الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحمد الحسيني من خلال محمد عفيف الحسيني

عبداللطيف الحسيني
:(شاعر سوري مقيم في برلين).

2022 / 8 / 29
الادب والفن


محمد عفيف الحسيني

جمال عبدالناصر، يخطب بالكردية، في قامشلو

1

تتشابك التجربةُ الشعرية لأحمد الحسيني، والحياتية، مع تجربتي: قرابةً، صداقةً، شعراً، مكاناً، منفىً، جيلاً، تدبيراً لطهو النزق، وأخيراً، روحاً؛ وتختلف هذه التجربة، اختلافاً فاجراً، أعني به اللغة، هو يكتب بالكردية، وأنا بالعربية. لغتان متضادتان. لايجمعهما إلا الجِوار الجغرافي فقط. نصفُ عُصارة جمعتنا، ونصفُ عُصارة فرقتنا؛ وغامرنا، مغامرة الحياة من عامودا إلى السويد. النزيف أخذه قبلي بأشهر إلى السويد؛ ثم التقينا في ثلج السويد. أتذكر قبل رحيله، كنتُ أخدم في الجيش الباسل، وكنتُ في إجازة غير باسلة، مررنا خلل دكاكين عامودا، صوب الدرباسية، مررنا خلل ألغام الترك القاحلة، وتحدثنا عن النزيف: سيرحل هذه المرة نهائياً عن عامودا، بعد تجربة حب في خزائن العادات والفتنة، بعد تجربة أخرى في الغمامة التي تراكمتْ على عينيه الشابتين ـ المرض، والمعالجة في روسيا العظيمة، ثم العودة، ثم اختطافاً إلى السويد، ثم العودة إلى عامودا، ثم ذلك المشوار المسائي، وهو يخبرني بأنه سيمشي، أبداً، ينتعل حذاءً من المغامرة إلى الاسكندناف (لنتذكر العابر الهائل بقدمين من الريح). وأنت؟ ساءلني. قلتُ: سآتي أيضاً. كنا فقيرين كذلك. كان يشتغل في الفرن، وهو خريج كلية الفلسفة الدمشقية، وأنا كنتُ أخدم في جيش الوطن الباسل، إجباراً، وكنتُ خريج كلية اللغة العربية الحلبية.
الحياة الصعبة بجودة الشمولية، أنستْنا أننا نكتب ونقرأ ونحب محمد شيخو المغني، كان الريش ينبت على أطرافنا، لنتحول إلى طيور خرافية نحيفة. فلم نتحولْ إلى طيور خرافية، لكن، نبتتْ لنا قوادمُ، وخوافيَ، لنطير، فطرنا؛ طيراناً بُراقاً. وكان محمد شيخو القتيل، قهراً من المخابرات، يتهادى آنذاك من بيته، لاأعرف أين بيته، إلى مقبرة الهلالية، سنكتب تالياً أنا والشيخ أحمد نصاً مشتركاً ـ عن العرق النافر في رقبته، وهو يعود من استنطاقات المخابرات، التي لاتنتهي، بل، انتهتْ، بالشمع الأحمر على بزْقه وشجنه.
كان علينا أن ننزح، فنزحنا. كان علينا أن نترك أرواحنا القديمة، وأصواتنا، تخفق فوق "شرمولا"، فتركناها، ولازالتْ هناك. يقول شيخي الكبير "إبن عربي"، بأن الأصوات البشرية، تظل في السماء معلقة مثل النجوم، تنتظر عودة أصحابها. تقرّ هذه الأصوات الفانتازية في الأعالي، ويصيب مفاصلها الانتظار، ولايأتي أصحابها. كانتِ الأسرارُ هي أسرار مظالم النظام الشمولي الشقيق لشمول الدولة الشقيقة آنذاك؛ لاأعرف بعد ذلك المشوار، أين ذهبتُ، وأين ذهب الشيخ الراحل.

2

"إسمي جانو،
وخالي لا إسم له، لاأعرف إسمه. في هذا المساء يغزل الهاجسَ الأبدي على أبواب الشمال، ويفكر عميقاً. وأنا وخشخشة حزام أمي، خشخشة أشواك طوروس الأليف. يدير خالي ظهره لريح القدر، ووجهه صوب قاموس الحدود القلقة. ينظر إليَّ، وإلى تلك الخصلة الجميلة المدلاّة على جبيني، بنظراته الحادة كصقر بري، يديرها بين سطور الحدود والألغام، كان دخان السجائر ينسحب نحو الألغام، ولهاث قافلته ينسكب فوق خوفي. سنتجه هذا المساء إلى الشمال الملغوم".

3

مابين بيت الشيخ عفيف، وبيت الشيخ توفيق، مسافة نداء جهوري: جار لجاره، لم أكن قد زرتُ بيتَ عمي، ولم أكن أعرف أن لي عم آخر، باسم الشيخ توفيق، غير الشيخ توفيق ـ أستاذي ـ قبل ذلك، قبل أن تتفجر الألغامُ بالألغامِ. ولم أكن أعرف بأن أحمد حسيني، قريبي، كان ذلك في السبعينات، وكان خاله، قد مزقته ألغام كمال أتاتورك، بالقرب من أنفاس عامودا، صعوداً إلى الجبل، كانت الجثة، أو كادت أن تتفسخ تحت ضربات التخوم الممنوعة، المحروثة بالألغام، استنجد الخال القتيل بالآلهة، لتجد له من يجره من بين عواء بنات آوى، إلى بيت الأخت "فاطمي" ـ والدة أحمد حسيني ـ، فأنقذته الآلهة؛ ذهبتُ بفضول القريب الجاهل، أرى الميت، فلم أرَ الميتَ، بل شممتُ رائحةَ البارود المنبعث من تلك الغرفة الشمالية بدرجاتها الأربع، واللامعة بملاطٍ إسمنتٍ، كان الخالُ مسجىً، وصموتاً، وتغطيه بطانية برتقالية من وبر الماعز. لم يكن الخال يتحدث، كان الخال قد مات. ولم أعرف أحمد حسيني. بل عرفتُ أن هذا البيت، هو أيضاً انتماء لي إليه. ربما بدأ أحمد يكتب الشعر، منذ ذلك اليوم، هكذا سأخمن الآن، وربما الألم الشعري الذي رافق تجربته الشعرية، بدأ منذ ذلك الوبر للماعز البني، المنسوج على جسد الخال القتيل، وخيال الخال القتيل، وربما، التطبع بطباع الموتى، هو حيرة الموت، إن جاء في عمر مبكر. هكذا تطبع أحمد بموتٍ ـ فجيعةٍ. أن يتمزقَ جسدُ القريب، وأن تكون له رائحة البارود، وهو الذي لم يغادرِ المنزلَ، إلا منذ يوم، من التسلل بين الألغام، وتفجر اللغم به. غسل العم الشيخ صدرالدين الجثة، ربما لم يغسلها، لاأتذكر، لكن، أتذكر أن عطرَه الذي رشَّه على البطانية، فارَ، العطر المدوخ الثقيل، الذي يشبه زيتاً كثيفاً، مستحضراً من نباتات الحدود القلقة، النباتات البرية التي تنبت على حافات الألغام.

4

كان "سعيد ريزاني"، يتدرب على الأغاني، يدرب حنجرته على الشجن الغنائي الكوردي، في غرفته الجنوبية الصغيرة، الغرفة التي تبتعد عن غرفة الخال برائحة باروده، مسافة بضعة أذرع قليلة. سعيد درّب صوته على الغناء، فغنى، وغنى معه "فصيح سيدا"، الأنيق القصير العشريني، الذي كان يكتب الشعر، ويعطيه للملحن المغني، يلحن ويغني ويعزف من شعر قتيل آخر. فصيح سيدا، الذي مات أيضاً، برائحة الكاز، هذه المرة. غاب آخرُ، من ذلك الحوش، الذي فيه شجرة توت، ستظل حية، تراقب الغادين والآيبين، وتدعو أن يعودوا، فلا يعودون. هل من أغانٍ تسجيلية بصوت الإثنين، شاعر ومغن، يدوزنان أوتار الحياة. ويدوزنان مرور فيلة البعث السبعيني في عامودا؟، المرور الذي جعل من الحياة في ضرورة الموت، أو النزوح. فنزح أحمد حسيني، إلى بيروت مع عائلته النازحة.

5

لم أعرف "كسرى عفدي"؛ كسرى، مات بحريق انفجار، عبوة غاز من ماركة وطنية باسلة، انفجرت به. كان كسرى عفدي شاعراً، لاأعرفه، ولم أقرأ له شعراً. من دوّن شعره؟ أين أخذته الحياة ـ الغاز؟ وأين استقرت قصائده الناقصة؟.

6

شاعران، يقول الشاعر أحمد حسيني، عنهما، أنهما السبب في إشعال الرحيق الشعري بالكردية، في روحه. ثمت من تدابير أخرى: الرحيل.

7

كانت بيروت، عاصمة الفقراء الكرد، في السبعينات، كرد جهات كردستان أجمعين؛ قبل احتلالها من الشقيقة، ثمت حرية كثيرة، وازدهار تجاري، وغبطة البعد عن الحزب الشمولي، أينما كان، قبل أن يمتد السرطان، وينتشر في لبنان، وكان سليم بركات من أوائل الذين استقرت بهم المطافات هناك، أعني من الكتاب الكرد السوريين، وكنا نسمع بأن شاعراً كردياً من بين ظهرانينا، غير مستأنس أبداً، وجبلي مثل وعل، غادر إلى الأبد مكانه الأول، وهناك، في بيروت البحر، ستهاجر أسرة أحمد الحسيني من تقشف عامودا، إلى العيش في بيوت الصفائح. كم عاشت العائلة بالقرب من أنفاس البحر؟. هاجرت في عام 1973، ومكثت هناك، لمدة ثلاث سنوات، سنة في جهنم الحرب الأهلية. ثم عادت الأسرة مجدداً، إلى عامودا. ولم أكن أعرف الشاعر بعد، ولم يكن يعرفني.
يقيناً، أنهما لم يتعارفا، البحر والشاعر، فالعمل الذي ينزف الوقت والروح والاستغلال في معامل لصنع الآلهة ـ أرباب الأعمال، يقتل كل شيء.
كل شيء يجري في عامودا، ملولاً، بدءاً من الولادة إلى الموت. بدءاً من حريق السينما الهائل الفاحش، في الشهر الحادي عشر من العام الستين، في القرن العشرين، إلى الحرائق اليومية التي تندلع في أرواح الشباب، وهم يقتادون بأيدي الأمن بتنويعاتها الفسيفساء الخرافية، لم يكن ثمت من متنفس بسيط لأن تكون كردياً، في مكان كردي، هو مكانك، وفي هواء كردي، هو هواؤك، وفي وحل كردي هو وحلك. كانت المدارس الأرمنية والسريانية منتشرة في الجزيرة، وكنتُ أحد الذين درسوا البدايات فيها؛ لكن ليس من مدرسة كردية.
الحزب الشيوعي، بطبعة خالد بكداش الكردي، والأممي أكثر من لينين وماركس وإنجلز والآلهة، كان يستحوذ على الشباب الكرد، لأن الزعيم الأوحد للشيوعية، كردي، وخرَّج شعراء أكراد ـ بالعربية ـ في فحولة تمجيد الشيوعية وبكداش وآل بكداش وحذاء بكداش وظلال بكداش في ناميبيا وجنوب أفريقيا وكوبا والمريخ، وبالطبع في الشآم، حيث مقام الإله الشيوعي، لكن نسي هؤلاء الشعراء أن يكتبوا عن كردستان، كانت أقدامهم الشاعرية الرهيفة تتعثر بعتبة كردستان، عندما يقتربون من هذه العتبة، لأنها قريبة، كانت خطواتهم الشاعرية أبعد، كانت قريبة جداً من خطوات المارد الجبار!.
أحزاب كردية أيضاً، كانت تتحرك تحت رمال البعث الكثيفة، ولها تجربتها العنيفة في السجون الوطنية، منذ الستينات، حيث شؤم الوحدة بين مصر وسوريا، الشؤم الذي طال زيارة جمال عبدالناصر لمدينة قامشلي، في الستينات، لماذا جاء إلى هذه المدينة المنكوبة ـ بعد ربع قرن ـ؟، جاء وخطب بصوته الجهوري للكرد الذين لم يفهموا من لغته سطراً واحداً، وذهب السيد الرئيس، وكانت السجون الوطنية الموحدة، تغص بكوكبة من المتنورين الكرد الأوائل، من شعراء ولغويين، وكتاب تاريخ، وكتاب فلكلور؛ حنينهم التدويني، كان يقبع في السجون، وكانت الأحزاب الكردية في بداية تمريناتها على التنظيم، البدايات التي قذفت ببعض قادتها خارج وطنها (نورالدين زازا نموذجاً). كانت الستينات من القرن الماضي، ستينات عذاب حقيقي لكرد سوريا: الجنين السياسي تكوّن، الجنين السياسي قمع. الالتفات الى الأدب الكردي، كان قد نضج، منذ عقود على يد المعلم الفذ "جلادت بدرخان"، من خلل مجلته الفذة "هوار"، وبمعية الجيل الرائد المؤسس: جكرخوين، أوسمان صبري، ملا حسن هشيار، قدري جان، ملا أحمدى نامي.. الخ، المجلة التي كانت توزع في عامودا عبر مراسلها آنذاك أوسي حرسان. بالطبع لايمكن نسيان حسين حزني موكرياني، الأب المغامر، الذي أسس في حلب، أول مطبعة كوردية عام 1915.
جاءت ـ بعد الانتداب الفرنسي ـ الحكوماتُ الوطنية، ثم جاءت الوحدة، فخرّبت الحياة الكردية في الجزيرة، وكانت الثورة الكردية في كردستان الجنوبية تشتعل، آنذاك، يقودها العائدُ الحديثُ من بطريركية الشيوعية، الملا مصطفى البارزاني، الشرارات الثقافية كانت تصل إلى عامودا، عبر الثورة، وعبر بعض المنشورات، والشرارة الأكثر ثقافية، لازالت تستقر في الحجرات الكوردية: الدروس الدينية والأدبية والخرافية، كانت في ذبالاتها الأخيرة، لكنها تركتْ أثراً كبيراً على مجمل الزمن والحياة والشجن الكردي في الجزيرة؛ تلك الحجرات التي انطفأت، بموت علمائها الكبار: سيداي ملا عبيدالله الكبير، الشيخ الخزنوي، الشيخ إبراهيم حقي، والجيل الثاني: سيداي ملا عبداللطيف سيدا؛ انتقلتْ علومهم إلى خزائن المخطوطات الثمينة التي أتلفها الزمن، كذا. لكن المخطوطات الفقهية، ستنتعش هذه المرة ثقافياً، على يد بعض تلامذة تلك الحجرات، سينسى هؤلاء تدريبات الفقه الشاقة والمواريث الأشق، وألفية ابن مالك، والملا الجامي، وتفسير إبن حجر، ليستقرَّ على بضعة كتب صفراء مشقوقة، هي كتب الكرد الباقية، في الزمن الهائل لهجراتهم ونزوحهم من بطشٍ إلى بطشٍ آخر. ستصل بعض هذه الكتب إلى يديِّ أحمد حسيني.

8

في الستينات، في الشهر الحادي عشر، من عام 1960، سيتفجع أهل عامودا، بحريق سينماها الهائل، ليذهب مائتان وثمانون تلميذاً (من صفوف البدايات) إلى المرتقى السماوية، بعد أن ارتقتْ بهم النيرانُ الهالكة إلى الاستنجاد بأمهاتهم، بلغة أمهاتهم، وليست لغة الزعيم جمال عبدالناصر، الذي ارتقى ذلك اليوم مبنى البريد والبرق والهاتف، وخاطب... لازال الزعيم على المبنى يخطب، لكن باسم آخر. احترق في الحريق، الأخُ للشاعر أحمد حسيني، "عبدالصمد". كان في الرابعة عشرة من عمره، احترق، ومات، وقبره بشاهديه الرخام، الذي يضم حرائقه، لازال يضم الجسد المتفحم المرتجف، يستقر تحت بضعة شجيرات من صنوبر الله، لها رائحة الحريق، وليست رائحة الطفولة العذبة، والصنوبر المتفجر.
قبل الحريق، بيوم، أخذ كمال شانباز، بيرقاً كردياً، ووضعه على سارية مدرسةٍ في عامودا، أَنزلَ علم الوحدة الموحدة، وزرع علم الكرد على أرض كردية، أغتيل تالياً، صاحب البيرق في بيروت السبعينات!!!. مزقته طلقات الاغتيال.

9

كيف يمكن الحديث عن الأثر الذي سيخلف الموت الفاجع، على شاعرية شاعر، هو خليط الألم؟ بل، كيف يمكن إنقاذ شاعرية شاعر، من الألم ـ كاهن الانحدار من الفنية، إلى العاطفة؟.

10

لم تكن اللغة الكردية متداولة كتابياً، إلا في القليل، آنذاك، بل هي في القمع المتشنج العصبوي العروبي، وليكن أيضاً الفاشي. سلالة زكي الأرسوزي وميشيل عفلق. كانت اللغة الكردية مثل مصكوكات نادرة، في أوائل الستينات، بعد الفورة الأربعينية والخمسينية، لنفس هذه اللغة في ظلال الفرنسيين، ثم الانسحاب العنيف والإجباري للغة الكردية، تحت ظلال الحكومات الوطنية، الأليفة مع أيقونات ميشيل عفلق، كان الكتاب الكردي ممنوعاً، والغناء الكردي ممنوعاً، والوحل الكردي ممنوعاً، وشهوة الكردي للكردية باللغة الكردية ممنوعاً، وسياق الكردي في سطره الأزلي عن كردستان ممنوعاً. لم يكن غير الخيزران، وهو يفلق باطن الأقدام. الخيزران اللدن المستورد من ماء الشمولية الطاهرة، التي كان يتطهر في أحواضها السيد الكبير خالد بكداش، في حين كان بنو جلدته، يتطهرون بماء الأقبية.
اللغة ـ هي جهات الكائن إلى آلامه. اللغة الأم. وليست لغات الآخر.
في أواسط الستينات، كانت الحركة الكردية الثقافية، شبه ميتة، بعد تلك الفورة، كان مولاي الشيخ أحمد الزفنكي، مفتي القامشلي، آنذاك، قد أنجز ترجمته الحياتية الكاملة، في ترجمة أهم أثر شعري كردي، قاطبة، إلى اللغة العربية، أعني به سِفر الملا الجزيري، من لغته الكردية الصعبة، إلى لغة أصعب. وطبع الكتاب بجزأيه، آنذاك في ظلال بيارق جمال عبدالناصر في القامشلي، كيف تمت الطباعة، وكيف تم تمرير أثر كردي، آنذاك!؟، سؤال في صيغة الجهل بالنسبة لي؛ لم تكن أواسط الستينات، سوى ركود فسيح للأدب الكوردي في سوريا، لكن، الغناءَ سيتصاعد من حنجرة المغنين الشعبيين: رفعت داري، حليم حسو، دمّر علي، جميل هورو، خضر أومري... وغيرهم. سيسطو هؤلاء بحناجرهم الشعبية، على مجالس الكرد الشعبية.

11

ولأنني أتحدث عن شاعر، في الألم، شاعر لاأعرفه حتى الآن، باسمه "الشيخ أحمد حسيني"، لم أعرف كيف تكوّن كردياً، وليس عربياً، مثل الجيل الكتابي الأول: حامد بدرخان ـ الأممي جداً، وتالياً، الكردي جداً ـ لكن، قبل وفاته بقليل، سليم بركات المعلم؛ ثم تالياً، نيروز مالك، دحام عبدالفتاح، فواز حسين، سيف الدين خليل، جميل داري، محمدنور الحسيني، زردشت محمد، إبراهيم اليوسف، طه خليل، وأنا المدوِّن. جيل آخر: أحمد عمر، لقمان ديركي، حليم يوسف، وأسماء كثيرة أخرى، ـ أتحدث عن الجزيرة، هنا ـ لأنني لست مطلعاً بما يؤهلني للحديث عن تجارب كردية في كوباني وعفرين والشآم ـ، أخذتنا البدايات دون استثناء إلى اللغة العربية، والاستثناء كانوا قلة، استثناء الكتابة بلغة الأم بأسرارها وحقائقها الخفية منها والواضحة؛ ليكن المشهد، هو مشهد النزيف من الكردية إلى العربية، ليكن المشهد الانغمار في شأن غير كردي بلغة غير كردية، ذهب الكثير إلى جهات كثيرة، غير كردية، في حين كان الكرد بحاجة إليهم. مساءلتان رئيستان مخربتان آنذاك للأدب الكردي في سوريا: الحزب الشيوعي السوري بطبعة خالد بكداش، ثم بتفرعاتها تالياً، والإعلام الكردي الفقير، الاهتمام بكل شيء سياسي، ونشر كل شيء سياسي ـ وإلى حد ما التاريخي ـ لكن الإبداعي، كان الاهتمام صفراً، اهتمام بدايات جاء من رابطة كاوا، في بيروت الثمانينات، لكن، الحزب هيمن بنشر سلسلة لاتنتهي من كتبٍ بالعربية المشوهة إملاءً ونحواً وصرفاً وعلامات ترقيم، والتي بالتالي، تشوه مايُقدم. الأحزاب الكردية في سوريا، وإلى اليوم، أغلب نشراتها بالعربية، إلا القلة، لنتذكر مجلات الأحزاب الكردية: الطريق اليسارية، (شبيهة طريق اللبنانية الشيوعية)؛ الحوار (الحوار العربي الكردي!)، الاتحاد ـ هفركتين تالياً (التي في كل عدد منها بضعة عشرة من صور السكرتير النشط)، سورغول، مجلة الشمولية الكردية العنيفة (وصور القائد الأبدي للعنف).
أين ستستقر دعوات الكرد السياسية، عندما لانجد مقالة لأحد الكوادر بالكردية، إلا في الندرة، ومن أواليات هذه الأحزاب، اللغة، قبل السجون والاضطهاد والاضراب عن الطعام، والبحث عن روح الكرد. الأحزاب الكردية، شجعت الكتابة بغير لغة الأم، من خلال مطبوعاتها بغير الكردية، وإلى هذا اليوم؟!.
في ظروف فلكية كهذه، ظهرت تجاربُ شعراء يكتبون بالكردية ـ وهي بالطبع فضيلة ـ، وكان أحدهم أحمد حسيني.

12

"صَدَقة"، من جهات الله الكردية، القريبة من بحيرة "وان"، و"بايزيد"، ومن أنفاس شرفخان بدليسي الكبير، الأشقر النزق المدخن الشره، صاحب الطوابع الوطنية لدوائر الوطن غير الوطنية، صاحب الكتب المنتقاة المعروضة بالعربية في صدر محله الصغير، على خيوطٍ بلاستيكٍ من نجيب محفوظ إلى توفيق الحكيم، المجلدات الكاملة المركونة على خشبٍ طبقاتٍ: أعمال طه حسين، أعمال الأنبياء الحفاة، أعمال الكردي النزق الآخر: عباس محمود العقاد، وكذا، أعمال أغاثا كريستي. لكن.. في الأسفل من تلك الطاولة التي تحتوي على الطوابع الوطنية، وتحت مغلفات قهرمانات ـ شهادات الزواج، شهادات الولادات، وشهادات الوفيات، كانت تستقر بضعةُ كتب بالكردية مستنسخة، تستقر رجِفةً خائفةً ممنوعةً، يصوّر السيد صاحب تلك العلوم السرية، تلك الكتب، يجلدها في البيت بأنّاة، ويقص أطراف صحائفها بأناة، ويلصق الصحائف بورق مقوى، وبأناة، ويعرضها لمن يريدها، يقرأ في ظهيرة عامودا الخرافية القتّالة، بضعة سطور من الملا جزيري المنسوخ، ومن مم وزين المنسوخ، ومن ترجمة الزفنكي الكبير، للشاعر الكبير. يقرأ ويدخن، يدخن ويقرأ، ويخاف من مرور مخابراتٍ، أو شُبْهة مخابرات؛ يعرض كتبه ـ كتب الكرد، لايعرضها، بل يمررها لمن له الهوى في لغة بعيدة عن المخابرات. كان أحمد حسيني، أحد الذين استهواهم كتب "صدقة"، أسفل طاولته المعذَّبة، وأسفل روح شرفخان بدليسي من جهات بحيرات الله المنسية. بحيرة "وان" أعني، وبحيرات الظهيرات الملولات في عامودا، حيث تخف حركةُ العباد، إلى القيلولة. تخف حركة "صدقة" أيضا، وهو على دراجته الزرقاء البيجو، يمر خلل أشجار الشيخ عفيف في حجرته، يقول له: إبن أخيك أحمد شاعر.
صدقة شريف، مات وهو يقرأ، ديواناً لتلميذه أحمد حسيني. هكذا سأخمن. ولِمَ لا؟.

13

في توتر الأجواء السبعينية، سيموت صديقٌ آخرُ للشيخ أحمد حسيني، "فصيح سيدا"، الشاعر الصغير المدرب بحنكة اللغة الكردية، وهو سليل ألغام الأحزاب الكردية آنذاك في الجزيرة، كان يكتب الشعر مسبوقاً بغنائية شعرية كبيرة، ومسبوقاً بلغة الرومانس، بعيداً عن جفاف اللغة السياسية، كان ينسل من أجواء السياسة في بيتهم على الأطراف الشمالية من عامودا، إلى غرفة سعيد ريزاني، على الأطراف الجنوبية من عامودا، ينسل عصراً أولَ إلى تلك الغرفة المبنية حديثاً والمطلة على خرابات الله وكروم الله؛ يجلس، يدندن شعراً كردياً، يتأنق، يسحب اللغة الكلاسيك إلى بعضٍ مما في روحه من المعاصرة، يشرب الشاي، ويشرب آلة الهارمونيكا، التي كان سعيد ريزاني ينفخ في روحها من روح أغاني الأفلام الهندية. مات فصيح سيدا في حرائقه الشابة عام 1975. وكان أحمد يترجم لغة شجرة التوت إلى لغة البيشمركه، بلغة جكرخوين الكلاسيك.

14

مات "كسرى عفدي"، أيضاً، وأيضاً في حرائق الجيران، أراد أن ينقذ الجيران في قامشلوكي من حرائقهم، فانفجرتْ به أسطوانةُ الغاز الوطنية. وكان صديقاً للبدايات الشعرية الكردية التي بدأت تستقر عند أحمد حسيني، من اللغة القوية والهادرة، إلى لغة، قوامها البحث عن الذات العاشقة، بدلاً عن المواضيع الكبرى؛ والشعر هو الذات أصلاً، ولتكن الذات العاشقة، التي ستحترق في حرائق بيئة رعوية. ليكن الهجران، إذاً.

15

في عام 1989، أواخر العام، كنتُ ومحمد كلش وإبراهيم محمد، قد غادرنا الشام، إلى بولونيا، بتدبير إلهي، وسماسرة السفارات، مقابل مبلغ معلوم؛ في وارسو الزمهرير المطار خرجنا، لانعرف أحداً، كان معنا آخر، شيوعي، كان سيأتي ببعثة شيوعية مباركة إلى بولونيا، كنا أربعة سنحط في بولونيا، كان يحمل معه منشورات النبي الأممي خالد بكداش، وفي المرور من جهة مطار إلى أخرى، اكتشفوا منشورات الرفيق الذي كان يتربع آنذاك في قائمة الجبهة الوطنية لمجلس الشعب الوطني، وليس الأممي، منشورات هي في التدليس للشمولية بطبعة البعث والاتحاد السوفيتي، أخذوا "رفيقنا الشيوعي"، لمدة شهر ونصف، حجزوه، إلى أن جعلوا أقدامه مثل أقدام الفيلة في الأقبية. وكنا الثلاثة نعوّل عليه، الذي أصبح معتقلاً، بأن يأتي أخوه الدارس في بولونيا، ليستقبل أرواحنا التائهة الخائفة في مطار بولونيا الزمهرير، فلم تسقبلنا سوى أشجار مقرورة عليها الكآبة والثلج والفقر، بعد الاطاحة بنظام الشمولية هناك.
خرجنا، اتصلنا مع أحمد حسيني، الذي كان قد سبقنا بأشهر قليلة إلى السويد، قلتُ له: أحمد لقد أتينا، اقتربنا من الاسكندناف، مائة فراسخ فقط. بعد ثلاثة أيام، في بولونيا، تعرفنا على الغجر هناك، الغجر الذين نشَّفت الشيوعية أرواحهم المتمردة، ورمت بنسائهم الجميلات السمراوات، أمام أبواب الفنادق، للتسول والعهر. كانت السفينةُ العملاقةُ تستقرُّ في السويد، وفي اليوم التالي، كان أحمد حسيني معنا في السويد. لقد انزلقنا مرة ثانية من أمهاتنا المكدودات، إلى أمهاتنا الشقراوات ـ السويد هذه المرة. وستبدأ رحلةٌ، هي رحلة الوصول إلى أن تكونَ منفياً، وتكتب الشعرَ في المنفى.
في مرحلة انتظار الإقامة، كتب أحمد حسيني، الشعر الذي دل عليه تالياً بقوة: الشعر الحنين ـ الشعر الحب الذي كان يلمع من بعيد.
الحياة الجديدة، ستأخذ كلاًّ منا إلى جغرافيا سويدية مختلفة، جمعنا نُزْل سكني سويدي واحد، لأشهر معدودة، ثم أبعدتنا الاقامات، وجدتُ نفسي فجأة في مكان معزول، لاأعرف أحداً، في كومونة صغيرة، وفي شقة كبيرة، تحيط بي أشجارٌ، ستظل تراقبني من النافذة، حتى في الظلام. أستنجد بأحمد حسيني، ليساعدَ خوفي من الأشجار المقرورة ـ هل كانتْ شجرةُ التوت بينها؟، كان يزورني، ثم انتقل أيضاً إلى مدينتي ـ هل كانت مدينتي؟. ثم ستأخذه الأقدارُ إلى ستوكهولم، أقدار العاصمة، حيث فيها النشاط الثقافي الكردي المتعدد. كان ثمة من تشكيل لاتحاد كتاب كردي، ببادرة مغامرة، ثم تشرذمت البادرة. كانت الفتنُ أيضاً موجودة في الزمن المقرور في الاتحاد المقرور الذي أصدر مجلة "وان"، ثم توقفت مجلة وان، ثم في حركة من المتاهة، متاهة المجلات بالكردية، في السويد غير الكردية، أقام الشيخ أحمد صلاته مع صلات الفذ جلادت بدرخان، فأشرف على مجلة، ستعتبر رائدة بحق في الثقافة الكوردية الحديثة، أعني بها مجلة "دوكر"، بسلطانها، سلطان اللغة الكردية الكرمانجية، وبحثاً عن الفن، وليس البحث عن المكان الكردي المفقود، كردستان. البحث عن الشعر.
المجلات ستتوقف. وستتوقف الحياة الثقافية الكردية، بشكل كثيف، اتحاد الكتاب الكرد القديم فشل، الصراع بين الأحزاب وصل إلى الخناجر المعنوية الكردية، في قاعات السويديين آنذاك. مثلما تفعل نفس الخناجر في الاتحاد الجديد، بعد عقد من زمن ثقيل، لكن، ليس في قاعات السويديين، بل في مواقع الكرد الأنترنيتية.

