الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مُمَارسةُ آلموت

عبد الله خطوري

2022 / 8 / 31
الادب والفن


في قراءتي الأولى الانطباعية المتسرعة، لم أستطع فهم ربط علاقة آنتشار الجرذان بتفشي الوباء، ومع توالي تقدمي في القراءة، أدركت ما لم أدركه في البداية؛ ومع توالي السنين والاعوام وصنوف الطواعين التي اجتاحت القلوب والحلوم، آكتشفت شيئا من أسرار اللعبة..
من حسنات الوباء كيفما كان نوع هذا الوباء، الوعي بالذات، بحقيقتها بواقعها بمكانتها وهوانها، والتمييز بين الصالح والطالح فيها، وفيما يحيطها من عمق وضحالة وتبر وخشاش وكينونات نافعة وجرذان طفيلية بين مجموع النافعين الصامتين المثقلين بحرقة الأسئلة والطفيليين النزقين الناعقين..أما السياسيون، فقد آحترفوا الكذب، لأن الشعوب غاطسة في ممارسة التصديق.السياسيون آمتهنوا حِرَف الاحتيال، لأن تابعيهم غارقون في آمتهان الغباوة الزائدة عن حدها...أو كما قال كامو في طاعونه الصادم :

"Le mal qui est dans le monde vient presque toujours de l ignorance, et la bonne volonté peut faire autant de dégâts que la méchanceté, si elle n est pas éclairée".

لقد قرأتُ نص هذا(الطاعون)أول ما قرأته بشغف جملةً واحدة دون توقف رغم ما فيه من أدران ومواجع..قرأتُه منفردا منعزلا ومجتمعا برفقة ثلة من طلاب جامعة ثمانينيات القرن الخالي..كنا ذواتا متفرقة مستقلة موحدة مؤتلفة، نرى بعضنا في بعضنا، نرى مفردَنا في جمعنا..كنا ذواتا تسكن ذاتا واحدة..ذات متشظية الى ذات ولهانة عاشقة مقبلة على الحياة، وذات منحسرة مترددة مكتفية بعزلة الانطواء، وأخرى اجتماعية تكد تجتهد في إرضاء الآخرين كيفما كان هؤلاء الآخرون ولو على حساب خصوصيتها الحميمية؛ ثم ذات جادة صارمة متعالمة عبثية ماسكة بتلابيب طفولة رعناء لا تريد تبرحها وو..جعلنا نوزع الفصول والأقسام بيننا بطريقة تجعل الفقرات يقفو بعضها بعضا بسلاسة دون توقف دون عناء مكابدة شرح أو محاولة فهم ما لا يُفهم..كنا نقرأ نقرأ وكفى مكتفين بتلاوتنا الفطرية وبإحساسنا الذي لا يخيب.ناورنا صلابتها بآستعارات توازي وجودنا الجهنمي الذي لا يلين في مدينتنا الشقية..عاندناها متحَدِّين دهاليزها، لَممنا في مغالقها شتات أنفسنا المكسرة على طريقة أهلنا في الجبل العالي هناك في الأعالي..قرأنا الرواية أول مرة كاملة في ظروف مشتركة حكيتُ عنها..آه..آسف..هل حكيتُ شيئا؟؟لا لمْ أحكِ شيئا..لم أتكلم..هذا أكيد..تلك عادتي ذاك ديدني أن أظل صامتا شاردا هائما أبدا أدع ذاتي وحيدة وذواتَها توغلُ في ثرثرة فضفاضة لا تنتهي...
لست أدري عند ذكري طاعون كامو أتذكر طاعونا آخر في بلدة عربية أخرى مشابهة (في الواقع هناك طواعين كثيرة عالمية وعربية تجعل من ظاهرة الآفات علامة لافتة في الأدب الانساني)، كأن هذي الربوع من البسيطة كتب عليها مكابدة وقع أوبئة الأنام لوحدها على غرار ما كان يقع في أوروبا القرون الوسطى، لتختلط الاستعارة الفلسفية بالحقيقة السياسية التي تفوق في مرارتها الرموز وما يمكن أن تحوي من إيحاءات دالة..من صور الطاعون القميئة أنْ نعيشَ في عالم مستبد لا يبالي، ليتحول الطاعون من حالة طارئة عابرة الى حالة مزمنة تتوارثها الأجيال تتعايش وإياها كمعطى طبيعي لا يمكن مواجهته أو رفضه أو التمرد عليه..في رواية"الوباء"التي كُتِبَتْ عام 1981 يطرح هاني الراهب أسئلة هامة كثيرة لم يجد لها جوابا في الواقع الحياتي بخصوص الأرض، والانسان المقهور، والحياة في مجملها في تواترها من جيل لجيل، والديمقراطية والحرية والشعب كمجموع عام وكماهية فردية بمحاولة مقاربة موقع المثقف المتطلع الى غد أفضل في مجتمع نائم في فضاء تنقرض فيه الثقافة ويُقتل الوعي النقدي وينتشر الاستبداد؛ إذ ذاك يغدو الوباء الميتافيزيقي وباء واقعيا سياسيا اجتماعيا يشمل حيوات بأسرها يأسرها في طوق جبروت حكم متسلط يفتك بالبلاد والعباد...
أتَذْكُرين أيتها الذات المهشمة..مازالَتْ نسخة كتاب طاعون كامو معي بغلافها الشاحب الكابي المنهك المثقل بأدران يرقان بوصفير..آه..قصدتُ وإياكِ الوادي الهادر الجارف..عفوا..الجاف الناشف..(كذا يسمى في المنطقة:"الواد الناشف")في ذاك الجو الحار كرجال غسان في شَمس قطرانية يَرُومُونَ ما يرومون بعيدا عن ظلال صهاريج الوهم وأوهام الرقاد.امتطينا صهوة تلك الخطوط القاتمة المتآكلة من الحروف الفرنسية قابعين في قعر وادٍي(إيسْلي)الذي لَه ما لَهُ في تاريخ العلاقة بين الإخوة الأعداء، وتلك قصة طاعون آخر..قَسّمْنَا الفصولَ والأبوابَ، وذُبْنَا في الفجاج في الجُرُف في تلابيب المنحدرات،في بَرارٍ خاليات..انصهرنا؛ وما جاءتِ السادسة أو ما يشبه السادسة حتى كُنَّا نتحاور في متاه المَقروءات التي خلفتْ آثارا لحظيةً ظهرتْ في التو والساعة، فمِنْ دُوار لدُوار ومن ضربة شمس لنزلة برد في غير أوانها، ومن نزيف لا يريد أن ينقطع لشهيق لا يريدُ أَنْ يعقبه زفيرٌ..لقد تشققت جبهة رأسي ساعتها شقوقا لَمْ تندملْ ولم يمْحها الزمنُ الواهن بعدُ، لما هويتُ مغشيا من أعلى صخرة كانت هناك ربما منذ الأزل.. أتذكرينها؟؟أترينها لا زالتْ هناك؟؟لا..لم تكن صخرة سيزيف أو حَجرة مرو آبابيل أو مما تُرجَم به الأباليسُ في أعياد آلقديسين.. كانت صَمّةً صمّاءَ مُصْمَتَةً وكفى تلك التي حَفرنا فيها نقشنا المأثورَ :

_ ici On Va cesser de vivre...

وجدتُ جسمي منهارا يا هوووهُ وعقلي غائبا، لكن الروحَ، وحدها الروح ظلتْ ترفرف بأجنحة الخيال بعيدا في الأجواء تعاني لا تبالي..لا زلتُ أذكر، رغم كل هذه الأيام، رغم كل هذه الليالي رغم توالي كل هذه الجائحاااات مازلت أذكر وأنا في رحاب حِضن آرتقائي في معارجي الشاهقات أوووه مازلتُ أذكر وأنا أهمس لنفسي وحيدا وإياها أو أناجي أنفسا متشظيات داخلي في الفلوات:هنا سنكف عن ممارسة الموت هنا أخيرا سنعيش يا فرحتاه إيسِي اُونْفا صِيصي دو موغيغ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا