الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوارات سوريالية

عذري مازغ

2022 / 9 / 6
الادب والفن


التقينا ذات مرة في إحدى المدن الساحلية وكان معه صديق لا أعرفه من أهل البلد كما سيتبين فيما بعد، كنت في مقهى احتسي بنا فوقف علي شخص يطلب بطاقة هويتي، سألته عمن يكون فأظهر لي بطاقة ذات خيوط رسمية حمراء وخضراء، قال لي بأنه من رجال الأمن فصدقته على الفور، نزعت بطاقتي من جيبي وهو يبتسم ابتسامة نكراء كأنه تمكن مني، مر بذهني خيط طويل وبسرعة فائقة، شريط لمؤامرات يفترض أني شاركت فيها والتي على العموم ليس فيها ما يجعل رجل أمن يبحث عني، وحتى تلك القضايا الشائكة التي أتبناها من النظام لا تستحق اقتحامي في مقهى
ــ ما سمك؟ يسألني
ــ هو مكتوب في البطاقة، أجيبه
ــ يبدو أنك عنيد، قالها بحزم فيما وجهي بدا يحمر.
شعرت بجسمي يتشوك وبدأت أتربص محيطي هل هو وحده أم معه آخرين، حضرت في داخلي تلك العمليات الإقتحامية لاعتقال بعض رفاقي سابقا، تذكرت صديقي نون حين حكى لنا عملية القبض عليه واعتقاله، لقد قابله شخص مثل هذا وهو نازل من الفندق بمدينة الرباط، ولما رأى أن الشخص وحده أطلق العنان لساقيه ففوجئ في آخر الزنقة بوجود آخرين، اسقطوه ثم أخذوه معهم في "اسطافيت". لا أتذكر اسم الساحة في أكادير، لكن في المقهى حيث احتسي بنا كان هناك فندقا يسمى فندق السينديباد وآخر اسمه فندق الف ليلة وليلة واتذكر ترجمتها الفرنسية في الفندق، الساحة مفتوحة ليس كالممر الذي قبض فيه على صديقي نون، ثم إني في مدينة أعرف ممراتها بشكل مطلق، وساقاي أسرع من ساقي صديقي، ثم إني لدي تجربة في الإفلات في مثل هذه الأمور: مرة بسلا وانا عائد من منزل صديق لي ليلا، تعرضت في ممر ضيق ب"سوق الكلب" لمحاولة سرقة بالعنف وسط الممر، اوقفني شخصان وهما يأمراني أن أمنحهم كل ما عندي بسلام وإلا سيتصرفون بطريقة أخرى، لا حظت انه عند نهاية الممر يقف اثنان آخرين، نظرت إلى المدخل فرأيت آخرين، مع ذلك اطلقت العنان للساقين وعند نقطة الإلتقاء مع الآخرين في مخرج الممر قفزت فوقهما فيما هما تجنبا ان أصيبهم في قفزتي، انفلتت منهم لكن مع ذلك تلقيت ضربة في يدي.
عندما وضع الرجل بطاقتي على الطاولة في مقهى اكادير وقفت لتوي أنظر إلى محيطي أفكر في إطلاق العنان لساقي مع أخذ بطاقتي فيما هو يبدو أنه تنبأ للأمر، وضع يده فوق البطاقة وهو يشير علي بالجلوس ويبتسم في نفس الوقت، أثارتني بسمته مرة أخرى، ليست هذه المرة ابتسامة نكراء بل ابتسامة مكر، في الأخير جلست وقلت في نفسي ليأتي الجحيم، ليس هناك ما يستحق كل هذا، لكن في ذلك الشريط الذهني تحضر امور أخرى عاطفية: لا يهم ما سيحصل لي (إنه استسلام مطلق) لكن ستشعر بنوع من الذنب، ستحضر في شريطك الهني السريع تلك النصائح من الأهل والأقارب والأصدقاء ونصيحتهم البلهاء: "دعك من السياسة وأبحث عن مصيرك ومستقبلك"، في هذا الوضع يبدو أنهم على حق وتشعر بنوع من الانهزام: لقد ضعت تماما.
إنها خلاصة قاسية خصوصا إذا وضعتها في هذا الجم من الفساد المستشري في إدارة الشرطة والامن والداخلية وكل هذا النسيج من القمع في دولة قضاؤها حتى متخلف. لكن الأقسى في كل هذا الشريط الذهني هو أنك هذه المرة ستعتقل دون حتى أن يعرف أهلك. تشعر بالذنب تجاههم وتعرف تماما انهم سيسألون عنك وانت لست تستطيع ان تخبرهم، تشعر بالندم تجاه ذلك التمرد الذي مارسته عليهم حين ينصحونك ان تترك السياسة وتبحث عن الخبز فقط وتكتفي بما قدر الله لك ولقطيعك: "أنت لست قويا بما يكفي لتغيير العالم وخير لك أن تفعل ما يفعله القطيع: البحث عن العمل، الزواج وصناعة الخلف، الأكل والشرب والاستمتاع بالحياة فيما هو متاح، وبشكل عام هذه النصائح واقعية ولا حاجة إلى تلك التحليلات التي تفسر ظواهر الظلم والفقر وغير ذلك، وليس ضروريا تلك المبادئ التي تدعوا إلى التضامن مع المقهورين وإدانة الظالمين لانها كلها تؤدي غلى نتيجة حتمية هي: "غادي اتجيبها فراسك" (هو تعبير شعبوي يعني أن الرصاصة ستأتي على راسك). كل هذا الشريط دار في ذهني حينها، لكن فجأة ظهر صديقي وهو يضحك، صديق الطفولة والشباب والذي نسيت ملامحه بسبب الفراق، أما رجل الأمن فلم يكن إلا أحد أقاربي من جهة والدتي اما خيوط بطاقته الحمراء والخضراء فليست إلا رمز من يعمل بالداخلية والجيش، كان قريبي هذا يعمل في الطيران الحربي ولا علاقة له بالأمن والشرطة، كانت الحكاية كلها هي أنهما لم يتصورا وجودي بأكادير ولما شاهداني فكرا في هذه المزحة التي أرعبتني بالفعل. لم أكن أعرف قريبي هذا وإن كنت سمعت عنه في منطقتي بالأطلس المتوسط: كان بطلا معروفا في رياضة القفز بالمظلات العسكرية وانه بالإمارات وليس في اكادير.
أما صديقي فهو في أكادير يمتهن مهنة التعليم بعد نيله شهادة الليسانس في الدراسات الإسلامية، لقد فرقنا رحيل والديه إلى مدينة في الصحراء ثم زادت في تفريقنا الأيديولوجية: كنت يساري ماركسي اما هو فكان إسلامي وإن لم يتخندق بعد في الجماعات الإسلامية. في حوارنا بأكادير دار نقاش جميل وصحي، في مجمله أيديولوجي، أما قريبي فكان يحب هذه الثقافة التي بدأت تتبلور بشكل علني: الدفاع عن اللغة والثقافة والإنسان الأمازيغي وكان يناقش بنبرة حادة مفادها اننا في المغرب كأمازيغ نحن الأقوى وكان يركز في كون أغلب الأمازيغ علماء في الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية بشكل عام وهي نبرة في سياقها العام عنصرية وإن لم تكن مقصودة منه فهو لا يعرف لماذا اتجه الكثير من الامازيغ إلى عالم العلوم وليس عالم الأدب، وبشكل عام كإجابة على هذا، كان المواد الأدبية تلقن لنا بالعربية بينما المواد العلمية وإن كانت باللغة الأجنبية فهي تمتلك لغة الذكاء أكثر من كونها لغة فيكتور هيكو، مثلا لغة الرياضيات والفيزياء هي لغة حروف (لاتينية إن شئتم) وأرقام تفهم في سياق معادلات ذكية مبررة بينما اللغة الأدبية تحتاج تملك اللغة قبلا، وإذا كانت اللغة العربية الفصحى هي المسيدة سياسيا في المغرب والتي هي غير منطوقة في اللسان المغربي (الدارجة المغربية ليست هي الفصحى العربية ومنطق اللغة في الأمرين مختلف، في الدارجة المغربية او اللغة المغربية يميل المنطق فيها إلى كونه منطق اللغة الأمازيغية: "اضربت الطريق" (بالأمزيغية: اوثخ أبريذ) مثلا لا تعني فعل الضرب على الطريق بل تعني بالعربية الفصحى مشيت كثيرا إلى حد الإجهاد والعياء).
يحتاج تملك اللغة العربية إلى عمل مكثف لتعريب الأمازيغ منذ الولادة: يفترض إذا اردنا تعريب قوم، حين يولد طفل أمازيغي، يجب اخذه مباشرة إلى مختبر اللغة العربية: ان يتعلم الأبجدية العربية منذ ولادته والحال ليس الأمر كذلك، يمكن هذا القول أيضا أن ينطبق على الدول الإفريقية المستعمرة، فرنسة المستعمرات الفرنسية تفترض ان يولد طفل ويؤخذ مباشرة إلى مختبر التحنيط اللغوي الفرنسي ونفس الشيء بالنسبة للغاة الغازية الأخرى.
هذه العملية المختبرية خضع لها مثلا ملك المغرب الحسن الثاني: يتقن اللغة العربية لأنه وضع في مختبرها منذ الصغر ويتقن اللغة الفرنسية لنفس السبب ولا يعرف أصلا الامازيغية وحتى لا يظلمنا احد في هذا المنحى سأستشهد بالملك الإسباني: يتقن اللغة الكاتالانية، الغاليسية، الكاستيانية والباسكية لأنه منذ صغره وضع في مختبرات هذه اللغات الوطنية وطبعا تعرف البورجوازية المغربية هذا حين يتعلم اطفالها كل هذه اللغات الاجنبية: ملكة تملك اللغة تتم في الصغر بنجاح اكثر من تملك هذه اللغات فيما بعد، دكتوراة في الفيزياء لا تعني ان الشخص يتقن الإنجليزية لان بحث الدوكتوراة يفترض هذا بل يعني انه تملك جزءا من اللغة الإنجليزية (كلمات الصرف بالتحديد) مع بالطبع إنتاج او اكتشاف نظرية جديدة تعتمد لغة الذكاء.
مع صديقي القديم، تصادمنا في الجدل، تحول من نقاش في الفلسفة الميتافيزيقية حول الوجود إلى تناقضات جديدة فاجأتني شخصيا: حين انكرت مثلا وجود الوحي، عارضني رفيقي باستعمال تقنيات العصر: الراديو والتلفزة ومن خلالهما الأمواج والأشعة: إذا كان الإنسان يستطيع الآن ان يوجه خطابا عبر الراديو فكيف بالله؟
ــ لكن هذه تقنيات مدروسة وملموسة عبر استعمال الموجات والأشعة وأجهزة تحكم وغير ذلك؟
ــ إذا كان الانسان يستطيع ذلك فكيف بالله القادر على كل شيء
ــ لكن لم نحسم بعد بوجود الإله! وكل ما لدينا هو اننا اكتشفنا موجات وإمكانيات أخرى للتواصل ووظفنا لأجل التحكم فيها اجهزة!
ــ إذا كان الإنسان يستطيع ذلك فما بالك بقدرة الإله الخارقة
ــ لكن هذه القدرة غير مثبتة علميا؟ هناك اكتشافات علمية سمحت لنا بالتحكم في هذه القدرات! وفي كل مرة يكتشف الإنسان قدرات اخرى، إنه تطور العلم
ــ تطور العلم يستند إلى حكمة القدرة المطلقة عند الله، الله هو السابق وهو اللاحق وهو الأخير
ــ بالفكر الباطن يمكن تصور ذلك وهو لب الفلسفة الإسلامية، لكن الباطن هذا هو خيال ممنطق وهو في الأصل صلب الفلسفة المثالية وهو في الفلسفة المادية شيء أرعن يختلف عن مقولة الوجود نفسه، مثلا : "لكل شيء بداية" والبحث عن البداية أمر لا ينتهي.
طال النقاش بيننا وانتهينا إلى ان ندخل السينما لمشاهدة فيلم صيني: "الكاراتي": تغذية الذات بالعنف الياباني .
مضى وقت طويل لكي ألتقي بصديق هذا في مكان متلبس، كنت لتوي خرجت من بار بمدينة اخنيفرة، كنت سكرانا (نشطا باللغة المغربية، لم اكن سكرانا تماما)، رأيت صديقي بلحية إخوانية ودراعة صحراوية او أفغانية لا أتذكر، حاولت ان اتعمد اني لم أراه، لكنه فطن بي، عرف اني تجنبته لأني سكران، ناداني باسمي بشكل لا أستطيع تجنبه:
ــ أهلا وسهلا صديقي، لم اراك (او ارك، لا أفهم هذه القواعد النحوية) ثم استدرك:
ــ لا يهم، قل لي أين يوجد هنا حمام (دوش عمومي)
ــ هناك! هو قريب، أجبته وانا اتظاهر بأني مشغول
ــ شوف! هاد النهار هو انهارنا، "ابلا ماتهرب"! (ليس عليك ان تهرب)، ستصاحبني إلى الحمام وستنتظرني حتى أستحم .
ــ لكن..! حاولت ان أجيبه فقاطعني: لا! لكن ولا حتى حاجة، انتظرني فقط، سأستضيفك، فقط حاول ان تكون صديقي هذا اليوم، انا اثق بك، عافاك الله إبق معي ! انتظرته في الحمام ولما خرج خرج بهياة جديدة، خلع اللحية وجلباب أفغانستان أو دراعية الصحراء ولبس الدجين وقميص "مودرن":
ــ سنذهب اليوم، ستصاحبني اليوم إلى نفس "البار" الذي خرجت منه، سنشرب معا وليقع ما يقع.
ــ انت إخواني!
ــ لم اكن إخواني على الإطلاق، احب اسلام والدي ووالدك، إسلام طيب وجميل، إسلام إنساني، انت على حق: كرهت هذه "الدراعية" الخونجية، لكن لا زلت مسلم مثل أبي
ــ اصبحت شعبوي، ضحكت قليلا، عندما كنا بأكادير كنت تدافع عن الوحي وكون الراديو والموجات والاشعة والكهرباء هي مسلمات وجود الوحي
ــ نعم صحيح! الأمور تبدو منطقية لكن هناك سؤال ميتافيزيقي: لماذا الله يريد ان يعبده البشر؟ هو أمر عبثي، هو اصلا لا يحتاج إلى عبادتهم له.
هذه مقدمة فقط أو توطئة للدخول في حوار سوريالي الذي سندخله في الجزء الثاني .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با