الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شجون يوسف زيدان المصرية: نبتسم لأننا ننسى إساءة البلد الذي نحبه!

شكيب كاظم

2022 / 9 / 8
الادب والفن


يحتوي كتاب «شجون مصرية» ليوسف زيدان على مقالات صادمة للسرب المتطامن، كصراخ يوقظ العقول من سباتها، لكن ما كان لزيدان أن يطلق صرخاته هذه، لو لم يكن ثمة قبول لهذا الرأي، أو في الحري سماح له كي يقول هذا الذي قاله ويقوله، ففيه نقد للكثير مما اعتاد عليه المصريون، من أفكار وقناعات وتصورات لا تتفق مع الحياة العصرية المعاصرة، قد أترك الحديث عنها لمن يطالع الكتاب هذا، لكن سأقف عند الفصل الذي وسمه بـ(رموز مصرية) وهو يقرأ فيه عدداً من الأدباء والمفكرين المصريين، لا يقدمهم من خلال كتبهم وبحوثهم، لكن من ناحية مهمة وحساسة هي صفة الإنسان في هؤلاء..
رفاعة الطهطاوي
يقدم زيدان فصلا ضافيا لنبراس وأُس الحركة التنويرية في مصر؛ رفاعة (بدوي) رافع الطهطاوي، المولود سنة 1801، الذي درس في الأزهر، وأرسله محمد علي حاكم مصر، سنة 1826 إلى فرنسا ضمن بعثة علمية، بوصفه مرشدا دينيا لهؤلاء الطلاب، لكن رافع الطموح لم يرتض لنفسه هذه المهمة البسيطة، بل طالب بأن ينهل العلم مع أقرانه؛ فدرس الترجمة، لتكون ثمرتها كتابه «تخليص الإبريز من تلخيص باريز». يعود لوطنه مفعما بالطموح، فيؤسس (مدرسة الترجمة) لكن طموحاته تصطدم ببلادة الخديوي عباس وعسفه، الذي يغلق مدرسته هذه ويرسله إلى السودان، يوم كانت مع مصر دولة واحدة، فصم الضباطُ عراها سنة 1954 بجرة قلم ولم يطرف لهم جفن! لقد قرأنا كثيرا عن رفاعة الطهطاوي، لكنني لم أكن أعرف هذا الاهتمام بالمخطوطات، التي من كثرتها فقد أهداها حفيده (محمد بدوي) إلى محافظة سوهاج، التي أودعتها (مكتبة رفاعة الطهطاوي) في مدينة طهطا، وأمضى يوسف زيدان وقتا طويلا في تبويبها وفهرستها؛ فهرسة هذه المخطوطات، التي نسخها؛ أو كتبها رفاعة، فقسم من تأليفه، وآخر نسخه بيده لمخطوطات، قيمة ونادرة، حتى قد لا توجد نسخ نظيرة ومثيلة لها في مكتبات العالم، وأصدرها في ثلاثة مجلدات.
سامي (دريني) خشبة
سامي خشبة كاتب ومترجم، اعتقل وثلة من يساريي مصر وماركسييها سنة 1959، وكان له فضل نقل العديد من مؤلفات الكاتب البريطاني كولن ولسن، إلى جانب المترجم العراقي أنيس زكي حسن. سامي الذي يأسى أنه ترجم هذه الكتب لولسن، تحت وطأة حاجته إلى المال كي يديم حياته، يوم كان كولن ولسن في سنوات الستين من القرن العشرين، ملء أسماع الدنيا العربية؛ يأسى لأنه كان يأمل أن يقدم لقراء العربية ما هو أجدى وأجدر وأنفع، لكنها حاجة الإنسان وضرورات سوق الكتب. وإذ يزوره في بيته؛ بيته الذي آل إليه من أبيه المرحوم دريني، يجد يوسف زيدان أعدادا هائلة من الكتب، سائلا إياه لو يتفضل بإهداء جزء منها إلى مكتبة الإسكندرية، لأن من العسير الحصول على مثل هذه الطبعات الآن، ويأتيه الجواب المفعم بالمحبة والمودة: حين موتي، تعال وخذها كلها، ومات سامي خشبة (2008) وما ذهب يوسف زيدان لنقل الكتب، لأن زوجته الفاضلة، زوجة سامي، خيرية البشلاوي، أرسلت مكتبته كلها إهداء لمكتبة الإسكندرية، وكانت أكثر من خمسة آلاف كتاب من الطبعات القديمة النادرة، هي الآن بين أيادي الباحثين الجادين عن المعرفة.
مصطفى محمود
ويعقد زيدان فصلا آخر يتحدث فيه عن الطبيب مصطفى محمود، الذي عرفناه من خلال عديد كتبه المكثفة، ولاسيما كتابه المهم «رحلتي من الشك إلى الإيمان» والذي كان يحيا حياة زهد وتقشف – كما يذكر زيدان – على الرغم من وضعه المالي الجيد، الذي يمكنه من بناء مسجد، إحياء لذكرى أبيه، فضلا عن مستشفى كان يعالج الفقراء فيه مجانا، أو بأقل تكلفة. ويوم حاول الوشاة والعسس الإيقاع بيوسف زيدان سنة 1997، لأنه بوّب المخطوطات وفهرسها خشية السراق، يقول يوسف: تخلى عني أكثر الناس سوى ثلاثة هم: حسن حنفي، وسامي خشبة، ومصطفى محمود، الذي كتب عنه في صحيفة «الأهرام» مدافعا قائلا: لن نعرف قيمة يوسف زيدان، ولن يعرفها إلا رب كريم يعلم قيمة الإخلاص. عاش الطبيب مصطفى محمود عمرا مديدا (1921-2009) وحين زاره آخر زيارة، لم يره، فقد كان شارد الذهن في حضرة الغياب، إذ كان يستعد لرحيله الأخير، الذي جاء وديعا كصاحبه، فقد نام بهدوء ساكنا.. ولم يستفق قط من نومه.
نصر حامد أبو زيد
ويواصل زيدان تقديم من وصفهم بـ(الرموز المعاصرة) ومنهم الشيخ نصر، المولود في أسرة فقيرة، ما استطاعت توفير شيء من مال كي يتعلم ابنها، فكان الطفل الدرويش شديد التدين، ما دفع الناس لمناداته بالشيخ نصر! ثم تتهيأ له فرصة عمل، ومن خلال مردودها يواصل دراسته، هو الشغوف بالدرس، ويشمله العصف الساداتي وعسفه، فيهاجر مع زميله حسن حنفي نحو اليابان، ثم يعود بعد زوال الأسباب، وينشر كتبا تثير عليه حفيظة العوام والجهّال، ويصل الأمر إلى تطليق زوجته الدكتورة ابتهال يونس منه، بحجة الارتداد وكأنهم قوامون على عقول الناس، فيضطر للتدريس في هولندا ومن هناك إلى إندونيسيا، فيصاب بمرض أفقده النطق والإدراك، فينقل إلى بلده مصر كي يموت فيها.
حسن حنفي يهاتف يوسف باكيا: إن نصر يموت، زرته في المستشفى ولم يعرفني. أرى أن نصرا هذا الذي كان يطارده العسس والمتعصبون، قد تمكنوا منه أخيرا، لقد سُمّ؛ سموه، كان على الرغم من أنه مطلوب عقله ورأسه، ضعيف الحس الأمني، إن لم أقل كان حسه الأمني غائبا، ولأنه لم تكن له أسرة يسكن إليها، فقد كان يؤم المطاعم ليأكل، والقهاوي لتمضية وقت فراغ، فوصلوا إليه، فدس له السم في طعامه أو شرابه، فأفقده النطق والحركة والإدراك. لقد كان مطلوب العقل والرأس، وما أخذ للأمر أهبته، وقديما قال العقاد: لقد لحست أدمغتنا الكتب، ويعني العقاد أن الذين يشتغلون في عوالم البحث والدرس، وينشغلون بها، إنما يقعون فريسة سهلة بيد المتربصين المحتالين، لأن هؤلاء يعانون طيبة قد تصل بهم إلى درجة البساطة، ولا أقول السذاجة، لأن الكتب تعلو بهم عن سفساف الحياة، والدنايا وما ينشغل به العوام.
حسن حنفي
وفي فصل آخر خصصه للحديث عن أستاذ الفلسفة حسن حنفي، العائد من الدراسة في السوربون، والذي تتَلْمَذ على أيادي أساطين الاستشراق الفرنسي: لويس ماسنيون، ولاووست، وبول ريكور، الذي اضطره العنت الساداتي، الذي نقله إلى وزارة الشؤون الاجتماعية! كما نقلنا في العراق المفكر عزيز السيد جاسم (1991) المعتز بذاته وقلمه، نقلوه من أروقة الثقافة والكتابة إلى وزارة الزراعة! فثأر السيد لنفسه فأحال نفسه إلى التقاعد. كذلك ثأر المفكر حسن حنفي، الذي كنت أقرأ دراساته القيمة على صفحات جريدة «الزمان» طبعة لندن منذ سنوات خَلَت؛ أقول ثأر حنفي لنفسه فذهب للتدريس في أقصى الأرض، في اليابان، وإذ يذهب السادات (1981) يعود حنفي لمصر ليعمل على تأسيس الجمعية الفلسفية، التي خدمت الثقافة من خلال عقد الندوات والمؤتمرات وإلقاء المحاضرات، والتقريب بين الأجيال السابقة واللاحقة، كي تستمر الحياة من غير هوة ولا انقطاع. يوما يكلف حنفي يوسف بإلقاء محاضرة، وإذ حاول الاعتذار، أنه لما ينل الدكتوراه بعد، يؤكد له: المهم ما يجول في العقل.
كما كان حنفي حريصا على عقد جلسات مسائية في الجمعية الفلسفية، لزيادة التفاعل بين الأجيال، وسماع آراء الكبار، ويوم يحدثهم محمود أمين العالِم، عن سنوات حبسه هو والعديد من مفكري اليسار المصري وكتّابه: سامي خشبة، وعبد العظيم أنيس، وأحمد عباس صالح، وعبد الرحمن الشرقاوي، وغالي شكري، الذي قرأت ـ يا للأسف- أن سنوات الحبس الطويلة تلك، أثرت فيه نفسيا، ولاسيما في سنواته الأخيرة، بعد أن ضعفت قواه الجسدية فضلا عن النفسية، لينهض متصارخا من نومه، في نوبة استعادة ذهنية لأيام الحبس. أقول، يوم يحدثهم العالم عن سنوات الحبس تلك، وكيف كانت تطلق الكلاب الشرسة عليهم، ويبتسم لأن سجانا؛ سجانا واحداً كان يناديه (أستاذ) كانت هذه المناداة تخفف من بلواه، وإن الذي أراق فيه مداد العين وحبرها ما ذهب هدرا، فها هو يجد صداه لدى هذا السجان! ولو عند واحد من الناس، يسأله يوسف زيدان، كيف يستطيع أن يسرد كل هذه الأوجاع مع ابتسامة لا تفارق الوجه؛ وجهه، يجيبه هذا المحمود الأمين العالم: «نبتسم، لأننا ننسى إساءة البلد الذي نحبه»!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا