الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجنة والأرض في رواية -جنة الشهبندر- هاشم غرايبة

رائد الحواري

2022 / 9 / 7
الادب والفن


الجنة والأرض في رواية
"جنة الشهبندر"
هاشم غرايبة
قليلة جدا الأعمال الروائية العربية التي تناولت الجنة، العالم الآخر الذي ينتظرنا يوم القيامة، وكما يوجد شح في الروايات العربية التي تتناول فكر فلسفي، واعتقد أن الروائي الوحيد عربيا الذي كتب عن الجنة والعالم الآخر وهو "محمود شاهين" في روايته "غوايات شيطانية، ورواية الملك لقمان، وهو الوحيد الذي تحدث بلغة فلسفية من خلال رواياته: "زمن الخراب، عديقي اليهودي، قصة الخلق" وأن يأتي "هاشم غرايبة" ويكتب ضمن هذا الاتجاه فإن هذا يعد أنجاز آخر للرواية العربية، من هنا نجد ضرورة التوقف عن ما جاء في الرواية، إن كان على مستوى المضمون أم على مستوى الشكل الأدبي.
شخصيات في الجنة
الرواية تتحدث عن الشهبندر الذي دخل الجنة، وهناك وجد مجموعة من الشخصيات التي يعرفها، وشخصيات تاريخية وهي: "ابن رشد، وأبن ميمون، أحمد أبو خليل، القزويني، ناجي العلي، غادة السمان، جعفر بن يحيى البرمكي، أحمد زويل، الجاحظ، الرازي، ابن سينا، الكندي، ابن النفيس، الزهراوي، غلان الدمشقي، واصل بن عطاء، ابن الهيثم، ابن خلدون، أحمد العمري، محمود درويش، السياب، أمل دنقل، عبدالله العروي، طه حسن، سليم بركات، حسين البرغوثي، علي شريعتي، مهنا الدرة، جواد علي، نوال السعداوي، تيسير سبول، مهدي عامل، سعد اله ونوس، فاطمة المرنيسي، زياد رحباني، ميساء الرومي، محمد بوعزبزي، مؤنس الرزاز، يوسف شاهين، محمد منير، محمد ديريه، فردوس عبد الحميد، محمد طملية، بليغ حمدي، إبراهيم زعرور، مريم جبر، قاسم حداد، زياد طناش، جميلة الزعبي ..أبو علي المعري طبعا" ص112، يضاف إليهم شخصيات الرواية ندى، لوليتا، الترفة، ابن عربي، نعيم، حياة، ماهر بيك، عرار، إلياس أفندي، رابعة (أم الخير)، عارف عواد الهلال، عبدالله النوري، سمية، النفري، جابر بن حيان، زرياب، الموصلي، وهذا ما يستوقف القارئ متسائلا: كيف دخل هؤلاء الجنة، ومنهم من يُعتبر (كافر/زنديق/ملحد/ماجن)؟.
أسباب دخول الجنة
عندما يسأل الشهبندر عن سبب دخول عبد الله النوري الجنة والذي: "نشأ شحاذا على قارعة الطريق، ثم نشالا محترفا في السوق، صحيح أني استأجرته في قضاء مصالح تجارتي، لكنه قارئا للكف وعارفا بالطالع، واتغنى عن العمل في السوق.. ولما صار شابا بعضلات مفتولة وشوارب معقوفة، استأجرته لحماية صالة الكازينو من العابثين، ويسلي الزبائن المحزونين بقراءة طالعهم" يجبه
"دخلت الجنة بحسنة أني كنت أبيع المحزونين أحلاما وردية وآمالا عريضة" ص62، اللافت في الإجابة أنها تركز على الخدمة الطيبة للآخرين، وتتجنب مسألة العبادة، فعبدالله كان يبث الفرح في النفوس وهذا ما جعله من أصحاب الجنة.
أما الشاعر عرار الذي عرفه الشهبندر: "محاميا نزقا، وشاعرا بوعيميا يحب الشراب والنساء ويمدح الغجر نكاية بالحكام، كيف غفرت ذنوبه؟" ص62، عرار يجيب بقوله: "فزت لأني كنت محامي الفلاحين ضد المرابين، فزت لأني لم اشمخ بأنفي على عبدالله المسكين، ولم أنسى أنه خير من يداعب وتر الربابة في عمان، وامهر من انطق البوق" ص62.
أما زرياب فبعد موته اختلف عليه رجال الدين: "منهم من اعتبره زنديقا فرفض تكفينه والصلاة عليه، ومنهم من أجاز غناءه وتجمله...أفتى الشيخ الإمام أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة قائلا:
علينا تلقينه، وليس علينا حسابه" ص75، وبعد التلقين جاء الملاكان عليه وكان بينهما بين زرياب هذا الحوار: "من أنت؟ وكيف قضيت عمرك؟
قال: أنا زرياب المغني.
ـ وما تلك بيمينك يا زرياب؟
ـ آلة غناء.
ـ أي غناء تغني؟
ـ الموشحات.
لم يكن الملاك يعرف ما هو الغناء، فقال له بفضول: كيف ذلك؟!
دوزن زرياب عوده وعزف، تنحنح وغني، لم يشأ الملاك أن ينتهي ذلك أبدا.
شنفت الأرض آذانها، وفتحت له الجنة أبوابها" ص75و76، نلاحظ أن الجنة مكان مفتوح لكل من يُحدث فرح في الناس ويمتعهم، فدخولها يرتكز على خدمة البشر وتقديم ما يجعلهم سعداء في حياتهم، أو يخفف عنهم بؤسهم.
بهذه الإجابة يمكن أن يستوعب القارئ كيف دخل كل من ذكرهم "الشهبندر" الجنة، فهي مكان مفتوح لكل من عمل الخير، وليس لكل من تعبد. فكرة الدخول إلى النعيم والفردوس متعلقة بالأعمال وخدمة الناس.
وهناك من دحل الجنة لفكره ولما قدمه من معرفة للمجتمع، تقول ندى عن سبب دخولها الجنة: "الشر مكون أساس للإنسان، ولكنه لا يحدد هويته" هذه العبارة من بين كل محاضراتي الفلسفية هي التي أدخلتني الجنة" ص79، إذا ما توقفنا عند هذه الفقرة سنجدها متعلقة بالإنسان أينما كان، ولا تخص شعب/أمة/جماعة بعينها، بمعنى أن الشر لا يخص شعب أو جماعة أو أمة، فهو موجود عند كل الأفراد وكل الناس، ولا يمكن أن نقول أنه هناك جماعة موجدة للشر، بهذه الروح الإنسانية دخلت "ندى" الجنة، فالمنطق الإنساني قادر على تحقيق النجاة لأصحابه في الدنيا وفي الآخرة.
الزمن والمكان في الجنة
الزمن السماوي غير الزمن الأرضي، في السماء يمكن التقدم والتأخر في الزمن حسب ما يراه أهل الجنة، الذين يتمتعون بحرية التنقل في الجغرافيا دون عوائق، فهو يقدرون عبور الزمان والمكان معا، وهذا يأتي كتعويض عما وجدوه من مضايقات أمنية وسياسية على الأرض: "ألم تدرك بعد أن الزمن هنا يتدحرج إلى الأمام وإلى الخلف بلا ضوابط، بصحبة إلياس وعرار وعبدالله، قادتنا الطريق إلى قرطبة لحضور حفل زرياب" ص69، أعتقد أن حرية التنقل أجمل ما وجوده أهل الجنة.
الحياة في الجنة
حياة الناس في الجنة تتماثل مع حياتهم الأرضية، فهم يشترون، ويبيعون، ويأكلون، ويتزوجون، يتسامرون، يتناقشون، وأحيانا يشعرون برتابة الحياة كما كانوا على الأرض، يقدم لنا السارد مشاهد من حياة الجنة، يتحدث ابن عربي عندما كان بصبحة رابعة (أم الخير) وكيف كانا يمضيان وقتهما: "رددي أحرف الهوى فكلانا في سناها مكرم مفتون
تمايلت رابعة طربا وهي تجيب:
تصاعد أنفاسي إليك دواب. وكل إشاراتي إليك خطاب
كنت وأم الخير نتناغى بأشعار الوجد الصوفي، لما هبت نحونا نسمة عطرة تومض بخبر جديد، وحطت على كتفي حمامة
حتى في الجنة، يسعد المرء بالبريد!" ص21، نلاحظ أن الرقص حاضر في الجنة، فكل ما يسعد الإنسان هو مباح فيها.
ونجد أهل الجنة يتناسلون وينجبون، تتحدث ندى عن ولادتها لنعيم قائلة: "لما اشتد بي الطلق رأيت جدتي الترفة قادمة من بيتها الراقص مع الغيم على حافة الجبل تزفها طيور عمان وفد سدت الفضاء! طيور خضر الأرجل بمناقير كأنهن الياقوت، أخذني العطش فناولتني الحجة شربة من كأس بيضاء، شرابها أبرد من الثلج وأحلى من العسل، فشربت ذلك الكأس كله فطاب طلقي وتيسر أمري... مسح جابر دموع الفرح بطرف إصبعه، وقال ساعة ولادته لمع ضوء وفاح عطر، وجاءت منزلنا أطيار ترمي من مناقيرها ورودا" ص29، اللافت في هذا المشهد أن الزوج والزوجة من زمانين مختلفين، "ندى" من الزمن المعاصر، "وجابر بن حيان التوحيدي" من زمن ماضي، وهذا يشير إلى أن عالم الجنة فيه كل الأتقياء، من كافة الأزمنة والأمكنة، ونلاحظ أن المرأة في الجنة تحمل وتلد وتتعرض لألم الطلق، كما نجد أهل الزوجة يأتون للاطمئنان على ابنتهم في ساعة المخاض، ونرى أن الأب يفرح بالمولود كما يفرح أهل الأرض.
وفي الجنة أبناء وحفدة: "حفيدي اسمه نعيم، هو من مواليد الجنة" ص96، هذا ما قاله الشهبندر، وكان قل أوضح أن "ندى" ابنته أيضا، فالحياة الأسرية في الجنة تتماثل مع الحياة على الأرض.
أما عن الأجور والشراء وكيف يدفع أهل الجنة ثمن ما يحصلون عليه من خدمات، يدثنا ابن عربي بقوله: "كنت أفكر بأن نقضي سحابة من وقتنا في مقهى الكوثر، لصاحبه محمد النفري، ونحتسي كأسا من فيض البلاغة تعيننا في سفرنا على التواصل مع خلق لم نألفهم، وعبور أزمان لم نعشها، لكن رابعة اقترحت أن نشتري ركوبه للسفر، قبل أن نثمل بخمر النفري.
ممرنا على صديقي اليهودي شمعون الدمشقي، سحب من نور بطاقتنا البيضاء واحدة من كراماتها الخافيات لحساب سائس "مركبات بساط الريح" ثمنا لركوبه تختارها بنفسها، وطلب مني شمعون الصراف عمولته الخاصة، أن أمنحه بركة أبيات من الشعر كان بعض مشايخ الأرض قد كفروني بسببها" ص33، في هذا المشهد نجد مقاهي في الجنة، وخمر مسكرة، وخدمة ركوبة للسفر مقابل ثمن (حسنات/بركات)، ونجد أن الجنة لا يوجد فيها تفرقة بين الرجل والمرأة، فالناس هناك لا يفرقون بين ذكر وأنثى، ويتعاملون مع بعضهم بصرف النظر عن الجنس.
وهناك طريقة أخر لدفع ثمن السعة/الخدمة التي يحصل عليها المشتري: "كم ثمنها؟
قال الجني مبتسما عن أسنان خضراء لامعة: لا أريد بركات طيبات، ولا حسنات مضيئات.
قالت رابعة...أطلب ما تشاء.
قال البائع: تأخذين عني خطيئة لم توضع في ميزاني لكنها تثقل روحي وتهز طمأنينتي.
حيرني البائع/ خطيئة خافية على الميزان؟" ص50، وهذا يتوافق مع الأحاديث النبوية التي تتحدث عن أخذ سيئات هذا ووضعها على سيئات الخصم، لكن تبقى فكرة (دفع الثمن) حاضرة حتى في الجنة.
وهناك صورة شاملة عن الجنة تتحدث عن الأعياد وكيف يقف الناس على الشرفات ليشاهدوا ما يجري خفي الخارج: "السوق كله عيد، أزياء وألوان وألعاب، نوافير عطر، قنوات خمر مصفى من كل ما عرف البشر وما لم يعرفوه، وأنوار تتبدل فترسم دائرة قزح تلف المشهد ببهائها.
دخل زرياب يعرج من زاوية السوق، خفض رأسه، وهو يعبر قنطرة مبنية بالآجر الأحمر، متجاهلا الناس الذي يتزاحمون حوله، تاركا لهم أمر الابتعاد عن طريقه.
...اصطف الناس مبهورين على جانبي الطريق، وأطلت النساء من الشرفات منفولات الشعر، دالقات أثدائهن فوق أذرعهن المتصالبة على صدورهن، وبكى رضيع في ركن السوق لأن حلمة ثدي مرضعته انزاحت عن فمه" ص74، إذا ما توقفنا عند هذه المشهد سنجده أقرب إلى ما يحصل على الأرض منه في الجنة، فهل بدأ السارد يميل إلى عالم الأرض، بعد أن حصل على كل ما يريده في الجنة؟.
في الجنة أحداث تتماثل مع ما يجري على الأرض: "...فسمعت البشر يكسرون قانون الجنة، ويرفعون عقيرتهم بالأسئلة المحرمة!
"ـ الأبد كسل.
ـ جنتنا سجن
ـ المتع المطلقة مفسدة للروح
ـ ما هي السعادة
ـ أين المحبة" ص97، يبدو أن هناك ملل/بداية تمرد من رتابة الحياة في الجنة، فالبشر شبعوا من الجنة، وأخذوا يميلوا إلى حياتهم لأرضية، بعد أن شاهدوا وعرفوا حقيقة الجنة.
أما عن لباس أهل الجنة فنجده بهذا الشكل: "سلمت على سمية... وكانت تردي ثوبا فلسطينيا طويلا من قماش أخضر فاتح مطرز يدويا بزهور الياسمين" ص78، الجميل في هذا المشهد أن السرد يحث النساء على الارتداء الثوب الفلسطيني المطرز، لما له من جمال على المرأة، فبدا وكأنه يقول: "إذا كانت نساء الجنة يرتدينه، فلماذا لا تريده النساء على الأرض؟".
وهنا نلاحظ أن السارد اخذ يميل إلى لأرض، لهذا تحدثت عن ارتداء سمية الثوب الفلسطيني، ولم يتحدث عن لباس آخر، وهذا الميل سنجده في مواضع أخرى لاحقا.
وجاءت خاتمة الرواية تؤكد على أن الأرض أجمل وأفضل من الجنة، وعلى أن الإنسان لا يمكنه أن (يقتنع/يرضى/يقبل) بما يحصل عليه، فحاجاته ورغباته وطموحه دائما في حالة تجديد وتغيير، من هنا وبعد أن وصل ودخل الشهبندر الجنة، يجدها بأنها لا تبلي طموحه ولا تنسجم مع طبيعته الإنسانية التي تسعى دائما إلى ما هو جديد: "استمتعت بالأشياء التي أدهشتني عندما جربتها أول مرة، وتمنيت لو أستطيع تعديل أو إلغاء أحداث وقرارات كثيرة من حياتي، لكن سبحة الأيام كانت أسرع مني وتعيدني إلى رحم أمي!.
ما أعجبك أيها الإنسان/ السماء والأرض لم تستطيعا احتوائك، وبطن أمك اتسع لك.
هنا جنتي. في رحم أمي. بلا ممتلكات ولا خسائر ولا ديان ولا مذاهب ولا هويات.
ما أروعني نقيا بلا سريرة ولا ذاكرة" ص131، بهذه الخاتمة استطاع "الشهبندر" أن يلخص فكرة الرواية التي تتمثل بأهمية التغيير والتحول والحركة للإنسان/للمجتمع/للكائنات/للأفكار.
الخلود
فكرة الخلود تناولتها الشعوب قديما، فجلجامش الذي ذهب برحلة مضنية بحثا عن الخلود عاد خائبا، لكن في رواية " جنة الشهبندر" يحصل أبطال الرواية على الخلود، "سمية" ترى في الخلود: "ما يقلقني يا ندى أني أخاف الخلود" ص79، أما ابن رشد فيجده: "هذا الزمن السرمدي يشعرني بضيق الجنة لا اتساعها" ص79، أما ابن ميمون فيقول عنه: "كثير من أهل الجنان يعيشونها كنعمة للكسل اللانهائي" ص79، أما سمية فتجد في الخلود: "مجرد أن أفكر بالخلود أشعر بالتثاؤب... الأبد كالعدم يطفئ فوران الحياة" ص79، فالجلود/الجنة حالها كحال أي هدف/غاية يصل إليها الإنسان، فيجدها تافهة، عادية، ولا تستحق كل ذلك الشغف واللهفة التي سبقت الوصول/الحصول عليها، هذا الأمر نجده في إفطار الصائم، وفي زواج العازب/العذراء، وفي ترقية الجندي إلى ضابط، والضابط إلى قائد، وفي امتلاك بيت/بناء من عدة طوابق. ولمن يريد التعرف أكثر على عادية/تفاهة المركز/الهدف/الغاية عليه قراءة رواية "سدهاتا" لهرمان هسه.
في هذا الحوار يمكننا توضيح (عادية) الأشياء بعد أن نحصل عليها:
"أفي الجنة وتشعر بالغربة يا صاحبي!؟
: ماذا يبقى بعد أن تشبع النفس من شهواتها سوى الفراغ؟" ص46، بهذا الرد الحازم نصل إلى حقيقة تفاهة/عادية الغاية والهدف.
تتحدث "الترفة" عن حياتها قائلة: "في السادسة عشر من عمري، قال عني أهل حوارة عنست الترفة، في الثلاثين قال جيراني في جبل القلعة "هرمت المرأة" ...في الأربعين صرت جدة، في الخمسين صار اسمي الختيارة، في الستين صرت "الحجة"، في السبعين تعجب أهل عمان: ما زالت العجوز تصعد درج القالعة بلا عكاز!، في الثمانين قال الناس: إنها عصية على الموت.
...كنت أعيش بكل طاقتي، وأستمتع بكل ما تبقى من حواسي، فأعيش عمري كل يوم، عانسا، وامرأة، وجدة، وختيارة، وطفلة، أيضا، فصار كل يوم في حياتي أبد" ص128، وكأن السارد من خلال ما قالته "الترفة" التي غمرت طويلا يريد توضيح ما أراد تقديمه في الرواية، عن الخلود، وعن التغيير، وعن الفاعلية وعدم التسليم/القبول بما هو سائد/مطروح، وعلى أن الحياة مراحل، في كل مرحلة هناك شيء جديد، حيث يجد الإنسان ذاته، ذات جديدة، يسعد بها ويتكيف معها، هذه هي الحياة وهذه هي الحياة الأبدية.
التغيير والحركة
إذن طبيعة البشر تمل من الروتين والتكرار، وتسعى دائما إلى ما هو جديد، فالعبارة التي وجدها "جابر بن حيان" على باب الحديقة: "لا دائم إلا التغيير" ص118، تتناسب وطبيعة البشر الذين يسعون إلى التجديد والتغيير، ويضيف "جابر": "الموت الفعلي هو فقدان القدرة على التحول" 119، وتقول ندى: "إننا لا ندرك معنى الحياة إلا بالتحول المستمر" ص119، والطريق إلى التغيير يراها "جابر": "السر يكمن في القدرة على هدم الجدران الفاصلة بين الإنسان والأفكار الجديدة، إن فتح الممر بين الكائنات وقدرتها على الاختيار بين التناسل والتقنع والانسلاخ والحلول والتناسخ وصولا إلى التحول الحق هو سير على الطريق الحرية التي نحلم بها ولا نطالها" ص119، فالسكون/البقاء/الثبات يعني الموت، والحياة تعني التغيير والتجديد، والطريق للبقاء في الحياة يكمن في الحرية، فالحرية تأخذ البشر إلى ما يريدون، وتفتح لهم أبواب مؤصدة، وتعرفهم على عوالم مجهولة.
الفكر
نلاحظ أن شخصيات الرواية بغالبيتها مثقفة وصاحبة فكر، وتتميز بقدرتها على التفكير الحر، ومن هنا نجدها تتحدث بأفكار جديدة، تتجاوز ما هو سائد ومتداول، من هذه الأفكار، فكرة المجهود الذي يتناقض مع الكسل، يوضح "ابن حيان التوحيدي" هذه الفكرة قائلا: "الإنسان عندما يتمكن من إشباع كل رغباته دون مجهود، فإنه يفقد مكونا رئيسيا من مكونات إنسانيته، إن لذة اكتشاف احتياجات جديدة، والسعي لتحقيقها على ما في ذلك من مخاطر، مكون أساسي من مكونات السعادة" ص43، فالجهد الفكري والعضلي للوصول إلى شيء جديد هو وسيلة السعادة، وما البلادة والقبول بما هو جاهز إلا الخبل بعينه.
الجميل في هذا القول أنه يدعو إلى البحث والتفكير، وإلى الفعل والعمل لتحقيق أشياء/اختراعات/إنجازات جديدة، لأن بها يحصل الإنسان على السعادة، يجد ذاته، ويحقق طموحه.
الفكر الجديد، العمل، الإنجازات المعرفية والمادية تحتاج إلى من يوجدها ويغذيها، يقول "عرار" عن هذه الأمر: "إذا غابت النبوءة، فالأم لن ترضع وليدها، والراعي سيهمل القطيع، إذا غابت النبوءة سيغلق باب الجنة للأبد، النبوءة ليست لغوا منمقا، أنها الأمل" ص45، فالأمل/الإيمان هو الطاقة التي تغذي الإنسان ليفكر، وليبحث، وليكتشف، وليخترع، ولينجز ما هو جديد.
فلا يضن أحدا أن هناك سقف لما يريده الإنسان، أو أنه قادر على الاكتفاء بما تم إنجازه، فالحياة لا يمكن أن تُعرف:
"ما الحياة الطيبة إذن؟
: هذا السؤال حير الفلاسفة على مر العصور" ص81، الحوار بين "ندى وسمية" يحمل في طياته أسئلة وأجوبة، لكننا نجد في الأجوبة مفاتح للطريق، فهي ليست مطلقة، فعبارة "لا دائم إلا التغيير" ص118، تمثل دعوة لعدم البقاء في حالة السكون، أو التسليم بما هو كائن/موجود، من هنا تأتي فكرة البحث عما هو جديد.
الحكم والأقوال البليغة
وبما أننا أمام فلاسفة وأصحاب فكر، فقد جاءت العديد من الحكم والعبارات المدهشة، واللافت أنها لم يقتصر على شخصية بعينها، فقد تكلمت بها أكثر من شخصية: "أشد أنواع العذاب، التظاهر بعكس ما تشعر" ص8، هذه الفقرة جاءت من خلال فتاة من فتيات الجنة، وهي تتناسب وطبيعة البراءة التي تكون هذه الشخصية، فنحن أمام فتاة ما زالت نقية وتتمتع بأخلاق لم يلوثها الواقع.
أما "جابر التوحيدي" فيقول عن الحرية وأهميتها في تطوير وتغيير المجتمع والواقع إلى ما هو أفضل: "الحرية ـ رسالة في فهم التحولات" ص44، فالتغيير/التطور مقرون ومرهون بالحرية، حرية البحث والحديث والاستنتاج. ويقول مؤكدا على أهمية التحول/التغيير: "الموت الفعلي هو فقدان القدرة على التحول...عندما لا تملك الكائنات والأفكار نعمة التغيير المستمر، تسقط مع الزمن في الضمور، ويضيع بهاؤها" ص119، فهو هنا لا يؤمن بالجمود/بالسكون، لا جمود الأفكار ولا جمود الكائنات/الجماعات، فطريق إلى الحياة يكمن في التغيير والتحول نمن مرحلة/حالة إلى أخرى، ورغم أن هذه الرؤية أكدها "دارون" في كتابه "أصل الأنواع" إلى أن التوحيدي سبقه إليها، وهو يرياها بمنظور مزدوج، منظور الكائنات الحرية، ومنظور الأفكار، وهذا ما يعطيه الأفضلية والأسبقية.


أما ابن رشد فيقول عن الحركة ودورها في التغيير والتطوير: "دائما كان المتحول ينتصر على الثابت، لا دائم إلا الحركة" ص78، الجميل في هذا القول أنه يمكن أخذه ليس إلى الفكر فحسب، بل إلى العمل والإنتاج أيضا.
تتحدث "سمية" بفكر إنساني يتجاوز القومية، وترد به على كل الأفكار والحركات والجماعات العنصرية: "الشر مكون أساس للإنسان، ولكنه لا يحدد هويته" ص79، من أجمل التوصيفات التي تتعامل مع البشر كبنية واحدة، وليس من خلال نظرة ضيقة، نظر تميز جماعة/قوم عن أخرى.
ويقول "أبن عربي" عبارة من أجمل العبارات التي تعكس الفكر الصوفي وما فيه من توحد/تمازج/حلول: "ماذا أفعل أمام هذا العماء الأشد بياضا من البياض؟!" ض83.
أما "عرار" فيتحدث بصورة شعرية عن التغيير والتحول: "الغيم أمهر الكائنات بالتحول المستمر" 116، اللافت في هذه الحكم/الأقوال أنها جاءت منسجمة مع طبيعة الشخصية القائلة لها، فالسارد وزعها على شخصيات الرواية، بحديث تقول/تتحدث الشخصية على طبيعتها، وليس (يقولها) السارد/الكاتب، من هنا جاءت لغة الشخصيات والعبارات التي تقولها منسجمة وتتوافق وطبيعتها الاجتماعية والفكرية والمعرفية، وهذا ما جعلها مقنعة ومقبولة من المتلقي.




المكان والاجتماع
إذا ما توقفنا عند شخصيات الرواية سنجدها ذات تاريخ اجتماعي، بمعنى أن لها وجود وعلاقات أرضية، لكن هناك شخصية تميزت في الرواية عن البقية، بتركيزها على المكان الأرضي، إلا وهي "الترفة" التي تمسكت بعمان وفضلتها على الجنة: "ما بدي جنات عليين، ولا جنات ألفافا، بدي أرجع لعمان" ص38، هذه العبارة تكررت في الرواية في أكثر موضع ومن أكثر من شخصية، رددها الشهبندر: "...توقفت السيارة قليلا ليركب معها عرار.
مكتوب على لوحتها التعريفية: عمان 323.
هتفت: إلى عمان؟ خذوني معكم" ص113،
تسلت إلى مركبة الشيخ...لتعود بي إلى عمان" ص130.
وقال العمدة: "سأقود سيارة الشهبندر، وأعود بها إلى عمان" ص117،
فعمان كانت الهاجس عند شخصيات الرواية، وهذا يشير إلى ارتباط الأشخاص بالجغرافيا، بالمكان الذي ينتمون إليه، وقد أصر السارد على تحديد هويتها الأردنية من خلال "عمان، جبل القلعة، حورة، ومن اللهجة المحكية:
مريت يا وحيدي بقربي لا شفتك ولا شفتي.
يا مسخمة يا الترفة شميتي ريحته ةما لمحتيه
لو طفيت شوقي بمرحبا يمه
أظل هون وأشوفك. أضمك وأروح النار. وينك يا ميمتي؟
لما خضر عزرايل. ما خفت منه. زعقت بوجهه:
بديش أموت. بديش الجنة!
أربع كلمات طايشات وقفن بطريقي للجنة، مش قصدي أزعله لسيدنا عزراييل. قلت إللي بقلبي.
الناس إللي ضايعين مثلي يسولفوا عن العفو يفتح لنا الباب على جنات ألفافا.
أستقر قلقي لما ميزت لهجة أردنية أحبها، فتوجهت بحدسي نحو الصوت، وكان كل من في البرزخ يتوافدون إلى مصدر الصوت" ص38، اللافت في هذا المقطع طريقة تقديمه، فالسارد جعلت "الترفة" تحكي باللغة التي تريد ودون تدخل منه، بمعنى انه أعطاها حريتها، وكأنه من خلال هذا الأمر، يرد أن يشير إلى ضرورة إعطائها ما تريد، العودة إلى عمان، وعدم إبقائها في مكان لا تريده، حتى لو كان الجنة ذاتها.
وإذا أخذنا أن هناك شخصية أردنية "عرار" ذات مكانة أدبية وفكرية، إضافة إلى شخصيات أخرى "الشهبندر، ندى، لوليتا، سمية" نتأكد أن السارد يعطي أهمية خاصة للمكان وللاجتماع.
وإذا أخذنا عدد المرت التي ذكرا فيها عمان ومدن أخرى، والتي تجاوزت الثلاثين مرة، نصل إلى اهتمام السارد بالجغرافيا، وهذا الأمر كان واضح في الفصل 42 والذي روته "الترفة" حيث تحدثت بتفاصيل دقيقة عن تاريخ عمان والمدن الشامية: "...حدث ذلك عندما كانت كل البلاد سورية، كانت حوارة تتبغ لواء حوران ومركزه درعا والذي يتبع بدوره ولاية الشام ومركزها دمشق...وجاءت القافلة من قرية عمان التابعة لمتصرفية السلط لتحملني إلى عريسي علي الجمال" ص108و 109، ففي هذا الفصل يجد القارئ وكأن هناك (إقحام) لما فيه من كثرة تفاصيل متعلقة بالمكان، وهذا ناتج عن العلاقة الحميمية التي تجمع السارد بالجغرافيا، فقدم لنا تاريخية المنطقة بصورة روائية، وما كان للقارئ أن يعرف هذه التفاصيل دون النص الروائي، وهذا فضيلة أخرى تضاف إلى الرواية.
العودة إلى الأرض
التركيز على المكان يعد مقدمة لفكرة العودة إلى الأرض، وترك الجنة، "الشهبندر، العمدة، عرار" كلهم تحدثوا عن الأرض وعن عمان: " سأقود سيارة الشهبندر وأعود بها إلى عمان... أن حديقة الأسرار ما هي إلا الأرض وقد تبدلت...أشك أننا غادرنا عمان أصلا... كي ترى جمال الأرض، أذهب إلى حديقة الأسرار كي تسمع العالم أشاعرك، عد إلى عمان" ص117، هذا الزخم في ذكرة الأرض/الجغرافيا والذي جاء من أكثر من شخصية، ما هو إلا على المكانة الرفيعة التي يحملها أهل الأرض للأرض، وما قالته "سمية" وهي في الجنة عن المكان يشير إلى رغبتها بالعودة إلى المكان الذي نشأت فيه: "...هنا فقط بإمكاني أن اشعر ببرد حرمون، وحر بغداد، وأشم رائحة النارنج في غور الأردن" ص120و121، فهنا تبدي اهتمامها وحبها للمكان، لكن في موضع آخر تتحدث عن رغبتها في الخروج من الجنة والعودة إلى الأرض بصورة مباشرة: "أختار أن تبدأ حياتي على الأرض من جديد" ص124ن بهذا الوضوح يمكننا القول أن الرواية تعيدنا إلى سيرتنا الأولى، إلى الأرض، إلى المكان الذي نشأنا فيه، فالمكان بالنسبة لنا أفضل من جنة الخلد، وهنا نأتي على ما قاله " شوفي" هب جنة الخلد اليمن، لا شيء يعادل الوطن".











.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و