوى شجرة الزقزم، فبعد تناول طعامها يصيب البطن بالحرقة والتآكل، فتغلي بطونهم وتنصهر وتذوب كما يذوب الجليد اوان الصيف، فيبدل الله جلودهم واجسامهم بأخرى جديدة تجرعاً لعذاب جديد لا ينقطع. تتفرد بشاعة الله في فنون تعذيبه، الى هلع ومعانات ليس لها شكل دنيوي، فلقد تميز الله عن مخلوقاته القساة، عند اولئك الذين قتلوا وحرقوا الابرياء، تتميز البشاعة الإلهية بنماذج رعب جعلت من الله يتفوق على الطغاة في الحياة الدنيا التي ازالها الله وقام بتدمير الكون كله ذلك الكون الذي بناه في ستة ايام وقيل كذلك في ثمانية ايام. يتعمق الإلهام الخرافي في عذاب اهل جهنم فلها ابواب، وأنها تفتح فجأة بمجرد وصول أصحابها إليها، لتعجل لهم العقوبة، وأن عددها سبعة، وقد وصفت سورة الحجر ” لها سبعة ابواب لكل باب منهم جزء مقسوم ” كل باب اسفل من الآخر وهناك خزنة النار يتولون تعذيبهم، ففي الحديث النبوي في صحيح البخاري 3265 و مسلم 7344 ” ناركم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم ... ” بل ان النار تحولت الى كيان واع مفكر متكلم وله وجود كحال الجلادين عند افتراس الضحية، ففي حديث نبوي كما رواه الترمذي 2574 ” تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إله آخر ”
تنطلق سورة الحاقة في الوصف القرآني الرهيب، الى تجسيد اهوال الجحيم فرغم قصر الإنسان لكن يتم سلكه في سلسلة يزيد طولها عن طوله عشرات المرات، الله يأمر جلاّده بأخذه عنفاً من المحشر فيضعوا الأغلال في عنقه، فينطلقوا به الى جهنم. في تفسير ابن كثير يأمر الرب سبعين الف ملك ” خذوه فغلوه ” " ولا طعام إلا من غسلين ” اي ما يسيل من صديد اهل النار. لقد وصل احتقار العقل الإنساني في الفكر الديني الى الإعتقاد بتصديق ما لا يصدّق، فعن ابي هريرة بما رواه في البخاري ان محمداً قال ” اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير ” كذلك تتوسع الدلالات الخرافية في وصف النار وربطها بالمشاعر البشرية، بما قال محمد وما رواه الترمذي وصححه الاألباني ” يخرج يوم القيامة عنق من النار، لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، تقول: إني وُكّلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين ” فأذا وجدنا ان هناك من يقتنع في امكانية وجود النار كمصدر عقابي للخارجين عن قواعد الشروط الإلهية، سيجد صعوبة في تصديق بشرية الناس في وصف اعضائها باللسان، والأذنين، والعيون المبصرة، فهذا كله بهدف الترويع وربط الإيمان الغيبي بالخوف، ذلك ان الخوف اذا كان سبب استمرار المؤمن في ايمانه فسيكون ايماناً فاسداً لا قيمة له. بل ان الأمر الاكثر غرابة ما ورد في حديث البخاري ” إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه .. ” فهذا الترهيب في دفع المؤمن للمعتقد الخرافي، من شأنه ان يهز العلاقة الروحانية بين العقل الذي تصل مداركه الإعتقادية الى حد الشك، وبين تشويه نفسية المؤمن في تقويض عقله بالإيمان المطلق، فهذه كلها تترسخ في الأمراض النفسية التي تولد جيلاً لا يرى مكانة كيانه الأ اداة لا قيمة لها في عالم الغيب من خلال العبادة التي تلغي العقل. لو تتبع العقل النقلي في مسار التاريخ الوثني لكانت عقيدة النار حالة وثنية لا علاقة لها بالغيب. يبدأ التاريخ الاعتقادي في الغيب من عالم الأموات السومري هناك في الجحيم السومري حيث تمضي جميع ارواح الموتى بكل اطيافهم الخيرة والشريرة، فالكل يحتفظ بنفس المكانة، ففي الألواح السومرية ان احد الملوك قدّم الهدايا الى آلهة العالم السفلي حيث انتقل لعالم مطلق توفر فيه البقاء الأبدي، فهو انتقال من الحياة الدنيا الى عالم الخلود، فالعالم السفلي من خلال فتحات الأرض ومنها فتحة تغرب منها الشمس من القبر، حيث تكون روح الميت الى ارض اللاعودة حيث تستقر في نهر العالم الأسفل فيكون هناك هابور ملاك ذو رؤوس اربعة يحييه برأس الطير لينقله الى الطرف الآخر بقارب، فيدخل بوابات مدينة الموتى الى العالم الأبدي.
هذا الشكل الخرافي للجحيم السومري، يقابله عقيدة الجنة والنار في الهندوسية التي تختلف كلياً عن عقيدة الجنة والنار في الأديان الإبراهيمية. ففي الهندوسية تكون الجنة لأصحاب الإعمال الصالحة فهم يكونوا مؤهلين للوصول الى [ موشكا] مرحلة الانتقال لنيل حياته الأخرى عبر تناسخ الأرواح، اما النار تمثل تطهر الجسد من الذنوب اذ بعد ان يعيش معانات التعذيب يرتدي جسداً جديداً فالروح تعود بعد الموت لتحل في جسد آخر، تتطهر كي تعود الى الله، بعد تطهر الجسد الجديد يعود الى الارض ثم تعود الى الل مي تتحد به، هذا الشكل العقائدي في الهندوسية تشبه الى حد بعيد مسالك الارواح في العالم الروحاني للاديان السماوية، هناك كما نرى خيطاً مشتركاً تجمع بينهما الأرواح، اي بين الوثنية والاديان الابراهيمية. كلاها نسيج عقائدي مستمر بهدف ترسيخ عقيدة الغيب لكن احدهما عقيدة وثنية وهي الاصل وعقيدة الأديان السماوية هي تطور مثيولوجي لعقيدة الوثنية. بحسب عالم الأجتماع والفيلسوف الفرنسي اوجيست كونت ” ان العقلية الإنسانية قد مرت بثلاث مراحل تصاعدية من مرحلة الخضوع للدين وهي الدور اللاهوتي الى مرحلة الخضوع للميتافيزيقيا الى المرحلة العلمية او الوضعية وفي هذه المرحلة الأخيرة يستكمل العقل استبعاده ورفضه لكل المقررات والاصول الدينية والميتافيزيقية وآثارها ” (5) هذا الاقرار ينطبق الى حد بعيد على المسار التاريخي للفكر الديني الذي انطلق من مرحلة التأمل غير العقلاني الى الفكر المنطقي والاستدلالي، الى مرحلة جعل الدين حالة تاريخية استمد منها العقل الإنساني الكثير من تأملاته الغيبية التي لم يجد لها جواباً في العصور التي عاشها بحثاً عن الحقائق الكونية. اذا كانت نار جهنم في الاسلام هاوية سحيقة لها سبع طبقات مرتبة فوق بعضها البعض وان قعرها اشد حرارة ولهيب من اعلاها فهي في الديانة الزرادشتية مقدسة ولها هياكل بل وكان هناك ارتباط عقائدي بين قداسة النار والشمس. صارت المسيحية واليهودية تتقاسمان الفكر اللاهوتي والاخلاقي بخصوص وادي جهنم بتعبير بحيرة النار وهو المكان الابدي لغير المؤمنين وللأشرار. يعذبون بنار لا تنطفأ ودود لا يموت، هو مكان اللعنة. كما نرى ان الموضع ارضي ولا علاقة له بعالم الغيب. اشار سفر دانيال واخنوخ، الى عقيدة النار، وهي عقيدة انتقلت لاهوتيا بين الأرض والعالم الاخروي، مما يقدم لنا تراث عقيدة النار الارضي واللاهوتي انها عقيدة تطورت بحسب المعتقد العقلي للإنسان وتدرجت في العقيدة التي انتجت الفكرة الحقيقية ان عقيدة جهنم عقيدة ارضية لا علاقة لها بالسماء.
في انجيل مرقس ” وان اعثرتك عينك فاقلعها، خير لك ان تدخل ملكوت الله اعور من ان تمون لك عينان وتطرح في نار جهنم، حيث دودهم لا يموت والنار لا تنطفأ ” وكما ذكر في كتاب وهم الإله تعليقاً على نص مرقس ان ” مهما كانت صورتهم عن الجحيم فيبدو وكأن كل هؤلاء المتحمسين لنيرانها يشتركون بلذة الشماتة من الخاسرين وبأنهم من الناجين، اول من قال بذلك من علماء الدين توماس الاكويني في كتابه [ سوما تيولوجيا ] “ القديسون سينعمون بالحياة السعيدة وبركة الإله الوافرة بحيث يسمح لهم برؤيا عقوبة الملعونين في جهنم ” ... الخوف من نار الجحيم يمكن ان تكون ملموسة جدا حتى بين العقلانيين ” (6) كذلك نرى ”... من بين اقدم النصوص الادبية العالمية التي تتحدث عن جهنم هي الالواح الأكدية من الالف الثاني قبل الميلاد انها تروي الحوار الذي جرى بين البطل كلكامش وصديقه انكيدو الذي صعدت روحه من الجحيم، فالرؤيا محزنة : تتيه الارواح في مكان مظلم مشحون بالغبار ... ” (7) هذه النصوص قدمت الدليل التاريخي طبيعة الجذور الوثنية لأصل عقيدة النار، لا شك ان ملحمة كلكامش قد سبقت الفكر الديني التوحيدي في وضع عقيدة الجحيم كحالة إلهية غيبية تجسد عدل الإله او ظلمه ان صح التعبير. إن الفكر الديني امتد عبر المعتقد الغيبي الخرافي في عصر الوثنية الى استنباط عقيدة النار كبديل رادع لحالة الشر والظلم ووضع مهامها على عاتق إله الغيب، الغائب عبر الزمن ومازال الحاضر عبر المعتقد، لكن : ” لم يتناول العهد القديم حتى القرن الثالث قبل الميلاد اي حتى عصر متأخر عندما كانت كل الديانات الاخرى لها مفاهيم راسخة عن جهنم، ذلك ان التفكير ” باحتمال وجود عقوبات يفرضها الله على الاشرار بعد الموت قد بدأ يظهر انطلاقاً من القرن الثالث قبل المسيح، كان ذلك بتأثير الحضارات الاخرى اكثر مما هو تطور داخلي للفكر اليهودي، وفي الوقت الذي ظهرت فيه المسيحية كانت الاوساط العبرانية كثيرة الانقسام حول هذا الموضوع الذي يتكتم حوله العهد الجديد اقصى التكتم، وانه في سياق نص خاص هو الأدب الرؤوي تكونت الصورة الاولى عن مكان العذاب في النار والدود .... ” (8) هذا الشكل الأدبي اضفى العديد من الرؤى الغيبية فقام بترسيخ مبدا عقيدة النار، كما برهن اثبت على سبيل المثال سفر الرؤيا ليوحنا اللاهوتي ” وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة، فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت، الذي هو الموت الثاني ” (9) لقد درجت عقائد الرؤى على اظهار عقيدة النار بحسب ما ورثته من معتقدات الوثنية، قدّم التراث الديني للديانة المصرية القديمة وكذلك في المسيحية ان بحيرة النار وصف كمكان لإبادة الاشرار في الحياة الآخروية، ظهرت كذلك هذه البحيرة في اعمال افلاطون اذ تم تعذيب ارواح الأشرار حتى ان بعض الأشرار يبقون في الجحيم الأبدي وهي الفكرة التي تبنتها العقيدة الإسلامية. لقد سبق الدين المصري، اليهودية والمسيحية، وكذلك الإسلام في ان ينال الأشرار عذاب بحيرة النار. اقتسبت الأديان السماوية من الدين المصري القديم عقيدة النار، ونرى كذلك في سفر اخنوخ ان البحر الميت اتخذ كمكان لعقاب الأرواح الشريرة، فمن نهر النار الذي اهلك اعداء اهورا في كتابات الزرادشتية الى بحيرة النار في معتقدات رؤى المسيحية. ” ان تعاليم العهد الجديد التي تتحدث عن الجحيم هي اجمالا غامضة جدا ومشوّشة فالعهد الجديد يقتبس بعض العناصر من التقليد الرؤوي ومن الاسينيين ومن جهنم الارضية ... وانطلاقا من هذه الاسس الهشة راح التقليد المسيحي الشعبي من جهة واللاهوتي من جهة اخرى يشيد هذا الصرح الجهنمي الضخم لغاية اخلاقية وراعوية وعقائدية في آن معاً ” (10) لقد تطوّر المعتقد المسيحي بحسب التراث اليهودي، والدين المصري القديم وتراث الوثنية، استدراج سلسلة العقائد الغابرة في عقيدة النار، انها تطور عقلي لاهوتي سلك طريق الشعوب والحضارات، فلقد كان لابد لعقيدة الخير ان تنتج المعتقد الغيبي للجنة، كذلك نتجت المعتقد الغيبي لعقيدة الشر ان تكون نار جهنم او بحيرة النار بمختلف مسمياتها ايمان لواقع اعتقادي، رغم ان الأديان لم تتمكن من حل مشكلة الشر، إلا انها بقيت عقيدة غيبية قدمها التاريخ كنشاط عقلي لاهوتي يبقى ضمن التراث الديني، لقد فقد مفهوم الجحيم على مدى القرنين الأخيرين الكثير من معناه النفسي والفكري وصارت عقيدة الجحيم تتضائل في تأثيرها اللاهوتي كما فعلت سابقاً بسبب تطور عقلية المجتمعات العلمي وعالم الحداثة الذي قدم الكثير من التفسيرات المنطقية في مناهضة المعتقدات الخرافية وجدواها حتى تحرّر الفكر التقدمي من معتقد الغيب وصار البديل عصر العلم بما يقدم البرهان على بطلان المعتقد اللاهوتي فجهنم الأرضية وان تعالت في سماء الغيب تبقى ارثاً تاريخياً ليس اكثر.

مصادر البحث:
1 - دائرة المعارف الكتابية، ص 556 ، تحت كلمة جهنم ص 1186 ، المجلد الاول، المحرر وليد وهبه بباوي، دار الثقافة.
2 – سورة البينة، الفقرة 6 .
3 – سورة الواقعة ، الفقرات 1 – 9 .
4 – سورة الواقعة ، الفقرات 51 – 56
5 - ص 56 موسوعة العقيدة والاديان، دراسات في الاديان الوثنية القديمة، د. احمد علي عجيبة. دار الآفاق العربية.
6 – وهم الإله، ص 325 ، ريتشارد دوكنز، ترجمة بسام البغدادي.
7 – تاريخ جهنم، ص 20 ، جورج بنوا، منشورات عويدات، لبنان.
8 - تاريخ جهنم، ص 41 ، جورج بنوا، منشورات عويدات، لبنان.
9 – سفر الرؤيا، الاصحاح 21 ، فقرة 8 .
10 - تاريخ جهنم، ص 50 ، جورج بنوا، منشورات عويدات، لبنان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي