الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التَّابْعَة

عبد الله خطوري

2022 / 9 / 1
الادب والفن


أنا تِلْمِيذ مُعَطَّلٌ.طُرِِدْتُ مِنَ المَدرسة لِأنِّي شَغَلْتُ مَقْعَدا في القسمِ لمُدة رَأَوْهَا طَوِيلَة، وَكان عَلَيّ أن أخْلِيَ المكَانَ لغيري_هكذا قالُوا_وكَان عَلَيّ أَنْ أَسْتَغِلّ وَقْتِي جَيِّدا كَيْ لا يَذْهَب مَعَ الرِّيحِ في البرية كَمَا ذَهَبَتْ سنونُ دراستي الأولى والأخيرة.أعيش مَع والدتي وإخوتي الأربعةِ، كلهُم صغارٌ لا يقدرون على أي عمَل.اِثنان منهُم طرِِدُوا من قسْم(الشهادة)، فَوَجَدُوا في الزَّنْقَةِ مَلاذا ومَرْتَعا للّعِبِ وقَتْلِ الوقْتِ.أبي ابْتَلَعَتْهُ المسخوطة فرنسا.غَادَرَنَا مُذْ كنَّا صغارا لا يتذكرنا إلا في رأس كل سنة بحوالَةٍ فقيرة يذهَبُ نصفُها في اليوم الأول لاستخراجها والنصف الثاني نُغَطِّي به دُيُونَ البقَّال وصاحب الفران وتاجر الخضر المُتَنَقِّل.أما الكتب المدرسية والدفاتر وبقية ما يُسَمّى بالأدوات لِما تبقى من إخوتي، فكنا نكتري ما يمكن أنْ يُكْتَرَى ونشتري ما يمكن أن يُشترى بالسلف طبعا والتقسيط ومزيد من الاقتراض الذي"يقرط"كهولنا جميعا، فنموت أحياء يُثْقِل عاتقَنا كفنُ الحُروفِ التي لم ندرسها أبدا في خربتنا النائية المسماة خطأ:مدرسة؛ ورغم ذلك، كان إخوتي الذين ظلوا متشبتين بالذهاب والإياب إليها يُؤْمنون أنها يمكن أن تعطي لهم في يوم ما شيئا ما يُنجيهم وينجينا جميعا من عيشة الضنك الغارقين فيها كلنا دون استثناء...
حياتنا بالمدرسة وبدونها كانت ولازالت استثناء..دائما نحن هكذا نعيش الطوارئ والأوبئة والجائحات..العائلة النائمة في وَضْع متداخل كأسماك المصبرات. أفْواهٌ فاغرة يَدْخُلُهَا الهوامُ والذبابُ والكثيرُ من العذابِ.سراويل مخرومةٌ.أخِي الأصْغَرُ يَحُكُّ عَوْرَتَهُ المُدماة التي هرشها البَقُ.أخْتِي تَرفس أختَها، فَترُدُّ هاتِه برفسةٍ أخْرَى أقْذَعَ في صِراعٍ أبدي على المجَالات الفسيحَة التي أُتِيحَتْ لنا في قَصْرِنَا الكَبِيرِ..طُفُولَتُنَا كانت ضائِعَة نَسجَ الْعَنَاكِبُ أَسْلاكَهُمْ عليها.. كُنَّا نَقْرَأُ كِتاب"التِّلاَوَةَ"في دُورنا الخَربَةِ حذاءَ مَطَارِحِ النفايات..نَرَى يَبَسَ الخُبْز وأَمْوَاهَ الْحَارِّ مُبَرْقَعا بيْنَ السُّطُورِِ.لا نَفْقَهُ للمعلمين قَوْلا.كانوا في وادٍ.كُنَّا فِي وادٍ.عندما نَلِجُ سَمَّ المَدارسِ، نُفَكِّرُ للتو في الخروج والطيران بعيدا فـي المساحات الخضراء مـع العصافيرِ والشحاريرِ والحساسين..كنا لا نطيقُ الجُدرانَ ومصاحبةَ الجرذان..كانت هُمومونا كالفَقْصَةِ كالأشواك كالأعشاب الطفيلية تكبر مَعَنَا بالرغم منا؛ ولازال الواحد منا يَكْبُرُ يَكْبُرُ وضغائنُه تَزْدَادُ تفاقُما من يوم لآخرَ..في أحايينَ كثيرة، يطبقُ عَلَيّ سؤالٌ:أنحن صغارٌ حقا أم فقط هم الآخرون الذين يعاملوننا كذلك؟؟كانت عَيْنَايَ تتفحصَان بفُتورٍ سقف بَرَّاكة القصدير الذي تَلْعَبُ فيه الثُّلَمُ والثُّقُوب وَالفَجَوَاتُ الجُمْباز َدون حسيبٍ أو رَقِيبٍ، وَكانَتْ الأمطارُ في ليالي الشتاءِ البارِدَةِ تُعَانِقُ رقابَنا ونحن نقرأ في تلاوتنا المفسرة:
..سَقْفُ بيتي حَديد رُ كْـنُ بيتي حَجَـر..
قال أخي الأصغرُ:
_ أنا لا أحِبُّ القراءةَ..طردوني وقالوا رأسُكَ فُقَاعة..أكره"التلاوة"..ما فيها غير الحفاظة..لا أفهم شيئا منها..ليس فيها ما يشبهني...(٢)

قال الكبير:
_كَيْفَهْمُوا علينا..المعلم يربينا..المديرة تربينا..لا أريد تربية مصنوعة من زفت..

سَأَلَتْ أخْتِـي الصغيرةُ:
_والنشيـد!!؟؟
_حتى النشيد أكرهه..!!..
_أنا أُحِبُّ"مُحَنْدْ أُولْيَزِدْ"..تابع الأصغرُ..(٣)

...هكذا قرأتُ في مذكرات أبي التي كتبها في سبعينيات القرن الماضي..وهاهو الآن هنا يبذل قصارى جهوده كي لا تعيد العجلةُ دورانها بالطريقة نفسها وفي السكة نفسها.ورغم كل المتاعب والمشاق فإن الخوف من المجهول الآتي جعل حياة أبي وحياتنا معه فتنة لا تُطاقُ، فالكتب نَقْتَنِيها مُسْتَوْرَدَة من الخارج وبأتمان أكثر من أضغاث الخيال ومكوثنا في حجرات الدراسة يتطلب نزيفا شهريا يوازي كبش عيد الأضحى كل شهر دون الحديث عن التسجيل السنوي والتأمين الافتراضي المليئ بالأوهام وهلوسات المُحال وواجبات النقل و و...فيضان من المصاريف التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد...ويشتاط أبي غضبًا وتطلع له السخانة للرأس(٤)ويمرض جسدُه الضامرُ بشتى المصيبات في زمن الألفية الثالثة ينتظر في لهفة نتيجة كل سنة لتتجدد المعضلةُ عاما بعد عام... وهكذا..دواليك إلى..أن يرتاحَ أبي ويرانا نحن فلذات كبده كما يحلم خاطرُه ويرضاه...وتستمر فِتْنَتُنا السنوية الدائمة التي تشبه"التَّابْعَة"حتى إشعار آخر...

_ شروح:
(١)التابعة:طاقة سلبية تعطل قدرات الانسان على الفعل
(٢)الحفاظة:الحفظ والاستظهار.
(٣)موحند أوليزيد:مغني أمازيغي من الأطلس المتوسط بالمغرب
(٤)السخانة:الحمى








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد