الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرجل الذي كان الخميس.. جلبرت كيث تشيسترتون

وليد الأسطل

2022 / 9 / 10
الادب والفن


في ليل الأحياء الفقيرة ب لندن، يلتقي أناركيون خطيرون من جميع أنحاء أوروبا. إن منظمتهم الإرهابية ليست مستوحاة من مبدإ فوضوي طبيعي لتجمعات المجرمين. إنها لا تجمع دون نظام أو هدف أشخاصا ساخطين أو فاسدين أو محبطين. إنها تجمع المتعصبين بحزم وتنظيم وعناية. لقد قلد اللاسلطويون العالم الذي يريدون إسقاطه: لديهم تسلسل هرمي، وإجراءات، ومعايير، وحتى زعيم (بحكم إلهي تقريبا، ومن أجل قضية!)

مثل أي فوضوي يحترم نفسه، يريد كل منهم هدم المجتمع الجائر - بالضرورة - من الملوك والبرجوازيين، وقلب نظام العالم، ومحاربة الظلم، متنكرين في زي شرعية مزيفة، شرعية نقية، معلن عنها ذاتيا. ولكن من أجل ذلك، كان على هؤلاء المتمردين أن يديروا محاكاة حقيقية للأمة التي يكرهونها، والتي، للمفارقة، هي مصدر إلهامهم. هناك مجتمعان يتعايشان: الرسمي في الظاهر. المتمرد، تحت الأرض. الجماعة السرية ليست جماعة تمارس مؤامرة بقدر ما هي مجتمع مضاد، له طقوسه وأساطيره ومبادئه ومداولاته وقادته. من هم؟ هم سبعة، عدد صوفي. يتم إعطاؤهم ألقابا؛ يتم تعميد كل منهم (أو بالأحرى عدم تعميده) بيوم من أيام الأسبوع؛ يدعى حاكمهم القوي الغامض الأحد، أو يوم الرب (إشارة إلى طبيعته). هويتهم مزدوجة. ملتحون، يضعون نظارات سميكة، ويرتدون عباءات. يفقدون واحدا منهم؛ فيجد الذين يقيمون منهم في لندن من يخلفه. لقد تم العثور على ذريعة القصة. من خلال سلسلة من الصدف السعيدة أو غير السعيدة، اعتمادا على وجهة نظر القارئ، الشخص الذي يختارونه لتمثيلهم في المجلس الكبير للمتآمرين هو الشرطي الشاب غابرييل سيم، المتخصص في النضال ضد الأناركية. لذلك وصل متسللا إلى الملاذ المضاد السري؛ إلى هذه اللجنة العليا من المتآمرين حيث تم البت في جميع الجرائم السياسية في أوروبا في ذلك الوقت. سيم يفقد هويته. في العالم المقلوب، سيصبح اسمه الخميس.

إن العميل السري لكونراد، وعلى الرغم من تشابه الموضوعات والفترة الزمنية، إلا أنه يبدو بعيدا عن المقارنة، باعتباره واقعيا للغاية، ومتشددا للغاية، ومظلما للغاية. المشهد الذي أقامه تشيسترتون بفرح هو مشهد خيالي. الظلام مدوي، شبه صاخب. يبرر الشكل الشبيه بالحلم الكليشيهات والعباءات والألغاز والملاحقات والانعكاسات. لرواية "الرجل الذي كان الخميس" The Man Who Was Thursday أجواؤها: مشهد ترفيهي مبالغ فيه، يهيء القارىء لمواجهة المعنى الخفي للأشياء. يستخدم المؤلف الباطل، ليعرف الحق. تصل براعة تشيسترتون إلى ذروتها هنا.

هناك كوميديا ​​موجودة في الرواية، لكنها لا تؤثر سلبا على جديتها. إن فرحة تشيسترتون لا تمنعه ​​من أن يكون عميقا، أو أقل تفردا.

الحجة الأدبية القديمة المتمثلة في الحلم تبدو مبتذلة حقا. ليست قليلة تلك الأعمال الأدبية التي قرأتها والأفلام التي شاهدتها التي تنتهي فيها نظريات المشاهد المخيفة أو الرهيبة أو غير المتماسكة بالاطمئنان "لقد كان مجرد حلم"! ولإكمال الكليشيهات، يضيف المؤلف أو المخرج تلميحا صغيرا على عكس ذلك، إلى الوجهة الوحيدة لمتلقي العمل، وبالتالي طمس الحدود المطمئنة بين الحلم والواقع، والتي كان يعتقد للحظة أنه قد استعادها. هنا، يفرغ تشيسترتون الكليشيهات من طابعها التقليدي والمتكرر من خلال الإعلان، من العنوان، أنه لا ينبغي قراءتها كرواية واقعية، ولكن كقصة خيالية مضاعفة؛ يقترن خيال الرواية بخيال الحلم. كل شيء، إذن، مقبول. والقارئ، على الرغم من تأثره بمحن المغامرة لـ "الرجل الذي كان اسمه الخميس"، سيضع في اعتباره أن هذه الحكاية تدعي أنها تذهب إلى أبعد من سيناريوها الوحيد؛ إنها تقترح القيام بعملية إزاحة الستار.

لن أدعي أنني سأستكشف جميع جوانب إحدى أكثر الروايات البوليسية الميتافيزيقية - السياسية - الفلسفية إمتاعا وإنجازا في التاريخ الأدبي. ليس من الضروري، في اعتقادي، أن نشارك تشيسترتون إيمانه ووجهات نظره كي نعجب بروايته "الرجل الذي كان الخميس". قام الكاتب الإنجليزي بتأليف هذه الرواية عندما كان لا يزال يعتقد أنه ملحد؛ ومع ذلك، يشعر قارئ الرواية، بحتمية تحول مؤلفها إلى الكاثوليكية. من ليسوا كاثوليكيين، على ما أعتقد، قد يكون لديهم بعض التحفظات حول هذا؛ ومع ذلك، سوف يدركون أن الجمع بين الانحراف الفلسفي للمؤلف والخيال القوي تنتج عنه رواية نادرة ومذهلة. سأسمح لنفسي أن أمس بحياء شديد - بسبب عدم كفاءتي في علم اللاهوت - معنى نهاية الرواية، والذي من الواضح أنه يتعلق بكل من الوحي بالمعنى الدقيق للكلمة والعداوة الأبدية بين الله والشيطان.

كما قلت أعلاه، إن عالم الأناركيين، الذي قدمه تشيسترتون، بالكاد يكون واقعيا. هذه ليست الدراسة التفصيلية لعلم الجريمة. إنها ليست رواية طبيعية. لا يوجد أي ريبورتاج(تقرير) في هذه الحكاية المتأرجحة بين الضحك والمثل. إذا كانت الفوضى هي شر المجتمع الإيجابي المتطور، الديمقراطي، والمسيحي، فهي، مثل الشيطان، محرومة من كل قوة إبداعية أو خيالية. إنها لا تقدم هنا لا يوتوبيا ولا منظورا ساحرا؛ إنها تغوي المتشردين - خاصة المثقفين - بالخداع، باللعب على استيائهم، من خلال تقديم إلى كل من يريد، إمكانية تحقيق نفسه في الشر: الإنكار والتدمير.

ليست الفوضى عكس النظام، بل هي تقليده السلبي المؤلم - الذي يقلب كل شيء دون تغيير أي شيء. إن للتقليد نتائج كوميدية. لم يصمم الأناركيون مجتمعا جديدا، لقد أنشأوا ما أصر على تسميته مجتمعا مضادا، سريا وشبحيا. هذا الشبح يحاكي الحياة، لكنه ليس الحياة. حياة مضادة؟ الاحتفالات والاجتماعات والمناقشات هي تقليد سيء؛ الشر يفسد لكنه لا يلد. ولكي يوجد، ويتجسد، فإنه بحاجة إلى الحصول على دعم، أو على الأقل موافقة، من نظام أعلى (إلهي) بدوافع غامضة وغير قابلة للتفسير. الدمار بحاجة إلى خلق لكي يوجد؛ فالحوار الأخير بين لوسيان جريجوري، المدمر الخالص، الذي يذكر فيه جميع الأسباب الروحية للفوضوية كمعارضة خبيثة للعالم، وبين الأحد، يميل فيه كل من الباني والمدمر، إلى اقتراح ذلك. ستظل دوافع الأحد غير معروفة بالضرورة.

الوسيلة الديناميكية الرئيسية التي استخدمها المؤلف، سيد المفارقة العظيم، هي إظهار أن الأشياء ليست كما تبدو، هذا ما يذكرنا بكهف أفلاطون. يكشف تشيسترتون عن عدم تطابق المظهر مع الجوهر. لا تثق بما تراه. ليس هناك ما هو على ما يبدو عليه. قواعد مضاعفة للحلم، والتي هي في حد ذاتها ليست كما تدعي. وكأن هذه الرواية تريد أن تقول ان لكل ذرائع، ذرائع أخرى. إن سلاح هذه الرواية المفضل، كما قلت، هو التناقض. إنها لا تكف عن توظيف المفارقات. غالبا ما تكرر مجموعات الاقتباسات الملاحظة الشهيرة لشخصية من الرواية: "اللصوص يحترمون الملكية، إنهم يريدون فقط أن تحظى الممتلكات، من خلال أن تصبح ملكهم، بالاحترام الكامل". وفقا لسيم، لا يقاتل الأناركي السلطة لتدميرها، كما يؤكد، بل للاستيلاء عليها. يلعب تشيسترتون بشكل صريح مع مثل هذه التصورات غير التقليدية للعالم. هذا ما اعتاد عليه قارئ هذا المؤلف إلى حد ما. تأتي روح الدعابة التي يتمتع بها تشيسترتون، في جزء كبير منها، من المفاجآت التي يضعها للقارئ، والتي تكون أحيانا غير مبررة إلى حد ما. ولهذا دور مهم، ضمن له بقاءه إلى اليوم.

تذهب هذه الرواية إلى أبعد من ذلك. إنها لا تتوقف عند هذا النوع من الكشف الخطابي. عمليا كل شخصية مهمة تختلف عما تبدو عليه. إنه لمن واجب السرد دائما أن يجبرهم على الكشف عن طبيعتهم الحقيقية التي يخفيها مظهرهم. يتم تنظيم المواقف الرومانسية وفقا للمخطط الديناميكي التالي: المظهر المحتمل للشخصية أو الأحداث، التي هي على الأرجح شبه مبتذلة تقريبا؛ بداية بطيئة أو مفاجئة للشكوك حول احتمالية ما يتم ملاحظته، وأخيرا، الوحي الأسمى: ينحرف الجوهر عن المظهر، الإحتمالية خاطئة، وعدم الإحتمالية صادقة. وهنا تكمن المفارقة. أحد الأمثلة من بين أمثلة أخرى: الغوغاء المتمردون الفرنسيون الذين يريدون القبض على غابرييل سيم المسكين ومعاقبته، لأنه خائن للقضية، فهو رجل شرطة متنكر في زي أناركي، تبين أنهم مجموعة من الأشخاص الشجعان، الصادقين والمقتنعين للغاية أن الخميس-سيم، صادق في ما يبديه، إنه فعلا أناركي. الخداع هنا معقد لأنه مضاعف. لا يقوم تشيسترتون بتعرية واحدة، ولكن اثنتين (أو حتى ثلاثة، حسب ذوقه).

رأى الناس أن سيم هو الخميس الحقيقي المخيف (وليس أنه يتظاهر بذلك) والخميس، من وجهة نظره العميقة كشرطي، رأى الحشد على أنه تجمع للمتمردين. من الواضح أن سوء الفهم متعدد، لأن الجميع يرى الآخرين كما هم (في المظهر) وكما أنهم ليسوا كذلك (من حيث الجوهر)؛ هذا الخداع متبادل، يتم إقناع كل منهما، من ناحية أخرى، أن الآخر يراه كما هو (في الجوهر) وليس كما هو (في المظهر). الشخصية الوحيدة التي لا تختلف عما تبدو عليه هي الشاعر الأناركي لوسيان جريجوري. تبدأ القصة به بالضبط، عندما يؤكد سيم عن قناعة بأن غريغوري ليس صادقا في ما يدعيه، وأنه يكذب، ومن غير الممكن أن يكون جادا في اناركيته. إن سيم مخطىء، ف غريغوري ليس سوى غريغوري. إن هذا التوافق بين المظهر والجوهر، هو، في اعتقادي، فريد في الرواية - حتى الأحد يقدم نظاما أكثر تعقيدا للتمثيل، معقدا جدا لدرجة أن المرء لا يعرف أبدا ما هي طبيعته الحقيقية.

ليس من قبيل المصادفة أن يكون غريغوري، على الرغم من كونه شخصية ثانوية، المحرك الحقيقي للقصة. إنه يظهر فقط في البداية والنهاية، ولكن من خلاله، ومن خلال خطئه (مضحك)، يتم تقديم سيم بين الفوضويين ويعيش كل مغامراته كمتسلل. من أجل سقوط الأقنعة، كان على شخص واحد فقط أن لا يرتدي أيا منها.

ليس هناك شك في قول الكثير عن الحبكة. من الواضح أنها تلعب بالكليشيهات والتكرار والوحي. يمتعنا تشيسترتون من خلال إتقانه للتشويق، للرموز الناشئة للرواية البوليسية. يمتعنا على وجه الخصوص من خلال الآراء القوية لشخصياته حول النظام والفوضى، أو مناهضتهم للثقافة ومعاداتهم للفرنسيين. كثيرا ما يتم استحضار أورويل لتقديم الآداب العامة(common decency)، هذه الحكمة الفطرية والشعبية التي تقود الإنسان العادي إلى الحكم بشكل أكثر ملاءمة وإنسانية من المثقف المتعصب والتجريدي. يمكننا أيضا ربط تشيسترتون بالمفهوم الإنجليزي النموذجي للحرية والوعي الفردي، إلى هيئة الحكم العادلة والشعبية التي لطالما كانت مصدر فخر للرعايا البريطانيين. قد يكون هناك مجرم بين الناس، لكن لا يمكن أن يكون الناس مجرمين بالكامل. استبدل مجرما بأناركي وسيكون لديك جزء من رواية "الرجل الذي كان اسمه الخميس". من ناحية أخرى، المثقفون، بالنسبة لتشيسترتون، يتغذى تعصبهم على قدرتهم على التجريد. إنهم لا يدركون العالم من خلال جانبه الملموس المبتذل، بل من خلال سحابة من الكلمات، مفصولة عن الواقع بهاوية اللغة. إن عجزهم العملي والسياسي يبالغ في الأمر أكثر من ذلك: فهم يحتاجون فقط إلى قول المزيد، وبصورة أكثر عنفا، وفي كثير من الأحيان، من أجل أن يتوهموا الإمساك بالسلطة التي حرمهم منها المجتمع، الذي يقوده النبيل أو البرجوازي. تحل القسوة الخطابية في نفوسهم محل الممارسة الملموسة للسلطة، وبالتالي المسؤولية. سوف يسكبون أكثر في الأناركية، في محاكاة المجتمع المعكوسة هذه، وسيكون لديهم انطباع بأنهم ينتقمون هناك. هم، الموجودون في القاع، يمكنهم أخيرا أن يجدوا أنفسهم فوق. يشرح غريغوري للأحد أنه أناركي لأنه عانى ضمنيا من عدم الإعتراف به وعدم احترامه وعدم امتلاكه لأي شيء. قراءة متحفظة للاحتجاج الإجتماعي؟ بالتأكيد. ومع ذلك، يتم تلطيفها من خلال روح الدعابة، ومن خلال شكلها، هذا ما يمنح القارئ بعض الحرية في التفسير.

مهما كان الأمر، فإن الفوضى، بالنسبة ل تشيسترتون الذي سيصبح كاثوليكيا، ليست فكرة عقلانية، كما يعتقد مهندسو المدينة الفاضلة؛ إنها مجرد محاكاة ساخرة للهندسة الحقيقية - الإلاهية؟ إنها التمثيل الصامت الباهت والشاحب للعالم الإيجابي، ومن هنا كانت صلاتها الجوهرية بالشر. محركها العدم. لا تقلل الظلم. بل أبعد من ذلك، إنها، قبل كل شيء، السلبية الخالصة، وحش من وحوش الكوابيس، وربما نمر من ورق، تكفي الممارسة الشديدة للوضوح لمكافحتها: يجب كشف المظاهر للتمسك، مثل سيم، بالبحث الأفلاطوني عن الحقيقة. يمكننا أن نقرأ هذا العمل على أنه قصة هداية؛ يمكننا أيضا، بشكل أكثر تواضعا، اعتباره بمثابة إيقاظ. عندما يستيقظ من نومه، لم يعد سيم هو نفسه. لقد وصل إلى مستوى إضافي من الوعي. الحلم مذهل لما يسلط الضوء عليه، غير متوقع. إنه يغير الفرد بالطريقة الدقيقة للحكاية أو الخيال، من خلال الكشف له - دفعة واحدة - عن السبب الذي يستغرق عقله وقتا غير محدود لتجميعه. يعمل عن طريق الإضاءة المفاجئة. هذا الكابوس يدعو الإنسان إلى الاستبصار. تكرم رواية "الرجل الذي كان الخميس"، من خلال الضحك والمفارقة، المبادئ المفيدة دائما للبصيرة الفردية والتغلغل الواضح، وقبل كل شيء حرية حكم الإنسان على الأشياء في مواجهة العالم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع