الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حقيقة التاريخ الما ورائي ح2

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 9 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هذا الأمر بالتأكيد ليس منعزلا عن الحالة الفكرية وتطور الوعي عنده خاصة مع تطور مفهوم هذه المسميات وأثرها على الإنسان، وصولا إلى تبلور ورسوخ فكرة الله الواحد المسيطر والمهيمن على ذلك التاريخ، لكن هذا الأمر لم ينهي وجود التاريخ الروائي، فالكتب الدينية المقدسة زاخرة بمجموعة كبيرة من تلك القصص وأبرزها على الأطلاق سفر التكوين أحد أهم مصادر التاريخ الما ورائي.
السؤال المركزي في هذا البحث لماذا تصر كتب الأديان والثقافة المنبثقة منها والتي تعتمد الرواية التاريخية المفسرة أو المبررة للقضية الدينية من الأعتماد الأساسي على التاريخ الماورائي كمقدمة لتوصيل الفكرة الدينية، لو عدنا مقلا إلى سفر التكوين وبالذات في الحوارات التي كانت تجري بين أربعة أطراف أساسية هما الله وإبليس وآدم وحواء، إضافة لبعض الشخصيات الثانوية التي وردت فيها، نجد مثلا أن لا مصدر حيادي يؤكد الحوار مثلا، ولا يوجد راوي أصلا غير من أورد النص دون أن يوضح مستلزمات الحدث التاريخي، أسبابه وعلاته والدوافع الأساسية التي جعلت شخصيات الرواية تصطدم أو تتحرك معا.
الرواية الما ورائية الخاصة بآدم كنموذج تبدأ من فكرة الضرورة الروائية وليس التفسير العلمي أو المنطقي لحركة الوجود، وبما أن الراوي كان جاهلا بقوانين الحركة الوجودية ولا يعرف أسبابها وعللها، أفترض أن الله بطل الرواية إنما يتحرك وفق ما يفهم الراوي، يتصرف كما يتصرف الراوي فليس غريبا ان يتخذ الله قراره التاريخي بناء على ما يفهمه الراوي من منطق مثال ما ورد قي سفر التكوين {وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ»2,18، إذا كان محور الحدث التاريخي فكرة وأقتراح من الله على نفسه، الله العاطل عن العمل والذي يبحث عن الجيد، عندما قرر ان يفعل لم يكن يملك فكرة أو مشروع سوى أن يجعل لهذه الجنة التي هي مكان في اللا مكان من يسكنها، إذا الله كما في هذه الرواية اللا منطقية لم يخطط أبعد من أن يجعل في المكان هنا شخص يتحرك من دون هدف، هنا الله مارس العبث بأنتظار أن يقرر قرار أخر {وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا} 15 الإصحاح الثاني.
لم يكن يعلم بأن هناك من سيعترض على مشروعه أو ربما يفسد عليه خططه البسيطة تلك، هذا من غباء الله كما يصور صاحب الرواية، وإلا لو كان يعلم أو حتى يعرف أن هناك معارضة أو تمنع من أحد كان قد أتخذ الأحتياطات الواجبة لمنعه، لكن السذاجة التي يصورها الراوي جعلت الله يتفاجأ ليس فقط من المعترض ولكن من بطل مشروعه القادم،{وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا} 26، إذا الله ليس لديه مشروع مسبق وليس لديه خطة محددة المعالم، كل ما في الأمر أنه يخضع لمنطق التجربة وينصاع لها وللفاعلين داخلها دون أن يعترض أو يمارس علمه السابق للأشياء قبل خلقها، هذا الحسن كان وهما وغباء طالما لم يثمر عن نتائج حسنه، فقد عرف آدم السر عن طريق إبليس وصار الأثنان يتحركان لتهديد مكانة الله والعمل الحسن الذي صنعه، وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «هُوَذَا الإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفًا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى الأَبَدِ» 22. فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الإِلهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَ الأَرْضَ الَّتِي أُخِذَ مِنْهَا23. فَطَرَدَ الإِنْسَانَ، وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ 24 سفر التكوين.
عندما نرد هذه الرواية لا نريد فيها أثبات أو نفي معتقد أو يقين ما، ولكن لنكشف أهم جوانب التاريخ الما ورائي بخصائصه التي لا تتماهى مع الحقيقة التي يقر بها الهلم والمنطق والتاريخ، عندما نفهم التاريخ على أنه مجرد سجل وتوثيق للحدث فالتاريخ الروائي الما ورائي لا يمكن ان نصفه توثيقيا ولا مسجلا وفقا لأدوات علم التاريخ، فهو بالأساس تأمل وربما خداع في الغالب، الغرض الأبعد منه أن يوفر مساحة أكبر لمحاولة إشاعة فكرة خيالية يصورها الراوي أنها حقيقية بناء على الخديعة الأولى، ولو أخذنا التاريخ كمحرك وجودي يكشف لنا أسباب وعلل ومنطق الحوادث ودو القوى الفاعلة فيه.
فهذا التاريخ الما ورائي ليس على قدر من الجدية والمنطق في تفسير حركة الحدث بقدر ما يريد أن يضع قوانين غبية غير منطقية لنفسر بها الواقع المنطقي الوجودي بقوة قوانينه وجدية حركته، لذا فالتصادم بين التاريخ سينتهي حتما للتاريخ الوجودي الفعلي لأنه واقع أصلا وصادق وقابل للتفسير والتحليل والتنبؤ والقياس والمنطق، من هنا نرى أن الدين الذي يعتمد التاريخية الما ورائية لا يصمد في صراعه مع الوعي الإنساني المتجدد، مما سيجعله في النهاية أمام خيارين، أما خيار التلائم والإقرار بالحقيقية أن هذا الجزء الأساسي من منظومته ليس حقيقيا بقدر ما هو وسيلة إقناع كانت تستخدم وتتناسب مع عقلية بدائية أولية، أو أن ينزوي الدين في زاوية الإهمال والإندثار إن لم يواجه تلك الحقيقية الساطعة ويصر على أن تاريخه مقدس لا يمسه أحد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا


.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد




.. يديعوت أحرونوت: أميركا قد تتراجع عن فرض عقوبات ضد -نتساح يهو


.. الأرجنتين تلاحق وزيرا إيرانيا بتهمة تفجير مركز يهودي




.. وفاة زعيم الإخوان في اليمن.. إرث من الجدل والدجل