الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية القط الذي علمني الطيران هاشم غرايبة

رائد الحواري

2022 / 9 / 2
أوراق كتبت في وعن السجن


رواية القط الذي علمني الطيران
هاشم غرايبة
كثرة الاعتقالات السياسية وما يتعرض له المواطن في المنطقة العربية من ملاحقات أمنة، انعكست على الأعمال الأدبية التي تناولت الاعتقال السياسي، واعتقد أن أول من طرق هذا الباب روائيا هو عبد الرحمن منيف في رواية "شرق المتوسط" والتي تبعها لاحقا في رواية "الآن هنا"، ثم تقدم العديد من الكتاب العرب في هذا الأدب، فكانت خماسية إسماعيل فهد إسماعيل، ثلاثة سعيد حاشوس، ورواية "مجنون الأمل" لعبد اللطيف اللعيبي، و"صورة الروائي" لفواز حداد، ورواية "الهؤلاء" لمجيد طوبيا، ورواية "القوقعة" لمصطفى خليفة وما كتبه أيمن العتوم من روايات "يسمعون حسيسا، يا صاحبي السجن" وغيرها من الروايات" وإذا ما توقفنا عند هذه الأعمال سنجدها موزعة كل كافة الأقطار العربية، بمعنى أن القمع السياسي ظاهرة رسمية عربية، يمارس من قبل كل الأنظمة دون استثناء، هذا فضلا عما أنتجه أسرى فلسطين وأدباءها من روايات والتي تجاوز عددها العشرين رواية.
وهذا يشير إلى أن الأدب مرآة الواقع، والأديب المنتمي يكتب عن واقعه ولجماهيره، من هنا تأتي أهمية رواية "القط الذي علمني الطيران" والتي تعد وجه آخر لرواية "سنة أولى تكفي" وحيث كشف فيها السارد ما تعرض له من قمع وتعذيب جسدي ونفسي، وما وجده في السجن من سلوكيات سلبية وإيجابية، إن كانت من النزلاء أم من السجانين.
التعذيب
إذن نحن أمام شكل جديد لرواية "سنة أولى تكفي"، لكن المضمون والحدث واحد، وكذلك بطل الرواية "هاشم" سنحاول تبين ما جاء في الرواية والكيفية التي قدم بها السارد أحداث الرواية، ونبدأ من الاعتقال والتعذيب وكيف يتعامل النظام الرسمي مع المعارض: "أخذوني إلى الساحة، كلبشوا يدي إلى الخلف، ربطوا إبهام رجلي إلى تمرة عضوي بخيط نايلون قصير ووقفوا يتفرجون علي" ص8، هذا أحدى أشكال التعذيب، لكن هناك تعذيب آخر يتمثل في التعذيب النفسي من خلال عزل المعتقل عن العالم، بحيث يجد نفسه وحيدا لا يشعر بالوقت/الزمن ولا يشعر بالانتماء للمكان: "وجدت نفسي وحيد في عتمة اللمبة المضاءة على مدار الساعة، أواجه الزمن بثقله وتوقفه وعناده.
الوحدة صحراء تزحف إلى لب الروح، في العزلة يطير الطائر بين المنكبين أربعين خريفا ولا يصل. صرت أتمنى جولة من الجلد تؤنس وحشتي وتعيد إلي ذاكرة الياسمين.. ليلة في العزلة كألف ليلة مما تعدون" ص8و9، إذا ما توقفنا عند هذا المشهد سنجد أنه قاسي ومؤلم، حتى أن حجم الألم جعل السارد يستخدم لغة أدبية جميلة يخفف بها شئيا من هذا الألم، فهو يعي أنه يؤلم المتلقي كما آلمه هو، لهذا أراد أن يخفف عليه من خلال اللغة والصور الأدبية التي جاء بها المشهد، وهذا سيأخذنا ـ لاحقا ـ إلى علاقة السارد بالقارئ، وكيف تعامل معه في سرد أحداث الرواية القاسية.
السجن
السجن مكان غير مناسب لطبيعة البشر، وهو يتناقض مع الحياة، لأنه يحرم السجين من أهله وأحبته، ويحرمه من المكان الذي يفضله، ويفرض عليه واقع وأشخاص لا ينتمي لهم: "محدودية المكان إحساس سطحي أولي، السجين يفتقد متعة أشياء لا يفطن لها الناس في حياتهم اليومية" ص48، باستخدام السارد "يفتقد متعة أشياء" يكون قد أشار إلى وجود تغيير سلبي في حياته، ونلاحظ أنه يستخدم لغة (عادية) واضحة وسهلة، فهو يخاطب المواطن العادي، وكأنه يريده أن يصطف معه، ليعلم أن هناك من اعتقل لمجرد أنه عبر عن تضامنه ووقوفه إلى جانب الفلسطيني الذي يتعرض لأبشع احتلال عرفته البشرية، الاحتلال الاستيطاني العنصري.
في السجن لا ينام السجين نوما عاديا، لاكتظاظ السجن بالمساجين: "بعد الإفراج عن ثلث المساجين تنفست الممرات وتبدلت مواقع المساجين، أرتقى العديد منهم إلى مواقع أفضل، وتمتع آخرون بمد سيقانهم إلى مداها أثناء النوم" ص73، فالسجين يتأذى حتى في نومه، وهذا ما يجعل السجن مكان غير مناسب.
وفي حالة العزل يكون السجن أكثر قسوة لما فيه من روائح وظلام: "رائحة الزنزانة بول ودم، رائحة السجن سناج ود.د.ت، رائحة القاووش فساء بشري وبصل مقلي، رائحة القبو تراب معتق وعطن الرطوبة" ص 101و102، فالسجين يتأذى بالرائحة كما يتأذى من الوقت، وكما يتأذى من المكان/السجن.
الزمن
الزمن في الاعتقال، ووقت التعذيب، وأثناء العزل غير الوقت الذي نعيشه نحن الذي ننعم بالحرية، من هنا نجد السارد يتناول الوقت غي أكثر من موضع: "... ليلة في العزلة كألف ليلة مما تعدون" ص9، وهذا يشير إلى ثقل والوقت وبلادته، فهو أقرب إلى كائن كسيح لا يتحرك لكنه حي، من هنا يكون وقعه مؤلما على المعتقل.
وتأكيد على أن الوقت يشكل عامل ضغط على المعارض تحدث السارد عنه بدقه متناهية: "ثلاثة شهور وخمسة أيام وثلاث ساعات انقضت مع عجائب السجن، وقبلها شهران وواحد وعشرين يوما وتسع ساعات في زنازين المخابرات" ص43، أن يتم احتساب الوقت/الزمن بهذه الدقة تأكيد على أنه يعد أحد أشكال الضغط التي تقع على كاهل المعارض، وإلا من جاء بهذا الحساب، واللافت أن السارد يتحدث عن زمن التعذيب في المخابرات وزمن السجن بذات الدقة، بمعنى أن وجود الإنسان في السجن أو في أقبية المخابرات يمثل وجود غير سوي/طبيعي، وهنا تكمن دعوة ـ غير مباشرة ـ لوقف هذا السجن والاعتقال، لأنه يتنافى مع الطبيعة الإنسانية.
لغة السجن
السجن له لغة خاصة به، تميزه عن بقية الأماكن الأخرى، وهذا ما يجعله مكان غريب على المعتقل، ومن ثم يزيد من الألم الواقع عليه: "... مفردات مثل الكناش، البرش، الفورة، القاووش والمردوان ظلت حية من أيام الحكم التركي ومتداولة فقط في السجن، وكأن للسجن جيناته الخاصة التي يتوارثها المكان غير عابئ بالزمن أو بتبديل الأحوال" ص20، نلاحظ أن السارد يعطي المكان صفة الكائن الحي: "غير عابئ بالزمن" كإشارة إلى دور السجن في الأذى الذي يتركه على السجين.
المخابرات
المخابرات أسم يسبب الغصة للمواطن في المنطقة العربية، لما لها من سمعه سيئة، ولما يفعله من بطش واضطهاد، ولما يمارسه من مطاردة وملاحقة لكل من يقول لا، فهم لا يراعوا لا زمن وحرمة مكان، ويتعاملون مع الناس وكأنهم أدنى من درجة الحيوان، يقدم لنا السارد لحظة اعتقاله قائلا: "جاء زوار الفجر لاعتقالي فقاومت بقبضتي وركلات قدمي، خرج أبي بمنامته شاهرا بندقيته ال(كلاشن) وأطلق صلة في الفضاء، ارتفع صوت أحدهم هاتفا: "مخابرات. مخابرات" ص43، إذا ما توقفنا عند ما جاء في هذا المشهد نجد انه يأتي في زمن غير مناسب، وأنهم يقتحمون البيوت دون استئذان، ويعاملون المطلوب بطريقة متوحشة، وهذا كاف لنعلم أنهم يقومون بأعمال لا تتناسب وطبيعة الحياة المدينة التي تحتكم للقانون.
وبعد أن يخرجوا من البيت يتركوا خلفهم أثرا سيئا على المكان وعلى ساكنيه: "...فأشعر بالذنب لأني تسببت بترويع أمي وأبي ليلة اعتقالي، أشعر بالأسف من أجل مكتبة الدار الصغيرة والجليلة التي نهبوها كلها ليفتشوها في ما بعد على مهل بحثا عن ماركس وأنجلز ولينين وماو تسي تونغ" ص46، هذا على صعيد الاعتقال لمن يجدونه يمكن أن يشكل خطرا عليهم، لكن هناك دور آخر يقومون به، يتمثل في المضايقة على المواطنين وحرمانهم من ابسط الحقوق، حقوق العمل وحقوق السفر: "...على علمي البعثيين مثل الشيوعيين والتحريريين ما يوظفوهم، وتحتجز جوازات سفرهم" ص112، هذه هي المخابرات العربية، وهذه أفعالها وأعمالها.
الاستنكار
"الاستنكار كان يمثل أحد أشكال التعذيب النفسي للمعتقل، لما يبدو شكليا بسيط وسهل، ولما فيه من ضغط نفسي وثقل على المعتقل، السارد يتناول فكرة الاستنكار في أكثر من موضع في الرواية، وهذا يشير إلى أنه كان يشكل عامل ضغط كبير عليه، وإلا ما ذكرة وتوقف عنده: فالمطلوب من المعتقل فقط هو: "أنا الموقع أدناه، أستنكر الحزب الشيوعي الهدام، وأعلن ولائي وإخلاصي لجلالة الملك المفدى، ولحكومته الرشيدة" ص17، هي مجرد خمس عشرة كلمة فقط، وبها ينال المعتقل حريته، ويمكنه أن يعيش كأي مواطن عادي، لكن التوقيع عليها يعني موت السياسي وقتل لكرامته ومبدئه، وقد تحاور السارد مع والده حول الاستنكار بهذا الشكل: "... أنت مجنون ولك؟ تقبل يحكموك عشر سنين بدل التوقيع على سطرين حكي لا يزيدوا بملك سيدنا شبر، ولا بنقصوا من طولك فتر.
...أنا واحد مجنون زي ما بتقول، لكن الحكومة مجنونة تسجن واحد عشر سنين من شان سطرين حكي؟
أطرق والدي متمتما "خرا على هيك حكومة" ص19، الجميل في هذا المشهد انه قدم بلغة محكية، لغة الناس العاديين، وكأن السارد أراد به الرد على المنطق البسيط (السطحي)، بعين اللغة والفكرة التي يطلقها المواطن العادي، وبعد أن يجتاز السارد بصموده التحقيق والتعذيب، وبعد أن صدر الحكم عليه بعشرة سنوات سجن، يكون قد أثبت لنفسه أنه تحدى المحكمة وهيئة القضاة عندما رفض الوقوف أثناء محاكمته، وأكد على أنه صمد ولم يعترف أو يسقط أثناء التحقيق، وهنا يجد نفسه قد مارس حريته وأثبت قدرته على المواجهة، فلم يعد بحاجة إلى بطولة، يفكر بالاستنكار، ويكتبه على ورقة، وهنا يدخل في حالة من الصراع النفسي، حتى أن الاستنكار أصبح هاجسه: "...في المنام رأيت ورقة الاستنكار على هيئة عتبة على باب السجن بارتفاع شبر، أخطو فأجتازها إلى الخارج، لكنني أجد نفسي في الداخل، أخطو مرة إلى الخارج وأجدني في مكاني، أستيقظ وأنا عبثا أكرر المحاولة.
بكيت حتى بللت مخدتي" ص53، الملفت في هذا المشهد أن السارد يقدم نفسه بطريق إنسانية، على أنه رجل عادي وليس خارق، لهذا وجدناه يتصارع مع ذاته ويبكي، وهذا ما يجعل رفضه للاستنكار عملية بطولية، لأنها جاءت من إنسان عادي، إنسان يمتلك مشاعر وأحاسيس مرهفة، وهذا ما يجعل ألمه مضاعف.
ورقة الاستنكار تبقى في جيب السارد لكنه لا يقدمها لمدير السجن، وعندما يجد أن مدير السجن عامله بتميز على بقية السجناء ليكسب وده، ومن ثم يلين ويقتنع بتقديم الاستنكار يبقي الورقة في جيبه ويتحدى مدير السجن: "قال البيك بلا مواربة:
ـ نقلناك للدار البيضا مشان تعقل.
تحسس هاشم ورقة الاستنكار المطوية في جيبه وقال:
ـ لكني مرتاح في الجنوبي" ص105، هذا المشهد يأخذنا إلى أن السارد يمارس حريته، يمارس قناعته هو، وعندما يحس/يشعر أن هنا قوة/حالة ضغط عليه يبدي تحديه ورفضه: "أنا من يقرر ذلك ليس الحزب، ولا المخابرات، وليس الأصدقاء، ولا الخصوم،... دس ورقة الاستنكار بين أوراقه وظل يتقلب على شوك التردد حتى الصباح. "أسلمها لهم؟ لا أسلمها. أستسلم؟ لا أستسلم" ص119، الجميل هنا أن السارد يؤكد على حريته الشخصية وحريته في ممارسة قناعته هو، فهو يرفض الخضوع لأي جهة، حتى الحزب، الأصدقاء، فالحرية بالنسبة له تعني الحياة، وكأنه بهذا الموقف يؤكد على أنه (كشخص/كفرد) استطاع أن يواجه غول المخابرات وحيدا، وأن يكون هو ذاته ويمارس ما يؤمن به بعيدا عن الحزب.
يمضي زمن وتبقى ورقة الاستنكار مطوية في جيبه، وفي لحظة معينة يراها أنها لا تمثله ولا تمت له بصلة: "أخرجت ورقة الاستنكار، قرأتها على مهل كأنها تخص شخصا غيري، كورتها بلا اكتراث وقذفت بها إلى سطل القمامة عند الباب" ص189، نتوقف عند هذا المشهد، ونسأل هذا السؤال، لماذا لم يمزقها "هاشم" أليس التمزيق يعبر حنقه ورفضه أكثر من إلقائها في القمامة؟ أليس التمزيق يتلفها وينهيها من الوجود نهائيا، بينما إلقائها في القمامة يمكن لأي شخص أن يأخذها ويطلع عليها وحتى يقدمها لمدير السجن؟، اعتقد أن هاشم أراد بإلقائها في القمامة أن يؤكد على تفاهته الاستنكار، وأن مكانه الوحيد هو القمامة، وعلى أن من يقوم بالاستنكار ا مكانه هو القمامة أيضا، بهذا الشكل ينسجم شكل المشهد (قذفتها في القامة) مع المضمون المراد إيصاله للمتلقي.
الحالة النفسية
اللافت في الرواية أن السارد يتحدث عن الحالة النفسية التي مر بها، وهذا ما جعل الرواية مقنعة للمتلقي، الذي وجد فيها شخصية إنسانية، تتألم وتتحدى، تتراجع خطوة وتتقدم خطوتان، وهذا (الصراع) هو الذي ميز الرواية، وبما أن بطل الرواية "هاشم" له وضع خاص، حيث عمه الباشا له نفوذ في السلطة، ويمكنه أن يسهل عملية الإفراج عن "هاشم" في حالة تلبيته لما يطلب منه استنكار الحزب، فإن هذا شكل عليه عامل ضغط وزاد فيه الصراع: "يقولون في حوار: "هاشم مفتاح سجنه بيده، أي وقت بده يطلع من السجن، يستنكر ويطلع، راسمالها يكتب ورقة" ص42، جعل باب السجن موارب أمام "هاشم" لم يكن في مصلحته، فهذا فتح الباب أمام فكرة الاستنكار أمامه، مما جعله يكتب الورقة ويبقيها في جيبه، حتى اكتشف تفاهتها ومن ثم ألقاها في القمامة.
السمعة السيئة للمخابرات وطريقة التعذيب التي تمارسها بحق المطلوبين كان له أثر على "هاشم" فهو أولا وأخيرا كائن بشري، يشعر بالخوف كحال أي إنسان: "جديد وان لا يخاف. أنا أخاف، خفت أن لا أرجع إلى أمي ولم أرجع، خفت من خيط النايلون، لكنه صار ذكرى، لو كنت أعرف ما سأواجه من عنت ربما كان هزمني الخوف، كنت أخاف السجن، ها أنا في السجن، لكنني لست وحيدا. لست بطلا" ص51، هذا الصراع هو من يقنع القارئ أنه أمام شخصية تتماثل معه في مشاعرها وإحساسها، شخصية قريبة منه وتتماثل معه فيما تشعر به، لهذا كان المتلقي ينحاز ل"هاشم" ويتعاطف معه.
عندما يتم أطلاق سراح بعض السجناء في مناسبات وطنية يشعر بقية المساجين بأن هناك ظلم جديد وقع عليهم: "في المسافة القصيرة بين إشاعة عفو وأخرى، ينتاب المساجين شعور حاد بالغبن، كأنهم سجنوا من جديد، شعر الرفيق بخيبة مريرة، كأن العفو الملكي المأمول يخصه وحده، ظل يتقلب على جمر الأسئلة: لماذا أنا هنا، لماذا أنتم هناك؟" ص73، البوح بهذه المشاعر يشير إلى أننا أمام شخصية تشعر بالمرارة/بالألم، ليس لأنها مسجونة فحسب، بل لأن وجودها في السجن هو ظلم ، وما بمعنى أنه تحدى الواقع، وفي فترة التعذيب وما فيها من إرهاب نفسي وجسدي يصمد ويثبت أنه أقوى من جلاديه، وأثناء المحكمة يرفض حتى لو تطلب صموده تحمل العذاب والألم، يحدثنا عن المحكمة وما جرى فيها: "دخل القاضي واتباعاه
لم اقف
خرج القضاة.
أعجبتني اللعبة، وركب رأسي" ص36، ولم يتوقف الأمر عن الاستهتار بالمحكمة وبقضاتها، بل طال أيضا الحكم الذي أصدروه بحقه: "باسم الملك، تلا القاضي الحكم بعشر سنوات سجن، بموجب قانون مكافحة الشيوعية رقم 92 لسنة 1953م.
لم أضطرب، بل لم أفكر في قرار المحكمة، كأن الأمر لا يخصني" ص37، هكذا كان "هاشم" يتحدى النظام ومحكمته وقضاته، فعدم اللامبالاة بالحكم يعد أكبر تحدي للواقع، ونلاحظ أنه غيب نفسه من خلال قوله "كأن الأمر لا يخصني"، بهذا الشكل أنتصر هاشم وانهزمت المحكمة وقضاتها.
وبعد أن تم وضع هاشم ورفاقه في القبو الذين دعوا إلى رفض العودة للمهاجع قبل المغرب، يأخذوا في الغناء وكأنهم في رحلة سياحية: "فاصطفوا حول القط يسحجون الحية" ص86، وهذا يمثل قمة التحدي، فبدل أن يندبوا حالهم في القبو أخذوا يغنون ويسحجون، فكانوا يردون على معاقبتهم بتحدي جديد وبشكل جديد، الغناء.
وعندما يقوم " عطاالله" مدير السجن بمنع والد "هاشم" من الزيارة، يهدده "هاشم" بأنه سينال منه إذا ما قابله، وفعلا بعد أيام يأتي "مدير السجن ليتفقد السجاء وهنا يخاطبه "هاشم" :ـ إلك عين تجي هون يا عطا الله الطز؟" صص201، بعدها يهجم عليه لكن "عطا الله ولى هاربا في اتجاه الباب، ومع هذا يلحق به "هاشم" ويقوم بقذفه بالعصا، وهذا الحدث قلب حال السجن بكل من فيه، المساجين والسجانين الذين رأوا في تصرف "هاشم" ما يجعلهم يشمتون بهذا المدير الذي يعتبر نفسه الحاكم بأمر لله.
الأم
ضمن هذا الواقع القاسي كان لا بد من إيجاد أحداث/أشخاص/أشياء/أمكان تخفف على السارد ومن ثم على القارئ شيئا من هذه القسوة،، من هنا كانت "الأم" أحدى وسائل التخفيف على "هاشم" وعلى الملقي" فكان حضورها يمده بالقوة والطاقة على الاستمرار في مواجهة السجن والسجان، أثناء المعركة التي خاضها مع رجال المخابرات الذين حضروا لاعتقاله، كانت أمه حاضرة: "...خرجت أمي مذهولة منفولة الشعر، وحضنتني تتلقى عني اللكمات ...جروني من حضن أمي بعنف، فتشبت بشجرة الياسمين عند باب الدار... عندما استوت الحافلة على الطريق المعبد، وجدت غصنا من ياسمينة أمي في قبضتي، هززته بحنق وتصميم، وهتفت بصوت جريح: "ولا يهمك يمه" وفاحت رائحة الياسمين المطرز ببلورات الماء المتجمد تملأ روحي تصميما على التحدي" ص44، الجميل في هذا المشهد انه يحمل فكرة نبيلة، الأم التي تقف مع ابنها في مواجهة رجال المخابرات، وهذا يعطي صورة إيجابية عن الأم المقاومة، والأمر الآخر اللغة الأدبية التي جاء بها المشهد، والتي تمتع المتلقي كما أمتعه موقف الأم، وهناك رمزية غصن الياسمينة في قضبة هاشم، والرائحة الياسمين التي فاحت، فالسارد يستحضر عناصر الفرح كاملة، الأم/المرأة، الطبيعة/الياسمين، الكتابة/اللغة الجميلة والصورة الأدبية، والتمرد/العراك مع رجال المخابرات، وهذا يشير إلى أن العقل الباطن للسارد يعي أنه يقدم مادة روائية مؤلمة وقاسية، فجاءت عناصر الفرح كاملة ومجتمعة في مشهد الاعتقال.