16

كان الأبُ، الشيخ توفيق الحسيني، يدخن، ويتراسل مع الفرنسي جاك بريفير، كلاهما يقضمان ورق التبغ، ويتأملان شمس المنفى، ويتراسلان. مات الأب وهو يأكل الزجاج؛ كانت له القدرة على ذلك، كما رأيتُ بنفسي. والشاعر، الإبن، يأكل الوقتَ في موت الأب في نهاية السبعينات. بل يأكل الضوءَ، الضوء الذي سيسحبه إلى مكائد عمنا المشترك "بورخيس"، ولغة المنفي الإغريقي الإسكندراني، إبن عمنا المشترك "كافافيس".

17

كنا نتجول في ستوكهولم.
كان يكتب الشعر بالكردية، وأنا أكتب الشعر بالعربية. وكنا في النزل السويدي، نتأمل سوياً عامودا. وكانت عامودا تتأملنا.
ـ لماذا لانطبع كتاباً مشتركاً؟ ساءلني أحمد.
فطبعنا كتاباً مشتركاً غريباً، هو بالكردية، وأنا بالعربية: حريق عامودا، حريق حلبجة، حريق محمد شيخو، حريق روحينا. ضم الكتاب ـ الديوان، تلك الحرائق. اللغة الشعرية لكل واحد منا لم تكن قد تخلَّصت بعد من الألم. طغى الألم الكثير على الشعر القليل؛ ومع ذلك نفد كل منا بشعريته من العاطفة الفجة، والصراخ. هكذا تترآى لي التجربة الآن، بعد مضي حوالي العقد والنصف عليها. كانت الطبعة ركيكة، والغلاف بلونين ركيكين، أنقذ الغلاف لوحة لـ بشار العيسى.

18

أخذتنا أقدارُنا، إلى أقدارٍ أخرى.
"عبدالباسط"، الشقيق الأصغر، ذلك الشقي الناري، بطباعه، سيجره مرضُ السرطان من قدميه، إلى قدم الموت، عام 1992، ولمَّا يكتمل الثلاثين من عمره.
كان أحمد حسيني، ذلك اليوم، قبل رأس السنة ببضعة ساعات، عندي، جاء من ستوكهولم، إلى غوتنبورغ، لنشاهد سوياً ثلوج بابا نويل، ولحية بابا نويل، وآلهة بابا نويل، ونشوي على مواقدنا، احتفالات رأس السنة، فشوينا خبر موت عبدالباسط، على نار السرطان.

19

أيةُ سيرة، أسردها؟
أسيرة الموت، أم المنفى، أم الشعر؟.
في عامودا، مررنا، ذلك اليوم خلل أشجار الزيزفون، مررنا بعتبة الزيزفون، استنشقنا الزيزفون، وهو يحدثني عن الرحيل من عامودا، إلى السويد؛ لكن، في السويد، مررنا ثانية، تحت أشجار الزيزفون المجاز، لكن، لم يحدثني عن رحيله من السويد، إلى بريطانيا.

20

عملنا أيضاً في "حجلنامه": كنا نسهر إلى الصباح، في نصف قبو، ندوِّن إخراج حجلنامه، وكان معنا في العدد الثاني، المشَّاء الآخر، المعلم سليم بركات. صديقنا القادم من فتنة اللغة العربية، إلى روح الكرد المعذبة.

21

تجربة شيخ أحمد حسيني، هي اختزال لسرد الحياة شعراً. بدأتْ منذ وقفة جمال عبدالناصر على مبنى البريد والبرق والهاتف في القامشلي، واستمرتْ مع الوقفة المبهمة للزعيم المفوه، إلى هذا اليوم، الذي لازال هناك يخطب ويخطب ويخطب، لكن، بلغة أخرى. بالتأكيد هي ليست اللغة الكردية، التي يكتب بها أحمد حسيني شعره.
شجرة التوت في بيت أحمد حسيني القديم، جانب السينما الصيفية، تراقب جمال عبدالناصر، وتهز برأسها، وهو يخطب ويخطب، بالعربية، لحشدٍ لن يفهم منه أي شيء، بالتأكيد. لكن، تفهمه شجرة التوت، في بيت أحمد حسيني. تفهمه، وتموت كَمَداً.

22

"يأتي الموتى،
يأتي أخوه،
وأمه تأتي،
يأتي أصدقاؤه،
يعود الندى،
وتعود سبّحةُ والده،
لكن، شيخ الورد لم يأتِ،
ولم يأتِ
قاضي محمد. كي قوباد. سوبارتو. تشالديران. بارزاني. بيران. بيازيد. سيباني خلات...
ولم يأتِ أسخيلوس،
لم يأتِ كافافيس".

***

غوتنبورغ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة