الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ جديد ، أفكار قديمة

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2022 / 9 / 10
القضية الفلسطينية


ترجمة: محمود الصباغ
عقدت مجلة "لوموند ديبلوماتيك Le Monde Diplomatique" الشهرية الفرنسية مع مجلة "الدراسات الفلسطينية Revue d’études Palestiniennes" ، وهي مجلة ربع سنوية يصدرها معهد الدراسات الفلسطينية في باريس، مؤتمرًا حضرتُه وشاركتُ فيه. تبادل، في المؤتمر، المؤرخون الإسرائيليون المزعومون "الجدد" ونظرائهم الفلسطينيون الأفكار على الملأ، ولم يكن هذا المؤتمر حدثاً فريداً، بل كان هو الثالث أو الرابع. ولكن ما جعله جديداً هو أنه كانت بالتأكيد المرة الأولى التي كان من الممكن أن يتبادل فيهما الطرفان النقاش بينهما بشكل مطول. كنتُ أنا وإلياس صنبر ونور مصالحة نمثل الجانب الفلسطيني، وكان بيني موريس وإيلان بابيه وإيتمار رابينوفيتش يمثلون الجانب الإسرائيلي ( وهذا الأخير، في الحقيقة ليس مؤرخاً جديداً، بل كان مستشاراً سابقاً لحزب العمل، وسفيراً لإسرائيل في الولايات المتحدة، وأستاذاً لمادة التاريخ في جامعة تل أبيب، وخبيراً في الشأن السوري، ولكن الذي يبدو أن وجهات نظره تتغير)، وكان من ضمن الجانب الإسرائيلي، أيضاً، زئيف شطيرنهيل ، المؤرخ الإسرائيلي المتخصص في دراسة الحركات الجماهيرية الأوروبية اليمينية، ويعل أستاذاً في الجامعة العبرية، وهو مؤلف كتاب حديث مهم للغاية عن أساطير المجتمع الإسرائيلي (أهمها -أنها دولة ليبرالية واشتراكية وديمقراطية- والتي قام شطيرنهيل بهدمها تماماً في تحليل تفصيلي غير عادي لطابعها غير الليبرالي وشبه الفاشي والمناهض بشدة للاشتراكية كما يتضح من تاريخ حزب العمل بشكل عام، والهستدروت على وجه الخصوص) .
جذب المؤتمر، للأسف، جمهوراً صغيراً بشكل عام، نظراً لأنه لم يتم الإعلان عنه بصورة جيدة، بيد أن ما يعوض ذلك جودة المواد المقدمة وطيلة زمن الجلسات التي استمرت لعدة ساعات، وكانت هذه وتلك بحد ذاتهما تمريناً قيماً للغاية، على الرغم من عدم تكافؤ بعض المساهمات المقدمة. وأحد انطباعاتي القوية تمثلت في أن المشاركين الإسرائيليين -الذين لم يكونوا بأي حال من الأحوال على ذات الدرجة من الإقناع السياسي- تحدثوا، غالباً، عن الحاجة إلى الانفصال، وإلى الحفاظ على مسافة بارزة وهدوء ذو طابع تأملي باعتبار أن هذه الأمور على درجة من الأهمية للدراسة التاريخية، في الوقت الذي كان فيها الجانب الفلسطيني كان أكثر إلحاحاً وحدةً وحتى عاطفةً في إصراره على الاحتياج إلى تاريخ جديد. والسبب بالطبع هو أن إسرائيل، وبالتالي معظم الإسرائيليين، هم الطرف المهيمن في ساحة الصراع: فهم يسيطرون على جميع الأراضي، ويملكون جميع القوة العسكرية، وبالتالي يمكنهم أن يأخذوا مزيداً من الوقت، ويمتلكون ترف الجلوس والسماح النقاش بأن يتكشف بهدوء. فقط إيلان بابيه، وهو مؤرخ اشتراكي ومناهض للصهيونية في جامعة حيفا، كان منفتحاً على اعتناق وجهة النظر الفلسطينية، وفي رأيي، قدّم بابيه أكثر التدخلات الإسرائيلية ذكاءً وإثارة. أما بالنسبة للآخرين فقط نظروا، وإن بدرجات متفاوتة، إلى الصهيونية على أنها ضرورة لليهود. وقد أصبت بالدهشة، بالأحرى بالمفاجأة؛ على سبيل المثال، عندما اعترف شطيرنهيل، خلال الجلسة الأخيرة، بظلم فادح ارتُكب بحق الفلسطينيين، وأن جوهر الصهيونية هو أنها كانت حركة غزو، لكن هذا لم يمنعه من المضي في القول إنها كانت "ضرورية".
ومن أكثر الأشياء اللافتة للنظر حول الإسرائيليين، باستثناء بابيه من جديد، التناقض العميق، الذي يقترب من الفصام الذي يغذي عملهم. فقد كتب بيني موريس، على سبيل المثال، قبل عشر سنوات أهم عمل إسرائيلي حول ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. باستخدام أرشيف الهاغاناه والحركة الصهيونية، وأثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه كان هناك نزوح قسري للفلسطينيين نتيجة لسياسة "الترحيل" المحددة التي تبناها بن غوريون ووافق عليها. وأظهر عمل موريس الدقيق في المناطق المختلفة كيف قام الصهاينة، بعد أن صدرت أوامر لقادة المناطق بطرد الفلسطينيين، بحرق القرى، والاستيلاء المنهجي على منازلهم وممتلكاتهم. غير أن هذا، ويا للغرابة، لم يمنع موريس في نهاية كتابه أن يبدو بمظهر المتردد في استخلاص النتائج الحتمية من أدلته الخاصة. وبدلاً من أن يقول صراحة إن الفلسطينيين طردوا، نراه يقول، في الواقع، إنهم طردوا جزئياً على يد القوات الصهيونية وجزئياً على يد "اليسار"، وفي كلتا الحالتين نتيجة الحرب. يبدو الأمر كما لو أنه كان لا يزال صهيونياً بما يكفي ليصدق النسخة الإيديولوجية – التي تقول بأن الفلسطينيين غادروا بمفردهم دون أية عملية طرد إسرائيلية- بدلاً من قبول أدلته الخاصة تماماً، والتي تؤكد أن السياسة الصهيونية فرضت الهجرة الجماعية على الفلسطينيين. وبالمثل، اعترف شطيرنهيل في كتابه أن الصهاينة لم يعتبروا العرب مشكلة لأنهم لو فعلوا ذلك لكانوا اعترفوا علانية بأن الخطة الصهيونية لإقامة دولة يهودية لم يكن من الممكن أن تتحقق بدون التخلص من الفلسطينيين. لكنه ظل يصر خلال المؤتمر أن عملية الطرد تلك كانت ضرورية، على أنه بالرغم من أنها خطأً أخلاقياً. وبرغم هذه الخلافات، ثمة ما يثير الإعجاب ملاحظة أنه عندما كان يتم الضغط، عليهما، سواء من بابيه أو من الفلسطينيين، كانا، موريس وشطيرنهيل، يبديان ترددهما. وبالنسبة لي، أعتبر وجهات نظرهما المتغيرة عرض من أعراض تغيير أعمق يحدث داخل إسرائيل. بمعنى أنه لا يمكن حدوث تغييراً مهماً، في الخطوط الرئيسية للإيديولوجية الصهيونية، بصورة حقيقية في ظل هيمنة السياسة الرسمية، سواء أكان في السلطة حزب العمل أو الليكود، بل أن هذا التغيير ينبغي له أن يتم خارج هذا السياق المحدد، أي حيث يكون للمثقفين حرية أكبر في التفكير والتأمل. التفكير في الحقائق المقلقة لإسرائيل الحالية.
وتكمن المشكلة مع المحاولات الأخرى، كما في حالة مجموعة كوبنهاغن، من قبل المثقفين من كلا الجانبين للتأثير على سياسات نتنياهو، على سبيل المثال، في أن محاولات هذه المجموعة تدور بالقرب من الحكومات التي لديها نظرة أضيق وأقصر بكثير للأشياء. وإذا أظهرت لنا السنوات الممتدة منذ العام 1993 أي شيء فإنما تظهر أن النظرة الصهيونية الرسمية للصراع من الفلسطينيين (وهذا ينطبق على الصهاينة اليساريين مثل ميرتس أو يسار الوسط مثل شيمون بيريز)، بغض النظر عن مدى الرؤية التنويرية أو الليبرالية، مستعدة للعيش مع الشيزوفرينيا التي أشرت إليها أعلاه عند حديثي عن بني موريس. نعم ، نريد سلاماً مع الفلسطينيين، لكن لا، ليس ثمة خطأ يمكن الإشارة إليه بأننا اقترفناه في العام 1948. وبقدر ما يتعلق الأمر بالسلام الحقيقي، فإن هذا التناقض الأساسي لا يمكن الدفاع عنه تماماً، لأنه يقبل فكرة أن الفلسطينيين موجودون في أرضهم هي فكرة ثانوية لليهود. علاوة على ذلك، فإن هذا يؤدي إلى قبول التناقض الأساسي بين الصهيونية والديمقراطية (كيف يمكن للمرء أن يكون لديه دولة يهودية ديمقراطية، وكما هو الحال الآن، مليون مواطن غير يهودي لا يتساوون في الحقوق أو امتلاك الأراضي أو العمل مع المواطنين اليهود؟ ).
إن مأثرة المؤرخين الجدد الكبرى تتمثل في أن عملهم يدفع التناقضات داخل الصهيونية، على الأقل، إلى حدود غير ظاهرة لمعظم الإسرائيليين، وحتى للعديد من العرب. ومن المؤكد أن الأهمية السياسية الكبرى للمؤرخين الإسرائيليين الجدد، اليوم، تكمن في أنهم أكدوا ما تقوله أجيال من الفلسطينيين، مؤرخين أو غير مؤرخين، عما حدث لنا كشعب على يد إسرائيل. وبالطبع فعلوا ذلك كإسرائيليين، أي المؤرخون الجدد، يتحدثون إلى حد ما عن ضمير شعبهم ومجتمعهم. لكني أشعر هنا، بالحديث عن النقد الذاتي، بوجوب البدء، كعرب عموماً، وفلسطينيين على وجه الخصوص، أيضاً في استكشاف تاريخنا وأساطيرنا وأفكارنا البطريركية عن الأمة، وهو أمر لم نقم به حتى الآن لأسباب واضحة. كان الجانب الفلسطيني، خلال ندوة باريس، بمن فيهم أنا، يتحدث بإحساس كبير بالإلحاح حول الحاضر الذي مازالت النكبة الفلسطينية فيه، حيث ما زلنا نرى تجريد الفلسطينيين من ملكياتهم، لاسيما الأرض، ويتخذ الحرمان من حقوقنا أشكالًا جديدة وأكثر عقابية. ومع ذلك، فمن واجبنا كمثقفين ومؤرخين أن ننظر إلى تاريخنا وتاريخ قياداتنا ومؤسساتنا بعين نقدية جديدة. هل هناك شيء حول تاريخنا وتاريخ قياداتنا ومؤسساتنا يمكن أن يفسر، ربما، الصعوبات التي قد نواجهها كأشخاص نجد أنفسنا عالقين فيها الآن؟. ماذا عن الصراع بين العائلات الكبيرة أو الحمولات، وحقيقة أن قادتنا لم يُنتخبوا، تقليدياً، بشكل ديمقراطي، والحقيقة، بنفس القدر من الكارثة، أننا على ما يبدو نعيد إنتاج الفساد والافتقار إلى الأداء المتوسط مع كل جيل جديد؟ هذه أمور خطيرة، بل وحاسمة، ولا يمكن تركها دون إجابة، أو تأجيلها إلى أجل غير مسمى تحت غطاء الدفاع الوطني والوحدة الوطنية. ربما تكون هناك بداية للوعي الذاتي النقدي في كتاب يزيد صايغ الجديد عن تاريخ الكفاح المسلح الفلسطيني، [ لعله يقصد كتاب " الكفاح المسلح والبحث عن الدولة، الحركة الوطنية الفلسطينية، 1949 - 1993 " الصادر في العام 1997 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية]،لكننا بحاجة إلى المزيد من الأعمال السياسية والنقدية الملموسة من هذا النوع، وهي الأعمال التي لا يمكن فهمها لجميع تعقيدات ومفارقات تاريخنا لتي لا نبتعد عنها كثيراً
لم تتم ترجمة أي من أعمال موريس أو بابيه أو شطيرنهيل إلى العربية على حد علمي. [ظهرت عدة ترجمات لمؤلفات بني موريس وإبلان بابيه بعد تاريخ هذه المقالة. فظهرت كتب إيلان بابيه التالية: "كتاب التطهير العرقي في فلسطين" عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2006. و"الفلسطينيون المنسيون : تاريخ فلسطينيي 1948" عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2013. و" فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2015. و" عشر خرافات عن إسرائيل: عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2018. و"خارج الإطار ؛ القمع الأكاديمي والفكري في إسرائيل" ، عن دار قدمس للنشر والتوزيع 2018، وكتاب "أكبر سجن على الأرض" عن مؤسسة نوفل، 2020. كما ظهر كتاب بني موريس " طرد الفلسطينيين وولادة مشكلة ‏اللاجئين" عن دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، 1993.و كتاب "آخر الباشوات، غلوب باشا، فلسطين واليهود" عن الأهلية للنشر والتوزيع، 2003. ولم أعثر على أعمال زئيف شطيرنهيل في اللغة العربية- المترجم]. يجب معالجة هذا الغياب على الفور. ولا يقل أهمية ، كما أعتقد، عن حاجة المثقفين العرب للتفاعل المباشر مع هؤلاء المؤرخين من خلال دعوتهم للنقاش في الجامعات العربية والمراكز الثقافية والمنتديات العامة. وبالمثل، أعتقد أنه من واجبنا، كفلسطينيين، بل وحتى كمثقفين عرب، إشراك الجماهير الأكاديمية والفكرية الإسرائيلية من خلال إلقاء محاضرات في المراكز الإسرائيلية، بشكل علني وشجاع وبلا هوادة.
ماذا فعلت لنا سنوات رفض التعامل مع إسرائيل؟
لا شيء على الإطلاق، إلا لإضعافنا وإضعاف تصورنا لخصمنا. السياسة التي كانت قائمة منذ العام 1948 شارفت الآن على نهايتها، وسوف تدفن في إخفاقات عملية أوسلو لمحاولة الفصل بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين. وكجزء من السياسة الجديدة التي تحدثت عنها في هذه المقالات، تظهر فرصة رائعة في التفاعل المستمر مع المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين يمثلون، رغم ذلك، أقلية صغيرة ظاهرة ذات أهمية كبيرة. لقد كان لعملهم، على سبيل المثال، تأثير كبير على سلسلة أفلام تيكوما المكونة من 22 جزءً ، [ תְקוּמָה تيكوما.. أي البعث أو القيامة]، التي عُرضت على التلفزيون الإسرائيلي كتاريخ للدولة المنتجة في احتفالات خمسين سنة على وجودها. هناك طلب كبير عليهم في المدارس الإسرائيلية كمحاضرين، وقد اجتذب عملهم انتباه المؤرخين وغيرهم في كل من أوروبا والولايات المتحدة. يبدو من المستهجن، ناهيك عن التراجع، أن المكان الوحيد الذي لم يسمعوا فيه بالكامل هو العالم العربي، لكننا بحاجة إلى تخليص أنفسنا من تحيزاتنا العنصرية ومواقفنا الشبيهة بالنعام، وبذل الجهد لتغيير الوضع. لقد حان الوقت.
....
العنوان الأصلي: New History, Old Ideas
المؤلف: إدوارد سعيد. 28 أيار/ مايو 1998
المصدر:http://www.miftah.org/-print-erF.cfm?DocId=2459








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احمد النشيط يصرح عن ا?ول راتب حصل عليه ????


.. تطور لافت.. الجيش الأوكراني يعلن إسقاط قاذفة استراتيجية روسي




.. أهم ردود الفعل الدولية حول -الرد الإسرائيلي- على الهجوم الإي


.. -حسبنا الله في كل من خذلنا-.. نازح فلسطين يقول إن الاحتلال ت




.. بالخريطة التفاعلية.. كل ما تريد معرفته عن قصف أصفهان وما حدث