وأثناء السجن وعدم راحته في النوم، يستحضر امه: "تفوح رائحة الياسمين ببساطتها المذهلة، ويحضر طيف أمي بجدائلها الخصبة المدلاة كحبل نجاة.
يمه، روحي ترفرف مثل عصفور منتوفة الريش تحن إلى دفئك، أحن إلى صوتك وأستعين على حبس دموعي باستعادة قصصك قبل النوم.
"كان ياما كان
كان فيه حديدوان
وكان فيه غولة" ص48و49، أيضا نجد اجتماع عناصر الفرح كاملة، المرأة: "أمي، بجدائلها، يمه، دفئك، صوتك" الطبيعة: "الياسمين، الخصبة، عصفور" الكتابة: "قصصك/ كان ياما كان..." والتمرد الذي نجده في مضمون المشهد، وفي اللغة الأدبية التي جمعت بين خصب الطبيعة وخصب الأم: "أمي بجدائلها الخصبة المدلاة" فبدت الأم وكأنها "عشتار" التي تحمل الخصب للأرض وللبشر معا.
فصورة الأم/عشتار عند "هاشم" لم تقتصر على المشهد السابق، بل نجده يكررها في مشهد آخر: "فتح الباب. ياه ما أوسع السماء!
لمع البرق كأنه يشق صدعا في جدار الأفق، لمحت وجه أمي بين ضفيرتين من زهرة الياسمين تفتح ذراعيها، عبرت الباب، السماء ترمي ندفا من الثلج تتطاير مثل الريش" ص196، نجد "عشتار" القوية والخصبة معا، فهناك قوة/قسوة: "البرق، يشق، صدعا، جدار" وهناك خير/خصب: "السماء، الأفق، ضفيرتين، زهرة، الياسمين، الثلج" فرغم تباعد المشهدين، إلا أن فكرة السارد عن الأم وعشتار كانت حاضرة فيهما.
أن يجتمع أديبين على تقديم صورتين عن الأم رغم التباعد المكاني بينهم، فهي ت شير إلى أن الظرف/المكان/الحالة النفسية للسجين/للأسير متماثلة، من هنا جاءت الصورة التي قدمها "عصمت منصور" في رواية "سجن السجن" تتماثل تماما مع الصورة التي قدمها "هاشم غرابية" في رواية القط الذي علمني الطيران، جاء في رواية "سجن السجن هذه الصورة: " "طويت نفسي داخل الحرام وانكمشت دون أن أعرف حقًا هل أحتمي به من البرد أو أضمه إلي بحب لما يختزنه من أثر يذكرني بأمي ويحمل رائحتها وصلواتها ..إن حرام أمي فجر دفعة واحدة كل ما يكتنز في داخلي من دفء" ص69 " وجاء في رواية "القط الذي علمني الطيران": "...استبدل برشه بفرشة صوف ولحاف ومخدة جاءته من البيت." ما ألذ رائحة الأم الكامنة في الشراشف المغسولة"." ص115، اعتقد أن هذه الصورة كافية لتأكيد أن الظرف والمكان، يمكنهما أن يجمعا أديبين على مضمون واحد، وعلى صور أدبية تكاد أن تكون متماثلة.
السجن كمكان مؤلم وقاسي، لهذا كان لا بد من مواجهة قسوته، فكانت الأم هي من أخرجت "هاشم" من السجن وجعلته يهيم في الحرية: "يرى وجه أمه يتموج بين زهر الياسمينة وهي تكنس باب الدار في ضوء الفجر الأبيض.
يسمع خرير ماء، هل قام أبي إلى وضوئه؟
يشم رائحة خبز، هل هي أقراص العيد تخبزها أمي؟" ص124، اللافت في هذا المشهد أن السارد يبدو فيه وكأنه خرج فعلا من السجن، من هنا وجدناه يتحدث عن الأم وعن الأب وعن البيت وما يقام فيه من أعمال، وإذا ما توقفنا عند الألفاظ التي جاءت في المشهد نجد انها بمجملها ألفاظ بيضاء، ناعمة، وهذا يعطي صورة الأم القادرة على محو وإزالة الألم عن ابنها، والتي تمنحه القدرة على الإبداع الأدبي.
المكان
يتناول السارد بيته وقريته حوارة ومدينته أربد، وكأنه من خلالها يرد على السجن وما فيه، فالبيت والبلدة والمدينة تتناقض مع السجن: ""يرى وجه أمه يتموج بين زهر الياسمينة وهي تكنس باب الدار في ضوء الفجر الأبيض.
يسمع خرير ماء، هل قام أبي إلى وضوئه؟
يشم رائحة خبز، هل هي أقراص العيد تخبزها أمي؟
خرير الماء بعيد، عبق قهوة محمصة، رائحة خبز طازج وشذى الياسمين" ص124، في هذا المشهد يقدم السارد صورة وافية عن المكان وعن البلدة، فنجده يجمع المكان بأهله، بمعنى انه لا يتحدث عن مكان منعزل/مجرد، بل مكان اجتماعي ينبض بالحياة والحيوية، وعندما يدخلنا إلى المدينة يتحدث عنها بتفاصيل كثيرة: "يشتاق إلى مساءات أربد بغيومها الشفيفة، إلى لسعة برد الصباح... يشتاق إلى قهو الكمال، كنافة العفوري، حمص الدرزي وفول ياسين، وإلى تصفح الكتب والمجلات عند كشك الزرعيني" ص142، فما كتبه عن اربد يتجاوز ست صفحات متواصلة، من صفحة 138 إلى صفحة 143، وهذا الأمر ينسجم مع اتساع المدينة، ويشير إلى علاقته الحميمة مع مدينته، وختم ما جاء عن اربد بهذه الفقرة: "ها هو يتنسم معها عبير الياسمين المسائي، أربد تستسلم لكونها بلدة وادعة" ص143، وإذا ما تتبعنا ما جاء عن أربد، نجدها مدينة جميلة الطبيعة، وأيضا مدينة ممتلئة بالحياة والحيوية، من هنا كان حديث السارد عن الناس والمحلات والدكاكين التي فيها، وكأنه يريد أن يقول أن أربد مكان فيه للحياة، مكان ينعم بالعلاقات الاجتماعية، وإلا ما ذكر العديد من الشوارع والأماكن والأشخاص فيها.
المرأة
من عناصر التخفيف المرأة، وقد تناولها السارد من خلال حديثه عن مشاعره تجاه "مها" ومن خلال رفاقه في السجن، فعندما تناولها من خلال رفاقه قدمها كجسد، يفيض بالشهوة: "...الصابون على بشرتها زبدة وعسل، صدرها لحاله يكفي أحلامي لتالي العمر، ظهرها بيدر وبطنها مثل بطن القطة، ...أندفق عسلنا ودار فينا الحمام مثل دولاب الهوى" ص67، هذا ما جاء على لسان "سعيد القط" عن المرأة التي قابلها في حمام سجن النساء، فالحديثه دور عن جمال الجسد واللذة التي يحصل عليها، بينما عندما يتناول السارد مها وأثرها عليه، يتحدث عنها بحب جمالي، بحب عذري، بحب أدبي، حتى انه يكتب لها وعنها نص مطول: "لكن صوتها انبجس داخلي ينبوع عسل...ووقفت بقدها الممشوق على رمشي... موسيقى كلماتها المبعثرة تناغيني
عطرها يشتت خطوي إلى حيث لا أدري... ياه ما احلى التفكير فيها...ما ارق هلال العيد يرتسم كخيط حاجبيها في الأفق، كأنني اكتشفت جمال الكون هذا المساء، كأنني أرى السماء لأول مرة، كأنني أسبح مع الغيم، كانني ..، كأنني احبها!" ص127-129، وكأن السارد بهذه المفارقة بينه وبين "سعيد القط، يريد القول أن المرأة لها اكثر من أثر على الرجل، الأثر الغريزي، والأثر الجمالي/الروحي، والأثر الثاني أكثر بقاء واستمرارية من الأول، لأن الأول يمكن الحصول عليه من أي امرأة، بينما الثاني لا يأتي ولا يكون إلا مع امرأة واحدة يتعلق بها وتتعلق به.
الحكم
الحكم والأقوال البليغة تمثل خلاصة تجربة الأديب في الحياة، من هنا يأتي أثرها ناعم على المتلقي، لما يحدثه من دهشة ومتعة فكرية، من الحكم ما جاء من خلال رسم الحدث كما هو الحال في هذا الموضع: "كان الضرب أهون من الشبح، ربما لان الخيبة كانت ترتسم على وجه الخصم بوضوح أمام ناظري، أما "الشبح" فيضعني أمام جدار الزمن القاسي، إلى أن يفك قيدي حارس لا يبدي شماتة ولا يجرؤ على التعاطف" ص7، فالنشوة التي تصيب المعقل في حالة فشل الجلاد في أخذ ما يريده منه، تمثل حالة انتصار وترفع من معنوياته، بينما في حالة الشبح يكون العلاقة مع الجلاد علاقة جمود وسكون، بحيث لا يجد المعتقل ما يرفع معنويات أو يشد من أزره.
يختزل "هاشم" مفهوم الحرية بهذه الفقرة: "الحرية: أن يكون لنا الحق بقول: لا" وعن الانكسار امام الخصم/العدو يقول: " الإنسان المهزوم يخاف استحضار قناعاته الوجدانية ويتستر بأقنعة مستعارة يخفي وراءها خواء يؤرجحه ذات اليمن وذات الشمال، مع الزمن يستمرئ الخذلان ويغطيه بتسويغ ما هو عليه الآن" ص169، الجميل في هذه الفقرة أنها تختزل حالة "رجب إسماعيل" بطل رواية شرق المتوسط، فالمنهزم/المنكسر يبقى يتألم ويعيش في حالة من الصراع مع ذاته حتى آخر رمق في حياته، وهذا ما جاء على لسان المهندس الذي يؤكد استمرار حالة الألم: "إن من خان روحه مرة، لا يستطيع أن يثق بشيء، لا تخن روحك يا بني" ص170، وعن التعامل مع الواقع وما فيه، يقول "سيعد القط": "الحيلة مهما كانت ذكية، فإنها لا تنجح إلا مرة واحدة" ص194، فهو من خلال هذه العبارة يؤكد على ضرورة التجديد في النهج والسلوك والتخطيط والتفكير حتى يستطع الحزب/الإنسان/المؤسسة أن تتجاوز المعيقات والتحديات.
السرد
الرواية جاءت من خلال ثلاثة فصول، الأول: "صعود الجلجلة" جاء على لسان أنا السارد" والفصل الثاني: الوشم تحت الجلد على من خلال السرد الخارجي/العليم، والفصل الثالث: جاء من خلال أنا السارد، وإذا ما وقفنا عند الفصل الثاني والذي جاء من خلال السرد الخارجي، نجد فيه فجوة في السرد، حيث ن السارد عندما يتحدث عن "مها" يعود إلى صبغة أنا السارد، وكأنه لا يريد أن يتحدث عنها السارد الخارجي لغيرته عليها، فالمقطع الشعري الذي يبدأ من صفحة 126 وينهي في الصفحة 129 جاء بصيغة أنا السارد، وهذا الكسر لسرد تكرر في الصفحة 143 حيث يتحدث "هاشم" فيه عن "مها": "(أشتاق إلى مها، هل أحبها)
عندما يتوهج رأسي بما يفرحني، أتمنى قلما من ذهب وورقا من حرير أحط عليه كلماتي" ص143، وهذا يأخذنا إلى العقل الباطن للسارد الذي يرفض أن يتحدث غيره عن "مها" من هنا تمرد على السارد العليم وتقدم "هاشم" يتحدث عنها، فهو لا يريد لأحد أن يشاركه الحديث عنها، حتى لو كان سارد الرواية ذاته.
الرواية من منشوران الآن ناشرون وموزعون، عمان الأردن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات أمام مقر إقامة نتنياهو.. وبن غفير يهرب من سخط المطا


.. عائلة فلسطينية تقطن في حمام مدرسة تؤوي النازحين




.. الفايننشال تايمز: الأمم المتحدة رفضت أي تنسيق مع إسرائيل لإج


.. رئيس مجلس النواب الأمريكي: هناك تنام لمشاعر معاداة السامية ب




.. الوضع الإنساني في غزة.. تحذيرات من قرب الكارثة وسط استمرار ا