الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا وصديقي وعلي

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 9 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يرى صديقي في دراسة له أن عليا كتاريخ شكل في وجوده واحدة من أفرد الصور وأكثرها تأثيرا في سير التاريخ، فهو مر بثلاث مراحل تناقضت وتنافرت فيما بينها ولم تكن تشكل وحده شخصانية يمكن تأشيرها أو ملاحظتها ، الأولى التي تمثلت بغياب طبيعي عن مسرح الأحداث وإن كانت هناك شذرات تؤيد أنه كان مجرد طفل أو يافع وقع تحت تأثيرات أبن عمه، بما يملك من نبوغ غير متوافق مع بيئة تمتاز بالتحجر والتحرر، قد لا يمكن الجمع بينهما في ضوء مفاهيم علم الأجتماع ولكن وجود التحرر بمعنى عدم الإنسياق وراء قانون عام مجرد ملزم للكل يعني من جهة أخرى تحجر المجتمع من أبتكار هكذا نظام يساوي بين أفراده ليس على أساس الإنسانية بل على أساس قاعدة الحفاظ على المجتمع وديمومة بقاءه ، هنا يمكن تصور التحجر مع التحرر الذي نشأ فيه محمد خارج كل قواعده الأجتماعية، يظن البعض أن فرصة نشأته في أماكن خارج مكة قد تكون أحد أسباب خروجه ونبوغه، ولكن هذا ليس كافيا في ظل تراث عام وممارسة لا تخلو عند الأخرين، المهم أن محمدا كان خارج سياقات مجتمع مكة يتلمس الطريق لإشهار نبوغه وكان عليا التلميذ التجربة والنموذج .
أستمرت المرحلة هذه حتى الأنتقالة الكبرى من مكة وإلى المدينة التي قبلت أن تكون طوع بنانه لينشر نبوغه بعد أن كثر التلاميذ، وزاد عدد المؤمنين به لكن يبقى عليا نموذج أخر، نموذج مستعد لفعل الخوارق واللا معقول إثباتا للولاء وللتلمذة، ومن هنا فبروزه مقاتلا من طراز فريد لم يدانيه أحد في الإقدام جعل منه العصا التي تتوكأ عليه دعوة محمد ، والسيف الذي يشهره في كل مرة بوجه أعداه ليكون بذلك عليا أكبر جزار وأعظم مجرمي التاريخ وواحد من أهم أبطال التاريخ الدموي الديني، هذا تشخيصه من خلال دراسة عميقة لوجود هذا الرجل في حياة محمد والعرب ، كان قاتلا لا ترده الخطوب ولم يدخل الخوف قلبه ولا مرة، إنه القوة المتعاظمة التي ولدت بقسوتها الخوف لدى الأخر وشكلت له طبقة معادية أسست لأن تجر كل الجرائر عليه فيما بعد وعلى سلالته وسلالة محمد، ولم تشفى القلوب الموترة من دمائهم لحد هذا اليوم ، هنا يمكننا أن نتصور مساحة الحقد التي زرعها بسيفه وتتبعه للولاء بدون تردد ولا شرط لمحمد ولنبوغه .
هذه المرحلة لم تكن حاسمة بالقدر التي توطن لعلي منزلة في نفوس العرب، بل زرعت الكراهية له كشخص وكمنهج صارم حاد لا يتردد في ضرب الخصم بيد من حديد، كما زادت حالات التقريب والتودد التي كان يظهرها محمد لشخص علي من أن تنمو الضغائن في النفوس ليظهرها الزمن لاحقا ، حتى رحل محمد ليجد نفسه وحيدا خاليا من الدعم والمساندة خاليا من المؤازرة إلا من ثلة من الضعفاء الغير قادرين أن يمنحوه التفويض اللازم في وجه أعداه الكثيرين، وأولهم زوجات محمد وتفرعاتها ،لقد أحدث هذا الانقلاب في وجود علي صدمته جعلته يتحول إلى العيسوية المثالية، فكان العدل التام والعلم التام والتقشف التام، تحول لإنسان كامل يمثل عيسى عصره ولقمان الزمان لأنه عاد لذاته عندما تركه محمد وحيدا .
لقد كسر سيفه ونزع لامة حربه وتخلى عن ذلك الوجه الحديدي الذي كان علامة فارقة له في حياة العرب في المدينة أتباع النبوغ المحمدي والملتفين حول شعار المساواة وتحرير العبيد، وإكمال منظومة الأخلاق التي جعلت من بلال وسيده أبي بكر ومن قبل أبو سفيان مواطنين من درجة واحدة، هذا لا يكفي وغير متوافق مع ثقافة قريش ومنهجها العرباني، إنها تفهم الحياة بعبارة سيد وعبد بائع ومشتري غازي ومغزو، لا ترى في محمد ونبوغه إلا مشروع إمبراطورية ظاهرها أبيض باطنها ثقافة قريس وقوانين الصحراء، لذا نبذت علي وتركته وحيدا بلا مال بلا قوة بلا عزيمة ،.ومع ذلك لم يستكين لأن الواقع لم يترك له الاستكانة ولا يسمح له بالحركة، إنه مثال لعيسى لكن بزي عربي ومع طائفة من الوثنيين، برغم إيمانهم بمحمد ونبوغه إنهم يقدسون أوثانهم الداخلية خارج الصلوات الخمس .
الفرق بين عيسى وعلي أن الأول قدم دمه لإقامة العدل دون أن يريق قطرة دم من الأخرين، كان هو المشروع والعدة والمنهج لم يكن يؤمن بالعنف ولا العنف يؤمن بعيسى، لذا انتهت حياته مصلوبا على خشبة الكراهية، لكن قطرات دمه التي سقطت في الأرض هي التي أوردت السلام والمحبة والعدل والحرية، في حين فشل علي في أن يجعل من تلك الدماء التي أهدرها بسيفه طريقا لجلب الناس إلى الجادة التي نجح فيها عيسى من قبل، زرع الموت فحصد كراهية العرب له وللسلالة التي أعقبها، حتى أن العرب الذين أفتننوا في زمن ما بنبوغ محمد، أصبحوا يرونه مجرد رجل قام بما يجب أن يقوم به عاقل وأنتهى، وأن عليهم أن يستكملوا كل شيء بموجب واقعهم حتى لو تناقض مع النابغة ذاته وفي روح منهجه .
يقول صديقي أنه ينتمي لعلي فقط في مرحلته الثالثة في عيسويته كما ينتمي لعيسى بالمحبة والسلام، فلا ضير أن ينتمي لجزء من التاريخ لأنه فقط هذا الجزء ما يعنيه ويشعره أنه على الطريق، وأنه بهذه الأفكار ممكن أن يكون إنسان بمواصفات فكرية تتناسب بين إلحاديته وبين روحانية عيسى وعلي في وضعه الثالث، صحيح أن الظروف ألجأت علي أن يعود لسيفه مرة أخرى، لكن ما لا يمكن أن يسجله نجاحه الأول بكامل قوته وبالمؤازرة من محمد لا يمكن أن يسجل نجاحا باهرا وهو يعاني من التفرق والتشدد من قبل أتباع النبوغ والنابغة، لذا كان ضحية سيفه هو لا سيف أعداءه كما يقول .
الحقيقة لا أعتراض في كل ما قاله أو أمن به ولكن هناك قراءة أخرى لا تقل جدية ولا تبتعد عن الحقيقة، إنها الوجه الأخر والنظرة الثانية لا بد أن أدلو بها لأنني أنتمي لعلي في كل مراحله، أو في كل وجوده وليس هذا تفاخر بل فخر به بمنهجه بسيفه وعدله، أنا مؤمن به إنسان ومقاتل وفقير من عامة الناس، به عالم وزاهد ومفكر وفيلسوف، مؤمن به ضحية وشهيد ومشروع عامل سامي لم تمنحه الأعراب فرصة أن يكشف لهم طرق السماء وطرق الأرض، ولم يمنحوه الفرصة أن يبني لهم أول ديمقراطية حقيقية في الوجود، وأول دولة علمانية مدنية يفصل بها عالمهم الديني عن حقهم في التجريب والحرية وإنشاء الرؤية الكونية التي تتصل بطرف بمحمد العالم والبشير من جهة، وبالإنسان الطبيعي المكون بنواميس الوجود بما فيه من تناقضات وتضاد طبيعي في توفيقية فكرية خالصة، ليكون فيها الأعراب رواد للفكر السياسي الإنساني ، لكن أصداء حكام الخيمة ومتذوقي جمال الوحشة الإنسانية في صحراء الفكر قاومت وناضلت أن لا يقول علي كلمته النهائية، فتركوه صريعا ليبحثوا عن زعيم من زعماء معبد قريش كما فعلوها من قبل بأخيه ومعلمه ومرشده الأول سيد العلم والمعرفة محمدا المبارك .
السفاح هو الذي يخرج بسيفه استلذاذ برؤية الدم وعطشا لسماع أهات المعذبين دون أن يكون لأي غاية أخرى غير رؤية الدم تتواجد في فكره أو في هدفه، إنها مرض النفس السالب للإنسانية والتي لا يمكن الشفاء منها أبدا، السفاحون في التاريخ لم يشهد أحد لهم أنهم أنصفوا أنفسهم ولا مرة فكيف يمكن لسفاح أن يكون عيسى في زمن لاحق، لا أظن أن عاقلا قد أباح لعقله أن يقبل توبة السفاح أو حتى توقع قبول توبته، كما لم يسجل لنا التأريخ أن عليا تاب أو أستتاب من هذه التهمة، الجريمة سلوك مائل يصدر عن نفس حيوانية سبعية لا تؤمن بالعدل ولا بالإنسان ولا تستشعر المحبة لأحد إلا لذاتها المتضخمة، فكيف يكون عليا أبا للفقراء والأيتام وراعيا للعدالة ومقيم حدودها وهو المجرم السفاح المجرد من كل رحمة ورأفة وخشية على الأخر، مجرد تقدير لحالة يؤمن بها صديقي لكن أنا لا يمكنني أن أقبل أن تقلب الحقيقة لترينا ظهرها ونؤمن أن كل ما فيها هو هذا الظاهر المعروض والموصوف أمامنا، وليس الظاهر الحقيقي المتوافق مع سموها كمطلق لا يقبل التأويل والتبديل، الحقيقة دوما مرة لا يتذوقها إلا بمن أمن بها وسعى لها في كل الظروف المرة والحلوة .
عيسى الذي أنتمي له بكل وجودي كما أنتمي لمحمد وعلي لم يكن رسولا لمجتمع مكة ولا لشعب مثل عربان الصحراء الذين لا يفرقون الفرق بين الطين والدين، بل كان رسولا إسرائيليا تاما على ملة إبراهيم الخليل، كما كان مجتمعه إسرائيليا على ملة موسى والأنبياء من بعده أهل دين وعقيدة وفكر ونظام، كان مجتمع بني إسرائيل متعبدا ومنتظرا للمخلص منتظرا للنموذج المسالم الذي يعيد عربة موسى على سكة إبراهيم، لم يكن مجتمع بني إسرائيل يؤمن بالسيد المطلق والعبد المطلق في مجتمعه على الأقل وإن كان تعلم الكثير من الوثنية من مجتمع الفراعنة وديانة الشرك، حتى أضحى الوثنيون المتعبدون أكثر من الأحرار أهل الدين والسلام ، كان مجتمعهم بحاجة لمصلح للسلام ويعيد مفهوم الحب للإنسان بعد أن طغى مفهوم الحب لدينار والدرهم، لذا لم يحتاج عيسى لسيف مثل سيف علي ولم يحتاج لعلي من بين أنصاره، بل أراد أن يزرع الثقة بالإنسان المجرد الخالي من العنف والخالي من الضغينة والمجتمع يعرف هذا ويقدر .
أنتمي لمحمد ليس لأنه نبي ورسول قد أحتفظ لنفسي أن اصدق أولا أصدق بنبوته لكنني على ثقة أن كل ما جاء به وفقا لقياساته العقلية التي أدمنت على تجديدها وصيانتها تقول لي أنها تمثل كل الخير، تعكس حقيقة روح الطبيعة وتوافقها مع وجود الإنسان ومشروعه الإصلاحي، بل لا أجد في مفصل صغيرا تعارضا بين إيماني بإنسانيتي وبين ما جاء به من تعاليم أو ما يسميه البعض من نبوغ وعبقرية، ويكفي أنني أتمتع كثيرا عندما أتذكر وصاياه التي أرست أول مفاهيم الحرية ومحاربة الأنانية والتسلط ، كما أنه أبدى كامل السلوك الإيجابي الإنساني في تعامله مع الأخر المحالف والمخالف دون أن يتعدى على بشرية وآدمية أحد .
قد يقول البعض ولأنه أمن بالعنف والترهيب والسيف، أقول لا بد لمن يملك حقا ما أن يدافع عنه، هو صاحب مشروع للدفاع عن الفقراء والضعفاء في وجه نظام متحجر لا يرى للضعيف رأي وللمسكين من وجود، هذا جلب عليه نقمة الظالمين فأما أن يستسلم ويجيب زعماء قريش لدعوتهم أو يصر على (لو أعطوني الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أعود عن أمري هذا ما فعلت) إنه التكامل بين الحق ووسائله الدفاع المشروع عن الذات ، لم يكن غازيا ولا معتديا ولا قاتلا مأجورا ولا قاتلا لأجل منفعة مادية ، إنه مارس الدفاع الإيجابي عن حق الإنسان وحقه في أختيار الحرية ، لذا أنا أنتمي لهذا المنهج ومستعد أن أخوض غماره لو ألجأتني الظروف وإن كنت أبديت الوداعة والسكون حاليا .
أنتمي أيضا لعلي المسالم كما أنتمي له وهو يدافع عن قيم أمن بها وأخلص لها، وضرب مثلا لكل المناضلين في أن قضية الإنسان لا يمكنها أن تكون محل مساومة، لم يقبل علي أن يكون مداهنا ولا براغماتي ولا من طبقة الحكام ، بل كان فارسا نبيلا أبى أن يرد بصقة عمرو بن العاص حتى يسكن غضبه، كما علم الفروسية للفرسان يوم نازل عمرو بن ود وهو يستدرجه لموضع الضعف والاستكانة بقوله أنه كان صديقا لأبيه ليرد أن أبيه يخصه وحده والحق يخص الوجود وشتان ما بينه وبين الوجود، هذا ما يفسر وصيته لأولاده عندما ضربه قاتلة قال (أحسنوا لأسيركم فإن عشت فحقي وأنا حر به وإن أنا مت فضربة بضربة)،هذا العدل لا يمكن أن يجسده كل أدعياء العدل في الوجود فردى ومجتمعين، فكيف بي أن لا أنتمي لهذا المثل الأعلى في العدل المطلق، ولا يمكن لمجرم وسفاح وقاتل أن يسطر للنبل والفروسية قانونا معتمدا ومعمدا بالتجربة الشخصية والممارسة الفعلية الحاضرة في صفحات التاريخ .
صديقي قد لا تؤمن بما أنا مؤمن به ولكنني تركت لك الباب مفتوحا أن تستمر في البحث عن خيوط أكثر تربطنا بمحمد وعيسى وعلي، ودعنا من البحث عن غير ما سطروا كبشر من تصرفات سلوكية، فلا هم طلبوا منا أن نصدقهم بلا عقل ولا هم من فرض علينا أن نؤمن بما أمنوا به، لذا أنا لا أنكر ما تؤمن به وأنت بمكره على ذلك ولكنني، كصديق أدعوك لأن نجعل من هؤلاء البشر أصدقاء تجمعنا قيم وتمنحنا هذه العلاقة شعور أكبر بأننا يجب أن نبحث عن الوجه الأخر، الوجه الذي تعمد الكثيرون من أعداء الإنسان أن يزيفوه بعد أن عجزوا من أن يخفوه وأني أعلم أنك مصدقي .
إذا من يعرف عليا عليه أن يعرف حقيقة واحدة، هي أن العقل الإنساني حينما يتحرر من طوق الجسد وضرورات المادة يمكن أن يكون أستثناء خارج مدى المتوقع والممكن، علي ليس إماما فقط أو قائدا إسلاميا وخليفة، فهو بهما أو بدونهما يبقى الظاهرة التي لا تتكرر ولا يمكن أن تعود، فقد عرف وجوده جوهريا قبل أن يعرف الأخرون مجرد بناء هذه الكلمة وما تعني، لذا ضل طوال حياه يشرح للناس ويثقف ويتأمل ويسبر أغوار المخفية من الأفكار وهو واثق من عقله، قد يكون الله قد منحه ميزة أضافية، ولكن أيضا هناك أكثر من فرد منح تلك الفرصة، ولكن عليا سخرها لأجل الإنسان وفي طريقه بسط كل ما يعرف ولم يبخل بعلمه على أحد، لذا فما يعرف عنه أقل بكثير مما لا يعرف غير أنه شجاع وفقيه وعادل ومحارب من الطراز الذي يندر في وجوده، كل هذه الصفات تبقى إنعكاسا لمعرفته وفرعا من روحانيته، ولكن الأساس الأول أنه كان فوق مستوى وعينا وفوق مستوى إدراكنا له.
لقد كان لولادة علي في مكة وفي مجتمع يبدو لنا من منظار زمني بعيد نوعما شبه أقطاعية أستبدادية شعارها (السيد والرب أنا) كمفارقة تأريخية جاءت على موعد مع حدث أخر، حدث سيكون مفتاح لتبدلات كونية وتغيرات على غير نمط المعتاد، إرهاصات التغيير وأدواتها قد أستحضرت وفق رؤية كونية سابقة وفوقية، ولكن كواقع حال يبدو أن المفارقة هذه ستولد بعد حين وهي لا تملك جذر يساعدها على البقاء وملتصقة بالواقع، فلا مكة مهيأة لأن تبيع هويتها لهذا التحول ولا قادرة أن تتجنب إعصار التحول ومده التسونامي، فأختار سلاحها الطبيعي سلاح الأنا المتضخمة (القتل أو الشراء) وكلاهما لا يمكن لعلي أن يقبلهما، ولا يمكن لعلي أن يتعامل بهما خارج نطاق معرفته الكلية ووعيه المطلق، لذا تحول عليا وإن كان مكيا قرشيا إلى العدو رقم واحد لمكة وقريش وأحلافها وأنصارها ومن يؤمن (أن لا نسب إلا لقريش ولا وطن إلا مكة).
هذا التناقض شكل واحدة من إشكاليات علي في الوجود وواحدة من أساسيات التغريب التي عانى منها في حياته وبعد رحيله المبكر، فهو ولد في خضم طفرة وجودية وبلا غطاء موضوعي يفهم من هو علي؟ ولماذا صار أستثنائيا في زمن عاقر بالفكر والمعرفة؟ صحيح أنه كان ربيب النبوة ومحل العناية منها، لكنه أيضا تحمل كل وزر العناد والرفض والإقصاء وكأنهم ينتقمون من الله الذي بعث الإسلام بالأنتقام منه شخصيا، ليس هذا فقط بل حاولوا في مرحلة تسقيطية لاحقة أن يجعلوه مساويا لغيره من رعاة الأبل وأبناء النكرات، ليكون سلاحهم القادم أن لا فضل له ولا ميزة سوى أنه رجل من الصحابة، هذا الموقف لم يمر مرور الكرام في مجتمع متصارع مع ذاته ومع وجوده ومناقض لكل منطقية تعقليه، فقد أنبرى من يحبه ويواليه ودفاعا عنه كما يظنون أن ألهوه وقدموه على أنه إرادة السماء كاملة وجردوه من إنسانيته الطبيعية ونسبوا له المحال.
علي قد يكون عند الكثير رجل إشكالي جدلي بروحه الإنسانية المفعمة بكل ما هو طبيعي وغير متكلف، ولم يقيم معرفيا بقدر ما قدمه محبوه وأعداءه على السواء كإنسان خارج القدرة على الفهم، المثير في قضية علي أنه ولد في مجتمع جاهل تنعدم فيه مصادر العلم والمعرفة والتنوير، ومع ذلك كان واحدا من أعاظم ما منح الوجود من معرفة لليوم تستصعب على الكثيرين في تدبرها وفهمها، لو كان الدين وحده هو مصدر معرفته لما خرج علينا بهذه الضخامة من الرصيد المعرفي والفلسفي مع وجود الكثيرين من الذين تخرجوا من نفس المدرسة الدينية وبنفس الظروف المعرفية، هذه أيضا إشكالية جدلية في كيفية بناء معرفته العلمية والحكمة التي ينطق بها من دون أن يكون هنالك من حاضنة طبيعية مهيأة لأن تنتج لنا مثالا حيا أخر له.
لست مغاليا ولا مدعيا أن منتج علي المعرفي اليوم يبقى محدودا في طيات الفهم الديني لمحبيه وقراءه، ويربطون دوما بينه وبين الإسلام على النحو الذي يعتبرونه هو الناطق الحقيقي له، هذا فخر حقيقي ولكنها ليست الحقيقة كاملة بأوجهها المتعددة، البحث عن علي في الدين أو البحث عن الدين من طريق علي، هو جانب واحد من شخصيته العامة ومن نمطية ونسقية تفكيره الحر، نعم كان عليا مثالا للمؤمن الكامل بإيمانه بالإسلام وكان يدا وعقلا وبصيره لرفاقه في الدين الجديد، لكنه أيضا تميز بوعي عميق عبر مقولاته الإنسانية التي أبحر بها بعيدا عنهم ووحيدا في عالم المعرفة والعرفان الكامل، فالناس والإنسان عند علي واحد مؤمنا أو كافرا فهو يرى فيه أو فيهم الحقيقة المطلقة ( الإنسان أخو الإنسان إن لم يكن أخا لك في الدين فهو نظير لك بالخلق)، هذه الفلسفة تطرح فهما متقدما لماهية الإنسان وكيفية التعاطي مع الأخر المختلف على قاعدة أن الإنسانية هي الدين المطلق، وكل ما عداها تفرعات فهمية ومعرفية لهذه القاعدة الجامعة والحاوية لكل معاني أن يكون الإنسان إنسانا واحدا.
على أعداء علي قبل محبيه اليوم أن يحاولوا أن يقتربوا من الرجل كإنسان وليس كخصم ديني أو رمز إيماني يختلفون مع دينه أو عقيدته، فهو كإنسان لم يأخذه الدين لجانبه كليا ليكون متشخصنا به ولم يجره إيمانه لرفض الأخر ومعاداته، من هنا أود التذكير بأهمية علي كمعرفة وعلم وحكمة إنسانية فوق رغباتنا وأقدر على فهمنها حتى من أعاظم مفكرينا، لأنه يقدم نفسه إلينا محبين وخصوم كعامل مشترك يتساوى عنده الكل في تكوينهم وماهياتهم الطبيعية، لذا نجد كثيرا ممن لا يؤمن بدين علي يؤمن به شخصيا وهو على قرب أكبر وأدق من يدعون محبته، المسألة ليست شخصية ولا هي رغبة في الإعجاب برجل أسطوري، ولكنها بالحقيقة رغبة في البحث عن أنفسنا في فكره ومعرفته وإنسانيته، حتى لو تطلب الأمر أن نترك قناعاتنا الدينية جانبا ونستمع له كتلاميذ صغار في حضرة حكيم مقتدر.
في ذكراه اليوم جليا بنا نحن محبوه ومن عشقناه أن نتخلص من رداء العشق الإرثي والإعجاب الفارغ دون أن نرسم خطواتنا بفيض من أفكاره، ونعدل برمجياتنا العقلية والسلوكية لنقارب محتوى رسالته للناس ومحبته للجميع، لو كان عليا بيننا اليوم لا يتردد أن يقول ذات الكلمة التي قالها بالأمس لمناصريه وهو يراهم قلوبا بلا وعي وعقول جيشتها العاطفة (لقد ملئتم قلبي قيحا)، أجزم أنه لا يريد أن يكون بيننا اليوم بعد الف وأربعمائة عام تركنا فيها ولم نتغير ولم نتبدل ولم نقترب منه كما ينبغي، هو علي ذاته الذي تمنى اللحاق بربه سريعا بعد أن رأي كل البنيان الذي أشاده سنين طويله يهدمه من كان له سندا وحماية بجهل أو قلة علم أو معاندة، جازما أقول أن عليا لم يتغير عنا ونحن لم نتغير عنه والحال يبقى عصيا على الحل حتى نضع حياته وفكره وعلمه في مقدمة المعرفة الواجبة والضرورية، وننهض ليس لتقديسه بل لتقديس عقولنا ونحترم إرادتها في التحرر، عند ذاك سيولد الف علي بيننا مع فارق التكوين وفارق العنوان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س


.. كل يوم - د. أحمد كريمة: انتحال صفة الإفتاء من قبل السلفيين و




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: صيغة تريتب أركان الإسلام منتج بش


.. عشرات المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى




.. فلسطينية: العالم نائم واليهود يرتكبون المجازر في غزة